[مقال] السيل الثجَّاج في ردِّ فرية الأستاذ حجَّاج للشيخ عبيد الجابري حفظه الله
منقول من شبكة سحاب السلفية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه، وكفَى بالله شهيدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
فقد ظهر حجاج العجمي بمقولةٍ سيئة عبر برنامج الكلام الحر على قناة اليوم عن تطورات أحداث الثورة في سوريا 3-12-2013، وهذا رابط المقطع الصوتي:
http://bit.ly/1l5W9y5
وهذا نصها:
(في صحيح مسلم -هذا طبعًا فقهاء السلطة لا يتطرقون لهذا الحديث- في صحيح مسلم عبد الله بن عمرو بن العاص بايع معاوية على الخلافة، بيعة، بايعه ويراه خليفة شرعي! اختصم عبد الله بن عمرو -من فقهاء الصحابة وعلمائها- اختصم مع عنبسة والي معاوية، والي الطائف على أرض، أرض اختصموا عليها، فقام عنبسة –والي شرعي، والي أمر-وذهب ليأخذ الأرض عنوة، فقام عبد الله بن عمرو فسلَّح عبيده، أعطى كل واحد ممن يملكه سلاح، ليجابه به من؟ ليجابه من؟ جيش عنبسة الذي جاء ليأخذ الأرض، وجاء خالد بن العاص لينكر عليه، ولي الأمر وتخالفه! وأرض!، قال: أما علمت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد»).
نص حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:
أخرج مسلم (141) من طريق سليمان الأحول: أنَّ ثابتًا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره: أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان، تيسَّروا للقتال، فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه، خالد فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد».
التعليق:
لا يخفى على ذي البصر والبصيرة، والمنصف ومن خالطت السنة بشاشة قلبه، أنَّ هذه المقولة الشنيعة تحمل في طياتها مسلكين خبيثين:
أحدهما: اتهام علماء السنة، وفقهاء الملة المباركة بمداهنة السلطان، ولذا أخفوا -كما زعمتَ- خبر عبد الله بن عمرو مع عنبسة.
ثانيهما: الدعوة الصريحة إلى الخروج على الحاكم المسلم.
وكلا المسلكين يرفع به عقيرته -في هذا العصر- الخوارج القعدية وفقهاء الواقع -زعموا-
وكلتا الطائفتين موافقة فيما سلكته أهل البدع، ومن مسلك أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، قال الصابوني في عقيدة السلف (299):
(وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة. اعتقادًا منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم، من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير، العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
قلت: ولكل قومٍ وارث، فاحذر.
ورد ما تضمنته مقولتك يا أستاذ من هذين المسلكين الخبيثين، اللذين لا يُظن بمثلك -مستحضرًا للنصوص- أن يسلكهما، من أوجه:
- الوجه الأول:
أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان متأولاً، والخطأ بسبب التأويل من رجل خيِّر، ذي جلالةِ قدر، وسابقةِ فضل، وإمامةٍ في الدين، وإمامٍ في السنة، يُرد خطؤه ويُصان عرضه، وتُصان كرامته، ولا يُتابع على خطئه، وهذا مسلك أهل السنة مع من دون ذلك الصحابي الخير الفاضل المكثر من الحديث، فكيف لا يكون هذا مسلكنا مع أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ويدلُّ على ما ذكرناه من تأويل ابن عمرو رضي الله عنهما أنه هو نفسه روى حديث «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر». قال الراوي عنه: فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله آنت سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، قال: فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله. أخرجه مسلم (1844).
- الوجه الثاني:
أنَّ الذي تأهب لقتاله ليس هو الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، بل هو عامله، ولذلك استساغ قتاله دون ماله، وقد أسلفنا أنه متأول.
- الوجه الثالث:
أنه رَكِب إليه خالد بن العاص وهو خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة –أخو عمرو بن العاص-، وصنيع خالد هذا يدلُّ على أنه استقر عنده أنَّ ولي الأمر لا يُقاتَل، وهذا هو قول أهل السنة.
قال الإمام أحمد رحمه الله في أصول السنة ص (46):
(ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة).
قال البربهاري رحمه الله ص (70):
(ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليهم وإن جاروا؛ وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري: «اصبر وإن كان عبدا حبشيًا»، وقوله للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وليس من السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدنيا والدين).
- الوجه الرابع:
ما جاء في هذا الأمر من صحيح السنة:
اعلم أيها المنصف الحازم في أمره أنَّ السنة الصحيحة المستفيضة، إن لم تكن متواترة تواترًا معنويًا -يوجب العلم والعمل- فهي مستفيضة، وقد اخترنا من هذه السنة ثلاثة أحاديث متبعين كل حديث ببعض أقوال أئمة العلم والدين:
الحديث الأول:
في صحيح مسلم (1843) عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم».
قال شيخ الإسلام في الاستقامة (1/35-36):
(وقوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها» قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدُّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم»، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحاح، فأمر مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطاء حقوقهم، وطلب المظلوم حقّه من الله ولم يأذن للمظلوم المَبْغي عليه بقتال الباغي، في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة، كما أذن في دفع الصائل بالقتال، حيث قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد»، فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة، إذ الناس كلهم أعوان على ذلك فليس فيه ضرر عامٌ على غير الظالم، بخلاف قتال ولاة الأمور فإن فيه فتنةً وشرًا عامًا أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر).
الحديث الثاني:
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم». قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم». قلت فهل وراء ذلك الخير شر قال: «نعم». قلت كيف؟ قال: «يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس». قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع». أخرجه مسلم (1847).
قال القرطبي في المفهم (4/37):
(الطاعة للأمراء واجبة وإنْ استأثروا بالأموال دون الناس، بل وعلى أشد من ذلك؛ لأنه ـصلى الله عليه وسلم ـ قال لحذيفة: «فاسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك»).
وقال أيضًا في المفهم (4/39):
(فأمَّا قوله في حديث حذيفة: «اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك»؛ فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام، والانقياد، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك).
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (1/561):
(وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) فتبين أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلًا أو ظالمًا وكذلك في الصحيح حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدًا من طاعة إمام، لقي الله يوم القيام لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، لكنه لا يطاع أحد في معصية الله»).
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار (8/329):
(«وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» فيه دليل على وجوب طاعة الأمراء، وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرعية، وأخذ أموالهم، فيكون هذا مخصصًا لعموم قوله تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
قال صديق حسن خان في فتح البيان (6/264):
(بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة: «أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم»، بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: «وإن أخذ مالك وضرب ظهرك»).
قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (2/506-507):
(وإذا قُدّر أن ولي الأمر أخذ أكثر مما يجب، فإنَّ ذلك ظلم لا يحل لولي الأمر، أمَّا صاحب المال فعليه السمع والطاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»).
الحديث الثالث:
في صحيح مسلم (1846) عن سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس وقال: «اسمعوا وأطيعوا فإنما، عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».
وفي مثل هذا وسابقه قول الحافظ النووي في شرح مسلم (12/232):
(هذا من معجزات النبوة وقد وقع هذا الإخبار متكررًا ووجد مخبره متكررًا وفيه الحثّ على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيعطى حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه، ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه).
وقال الآجري بعد أن ذكر أثرًا صحيحًا عن عمر رضي الله عنه وهو من طريق سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ, إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي أَنْ لَا أَلْقَاكَ بَعْدَ عَامِي هَذَا, فَاسْمَعْ وَأَطِعْ وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجْدَعٌ, إِنْ ضَرَبَكَ فَاصْبِرْ, وَإِنْ حَرَمَكَ فَاصْبِرْ, وَإِنْ أَرَادَ أَمْرًا يَنْتَقِصُ دِينَكَ فَقُلْ: سَمْعٌ وَطَاعَةٌ, وَدَمِي دُونَ دِينِي, فَلَا تُفَارِقِ الْجَمَاعَةَ).
قال الآجري رحمه الله- في الشريعة (1/162):
(فإن قال قائل: إيش الذي يحتمل عندك قول عمر رضي الله عنه فيما قاله؟ قيل له: يحتمل والله أعلم أن نقول: من أمر عليك من عربي، أو غيره، أسود، أو أبيض، أو عجمي، فأطعه فيما ليس لله فيه معصية، وإن حرمك حقا لك ، أو ضربك ظلما لك ، أو انتهك عرضك ، أو أخذ مالك، فلا يحملك ذلك على أن تخرج عليه بسيفك حتى تقاتله ، ولا تخرج مع خارجي يقاتله، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه ، ولكن اصبر عليه وقد يحتمل أن يدعوك إلى منقصة في دينك من غير هذه الجهة يحتمل أن يأمرك بقتل من لا يستحق القتل، أو بقطع عضو من لا يستحق ذلك ، أو بضرب من لا يحل ضربه ، أو بأخذ مال من لا يستحق أن تأخذ ماله ، أو بظلم من لا يحل له ولا لك ظلمه ، فلا يسعك أن تطيعه، فإن قال لك : لئن لم تفعل ما آمرك به وإلا قتلتك أو ضربتك ، فقل : دمي دون ديني).
- الوجه الخامس: نقل الإجماع.
عرف قُراؤنا وقراؤك يا بني ما نقلته لك من كلام العلماء الذين هم أئمة في هذا الباب وما دونه فهو مجمع عليه عند من سبقهم، فهل قال ما قاله أئمة من المعاصرين أو المتقدمين عليهم وهم بيننا وبينهم وها نحن ذاكرين بعض أقوالهم:
قال ابن المنذر -فتح الباري (5/124)-:
(والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيامة عليه).
- الوجه السادس:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لنا بالقتال إلا في حال واحد وهو حين نرى كفرًا بواحًا معنا فيه مِن الله تعالى برهان، ولم يأذن بغيره، بل ولم يأذن بقتالهم بسبب تأخيرهم الصلاة، فضلاً أن يُقاتلوا من أجل مالٍ أو دنيا.
قال العلامة صديق حسن خان في فتح البيان (6/263):
(وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح: «أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة»، وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة، وما لم يظهر منهم الكفر البواح، وما لم يأمروا بمعصية الله، وظاهر ذلك: أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه، وفعلوا أعظم أنواعه، -مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح- فإن طاعتهم واجبة، حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله).
- الوجه السابع:
أن العلماء –رحمهم الله- فرقوا بين ما إذا أمرك بمعصية فلا طاعة له، وبين ما إذا أخذ حقك بتأويل أو بغير سبب شرعي فيجب الصبر عليه.
قال القرطبي رحمه الله في المفهم (4/39):
(فأمَّا لو أمر بمعصية مثل أخذ مال بغير حق أو قتل أو ضرب بغير حق ؛ فلا يطاع في ذلك ، ولا ينفذ أمره، ولو أفضى ذلك إلى ضرب ظهر المأمور وأخذ ماله ؛ إذ ليس دم أحدهما ، ولا ماله ، بأولى من دم الآخر، ولا ماله . وكلاهما يحرم شرعًا ؛ إذ هما مسلمان، ولا يجوز الإقدام على واحد منهما ، لا للآمر ، ولا للمأمور ؛ لقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)؛ كما ذكره الطبري ، ولقوله هنا: (فإن أمر بمعصية فلا سمع، ولا طاعة). فأمَّا قوله في حديث حذيفة: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك)؛ فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام، والانقياد، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك. ويحتمل أن يكون ذلك خطابًا لمن يُفعل به ذلك بتأويل يسوّغ للأمير بوجهٍ يظهر له، ولا يظهر ذلك للمفعول به. وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث، ويصحّ الجمع، والله أعلم).
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين في شرح الأربعين ص (279):
(وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله عزّ وجل، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ»، وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي الأمر: أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، فهذا حرام، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع ربه. أما لو أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، لأنَّ رب ولي الأمر ورب الرعية واحد عزّ وجل، فكلهم يجب أن يخضعوا له عزّ وجل، فإذا أمرنا بمعصية الله قلنا: لا سمع ولا طاعة).
الخاتمة
فهل فهمت يا بني تمام الفهم أن أئمتنا وعلماءنا المعاصرين من أئمة الدعوة ومن بعدهم مجمعون على ما كان عليه سلفهم الصالح من وجوب السمع والطاعة للإمام المسلم، والصبر على ما يلقونه من الأثرة، منه ومن نوابه، فاتق الله في نفسك يا أستاذ، وتب إلى الله من هذين المسلكين، فقد ظلمت من وصفتهم بمضمون مقالتك بمداهنة السلطان، ولا أظنك إلا تعني علماءنا المعاصرين، وأقول لك: إني مع شدتي عليك في رد مقولتك الشنيعة حريصٌ على أن تراجع السنة، وتسلك سبيل السلف الصالحين، من الصحابة ومن سلك سبيلهم من أئمة العلم والدين، وأختم مقالي هذا بما فيه أبلغ واعظ، وأعظم زاجر فاسمع قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (2 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟»، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إنَّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قلت: فهل يرضى عاقل مشفق على نفسه، أن تذهب حسناته العظيمة ويطرح عليه من سيئات الآخرين، وأدعوك مرة أخرى إلى مراجعة كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح.
والله يعلم أنه ليس لي هدف فيك لشخصك بل كان هدفي تجلية الحق والذب عن أهله.
وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وتسلم تسليمًا كثيرًا.
وكتبه:
عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري
المدرس بالجامعة الإسلامية
وحُرر بالمدينة النبوية بعد مغرب يوم الخميس
الرابع عشر من شعبان عام خمس وثلاثين وأربعمائة وألف
الموافق الثاني عشر من يونيو 2014