الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه الحلقة الرابعة في مناقشة محمد راتب النابلسي في بعض المسائل العقدية التي جانب فيها الصواب، ووافق مذهب الجهمية والمعتزلة ومخانيثهم من الأشاعرة في نفيه صفة من صفات الله جل وعلا الذاتية وهي صفة"الصورة".
وهكذا أيضا منع السؤال عن الله جل وعز بــ "أين هو ؟"، على طريقة المتكلّمين.
وأيضا يقرّر أن في آيات الصفات لا نرجع إلى الكتب التي دونت أقوال الصحابة ومن بعدهم في تأويلها وتفسيرها ،من كتب التفسير، وإنما المرجع في ذلك هو العقل.
وأيضا يستشهد بفرية افتراها ابن بطوطة المغربي على شيخ الإسلام ومحدث الأنام ابن تيمية رحمه الله.
وأيضا يقرّر أن الإنسان هو أول المخلوقات في هذا الكون ،والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
ومما أحببت ذكره عن هذا الرجل الذي اغتر به كثير من الناس عموما ، وإخواننا من أهل سوريا خصوصا أن المسجد الذي كان يصلّي ويدرس فيه ، الصلاة فيه باطلة ،وذلك لأن فيه قبر جدّه عبد الغني النابلسي النقشبنديّ القادريّ الصوفي ، وقد رأيت ذلك بأم عيني لما كنت بدمشق.
قال محمد راتب النابلسي عفا الله كما في "موقعه": "مرة أحد الخطباء نزل درجةً وقال: إن ربَّكم ينزل إلى السماء الدنيا كما أنزل أنا، هذا تجسيم، هذا كفر.
إذاً: مذهب التجسيم باطل، ومذهب التعطيل باطل، أن تعطل هذه الآيات، آيات من كتاب الله، فلذلك هناك آياتٌ تُدركها بلا تفسير، فلا تحتاج إلى تفسير الزمخشري، ولا إلى تفسير الطبري، ولا إلى تفسير القرطبي، ولا إلى تفسير ابن كثير، ولا إلى مفسِّر حديث، ولا إلى قديم".
قلت :
أولا : هذا الكلام من الجهل بمكان ، فهو يهذي بما لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، لأن كلامه يلزم منه إلغاء فهم الصحابة ،وعدم الرجوع إلى ماتعلّموه من النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الصفات .
فالواجب على الذي يريد الخير والفلاح، والفوز والنجاة أن يقدم فهمهم على فهمه ، وطريقتهم على طريقته وهكذا في كل أبواب الدين.
والذي لا يعرف قدر نفسه أنى له أن يعرف قدر غيره، فالسلف الصالح على رأسهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لا يجوز التنكّب على فهمهم لدين الله تعالى ، ومخالفة هديهم وطريقتهم.
فإن الذي يخالف سبيلهم يضلّ عن سواء السبيل ، ويتّبع غير سبيل المؤمنين ،ومتوعّد بنار جهنم وبئس القرار، كما قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرسبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } (النساء : 115) ، وعلى رأس سبيل المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما قال ابن مسعود الهذلي رضي الله عنه : من كان مستنَّاً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ، كانوا خير هذه الأمة، أبرُّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ، كانوا على الهدى المستقيم[1]،
والنصوص الشرعية التي توجب الرجوع إلى طريقة ومسلك وفهم الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم لا تعدّ ولا تحصى.
فكتب التفسير لا يستغني عنها أيّ أحد ، لأن فيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم الشارحة والمبيّنة والموضحة لكلام الله تعالى، وفيها أقوال الصحابة رضي الله عنهم في بيان معاني كلام الله تعالى.
فتقديم العقل على النقل أمر خطير جدّ خطير ، وهو من أعظم أسباب الانتكاسة ،والغيّ والضّلالة ، يورد صاحبه في أمور لا تحمد عقباها.
فالنابلسي يقرّر أن آيات الصفات لا نرجع في تفسيرها وتأويلها إلى الرعيل الأول ، ولا من نقل إلينا كلامهم وفهمهم لكتاب الله تعالى ، من كتب التفسير، وإنما نرد ذلك لعقولنا ، والله المستعان ، والكلام طويل ويطول في هذا المسألة.
قوله :مرة أحد الخطباء نزل درجةً وقال: إن ربَّكم ينزل إلى السماء الدنيا كما أنزل أنا، هذا تجسيم، هذا كفر.
قلت :
أولا : قاتل الله الكذب ،وهذا من إفك وفجور ابن بطوطة المغربي حيث افترى[2] على شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله أنه نزل درجة من منبره ونحو ذلك مما جاء من فجوره وبهتانه.
والرد على هذه الافتراء والبهتان هو مايلي :
1 ـ ابن بطوطة دخل دمشق في يوم التاسع من شهر رمضان سنة 726 هـ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية حينئذ مسجوناً بقلعة دمشق منذ السادس عشر من شعبان سنة 726 هـ، ولم يخرج رحمه الله من السجن إلا محمولا على الأكتاف وسبب موته رحمه الله خصومه وأعداؤه من المفوّضة والمعطّلة والمؤوّلة لصفات الباري جلّ جلاله .
فلم يستطيعوا أن يجابهوه رحمه الله بالحجة والبيان لجؤوا حينئذ إلى وشايته للحكام وألبّوا عليه السلطان بالكذب والفجور والبهتان، وأرادوا تشويه سمعته بمثل هذه الأباطيل والأراجيف ،ولهم سلف في ذلك وبئس السلف ، وهم أعداء الأنيباء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وإذا عرف السبب بطل العجب ، وكل العداوة ترجو مودّتها إلا عداوة من عاداك في الدين ، فشيخ الإسلام رحمه الله يحمل عليه الغلّ والحقد الدفين كل مبتدع خلفي ، بخلاف السلفي فإنه يحبه ويواليه ويدافع عنه بحقّ لأنه كان على الحق يسير لا غير.
2 ـ لم يذكر هذا البهتان والفجور غير ابن بطوطة ، فلو كان صحيحا لما انفرد هو بذكر تلك الفرية التي افتراها.
3 ـ كتب شيخ الإسلام رحمه الله وماخلّفه من التراث هو الحكم في ذلك، فهو رحمه الله يحارب التجسيم وغير ذلك من المعتقدات الباطلة ، وبين رحمه الله عقيدته السلفية في غير ما موضع من كتبه ومصنفاته ، بخلاف ما افتراه عليه ابن بطوطة ، وإليك أخي القارئ بعضا من كل ، وقليل من كثير من كلامه رحمه الله في ذلك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : كما شاء أن ينـزل، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهّم أنه ينـزل عن مكانه، كيف وكيف[3].
وقال في موضع آخر: إن الله - تعالى - ينـزل كما شاء، فليس لنا أن نتوهّم كيف وكيف[4].
وقال رحمه الله : العلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تُعلم كيفية صفة الموصوف ولم تُعلم كيفيته؟![5]
ولو أردت أن أستطرد في النقولات عنه رحمه الله في ذلك لطال بنا المقام ولكثر النقل والكلام ، فحسبك بما نقلت من كلامه رحمه الله ، ليتبيّن لك مدى حقدهم الدفين عنه رحمه الله لأنه فضحهم ، وكشف خبثهم وسوء طوّيتهم.
قال محمد راتب النابلسي عفا الله عنه كما في "موقعه": الله عز وجل واجب الوجود ما سواه ممكن الوجود سميع لكل الموجودات ، كل ما سواه يسمعه ، دون حاسة كبني البشر دون آلة كبني البشر ، هناك آلة تلتقط الأصوات ، أو هناك حاسة تسمع الأصوات ، الله جل جلاله ، ليس كمثله شيء ، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، سميع من دون حاسة أو آلة ، سميع لمن ؟ لكل الموجودات على الإطلاق .
وذكر أثرا منكرا مكذوبا عن علي رضي الله عنه وأقرّه وفيه : "الربُ ربّ والعبدُ عبد, ولا نسبة بينهما، ليس بمتجزئ, ولا بمتبعضٍ, ولا صورةٍ, ولا متلونٍ, ولا يسألُ عنه بأين هو؟, لأنه خالقُ المكان، ولا بمتى ؟ هو لأنه خالقُ الزمان".اهـ
قلت :
أولا : أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية ،والطائفة المنصورة يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه العزيز، وما أثبته له رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في سنته المطهرة إثباتا مفصّلا ، من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، كما قال تعالى: { وَهُوَ السَّمِيعُ البصِيرُ }(الشورى: 11)
والله متّصف بجميع صفات الكمال والجلال، ومنزّه عن جميع صفات العيوب والنقصان.
وينفون ما نفاه الله تعالى عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم نفيا إجماليا في الغالب كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء }(الشورى: 11)
وقال تعالى : { هل تعلم له سميا } (مريم : 65)، وقوله تعالى : { ولم يكن له كفوا أحد } (الإخلاص : 4)
أي : الإثبات المفصل ، والنفي المجمل، وهذا النفي يقتضي إثبات ما يضاده من الكمال وبسط ذلك ليس هذا موضعه وبيانه.
فلم يرد مثلا في آية ولا في حديث فيه : ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا متلون والطعم إلى غير ذلك من النفي المفصّل.
بخلاف الإثبات المفصّل وهذا الذي لم يسلكه النابلسي كم نقلنا كلامه وإقراره بفصّه ونصّه في ذلك.
وما ذكرناه آنفا على اختصاره النابلسي يخالفه ، حيث نفى الله عن الله نفيا تفصيليا ،ويا ليته توقّف عند ذلك ، بل ألحد في صفات الباري جلّ جلاله ، حيث أنكر ماأثبته الله لنفسه من صفة الصورة اللائقة به سبحانه.
ومما يجب التنبيه عليه في مثل هذا المقام أن الألفاظ المجملة التي يستعملها أهل البدع، والتي أحدثها أهل الكلام التي تحتمل حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ،وهي الألفاظ المشتركة بين معانٍ سليمة ، ومعانٍ غير ذلك ،كالجهة ، والجسم ، والعرض ,ونحو ذلك، فإن أهل السنة في ذلك يسلكون مسلكا رشيدا مرضيا سلفيا عليه أثارة من علم ،وهو: أنهم لا يثبتونها، ولا ينفونها في آن واحد ، لأنه لم يرد نفيها، ولا إثباتها في الكتاب والسنة.
ويستفصل من قائلها، فإن أراد مثبتها معنى صحيحا يُوافق على ذلكم المعنى ، ولم يُوافق على استعمال ذلكم اللفظ، ويجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا إثباتا من استطاع إلى ذلك سبيلا.
لأن أهل البدع في استعمالهم لتلكم الألفاظ المشتركة قصدهم في ذلك التّوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجّة تنزيهه سبحانه عن النقائص والعيوب.
وأما إذا كانت الألفاظ لا تحتمل إلا كمالا ومعنى صحيحا كــ"الذات[6]" و "بائن" ، ونحو ذلك، فلا مانع حينئذ من إيراده ،كما ذكر ذلك غير واحد من أئمة الإسلام ،لأنه يجوز في باب الإخبار عن الله تعالى مالا يجوز في باب أسمائه وصفاته جلّ وعزّ.
فلفظة: "بذاته"، أي: أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
ولفظة : "بائن"، يراد بها إثبات العلوّ حقيقة، والردّ على زعم من قال: إن الله في كل مكان بذاته.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله طريقة السلف في التّعامل مع المصطلحات في الألفاظ عموما حيث قال : فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ومن تكلم بلفظ مبتدع يحمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل وهكذا .[7]
وقال رحمه الله: ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به - سواء عرفنا معناه أو لم نعرف - لأنه الصادق المصدوق؛ فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده. فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رُدَّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا، ولم يُردَّ جميع معناه، بل يوقف اللفظ ، ويفسر المعنى.[8]
وقال رحمه الله كما في "منهاج السنة"(2/527 ـ 52: وأمّا لفظ : "الجسم" و"الجوهر"و" المتحيّز" والجهة ونحو ذلك، فلم ينطق كتاب ولا سنّة بذلك في حقّ الله لا نفياً ولا إثباتاً، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت، فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً.اهـ
وقال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(3/81) :ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائض بهذه الطريق طريقا فاسدا لم يسلكه احد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا اثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لانها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا
ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ماهو من هذا النوع بل هذا هو من الكلام المبتدع الذى أنكره السلف والأئمة.اهـ
الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات الصورة لله جل جلاله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ ناسًا قالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : يا رسول الله، هل نَرَى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هل تضَارون في رؤْية القمر ليلةَ البدْر؟، قالوا: لا يا رسول الله... وفيه: يجمع الله الناسَ يوم القيامة، فيقول: مَن كان يعبد شيئًا فلْيتبعه، فيَتبع مَن كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيتَ الطواغيت، وتَبقى هذه الأمَّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يَعْرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفناه، فيأتيهم الله - تعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه... الحديث.[9]
وفي لفظ : وإنا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم.[10]
قال شيخ الإسلام رحمه الله : إن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأوّلون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة.
لكن يقال لهم: لفظ :"الصُّورة" في الحديث –يعني: رحمه الله: حديث أبي سعيد- كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصـير، ومثل خلقـه بيديه واستوائـه على العرش ونحو ذلك. [11]
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت : لا أدري فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات والدرجات قال : وما الكفارات ؟ فقلت : إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال : فما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال : قلت : ما أقول ؟ قال : قل : اللهم إني أسألك عملا بالحسنات، وتركا للمنكرات ،وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون.[12]
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات ، التي قد يسمى المخلوق بها ، على وجه التقييد ، وإذا أطلقت على الله اختصت به ، مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير ، ومثل خلقه بيديه ، واستواءه على العرش ، ونحو ذلك.[13]
وقال رحمه الله : وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به ، فلابد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها ، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها.[14]
وقال ابن قتيبة رحمه الله : الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين ، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن ، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ، ونحن نؤمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد.[15]
وقال محمد راتب النابلسي كما في "موقعه" : (( أنت المخلوق الأول في هذا الكون ، المخلوق المكرّم ، أنت مكلّفٌ بالأمانة ، مكلّفُ بهذه النفس التي بين جنبيك ))
أولا :
القول بأن الإنسان هو أوّل المخلوقات هو قول محدث لم يقل به أيّ أحد من السلف، فضلا عن الصحابة رضي الله عنهم ، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا :
اختلف أهل العلم في أول مخلوق في هذا الكون أهو العرش ؟،أو القلم ؟ على قولين مشهورين ، والراجح منهما القول الأول-أي: العرش- ، وبه قال ابن تيمية و
قال ابن القيم رحمه الله كما في "النونية" :
والناس مختلفون في القلـم الذي*** كُتِب القضـاء به من الدّيّان
هل كان قبلَ العرش أو هو بعده *** قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قـبلُ لأنـّـه*** قبلَ الكتابة كان ذا أركانِ
وكتابـةُ القلمِ الشريف تعقّبتْ *** إيجادهُ من غيرِ فصلِ زمانِ
علّق شيخنا شيخنا صالح الفوزان حفظه الله على هذه الأبيات بقوله : والصحيح أن العرش قبل القلم، وأما الأولية للقلم فهي بالنسبة للكتابة، أي: أنه من حين خلقه الله قال له: اكتب، فالكتابة مقارنة لخلق القلم، هذا معنى الحديث، وليس معناه: أنه قبل العرش.
فقوله ﷺ: "إن أول ما خلق الله القلم: قال له: اكتب" المراد بالحديث: أن الكتابة مقارنة لوجود القلم وليس معناه:أن القلم قبل العرش، بل العرش قبله لقوله ﷺ في آخر الحديث -حديث عبدالله بن عمرو الذي تقدم-: "وكان عرشه على الماء" فهو مطابق للآية الكريمة.[16]
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:أول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش ، واستوى عليه بعد خلق السماوات، كما قال - تعالى -: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا )[17] "
وقال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله : القلم الذي كَتَبَ الله عز وجل به القَدَرْ كُتِبَ به ما يتعلق بهذا العالم؛ يعني: كُتِبَ به القَدَرْ إلى قيام الساعة، كما جاء في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن عمرو أنّ النبي ﷺ قال: «قدر الله مقادير الخلائق –يعني: كتب مقادير الخلائق- قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» فالقلم متعلقة كتابته في اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى قيام الساعة.
المسألة الثالثة:
أنّ القلم لـمَّا خَلَقَهُ الله عز وجل أمره أن يكتب، فجَرَى بما هو كائِنٌ إلى قيام الساعة، كما جاء ذلك في حديث عُبادة بن الصامت الذي رواه أبو داوود والترمذي والإمام أحمد وجماعة بألفاظ متقاربة، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة».
وهذا لفظ أبو داوود وغيره.
وجاء أيضا بلفظ: «أول ما خلق الله القلم قال له: أكتب. فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة».
ولهذا اختلف العلماء هنا في هل هذا الحديث على ظاهره في أنَّ أول المخلوقات القلم أو أنَّ هذا الحديث له معنىً آخر؟ وجعلوا هذا الحديث وحديث عبد الله بن عمرومن الأحاديث التي ينبغي الجمع بينها وهذا هو المسألة الرابعة وهو الجمع ما بين الحديثين.
المسألة الرابعة:
تلحَظُ أَنَّ حديث عبد الله بن عمرو فيه قال: «قدر الله مقادير الخلائق» ولما قَدَّرَ -يعني كتب- كان عرشه على الماء.
وفي حديث عبادة قال: «إن الله أولما خلق الله القلم فقال له اكتب» فيقتضي حديث عبادة أنَّ الأمر بالكتابة كان مُرَتَّباً على ابتداء خلق القلم، وتقدير القَدَر كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء.
فدل حديث عبد الله بن عمرو على وجود تقدير وعلى وجود العرش -خلق العرش- وعلى خلق الماء.
ودلَّ حديث عبادة على أنَّ خَلْقْ القلم تَبِعَهُ قول الله عز وجل للقلم:" اكتب" فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة، وهذا الترتيب جاء في حرف الفاء الذي يدل في مثل هذا السياق على أنَّ هذا بعد هذا دون تراخٍ زمني؛ ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة في الجمع بين هذين الحديثين هل القلم هو أول المخلوقات أم العرش خُلِقَ قبله؟ على قولين للسلف فمن بعدهم:
القول الأول: إنَّ العرش قبل القلم وكذلك الماء قبل القلم.
والقول الأول هو قول جمهور السلف كما نسب ذلك إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
القول الثاني: أنَّ القلم هو أول المخلوقات والعرش والماء بعد ذلك وهو قول طائفة من أهل العلم.
الترجيح ما بين هذين القولين هو أنَّ الأحاديث يجب الجمع بينها وعدم تعارضها.
وحديث عبادة بن الصامت في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب» يقتضي أنَّ الكتابة كانت بعد خلقه.
وحديث عبد الله بن عمرو يقتضي تقدم وجود العرش والماء على حصول الكتابة.
فدلّ هذان الحديثان على أنَّ العرش والماء موجودان قبل، وأنَّ خلق القلم تبعته الكتابة.
ولهذا نسبه شيخ الإسلام إلى جمهور السلف بأنَّ القلم موجود بعد العرش والماء.
وهذا تدل عليه رواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب» يعني: حين. «أَوَلَ» بمعنى حين.
«أَوَّلَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب» حين خَلَقَهُ قال له: اكتب.
وهذا هو معنى: «إن أَوَلَ ما خلقه الله القلم فقال له: اكتب» لأنَّ الجمع بين الروايات أولى من تعارضها.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "التِّبْيَان" أنَّ قوله: «إن أَوَلَ ما خلق الله القلم» ورواية: «أَوَلَ ما خلق الله القلم» إما أن تُجعل جملتين أو جملة واحدة، وقد ذكر هذا النقل شارح الطحاوية فترجع إليه، وخلاصة البحث هو ما ذكرت لك من التقدير، فإن قوله: «إن أَوَلَ ما خلق اللهُ القلمُ» هنا برفع القلم يكون خبر (إنَّ)؛ يعني: إنَّ أَوَلَ الذي خلق الله، إن أَوَلَ المخلوقات القلمُ فقال له: اكتب.
وإذا كان أَوَّلْ المخلوقات فكيف يُفَسَّرْ مع حديث: «وكان عرشه على الماء» الذي ذكرته لك.
فقوله: " إنَّ أَوَّلَ المخلوقات"، أو " أَوَّلَ ما خلق الله"، أو " أَوَّلَ الذي خلقه الله"، يُفهم على أنَّ القلم جرى بما هو كائن إلى قيام الساعة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
فالقلم متعلّق بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، مُتَعَلِّقاً بما يحدث في هذا العالم المخصوص لا في مطلق الأشياء؛ ولهذا عُلِّقْ بأنه إلى قيام الساعة.
فإذاً يُفهم لـمَّا كان تعلق الكتابة بهذا العالم الذي جرى التقدير عليه إلى قيام الساعة، يُفهم أنَّ القلم لـمَّا تَعَلَّقَ بهذا العالم كتابةً لِتَقْدِيرِهِ ولِقَدَرِهِ ولآجاله إلى آخره فإنه من هذا العالم؛ لأنّ العوالم أجناس والله عز وجل جعل لمخلوقاته أقدارا وأجناسا.
فإذاً يُفهم قوله: «إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم» يعني من هذا العالم.
فالقلم قبل السموات وقبل الأرض وقبل الدخان المتعلِّق الذي خُلِقَ منه السموات والأرض وكل ما يتصل بهذا العالم المرئي الـمُشاهَد، فالقلم هو أول المخلوقات أما العرش والماء فليسا مُتَعَلِّقَينِ بهذا العالم.
فإذاً إعمال الحديثين مع ما يتّفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة واضح لا إشكال فيه، فيكون ذلك هو تقرير هذه المسألة.
وقد لخّص ابن القيم المسألة في "نونيته" وبحثها مفصلاً في كتابه "التبيان في أقسام القرآن"، وفي غيره فقال في النونية رحمه الله:
والناس مختلفون في القلــم الذي *** كتب القضاء به من الدّيّـان
هل كان قبل العرش، أو هو بعده؟ *** قولان عند أبى العلا الهمذاني
والحـق أن العرش قبل لأنّـــه *** عند الكتابة كان ذا أركـان
وكتابـة القلــم الشريف تعقبت *** إيجاده من غير فصل زمــان
وهذا القول كما ترى من تقريره مع دليله هو الصحيح، وهو الموافق لفقه النص وفقه خلق العالم وآثار فعل الله عز وجل في ملكوته، ومتّفق مع القول بأن الله عز وجل فعَّالٌ لما يريد، وأن قَبْلَ هذا العالم ثَمَّ عوالم أخرى، والله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، وأنّه ثَم أشياء أخرى بعد قيام الساعة، والقلم مُتَقَيِّدٌ بما خلقه الله عز وجل له، والله سبحانه له الأمر كله يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.[18]
الشاهد : أن السلف اختلفوا في أوّل المخلوقات بين القلم والعرش ، واتفقوا أنه ليس الذي ذكره النابلسي-أي:الإنسان-، وعلى حسب علمي القاصر لم يقل بهذا القول الذي ذكره النابلسي أحد.
قال محمد راتب النابلسي :" ولا يسألُ عنه بأين هو ".
قلت : هذا الكلام من أبطل الباطل ، وهو مذهب الجهمية ، والمعتزلة ومخانيثهم من الأشاعرة حيث حرّموا السؤال بــ"أين الله؟"، لأنهم لا يتوافق ما تبنّوه من المعتقد الفاسد في نفيهم استواء الله تعالى على عرشه ، بل بعضهم وصل غيّه وضلاله إلى تكفير من يشير بالسبابة إلى السماء.
والسلف الصالح أجمعوا على إثبات صفة الإستواء لله تعالى على عرشه، وأنه بائن من خلقه ، مطلع عليهم لا تخفى منه خافية، وأن الله تعالى في جهة العلو فوق العالم، لا يحويه شيء، بل هو المحيط بكل شيء .
وقد يتبادر إلى جلّ القرّاء حديث الجارية رضي الله عنها ،وهو ماثبت عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فعطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فعرفت أنهم يصمتوني ،فقال عثمان :فلما رأيتهم يسكتوني لكني سكت قال فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي وأمي ما ضربني ولا كهرني ،ولا سبني ثم قال: " إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس هذا إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ،قلت يارسول الله : إنا قوم حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام ومنا رجال يأتون الكهان؟، قال : فلا تأتهم، قال: قلت ومنا رجال يتطيرون؟، قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم " قال :قلت ومنا رجال يخطون قال :" كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ،قال: جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية إذ اطلعت عليها اطلاعة فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة ،فعظم ذاك علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقلت أفلا أعتقها ؟ قال :"ائتني بها ، قال: فجئته بها فقال " أين الله " ؟ قالت في السماء قال " من أنا " ؟ قالت أنت رسول الله قال " أعتقها فإنها مؤمنة " .[19]
والجواب : أن النابلسي ومن حذا حذوه يرونه من الأحاديث الآحاد التي لا تقبل في باب الاعتقاد ، ولو قبلوه لابد من تأويله أو تفويضه .
والمتأمّل في أهل البدع يرى فيهم العجب العجاب من التناقضات ، حيث يستدلون بأخبار وآثار لا زمام لها ولا خطام من الموضوعات والضعيفة ، ويردّون الأحاديث الصحيحة في الصحيحين فضلا عن غيرها من المصنفات والمعاجم التي دون أصحابها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
وذكر الأدلة على ذلك ليس هذا موضع بسطه وذكره ،فالسلفيّ يكفيه دليل واحد ، والمنحرف الزائغ عن الحق لو أتيته بعشرات بل بالمئات الأدلة لا يرفع بها رأسا ولا يلقي لها بالا ، وإنما يردّها أو يأوّلها ويعطّلها عن معانيها.
لذا أحببت أن أنقل بعض كلام أهل العلم استئناسا بما نحن في صدده :
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله : معاني هذا الحديث واضحة يستغنى عن الكلام فيها وأما قوله: "أين الله فقالت في السماء" فعلى هذا أهل الحق لقول الله عز وجل: {أمنتم من في السماء} ولقوله: {إليه يصعد الكلم} ولقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} ومثل هذا في القرآن كثير.[20]
وقال رحمه الله: وأمّا قوله في هذا الحديث للجارية: "أين الله؟" ، فعلى ذلك جماعة أهل السنّة، وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته، كلّهم يقول ما قال الله في كتابه.. . ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه، والله المستعان، ومن قال بما نطق به القرآن، فلا عيب عليه عند ذوي الألباب[21].
وقال الذهبي رحمه الله: ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟.
ثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنّما يُنكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم[22].
ويقول الإمام الدارميّ رحمه الله : ونكفرهم أيضاً لأنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بـ " أين؟ "، والله قد وصف نفسه بـ " أين؟ " فقال: } {الرحمن على العرش استوى} {وهو القاهر فوق عباده} ،و{إنّي متوفيك ورافعك إليّ}،و{ يخافون ربّهم من فوقهم} ...فهذا كلّه وصف بـ " أين؟ "؛ ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ " أين؟ " فقال للأمة السوداء: "أين الله؟ " فقالت: في السماء، فقال: "من أنا؟ " قالت: رسول الله، قال:" اعتقها فإنّها مؤمنة "؛ والجهمية تكفر به، وهذا من واضح كفرهم، والقرآن كلّه ينطق بالردّ عليهم، وهم يعلمون ذلك، أو بعضهم، ولكنهم يكابرون ويغالطون الضعفاء، فقد علموا أنّه ليس من حجة أنقض لدعواهم من القرآن.[23]
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : والجارية التي قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم :أين الله؟ قالت: في السماء، قال: "اعتقها فإنها مؤمنة "، جارية أعجمية، أرأيت من فقهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنّما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى عليها، وأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك وشهد لها بالإيمان، فليتأمّل العاقل ذلك يجده هادياً لـه على معرفة ربّه بالإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون المتشدقون ممّن سوّل لهم الشيطان وأملى لهم.[24]
وقال رحمه الله : عن لفظة الجهة: فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رُدّ...،
فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة انها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العلم مباين للمخلوقات
وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فان أردت الأول فهو حق وان أردت الثاني فهو باطل".[25]
قال ابن القيم في: وقال في كتابه "الغنية"-أي:عبد القادر الجيلاني-:" أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد، ....وهو بجهة العلو مستو على العرش[26].
وقال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: -بعد ذكره لحديث الجارية- : " ومن أجهل جهلاً ، وأسخف عقلاً ، وأضل سبيلاً ممن يقول : إنه لا يجوز أن يقال : أين الله"،أي: كما هو حال المتكلمين أهل الأهواء ، الذين يقولون : لا يسأل عنه بـ"أين".[27]
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
09 / 06 / 1438
الحواشي :
[1] ـ أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/306،305).
[2] ـ ونص هذه الفرية هي ما يلي : «وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنـزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك؛ فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف لا يقصر في الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة» "رحلة ابن بطوطة"(1/95).
[3] ـ" الأصفهانية"(ص: 49)
[4] ـ "درء تعارض العقل والنقل"(2/24)
[5] ـ "مجموع الفتاوى"(5/131).
[6] ـ فائدة عزيز تشد لها الرحال أحببت نقلها وهي ما ذاله ابن القيم رحمه الله في بيان معنى الذات حيث قال رحمه الله في كتابه "بدائع الفوائد" (7/2ـ نقلاً عن السهيلي اللغوي: "وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين، القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات البارئ هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته. ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في قصة إبراهيم: "ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" أخرجه البخاري 6/338 من حديث أبي هريرة ، وقول خبيب: "وذلك في ذات الإله"أخرجه البخاري 7/379.، قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} سورة آل عمران آية 28، 30.، وذلك غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف "في" الجارة وحرف "في" للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس البارئ تعالى، إذا قلت: جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء. وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه كأنك قلت: هذا محبوب في الأعمال التي في مرضاة الله وطاعته، وأما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال.
وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله، فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل، موضوعها نعت لمؤنث. ألا ترى فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل، لا عن نفسه سبحانه، وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى إلى قول النابغة:
يجلهم ذات الإله ودينهم
فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه"اهـ كلام السهيلي.
وقال الحافظ ابن القيم معلقاً على هذا الكلام ومستحسناً: "وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء".
وأصل هذه اللفظة هو تأنيث "ذو" بمعنى صاحب، فذات كذا صاحبة كذا في الأصل. ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت، ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن "هان" وغيره على الأصوليين قولهم "الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا كما لا يقال "الذو" في "ذو" وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها، ومن هنا غلطهم السهيلي. فإن الاستعمال، والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب ومن جهته. وهذا كجنب الشيء. إذا قالوا: هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث كذبات في ذات الله" وقول خبيب رضي الله عنه: "وذلك في ذات الإله"، فغلط واستحق التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} سورة الزمر آية: 56.، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال هاهنا: فرطت في نفس الله وحقيقته. ويحسن أن يقال: فرطت في ذات الله كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله، وصبر في ذات الله، فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر.اهـ
انظر : "الصفات الإلهية" للعلامة محمد الجامي (ص : 37 ـ 49)
[7] ـ "درء تعارض العقل والنقل"(1/172).
[8] ـ "مجموع الفتاوى" (3/41)
[9] ـ أخرجه مسلم ( 182 )
[10] ـ أخرجه البخاري (7439).
[11] ـ "نقض التأسيس"(ص : 455)
[12] ـ أخرجه أحمد 3484 ،والترمذي (3285)، والدارمي (2149)، والطبراني في "الأوسط"( 342)، وأبو يعلى (260، وصححه الألباني في "الصحيحة" ( 3169 )
[13] ـ "نقض التَّأْسيس" 3/396.
[14] ـ "نقض التَّأْسيس" (6/525)
[15] ـ "تأويل مختلف الحديث" (ص: 221(
[16] ـ التعليق المختصر على القصيدة النونية لابن القيم: تعليق الشيخ العلامة صالح الفوزان - المجلد الأول ص264
[17] ـ "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 62)
[18] ـ من شرح عقيدة الإمام الطحاوي والمسمى بـ "إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل" للشيخ العلامة صالح آل الشيخ
[19] ـ أخرجه مسلم (537) ، وأبو داود(930) -واللفظ له-،وغيرهما
[20] ـ "التمهيد" (22/80)
[21] ـ "الاستذكار" (23/167)
[22] ـ "مختصر العلو"(ص:81)
[23] ـ "الردّ على الجهميّة "(ص:175)
[24] ـ "مجموع الفتاوى"(4/62)
[25] ـ "مجموع الفتاوى "(1/45)
[26] ـ "اجتماع الجيوش الإسلامية"(1/157)
[27] ـ انظر:" تذكرة المؤتسي شرح عقـيدة الحافـظ عبـد الغني المقـدسي "(ص : 89)
فهذه الحلقة الرابعة في مناقشة محمد راتب النابلسي في بعض المسائل العقدية التي جانب فيها الصواب، ووافق مذهب الجهمية والمعتزلة ومخانيثهم من الأشاعرة في نفيه صفة من صفات الله جل وعلا الذاتية وهي صفة"الصورة".
وهكذا أيضا منع السؤال عن الله جل وعز بــ "أين هو ؟"، على طريقة المتكلّمين.
وأيضا يقرّر أن في آيات الصفات لا نرجع إلى الكتب التي دونت أقوال الصحابة ومن بعدهم في تأويلها وتفسيرها ،من كتب التفسير، وإنما المرجع في ذلك هو العقل.
وأيضا يستشهد بفرية افتراها ابن بطوطة المغربي على شيخ الإسلام ومحدث الأنام ابن تيمية رحمه الله.
وأيضا يقرّر أن الإنسان هو أول المخلوقات في هذا الكون ،والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
ومما أحببت ذكره عن هذا الرجل الذي اغتر به كثير من الناس عموما ، وإخواننا من أهل سوريا خصوصا أن المسجد الذي كان يصلّي ويدرس فيه ، الصلاة فيه باطلة ،وذلك لأن فيه قبر جدّه عبد الغني النابلسي النقشبنديّ القادريّ الصوفي ، وقد رأيت ذلك بأم عيني لما كنت بدمشق.
قال محمد راتب النابلسي عفا الله كما في "موقعه": "مرة أحد الخطباء نزل درجةً وقال: إن ربَّكم ينزل إلى السماء الدنيا كما أنزل أنا، هذا تجسيم، هذا كفر.
إذاً: مذهب التجسيم باطل، ومذهب التعطيل باطل، أن تعطل هذه الآيات، آيات من كتاب الله، فلذلك هناك آياتٌ تُدركها بلا تفسير، فلا تحتاج إلى تفسير الزمخشري، ولا إلى تفسير الطبري، ولا إلى تفسير القرطبي، ولا إلى تفسير ابن كثير، ولا إلى مفسِّر حديث، ولا إلى قديم".
قلت :
أولا : هذا الكلام من الجهل بمكان ، فهو يهذي بما لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، لأن كلامه يلزم منه إلغاء فهم الصحابة ،وعدم الرجوع إلى ماتعلّموه من النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الصفات .
فالواجب على الذي يريد الخير والفلاح، والفوز والنجاة أن يقدم فهمهم على فهمه ، وطريقتهم على طريقته وهكذا في كل أبواب الدين.
والذي لا يعرف قدر نفسه أنى له أن يعرف قدر غيره، فالسلف الصالح على رأسهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لا يجوز التنكّب على فهمهم لدين الله تعالى ، ومخالفة هديهم وطريقتهم.
فإن الذي يخالف سبيلهم يضلّ عن سواء السبيل ، ويتّبع غير سبيل المؤمنين ،ومتوعّد بنار جهنم وبئس القرار، كما قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرسبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } (النساء : 115) ، وعلى رأس سبيل المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما قال ابن مسعود الهذلي رضي الله عنه : من كان مستنَّاً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ، كانوا خير هذه الأمة، أبرُّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ، كانوا على الهدى المستقيم[1]،
والنصوص الشرعية التي توجب الرجوع إلى طريقة ومسلك وفهم الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم لا تعدّ ولا تحصى.
فكتب التفسير لا يستغني عنها أيّ أحد ، لأن فيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم الشارحة والمبيّنة والموضحة لكلام الله تعالى، وفيها أقوال الصحابة رضي الله عنهم في بيان معاني كلام الله تعالى.
فتقديم العقل على النقل أمر خطير جدّ خطير ، وهو من أعظم أسباب الانتكاسة ،والغيّ والضّلالة ، يورد صاحبه في أمور لا تحمد عقباها.
فالنابلسي يقرّر أن آيات الصفات لا نرجع في تفسيرها وتأويلها إلى الرعيل الأول ، ولا من نقل إلينا كلامهم وفهمهم لكتاب الله تعالى ، من كتب التفسير، وإنما نرد ذلك لعقولنا ، والله المستعان ، والكلام طويل ويطول في هذا المسألة.
قوله :مرة أحد الخطباء نزل درجةً وقال: إن ربَّكم ينزل إلى السماء الدنيا كما أنزل أنا، هذا تجسيم، هذا كفر.
قلت :
أولا : قاتل الله الكذب ،وهذا من إفك وفجور ابن بطوطة المغربي حيث افترى[2] على شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله أنه نزل درجة من منبره ونحو ذلك مما جاء من فجوره وبهتانه.
والرد على هذه الافتراء والبهتان هو مايلي :
1 ـ ابن بطوطة دخل دمشق في يوم التاسع من شهر رمضان سنة 726 هـ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية حينئذ مسجوناً بقلعة دمشق منذ السادس عشر من شعبان سنة 726 هـ، ولم يخرج رحمه الله من السجن إلا محمولا على الأكتاف وسبب موته رحمه الله خصومه وأعداؤه من المفوّضة والمعطّلة والمؤوّلة لصفات الباري جلّ جلاله .
فلم يستطيعوا أن يجابهوه رحمه الله بالحجة والبيان لجؤوا حينئذ إلى وشايته للحكام وألبّوا عليه السلطان بالكذب والفجور والبهتان، وأرادوا تشويه سمعته بمثل هذه الأباطيل والأراجيف ،ولهم سلف في ذلك وبئس السلف ، وهم أعداء الأنيباء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وإذا عرف السبب بطل العجب ، وكل العداوة ترجو مودّتها إلا عداوة من عاداك في الدين ، فشيخ الإسلام رحمه الله يحمل عليه الغلّ والحقد الدفين كل مبتدع خلفي ، بخلاف السلفي فإنه يحبه ويواليه ويدافع عنه بحقّ لأنه كان على الحق يسير لا غير.
2 ـ لم يذكر هذا البهتان والفجور غير ابن بطوطة ، فلو كان صحيحا لما انفرد هو بذكر تلك الفرية التي افتراها.
3 ـ كتب شيخ الإسلام رحمه الله وماخلّفه من التراث هو الحكم في ذلك، فهو رحمه الله يحارب التجسيم وغير ذلك من المعتقدات الباطلة ، وبين رحمه الله عقيدته السلفية في غير ما موضع من كتبه ومصنفاته ، بخلاف ما افتراه عليه ابن بطوطة ، وإليك أخي القارئ بعضا من كل ، وقليل من كثير من كلامه رحمه الله في ذلك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : كما شاء أن ينـزل، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهّم أنه ينـزل عن مكانه، كيف وكيف[3].
وقال في موضع آخر: إن الله - تعالى - ينـزل كما شاء، فليس لنا أن نتوهّم كيف وكيف[4].
وقال رحمه الله : العلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تُعلم كيفية صفة الموصوف ولم تُعلم كيفيته؟![5]
ولو أردت أن أستطرد في النقولات عنه رحمه الله في ذلك لطال بنا المقام ولكثر النقل والكلام ، فحسبك بما نقلت من كلامه رحمه الله ، ليتبيّن لك مدى حقدهم الدفين عنه رحمه الله لأنه فضحهم ، وكشف خبثهم وسوء طوّيتهم.
قال محمد راتب النابلسي عفا الله عنه كما في "موقعه": الله عز وجل واجب الوجود ما سواه ممكن الوجود سميع لكل الموجودات ، كل ما سواه يسمعه ، دون حاسة كبني البشر دون آلة كبني البشر ، هناك آلة تلتقط الأصوات ، أو هناك حاسة تسمع الأصوات ، الله جل جلاله ، ليس كمثله شيء ، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، سميع من دون حاسة أو آلة ، سميع لمن ؟ لكل الموجودات على الإطلاق .
وذكر أثرا منكرا مكذوبا عن علي رضي الله عنه وأقرّه وفيه : "الربُ ربّ والعبدُ عبد, ولا نسبة بينهما، ليس بمتجزئ, ولا بمتبعضٍ, ولا صورةٍ, ولا متلونٍ, ولا يسألُ عنه بأين هو؟, لأنه خالقُ المكان، ولا بمتى ؟ هو لأنه خالقُ الزمان".اهـ
قلت :
أولا : أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية ،والطائفة المنصورة يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه العزيز، وما أثبته له رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في سنته المطهرة إثباتا مفصّلا ، من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، كما قال تعالى: { وَهُوَ السَّمِيعُ البصِيرُ }(الشورى: 11)
والله متّصف بجميع صفات الكمال والجلال، ومنزّه عن جميع صفات العيوب والنقصان.
وينفون ما نفاه الله تعالى عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم نفيا إجماليا في الغالب كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء }(الشورى: 11)
وقال تعالى : { هل تعلم له سميا } (مريم : 65)، وقوله تعالى : { ولم يكن له كفوا أحد } (الإخلاص : 4)
أي : الإثبات المفصل ، والنفي المجمل، وهذا النفي يقتضي إثبات ما يضاده من الكمال وبسط ذلك ليس هذا موضعه وبيانه.
فلم يرد مثلا في آية ولا في حديث فيه : ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا متلون والطعم إلى غير ذلك من النفي المفصّل.
بخلاف الإثبات المفصّل وهذا الذي لم يسلكه النابلسي كم نقلنا كلامه وإقراره بفصّه ونصّه في ذلك.
وما ذكرناه آنفا على اختصاره النابلسي يخالفه ، حيث نفى الله عن الله نفيا تفصيليا ،ويا ليته توقّف عند ذلك ، بل ألحد في صفات الباري جلّ جلاله ، حيث أنكر ماأثبته الله لنفسه من صفة الصورة اللائقة به سبحانه.
ومما يجب التنبيه عليه في مثل هذا المقام أن الألفاظ المجملة التي يستعملها أهل البدع، والتي أحدثها أهل الكلام التي تحتمل حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ،وهي الألفاظ المشتركة بين معانٍ سليمة ، ومعانٍ غير ذلك ،كالجهة ، والجسم ، والعرض ,ونحو ذلك، فإن أهل السنة في ذلك يسلكون مسلكا رشيدا مرضيا سلفيا عليه أثارة من علم ،وهو: أنهم لا يثبتونها، ولا ينفونها في آن واحد ، لأنه لم يرد نفيها، ولا إثباتها في الكتاب والسنة.
ويستفصل من قائلها، فإن أراد مثبتها معنى صحيحا يُوافق على ذلكم المعنى ، ولم يُوافق على استعمال ذلكم اللفظ، ويجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا إثباتا من استطاع إلى ذلك سبيلا.
لأن أهل البدع في استعمالهم لتلكم الألفاظ المشتركة قصدهم في ذلك التّوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجّة تنزيهه سبحانه عن النقائص والعيوب.
وأما إذا كانت الألفاظ لا تحتمل إلا كمالا ومعنى صحيحا كــ"الذات[6]" و "بائن" ، ونحو ذلك، فلا مانع حينئذ من إيراده ،كما ذكر ذلك غير واحد من أئمة الإسلام ،لأنه يجوز في باب الإخبار عن الله تعالى مالا يجوز في باب أسمائه وصفاته جلّ وعزّ.
فلفظة: "بذاته"، أي: أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
ولفظة : "بائن"، يراد بها إثبات العلوّ حقيقة، والردّ على زعم من قال: إن الله في كل مكان بذاته.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله طريقة السلف في التّعامل مع المصطلحات في الألفاظ عموما حيث قال : فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ومن تكلم بلفظ مبتدع يحمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل وهكذا .[7]
وقال رحمه الله: ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به - سواء عرفنا معناه أو لم نعرف - لأنه الصادق المصدوق؛ فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده. فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رُدَّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا، ولم يُردَّ جميع معناه، بل يوقف اللفظ ، ويفسر المعنى.[8]
وقال رحمه الله كما في "منهاج السنة"(2/527 ـ 52: وأمّا لفظ : "الجسم" و"الجوهر"و" المتحيّز" والجهة ونحو ذلك، فلم ينطق كتاب ولا سنّة بذلك في حقّ الله لا نفياً ولا إثباتاً، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت، فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً.اهـ
وقال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(3/81) :ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائض بهذه الطريق طريقا فاسدا لم يسلكه احد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا اثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لانها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا
ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ماهو من هذا النوع بل هذا هو من الكلام المبتدع الذى أنكره السلف والأئمة.اهـ
الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات الصورة لله جل جلاله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ ناسًا قالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : يا رسول الله، هل نَرَى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هل تضَارون في رؤْية القمر ليلةَ البدْر؟، قالوا: لا يا رسول الله... وفيه: يجمع الله الناسَ يوم القيامة، فيقول: مَن كان يعبد شيئًا فلْيتبعه، فيَتبع مَن كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيتَ الطواغيت، وتَبقى هذه الأمَّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يَعْرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفناه، فيأتيهم الله - تعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه... الحديث.[9]
وفي لفظ : وإنا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم.[10]
قال شيخ الإسلام رحمه الله : إن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأوّلون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة.
لكن يقال لهم: لفظ :"الصُّورة" في الحديث –يعني: رحمه الله: حديث أبي سعيد- كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصـير، ومثل خلقـه بيديه واستوائـه على العرش ونحو ذلك. [11]
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت : لا أدري فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات والدرجات قال : وما الكفارات ؟ فقلت : إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال : فما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال : قلت : ما أقول ؟ قال : قل : اللهم إني أسألك عملا بالحسنات، وتركا للمنكرات ،وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون.[12]
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات ، التي قد يسمى المخلوق بها ، على وجه التقييد ، وإذا أطلقت على الله اختصت به ، مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير ، ومثل خلقه بيديه ، واستواءه على العرش ، ونحو ذلك.[13]
وقال رحمه الله : وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به ، فلابد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها ، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها.[14]
وقال ابن قتيبة رحمه الله : الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين ، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن ، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ، ونحن نؤمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد.[15]
وقال محمد راتب النابلسي كما في "موقعه" : (( أنت المخلوق الأول في هذا الكون ، المخلوق المكرّم ، أنت مكلّفٌ بالأمانة ، مكلّفُ بهذه النفس التي بين جنبيك ))
أولا :
القول بأن الإنسان هو أوّل المخلوقات هو قول محدث لم يقل به أيّ أحد من السلف، فضلا عن الصحابة رضي الله عنهم ، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا :
اختلف أهل العلم في أول مخلوق في هذا الكون أهو العرش ؟،أو القلم ؟ على قولين مشهورين ، والراجح منهما القول الأول-أي: العرش- ، وبه قال ابن تيمية و
قال ابن القيم رحمه الله كما في "النونية" :
والناس مختلفون في القلـم الذي*** كُتِب القضـاء به من الدّيّان
هل كان قبلَ العرش أو هو بعده *** قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قـبلُ لأنـّـه*** قبلَ الكتابة كان ذا أركانِ
وكتابـةُ القلمِ الشريف تعقّبتْ *** إيجادهُ من غيرِ فصلِ زمانِ
علّق شيخنا شيخنا صالح الفوزان حفظه الله على هذه الأبيات بقوله : والصحيح أن العرش قبل القلم، وأما الأولية للقلم فهي بالنسبة للكتابة، أي: أنه من حين خلقه الله قال له: اكتب، فالكتابة مقارنة لخلق القلم، هذا معنى الحديث، وليس معناه: أنه قبل العرش.
فقوله ﷺ: "إن أول ما خلق الله القلم: قال له: اكتب" المراد بالحديث: أن الكتابة مقارنة لوجود القلم وليس معناه:أن القلم قبل العرش، بل العرش قبله لقوله ﷺ في آخر الحديث -حديث عبدالله بن عمرو الذي تقدم-: "وكان عرشه على الماء" فهو مطابق للآية الكريمة.[16]
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:أول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش ، واستوى عليه بعد خلق السماوات، كما قال - تعالى -: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا )[17] "
وقال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله : القلم الذي كَتَبَ الله عز وجل به القَدَرْ كُتِبَ به ما يتعلق بهذا العالم؛ يعني: كُتِبَ به القَدَرْ إلى قيام الساعة، كما جاء في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن عمرو أنّ النبي ﷺ قال: «قدر الله مقادير الخلائق –يعني: كتب مقادير الخلائق- قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» فالقلم متعلقة كتابته في اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى قيام الساعة.
المسألة الثالثة:
أنّ القلم لـمَّا خَلَقَهُ الله عز وجل أمره أن يكتب، فجَرَى بما هو كائِنٌ إلى قيام الساعة، كما جاء ذلك في حديث عُبادة بن الصامت الذي رواه أبو داوود والترمذي والإمام أحمد وجماعة بألفاظ متقاربة، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة».
وهذا لفظ أبو داوود وغيره.
وجاء أيضا بلفظ: «أول ما خلق الله القلم قال له: أكتب. فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة».
ولهذا اختلف العلماء هنا في هل هذا الحديث على ظاهره في أنَّ أول المخلوقات القلم أو أنَّ هذا الحديث له معنىً آخر؟ وجعلوا هذا الحديث وحديث عبد الله بن عمرومن الأحاديث التي ينبغي الجمع بينها وهذا هو المسألة الرابعة وهو الجمع ما بين الحديثين.
المسألة الرابعة:
تلحَظُ أَنَّ حديث عبد الله بن عمرو فيه قال: «قدر الله مقادير الخلائق» ولما قَدَّرَ -يعني كتب- كان عرشه على الماء.
وفي حديث عبادة قال: «إن الله أولما خلق الله القلم فقال له اكتب» فيقتضي حديث عبادة أنَّ الأمر بالكتابة كان مُرَتَّباً على ابتداء خلق القلم، وتقدير القَدَر كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء.
فدل حديث عبد الله بن عمرو على وجود تقدير وعلى وجود العرش -خلق العرش- وعلى خلق الماء.
ودلَّ حديث عبادة على أنَّ خَلْقْ القلم تَبِعَهُ قول الله عز وجل للقلم:" اكتب" فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة، وهذا الترتيب جاء في حرف الفاء الذي يدل في مثل هذا السياق على أنَّ هذا بعد هذا دون تراخٍ زمني؛ ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة في الجمع بين هذين الحديثين هل القلم هو أول المخلوقات أم العرش خُلِقَ قبله؟ على قولين للسلف فمن بعدهم:
القول الأول: إنَّ العرش قبل القلم وكذلك الماء قبل القلم.
والقول الأول هو قول جمهور السلف كما نسب ذلك إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
القول الثاني: أنَّ القلم هو أول المخلوقات والعرش والماء بعد ذلك وهو قول طائفة من أهل العلم.
الترجيح ما بين هذين القولين هو أنَّ الأحاديث يجب الجمع بينها وعدم تعارضها.
وحديث عبادة بن الصامت في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب» يقتضي أنَّ الكتابة كانت بعد خلقه.
وحديث عبد الله بن عمرو يقتضي تقدم وجود العرش والماء على حصول الكتابة.
فدلّ هذان الحديثان على أنَّ العرش والماء موجودان قبل، وأنَّ خلق القلم تبعته الكتابة.
ولهذا نسبه شيخ الإسلام إلى جمهور السلف بأنَّ القلم موجود بعد العرش والماء.
وهذا تدل عليه رواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب» يعني: حين. «أَوَلَ» بمعنى حين.
«أَوَّلَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب» حين خَلَقَهُ قال له: اكتب.
وهذا هو معنى: «إن أَوَلَ ما خلقه الله القلم فقال له: اكتب» لأنَّ الجمع بين الروايات أولى من تعارضها.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "التِّبْيَان" أنَّ قوله: «إن أَوَلَ ما خلق الله القلم» ورواية: «أَوَلَ ما خلق الله القلم» إما أن تُجعل جملتين أو جملة واحدة، وقد ذكر هذا النقل شارح الطحاوية فترجع إليه، وخلاصة البحث هو ما ذكرت لك من التقدير، فإن قوله: «إن أَوَلَ ما خلق اللهُ القلمُ» هنا برفع القلم يكون خبر (إنَّ)؛ يعني: إنَّ أَوَلَ الذي خلق الله، إن أَوَلَ المخلوقات القلمُ فقال له: اكتب.
وإذا كان أَوَّلْ المخلوقات فكيف يُفَسَّرْ مع حديث: «وكان عرشه على الماء» الذي ذكرته لك.
فقوله: " إنَّ أَوَّلَ المخلوقات"، أو " أَوَّلَ ما خلق الله"، أو " أَوَّلَ الذي خلقه الله"، يُفهم على أنَّ القلم جرى بما هو كائن إلى قيام الساعة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
فالقلم متعلّق بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، مُتَعَلِّقاً بما يحدث في هذا العالم المخصوص لا في مطلق الأشياء؛ ولهذا عُلِّقْ بأنه إلى قيام الساعة.
فإذاً يُفهم لـمَّا كان تعلق الكتابة بهذا العالم الذي جرى التقدير عليه إلى قيام الساعة، يُفهم أنَّ القلم لـمَّا تَعَلَّقَ بهذا العالم كتابةً لِتَقْدِيرِهِ ولِقَدَرِهِ ولآجاله إلى آخره فإنه من هذا العالم؛ لأنّ العوالم أجناس والله عز وجل جعل لمخلوقاته أقدارا وأجناسا.
فإذاً يُفهم قوله: «إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم» يعني من هذا العالم.
فالقلم قبل السموات وقبل الأرض وقبل الدخان المتعلِّق الذي خُلِقَ منه السموات والأرض وكل ما يتصل بهذا العالم المرئي الـمُشاهَد، فالقلم هو أول المخلوقات أما العرش والماء فليسا مُتَعَلِّقَينِ بهذا العالم.
فإذاً إعمال الحديثين مع ما يتّفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة واضح لا إشكال فيه، فيكون ذلك هو تقرير هذه المسألة.
وقد لخّص ابن القيم المسألة في "نونيته" وبحثها مفصلاً في كتابه "التبيان في أقسام القرآن"، وفي غيره فقال في النونية رحمه الله:
والناس مختلفون في القلــم الذي *** كتب القضاء به من الدّيّـان
هل كان قبل العرش، أو هو بعده؟ *** قولان عند أبى العلا الهمذاني
والحـق أن العرش قبل لأنّـــه *** عند الكتابة كان ذا أركـان
وكتابـة القلــم الشريف تعقبت *** إيجاده من غير فصل زمــان
وهذا القول كما ترى من تقريره مع دليله هو الصحيح، وهو الموافق لفقه النص وفقه خلق العالم وآثار فعل الله عز وجل في ملكوته، ومتّفق مع القول بأن الله عز وجل فعَّالٌ لما يريد، وأن قَبْلَ هذا العالم ثَمَّ عوالم أخرى، والله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، وأنّه ثَم أشياء أخرى بعد قيام الساعة، والقلم مُتَقَيِّدٌ بما خلقه الله عز وجل له، والله سبحانه له الأمر كله يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.[18]
الشاهد : أن السلف اختلفوا في أوّل المخلوقات بين القلم والعرش ، واتفقوا أنه ليس الذي ذكره النابلسي-أي:الإنسان-، وعلى حسب علمي القاصر لم يقل بهذا القول الذي ذكره النابلسي أحد.
قال محمد راتب النابلسي :" ولا يسألُ عنه بأين هو ".
قلت : هذا الكلام من أبطل الباطل ، وهو مذهب الجهمية ، والمعتزلة ومخانيثهم من الأشاعرة حيث حرّموا السؤال بــ"أين الله؟"، لأنهم لا يتوافق ما تبنّوه من المعتقد الفاسد في نفيهم استواء الله تعالى على عرشه ، بل بعضهم وصل غيّه وضلاله إلى تكفير من يشير بالسبابة إلى السماء.
والسلف الصالح أجمعوا على إثبات صفة الإستواء لله تعالى على عرشه، وأنه بائن من خلقه ، مطلع عليهم لا تخفى منه خافية، وأن الله تعالى في جهة العلو فوق العالم، لا يحويه شيء، بل هو المحيط بكل شيء .
وقد يتبادر إلى جلّ القرّاء حديث الجارية رضي الله عنها ،وهو ماثبت عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فعطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فعرفت أنهم يصمتوني ،فقال عثمان :فلما رأيتهم يسكتوني لكني سكت قال فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي وأمي ما ضربني ولا كهرني ،ولا سبني ثم قال: " إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس هذا إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ،قلت يارسول الله : إنا قوم حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام ومنا رجال يأتون الكهان؟، قال : فلا تأتهم، قال: قلت ومنا رجال يتطيرون؟، قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم " قال :قلت ومنا رجال يخطون قال :" كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ،قال: جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية إذ اطلعت عليها اطلاعة فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة ،فعظم ذاك علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقلت أفلا أعتقها ؟ قال :"ائتني بها ، قال: فجئته بها فقال " أين الله " ؟ قالت في السماء قال " من أنا " ؟ قالت أنت رسول الله قال " أعتقها فإنها مؤمنة " .[19]
والجواب : أن النابلسي ومن حذا حذوه يرونه من الأحاديث الآحاد التي لا تقبل في باب الاعتقاد ، ولو قبلوه لابد من تأويله أو تفويضه .
والمتأمّل في أهل البدع يرى فيهم العجب العجاب من التناقضات ، حيث يستدلون بأخبار وآثار لا زمام لها ولا خطام من الموضوعات والضعيفة ، ويردّون الأحاديث الصحيحة في الصحيحين فضلا عن غيرها من المصنفات والمعاجم التي دون أصحابها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
وذكر الأدلة على ذلك ليس هذا موضع بسطه وذكره ،فالسلفيّ يكفيه دليل واحد ، والمنحرف الزائغ عن الحق لو أتيته بعشرات بل بالمئات الأدلة لا يرفع بها رأسا ولا يلقي لها بالا ، وإنما يردّها أو يأوّلها ويعطّلها عن معانيها.
لذا أحببت أن أنقل بعض كلام أهل العلم استئناسا بما نحن في صدده :
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله : معاني هذا الحديث واضحة يستغنى عن الكلام فيها وأما قوله: "أين الله فقالت في السماء" فعلى هذا أهل الحق لقول الله عز وجل: {أمنتم من في السماء} ولقوله: {إليه يصعد الكلم} ولقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} ومثل هذا في القرآن كثير.[20]
وقال رحمه الله: وأمّا قوله في هذا الحديث للجارية: "أين الله؟" ، فعلى ذلك جماعة أهل السنّة، وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته، كلّهم يقول ما قال الله في كتابه.. . ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه، والله المستعان، ومن قال بما نطق به القرآن، فلا عيب عليه عند ذوي الألباب[21].
وقال الذهبي رحمه الله: ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟.
ثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنّما يُنكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم[22].
ويقول الإمام الدارميّ رحمه الله : ونكفرهم أيضاً لأنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بـ " أين؟ "، والله قد وصف نفسه بـ " أين؟ " فقال: } {الرحمن على العرش استوى} {وهو القاهر فوق عباده} ،و{إنّي متوفيك ورافعك إليّ}،و{ يخافون ربّهم من فوقهم} ...فهذا كلّه وصف بـ " أين؟ "؛ ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ " أين؟ " فقال للأمة السوداء: "أين الله؟ " فقالت: في السماء، فقال: "من أنا؟ " قالت: رسول الله، قال:" اعتقها فإنّها مؤمنة "؛ والجهمية تكفر به، وهذا من واضح كفرهم، والقرآن كلّه ينطق بالردّ عليهم، وهم يعلمون ذلك، أو بعضهم، ولكنهم يكابرون ويغالطون الضعفاء، فقد علموا أنّه ليس من حجة أنقض لدعواهم من القرآن.[23]
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : والجارية التي قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم :أين الله؟ قالت: في السماء، قال: "اعتقها فإنها مؤمنة "، جارية أعجمية، أرأيت من فقهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنّما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى عليها، وأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك وشهد لها بالإيمان، فليتأمّل العاقل ذلك يجده هادياً لـه على معرفة ربّه بالإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون المتشدقون ممّن سوّل لهم الشيطان وأملى لهم.[24]
وقال رحمه الله : عن لفظة الجهة: فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رُدّ...،
فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة انها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العلم مباين للمخلوقات
وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فان أردت الأول فهو حق وان أردت الثاني فهو باطل".[25]
قال ابن القيم في: وقال في كتابه "الغنية"-أي:عبد القادر الجيلاني-:" أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد، ....وهو بجهة العلو مستو على العرش[26].
وقال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: -بعد ذكره لحديث الجارية- : " ومن أجهل جهلاً ، وأسخف عقلاً ، وأضل سبيلاً ممن يقول : إنه لا يجوز أن يقال : أين الله"،أي: كما هو حال المتكلمين أهل الأهواء ، الذين يقولون : لا يسأل عنه بـ"أين".[27]
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
09 / 06 / 1438
الحواشي :
[1] ـ أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/306،305).
[2] ـ ونص هذه الفرية هي ما يلي : «وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنـزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك؛ فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف لا يقصر في الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة» "رحلة ابن بطوطة"(1/95).
[3] ـ" الأصفهانية"(ص: 49)
[4] ـ "درء تعارض العقل والنقل"(2/24)
[5] ـ "مجموع الفتاوى"(5/131).
[6] ـ فائدة عزيز تشد لها الرحال أحببت نقلها وهي ما ذاله ابن القيم رحمه الله في بيان معنى الذات حيث قال رحمه الله في كتابه "بدائع الفوائد" (7/2ـ نقلاً عن السهيلي اللغوي: "وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين، القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات البارئ هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته. ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في قصة إبراهيم: "ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" أخرجه البخاري 6/338 من حديث أبي هريرة ، وقول خبيب: "وذلك في ذات الإله"أخرجه البخاري 7/379.، قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} سورة آل عمران آية 28، 30.، وذلك غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف "في" الجارة وحرف "في" للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس البارئ تعالى، إذا قلت: جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء. وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه كأنك قلت: هذا محبوب في الأعمال التي في مرضاة الله وطاعته، وأما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال.
وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله، فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل، موضوعها نعت لمؤنث. ألا ترى فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل، لا عن نفسه سبحانه، وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى إلى قول النابغة:
يجلهم ذات الإله ودينهم
فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه"اهـ كلام السهيلي.
وقال الحافظ ابن القيم معلقاً على هذا الكلام ومستحسناً: "وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء".
وأصل هذه اللفظة هو تأنيث "ذو" بمعنى صاحب، فذات كذا صاحبة كذا في الأصل. ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت، ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن "هان" وغيره على الأصوليين قولهم "الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا كما لا يقال "الذو" في "ذو" وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها، ومن هنا غلطهم السهيلي. فإن الاستعمال، والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب ومن جهته. وهذا كجنب الشيء. إذا قالوا: هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث كذبات في ذات الله" وقول خبيب رضي الله عنه: "وذلك في ذات الإله"، فغلط واستحق التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} سورة الزمر آية: 56.، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال هاهنا: فرطت في نفس الله وحقيقته. ويحسن أن يقال: فرطت في ذات الله كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله، وصبر في ذات الله، فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر.اهـ
انظر : "الصفات الإلهية" للعلامة محمد الجامي (ص : 37 ـ 49)
[7] ـ "درء تعارض العقل والنقل"(1/172).
[8] ـ "مجموع الفتاوى" (3/41)
[9] ـ أخرجه مسلم ( 182 )
[10] ـ أخرجه البخاري (7439).
[11] ـ "نقض التأسيس"(ص : 455)
[12] ـ أخرجه أحمد 3484 ،والترمذي (3285)، والدارمي (2149)، والطبراني في "الأوسط"( 342)، وأبو يعلى (260، وصححه الألباني في "الصحيحة" ( 3169 )
[13] ـ "نقض التَّأْسيس" 3/396.
[14] ـ "نقض التَّأْسيس" (6/525)
[15] ـ "تأويل مختلف الحديث" (ص: 221(
[16] ـ التعليق المختصر على القصيدة النونية لابن القيم: تعليق الشيخ العلامة صالح الفوزان - المجلد الأول ص264
[17] ـ "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 62)
[18] ـ من شرح عقيدة الإمام الطحاوي والمسمى بـ "إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل" للشيخ العلامة صالح آل الشيخ
[19] ـ أخرجه مسلم (537) ، وأبو داود(930) -واللفظ له-،وغيرهما
[20] ـ "التمهيد" (22/80)
[21] ـ "الاستذكار" (23/167)
[22] ـ "مختصر العلو"(ص:81)
[23] ـ "الردّ على الجهميّة "(ص:175)
[24] ـ "مجموع الفتاوى"(4/62)
[25] ـ "مجموع الفتاوى "(1/45)
[26] ـ "اجتماع الجيوش الإسلامية"(1/157)
[27] ـ انظر:" تذكرة المؤتسي شرح عقـيدة الحافـظ عبـد الغني المقـدسي "(ص : 89)