مواقف أئمة الدعوة من تتبع آثار الأنبياء والصالحين (مشروع السلام عليك أنموذجا)
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا ومسافرين ولم يقل أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم ) ( اقتضاء الصراط المستقيم 2/748 ) .
1- إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
قال رحمه الله في المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية: السادسة والسبعون : اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. كما ورد عن عمر رضي الله عنه – فإن هذه المسألة –أيضا- من بدع جاهلية الكتابيين, كانوا يتخذون آثار أنبيائهم مساجد. فورثهم الجاهلون من هذه الأمة, فتراهم يبنون على موضع اختفى به النبي صلى الله عليه وسلم, أو وصل قدمه المبارك إليه, أو تعبد فيه, وهذا ليس مما يحمد في الشريعة, لجره إلى الغلو. وفي العراق مواضع كثيرة بنوا عليها مباني, كالمقام الذي زعموا أن الشيخ الكيلاني تعبد فيه, وكأثر الكف الذي زعم الشيعة أنه أثر كف الإمام علي لما وضع على الصخرة فأثر فيها, فبنوا عليها مسجدا, وكعدة أماكن زعموا أن الخضر رؤي فيها, ولا أصل له, إلى غير ذلك مما لا يستوعبه المقام. فينبغي لمن يدعي الإسلام أن يتجنبها, وينهى عن حضورها, وإن رمي بالإنكار, وعداوة والأشرار, وكيد المارقين الفجار. وفي المسألة تفصيل لا بأس بذكره. قال شيخ الإسلام: "فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها وأقاموا, أو عبدوا الله سبحانه لكنهم لم يتخذوها مساجد, فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء مشهوران:
أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته, وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة, إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع, ومثل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصدها للعبادة, كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم, وكما كان يتحرى الصلاة عند الإسطوانة, وكما تقصد المساجد للصلاة, ويقصد الصف الأول, ونحو ذلك.
والقول الثاني: أن لا بأس باليسير من ذلك, كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم [قد] سلكها اتفاقا لا قصدا. وسئل الإمام أحمد عن الرجل يأتي المشاهد, ويذهب إليها, ترى ذلك: قال: أما على حديث ابن أم مكثوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى, وعلى ما كان يفعله ابن عمر, يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره, فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد, إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه. وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها؟ فقال: أما حديث على حديث ابن أم مكثوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا, وعلى ما كان يفعل ابن عمر, كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم, حتى رؤي يصب في موضع ماء, فسئل عن ذلك, فقال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب ههنا ماء", وقال: أما على هذا فلا بأس, قال: ورخص فيه, ثم قال: ولكن قد أفرط الناس جدا, وأكثروا في هذا المعنى, فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواه الخلال في كتاب الأدب. فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد- وهي الأماكن التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة- بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا, والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم. فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال: "رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أما كن الطريق, ويصلي فيها, ويحدث أن أباه كان يصلي فيها, وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة" فهذا كما رخص الإمام أحمد. وأما كراهته, فروى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها, فقرأ بنا في الفجر بـ{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }, و{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ } في الثانية, فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد, فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى الله عليه وسلم فيه, فقال: "هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم, اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا, من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل, ومن لم تعرض له الصلاة فليمض . فقد كره عمر اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وسلم عيدا, وبيّن أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا, وكانوا يتبعون آثار أنبيائهم, ويتخذونها كنائس وبيعا. وروى محمد بن وضاح وغيره: "أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم, لأن الناس كانوا يذهبون تحتها, فخاف عمر الفتنة عليهم " . وما ذكره عمر هو الحري بالقبول, وهو مذهب جمهور الصحابة, غير ابنه , وهو الذي يجب العمل به, ويعول عليه. اهـ
2- الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
قال رحمه الله كما في الدرر السنية (1/233) : وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم، وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه، وصارمه، أو ضاربه، أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص، ولا دل عليه دليل ؛ بل منكر تجب إزالته ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر، أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات، أو لطول غيبة، فلا بأس به ؛ إلا أنه لما ألف في الجاهلية الأخرى : أن التقبيل صار علماً لمن يعتقد فيه، أو في أسلافه، أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقاً، لا سيما لمن ذكر، حسماً لذرائع الشرك ما أمكن . وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء، حسماً لتلك المادة، وتنفيراً عن الإشراك بالله ما أمكن، لعظم شأنه، فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى : ( ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم ) الآية [ الروم:28] .
3- الشيخ سُليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (المتوفى: 1233هـ)
قال رحمه الله في التوضيح ص 221 ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها (أي عند القبور) والدعاء بأصحابها أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خفي علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علماً وعملاً بهذا الفضل العظيم، وتظاهر به الخلوف علماً وعملاً، ولا يجوز أن يعلم السابقون الأولون علماً ويزهدون فيه عملاً وهو يحثهم على الطاعة ويرغبهم فيها ثم لا ينقلونه أيضاً إلى من بعدهم مع حرصهم على كل خير لاسيما الدعاء فان المضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعاً وان كان فيه كراهة هذا، وهم قد عرضت عليهم شدائد واضطرابات وفتن وازعاجات وقحط وسنون مجدبات أفلا جاءوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شاكين وله بها مخاطبين وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم إياه داعين أم كيف يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونها، هذا محال طبعاً وشرعاً، وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون هذا بكثير، فروي غير واحد عن المعرور بن سويد قال صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ } ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال أين يذهبون هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم يتخذونها كنائس وبيعاً يرغبون عن هديه ويعرضون عما جاء به فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها، وكذلك أرسل عمر رضي الله عنه وأمر بقطع الشجرة السمرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وذكرها الله في القرآن لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة فقطعت بأمره، بل قد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم وأمتعتهم بخصوصها يعظمونها بذلك ويتنوطون أي يجتمعون عندها ويعلقون أسلحتهم عليها لتعظيمها كما في حديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها لتعظيمها إلهاً مع الله وهم لا يدعونها مع ذلك ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعاؤه ورجاؤه والتوكل عليه والذبح والنذر له ليجلب خيراً أو يدفع سوءاً، وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر.
ثم قال ص223- 224 : وفي مقابلة المسجد الحرام. والبيت والمقام جهة الشرق زقاق يقال له زقاق الحجر فيه حجر موضوع عرض الحائط يتمسحون به ويدعونه زاعمين أنه الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذب وبهتان ليس هو، فإنه صلى الله عليه وسلم قال وهو في المدينة أني لأعلم حجراً بمكة يسلم عليّ ولم يعينه خشية الافتتان به، بل لو تحقق أنه هو ليس هو بأفضل من مقام إبراهيم وجدار الكعبة المشرفة، والسلف الصالح ينهون عن التمسح بشيء من ذلك إلاَّ الحجر الأسود سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة حب الله وذكره وان من شيء إلا يسبح بحمده وجميع المخلوقات حتى الجمادات تعرفه صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيها من قوة الادراكات وإذاً فلا مزية في حجر أو شجر إلاَّ الحجر الأسود خاصة فانه يمين الله في الأرض، ومع سنية تقبيله ووضع الجبين عليه لا يدعى ولا يرجى ولا يتوكل عليه وان اعتقدنا شفاعته في الآخرة ليس هو بأفضل من الأنبياء والأولياء ومع ذلك لا يشفعون إلاَّ من بعد إذن الله لمن يرضى عنه وإذاً فسؤال الشفاعة إنما هو من الله فسأل منه كما يسأل تعالى الثبات على الدين والوفاة على الإيمان وهو أرحم الراحمين. ويقابله حجر منقور على قدر المرفق يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تمرفق عليه فأثر به وهو أيضاً كذب لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين ولا تابعيهم ولا عمن يعتد به من أهل العلم ولم ينقل ولا في حديث ضعيف انه صلى الله عليه وسلم وجد له أثر قدم أو أثر مرفق أو وضع في حجر، وإنما ذلك من تلبيس إبليس على هؤلاء ليغويهم ويحسن لهم شركهم وهم يزعمون أنه حب لنبيهم، وما محبته إلاَّ اتباع شرعه، وما جاء به والعمل به، ودحض ضده، ومعاداته، زيادة على حب ذاته صلى الله عليه وسلم ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده " وفيه أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفيه أيضاً عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبداً لا يحبه إلاَّ لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وفيه أيضاً عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاَّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فانه الآن يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر" وليس حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم إلاَّ مجتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعتهم في ستهم وهديهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شيئاً أكبر أو أصغر يترك ما عليه من طاعتهم بقدر ما ابتدعه من الإشراك به، فليس على المؤمن ولا له إلاَّ طلب طاعتهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.اهـ
4- الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ
قال رحمه الله: فصل ثم ذكر –رحمه الله – -يعني شيخ الإسلام- تتبع آثار الأنبياء، وما ذهب إليه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من النهي عن ذلك، وذكر أنه قطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر عن محمد بن وضاح قال: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار التي بالمدنية، ما عدا قباء وأحداً، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر، إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل الكتاب. وما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق، لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجاً وعماراً أو مسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم الناس بسنته، واتبع لها من غيرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة. فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ وأيضاً فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد. ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي أو ولي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجداً، فيصير وثناً يعبد من دون الله تعالى. شرك مبني على إفك" انتهى ما نقلته عن اقتضاء الصراط المستقيم. وفي هذا القدر المنقول عن شيخ الإسلام كفاية، لأنه واف في المقصود، ويكشف ما يلبس به كل مصدود، ولا يرده إلا من استحوذ عليه الشيطان، وأنساه ذكر الرحمن، وصد عن معرفة/ الإسلام والإيمان، كما قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}. فلله الحمد على بيان الحق، وإزاحة الكذب عن الصدق، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا
5- الشيخ حمود التويجري:
قال رحمه الله في الإجابة الجلية على الأسئلة الكويتية ص 12-15: السادس قولهم: لقد أثبت القرآن صراحة لا تلميحاً ولا مجازاً أن بقايا الصالحين وآثارهم يمكن التوسل بها في استجلاب الخير ودفع الضر مهما تقادم بها العهد، يقول الله تبارك وتعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . والجواب أن يقال: إن الشريعة المحمدية الكاملة قد نسخت الشرائع التي كانت قبلها فليس لأحد أن يعمل بشيء يخالفها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلو، وأعظم الغلو ما كان وسيلة إلى الشرك بالله تعالى ومنه التبرك ببقايا الصالحين وآثارهم والتوسل بها في استجلاب الخير واستدفاع الضرر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية انتهى. في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي الصحيحين وغيرهما أيضا عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم: طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا». وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز التبرك بآثار الصالحين ولا الدعاء عند قبورهم ومقاماتهم، لأن ذلك وسيلة إلى الغلو فيهم والإشراك بهم، وسد الذرائع المفضية إلى الشرك هو الحكمة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً وعن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ولعنه الذين اتخذوا قبورهم مساجد. وبالجملة فليس في الآية من سورة البقرة قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ الآية ما يدل على جواز التوسل ببقايا الصالحين وآثارهم في استجلاب الخير واستدفاع الضرر، ومن زعم أن الآية تدل على جواز التوسل ببقاياهم وآثارهم فقد جمع بين ثلاثة أمور محرمة،
أحدها الغلو في الصالحين، والغلو فيهم من أعظم الوسائل إلى الشرك بهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو وتقدم ذكر الحديث في ذلك.
الثاني القول في القرآن بمجرد الرأي: وقد ثبت عن النبي أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي رواية له: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى.
الثالث: اتباع ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وتضليل الجهال الذين لا يعرفون الفرق بين الحق والباطل، وقد قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ . ومن الأدلة على المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح إلى نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها قال: فأمر بها فقطعت، وروى ابن أبي شيبة أيضا بإسناد صحيح عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر رضي الله عنه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ و لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ فلما قضي حجة ورجع والناس يبتدرون فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل» فهذا فعل الخليفة الراشد في الإنكار على الذين يعظمون الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا قوله في الإنكار على الذين يعظمون المكان الذي قد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان تعظيم آثار الأنبياء والصالحين جائزا لما قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها، ولما نهي الناس عن تحري الصلاة في المسجد الذي قد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي فعل عمر رضي الله عنه وقوله أبلغ رد على من زعم أن بقايا الصالحين وآثارهم يمكن التوسل بها في استجلاب الخير واستدفاع الضرر. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة انتهى. ولفظه عند ابن حبان: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وروى الإمام أحمد أيضا وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم، وروى الإمام أحمد أيضا والترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم والذهبي، وروى الإمام أحمد أيضا وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا الحاكم وابن عبد البر والذهبي. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على الذين يتتبعون آثار الصالحين ويخالفون فعل عمر رضي الله عنه في قطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها ويخالفون أيضا نهيه عن اتخاذ آثار الأنبياء بيعاً، وقد قال ابن وضاح في كتاب (البدع والنهي عنها): كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وأحداً. قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها. وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به، وقدم وكيع أيضا مسجد بيت المقدس فلم يعدُ فعل سفيان، قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين انتهى.
وليكن هذا آخر الكلام على هذه المسألة، فإن وافقتمونا على أن هذا هو الحق فهو المطلوب، وان زعمتم أن الحق خلافه فأجيبونا بعلم من الكتاب والسنة فإنهما الحاكمان بين الناس فيما تنازعوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد ذكرنا لكم الأدلة فاذكروا لنا جوابها من الكتاب والسنة وكلام الأئمة . ولنختم الكلام بقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} . والحمد لله أولاً وآخراً كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا ومسافرين ولم يقل أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم ) ( اقتضاء الصراط المستقيم 2/748 ) .
1- إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
قال رحمه الله في المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية: السادسة والسبعون : اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. كما ورد عن عمر رضي الله عنه – فإن هذه المسألة –أيضا- من بدع جاهلية الكتابيين, كانوا يتخذون آثار أنبيائهم مساجد. فورثهم الجاهلون من هذه الأمة, فتراهم يبنون على موضع اختفى به النبي صلى الله عليه وسلم, أو وصل قدمه المبارك إليه, أو تعبد فيه, وهذا ليس مما يحمد في الشريعة, لجره إلى الغلو. وفي العراق مواضع كثيرة بنوا عليها مباني, كالمقام الذي زعموا أن الشيخ الكيلاني تعبد فيه, وكأثر الكف الذي زعم الشيعة أنه أثر كف الإمام علي لما وضع على الصخرة فأثر فيها, فبنوا عليها مسجدا, وكعدة أماكن زعموا أن الخضر رؤي فيها, ولا أصل له, إلى غير ذلك مما لا يستوعبه المقام. فينبغي لمن يدعي الإسلام أن يتجنبها, وينهى عن حضورها, وإن رمي بالإنكار, وعداوة والأشرار, وكيد المارقين الفجار. وفي المسألة تفصيل لا بأس بذكره. قال شيخ الإسلام: "فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها وأقاموا, أو عبدوا الله سبحانه لكنهم لم يتخذوها مساجد, فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء مشهوران:
أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته, وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة, إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع, ومثل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصدها للعبادة, كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم, وكما كان يتحرى الصلاة عند الإسطوانة, وكما تقصد المساجد للصلاة, ويقصد الصف الأول, ونحو ذلك.
والقول الثاني: أن لا بأس باليسير من ذلك, كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم [قد] سلكها اتفاقا لا قصدا. وسئل الإمام أحمد عن الرجل يأتي المشاهد, ويذهب إليها, ترى ذلك: قال: أما على حديث ابن أم مكثوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى, وعلى ما كان يفعله ابن عمر, يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره, فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد, إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه. وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها؟ فقال: أما حديث على حديث ابن أم مكثوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا, وعلى ما كان يفعل ابن عمر, كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم, حتى رؤي يصب في موضع ماء, فسئل عن ذلك, فقال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب ههنا ماء", وقال: أما على هذا فلا بأس, قال: ورخص فيه, ثم قال: ولكن قد أفرط الناس جدا, وأكثروا في هذا المعنى, فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواه الخلال في كتاب الأدب. فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد- وهي الأماكن التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة- بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا, والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم. فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال: "رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أما كن الطريق, ويصلي فيها, ويحدث أن أباه كان يصلي فيها, وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة" فهذا كما رخص الإمام أحمد. وأما كراهته, فروى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها, فقرأ بنا في الفجر بـ{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }, و{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ } في الثانية, فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد, فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى الله عليه وسلم فيه, فقال: "هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم, اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا, من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل, ومن لم تعرض له الصلاة فليمض . فقد كره عمر اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وسلم عيدا, وبيّن أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا, وكانوا يتبعون آثار أنبيائهم, ويتخذونها كنائس وبيعا. وروى محمد بن وضاح وغيره: "أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم, لأن الناس كانوا يذهبون تحتها, فخاف عمر الفتنة عليهم " . وما ذكره عمر هو الحري بالقبول, وهو مذهب جمهور الصحابة, غير ابنه , وهو الذي يجب العمل به, ويعول عليه. اهـ
2- الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
قال رحمه الله كما في الدرر السنية (1/233) : وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم، وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه، وصارمه، أو ضاربه، أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص، ولا دل عليه دليل ؛ بل منكر تجب إزالته ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر، أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات، أو لطول غيبة، فلا بأس به ؛ إلا أنه لما ألف في الجاهلية الأخرى : أن التقبيل صار علماً لمن يعتقد فيه، أو في أسلافه، أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقاً، لا سيما لمن ذكر، حسماً لذرائع الشرك ما أمكن . وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء، حسماً لتلك المادة، وتنفيراً عن الإشراك بالله ما أمكن، لعظم شأنه، فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى : ( ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم ) الآية [ الروم:28] .
3- الشيخ سُليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (المتوفى: 1233هـ)
قال رحمه الله في التوضيح ص 221 ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها (أي عند القبور) والدعاء بأصحابها أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خفي علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علماً وعملاً بهذا الفضل العظيم، وتظاهر به الخلوف علماً وعملاً، ولا يجوز أن يعلم السابقون الأولون علماً ويزهدون فيه عملاً وهو يحثهم على الطاعة ويرغبهم فيها ثم لا ينقلونه أيضاً إلى من بعدهم مع حرصهم على كل خير لاسيما الدعاء فان المضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعاً وان كان فيه كراهة هذا، وهم قد عرضت عليهم شدائد واضطرابات وفتن وازعاجات وقحط وسنون مجدبات أفلا جاءوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شاكين وله بها مخاطبين وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم إياه داعين أم كيف يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونها، هذا محال طبعاً وشرعاً، وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون هذا بكثير، فروي غير واحد عن المعرور بن سويد قال صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ } ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال أين يذهبون هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم يتخذونها كنائس وبيعاً يرغبون عن هديه ويعرضون عما جاء به فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها، وكذلك أرسل عمر رضي الله عنه وأمر بقطع الشجرة السمرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وذكرها الله في القرآن لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة فقطعت بأمره، بل قد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم وأمتعتهم بخصوصها يعظمونها بذلك ويتنوطون أي يجتمعون عندها ويعلقون أسلحتهم عليها لتعظيمها كما في حديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها لتعظيمها إلهاً مع الله وهم لا يدعونها مع ذلك ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعاؤه ورجاؤه والتوكل عليه والذبح والنذر له ليجلب خيراً أو يدفع سوءاً، وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر.
ثم قال ص223- 224 : وفي مقابلة المسجد الحرام. والبيت والمقام جهة الشرق زقاق يقال له زقاق الحجر فيه حجر موضوع عرض الحائط يتمسحون به ويدعونه زاعمين أنه الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذب وبهتان ليس هو، فإنه صلى الله عليه وسلم قال وهو في المدينة أني لأعلم حجراً بمكة يسلم عليّ ولم يعينه خشية الافتتان به، بل لو تحقق أنه هو ليس هو بأفضل من مقام إبراهيم وجدار الكعبة المشرفة، والسلف الصالح ينهون عن التمسح بشيء من ذلك إلاَّ الحجر الأسود سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة حب الله وذكره وان من شيء إلا يسبح بحمده وجميع المخلوقات حتى الجمادات تعرفه صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيها من قوة الادراكات وإذاً فلا مزية في حجر أو شجر إلاَّ الحجر الأسود خاصة فانه يمين الله في الأرض، ومع سنية تقبيله ووضع الجبين عليه لا يدعى ولا يرجى ولا يتوكل عليه وان اعتقدنا شفاعته في الآخرة ليس هو بأفضل من الأنبياء والأولياء ومع ذلك لا يشفعون إلاَّ من بعد إذن الله لمن يرضى عنه وإذاً فسؤال الشفاعة إنما هو من الله فسأل منه كما يسأل تعالى الثبات على الدين والوفاة على الإيمان وهو أرحم الراحمين. ويقابله حجر منقور على قدر المرفق يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تمرفق عليه فأثر به وهو أيضاً كذب لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين ولا تابعيهم ولا عمن يعتد به من أهل العلم ولم ينقل ولا في حديث ضعيف انه صلى الله عليه وسلم وجد له أثر قدم أو أثر مرفق أو وضع في حجر، وإنما ذلك من تلبيس إبليس على هؤلاء ليغويهم ويحسن لهم شركهم وهم يزعمون أنه حب لنبيهم، وما محبته إلاَّ اتباع شرعه، وما جاء به والعمل به، ودحض ضده، ومعاداته، زيادة على حب ذاته صلى الله عليه وسلم ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده " وفيه أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفيه أيضاً عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبداً لا يحبه إلاَّ لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وفيه أيضاً عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاَّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فانه الآن يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر" وليس حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم إلاَّ مجتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعتهم في ستهم وهديهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شيئاً أكبر أو أصغر يترك ما عليه من طاعتهم بقدر ما ابتدعه من الإشراك به، فليس على المؤمن ولا له إلاَّ طلب طاعتهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.اهـ
4- الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ
قال رحمه الله: فصل ثم ذكر –رحمه الله – -يعني شيخ الإسلام- تتبع آثار الأنبياء، وما ذهب إليه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من النهي عن ذلك، وذكر أنه قطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر عن محمد بن وضاح قال: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار التي بالمدنية، ما عدا قباء وأحداً، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر، إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل الكتاب. وما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق، لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجاً وعماراً أو مسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم الناس بسنته، واتبع لها من غيرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة. فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ وأيضاً فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد. ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي أو ولي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجداً، فيصير وثناً يعبد من دون الله تعالى. شرك مبني على إفك" انتهى ما نقلته عن اقتضاء الصراط المستقيم. وفي هذا القدر المنقول عن شيخ الإسلام كفاية، لأنه واف في المقصود، ويكشف ما يلبس به كل مصدود، ولا يرده إلا من استحوذ عليه الشيطان، وأنساه ذكر الرحمن، وصد عن معرفة/ الإسلام والإيمان، كما قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}. فلله الحمد على بيان الحق، وإزاحة الكذب عن الصدق، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا
5- الشيخ حمود التويجري:
قال رحمه الله في الإجابة الجلية على الأسئلة الكويتية ص 12-15: السادس قولهم: لقد أثبت القرآن صراحة لا تلميحاً ولا مجازاً أن بقايا الصالحين وآثارهم يمكن التوسل بها في استجلاب الخير ودفع الضر مهما تقادم بها العهد، يقول الله تبارك وتعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . والجواب أن يقال: إن الشريعة المحمدية الكاملة قد نسخت الشرائع التي كانت قبلها فليس لأحد أن يعمل بشيء يخالفها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلو، وأعظم الغلو ما كان وسيلة إلى الشرك بالله تعالى ومنه التبرك ببقايا الصالحين وآثارهم والتوسل بها في استجلاب الخير واستدفاع الضرر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية انتهى. في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي الصحيحين وغيرهما أيضا عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم: طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا». وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز التبرك بآثار الصالحين ولا الدعاء عند قبورهم ومقاماتهم، لأن ذلك وسيلة إلى الغلو فيهم والإشراك بهم، وسد الذرائع المفضية إلى الشرك هو الحكمة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً وعن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ولعنه الذين اتخذوا قبورهم مساجد. وبالجملة فليس في الآية من سورة البقرة قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ الآية ما يدل على جواز التوسل ببقايا الصالحين وآثارهم في استجلاب الخير واستدفاع الضرر، ومن زعم أن الآية تدل على جواز التوسل ببقاياهم وآثارهم فقد جمع بين ثلاثة أمور محرمة،
أحدها الغلو في الصالحين، والغلو فيهم من أعظم الوسائل إلى الشرك بهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو وتقدم ذكر الحديث في ذلك.
الثاني القول في القرآن بمجرد الرأي: وقد ثبت عن النبي أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي رواية له: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى.
الثالث: اتباع ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وتضليل الجهال الذين لا يعرفون الفرق بين الحق والباطل، وقد قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ . ومن الأدلة على المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح إلى نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها قال: فأمر بها فقطعت، وروى ابن أبي شيبة أيضا بإسناد صحيح عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر رضي الله عنه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ و لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ فلما قضي حجة ورجع والناس يبتدرون فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل» فهذا فعل الخليفة الراشد في الإنكار على الذين يعظمون الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا قوله في الإنكار على الذين يعظمون المكان الذي قد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان تعظيم آثار الأنبياء والصالحين جائزا لما قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها، ولما نهي الناس عن تحري الصلاة في المسجد الذي قد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي فعل عمر رضي الله عنه وقوله أبلغ رد على من زعم أن بقايا الصالحين وآثارهم يمكن التوسل بها في استجلاب الخير واستدفاع الضرر. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة انتهى. ولفظه عند ابن حبان: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» وروى الإمام أحمد أيضا وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم، وروى الإمام أحمد أيضا والترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم والذهبي، وروى الإمام أحمد أيضا وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا الحاكم وابن عبد البر والذهبي. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على الذين يتتبعون آثار الصالحين ويخالفون فعل عمر رضي الله عنه في قطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها ويخالفون أيضا نهيه عن اتخاذ آثار الأنبياء بيعاً، وقد قال ابن وضاح في كتاب (البدع والنهي عنها): كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وأحداً. قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها. وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به، وقدم وكيع أيضا مسجد بيت المقدس فلم يعدُ فعل سفيان، قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين انتهى.
وليكن هذا آخر الكلام على هذه المسألة، فإن وافقتمونا على أن هذا هو الحق فهو المطلوب، وان زعمتم أن الحق خلافه فأجيبونا بعلم من الكتاب والسنة فإنهما الحاكمان بين الناس فيما تنازعوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد ذكرنا لكم الأدلة فاذكروا لنا جوابها من الكتاب والسنة وكلام الأئمة . ولنختم الكلام بقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} . والحمد لله أولاً وآخراً كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.