جماعة الدعوة المعروفة بجماعة التبليغ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد وردتني تساؤلات كثيرة عن (جماعة الدعوة المعروفة بجماعة التبليغ) وكثر المتكلمون عنها بين مادح وقادح كما كتب بعض المهتمين بها رسائل ومقالات قليلة في ذلك.
وبعد تتبعي لنشاط هذه الجماعة على مرّ السّنين واطلاعي على كثير مما صدر بشأنها من آراء رسمية أو شخصية رأيت من الخير إملاء هذه الرسالة الموجزة ليكون المسلمون على بيّنة من حقيقة هذه الجماعة، والله المسئول أن يهدي الجميع سواء الصراط.
موجز عن الحركة ومنشئها(1)
ولد الشيخ محمد إلياس بن محمد إسماعيل الكاندهلوي (منشئ الحركة) رحمه الله في الهند سنة1302هـ في أسرة عريقة في الدّين والعلم والدّعوة إلى الله والتمسك بعقيدة التوحيد ممثلة في كتاب (تقوية الإيمان) للشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي نقله إلى العربية الشيخ أبي الحسن الندوي وأسماه: (رسالة التوحيد)، وكان لسلف هذه الأسرة دور في تاريخ الإصلاح الديني ومساهمة في حركة الجهاد والدعوة إلى الدّين الخالص بقيادة الإمامين: أحمد الشهيد، ومحمد إسماعيل الشهيد.(2)
قلت: لا نستطيع الحكم لمحمد إلياس وخلفائه (بالتمسك بعقيدة التوحيد) كما يقول الندوي رحمه الله ولا نشهد عليهم بالشرك، ولكن الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة والتحذير من صرفها لغيره لا يظهر لي من منهاج دعوتهم.
حفظ الشيخ محمد إلياس رحمه الله القرآن في صباه كما هي العادة في أسرته، وبدأ تعليمه على يد أخيه الشيخ محمد يحيى، ثم درس في مدرسة (مظاهر العلوم) بمدينة (سهارن فور)، وارتحل بعدها سنة1326هـ إلى(ديوبند) وحضر دروس الشيخ محمود حسن المعروف بشيخ الهند في جامع الترمذي وصحيح البخاري، وقرأ بقية الصّحاح السّتة على أخيه محمد يحيى، ثم اشتغل بالتّدريس في مدرسة (مظاهر العلوم).
كان أبوه الشيخ محمد إسماعيل ثم أخوه الشيخ محمد قائمين بالدّعوة والتّعليم في مسجد بجنوب دلهي عاصمة الهند، وبعد وفاتهما انتقل الشيخ محمد إلياس إلى هذا المركز الديني العلمي القائم على التطوّع والاحتساب فكان نقطة تحوّل في حياته ومنطلقاً لدعوته موضع البحث.
حدث ذلك في زمن تميّز بنشاط حركة الرّدّة عن دين الإسلام إلى دين الآباء الوثني البرهمي بعد أن توفرت الحرية للأفراد والجماعات في ظلّ الحكم الانكليزي لاعتناق دياناتهم القديمة حتى لا تقوم قائمة للمسلمين الذين انتزع منهم الحكم وورثت أرضهم وديارهم، فارتد كثير من المسلمين المنحدرين من أصول هندوكية بسبب الجهل والمخالطة والمصاهرة والمشاركة في العادات والتقاليد وترك واجب الدّعوة إلى الله.
أفزع هذا الوضع محمد إلياس رحمه الله وأثار حميته وغيرته الدينية فأقبل على إنشاء المدارس وبثّها في القرى على نفقته وبمساعدة المخلصين من أصدقائه.
ولكنه وجد ذلك غير كاف لإصلاح أحوال المسلمين لأن جهل القرويين وانشغالهم بالزراعة وغيرها من سبل العيش منعهم من الانتفاع بهذه المدارس واختاروا تشغيل أولادهم في رعي الماشية وحراسة المزارع.
كما أنّه رأى أن المدارس الدينيّة عامة أصبحت جزراً صغيرة في محيط من الجهل والضلال تتأثر به أكثر من تأثيرها فيه.
واقتنع أخيراً بأن الأولى والأفضل الاتصال بطبقات الشعب مباشرة وإثارة شعورهم الديني وإحساسهم بالخطر المحذق بهم وتذكيرهم بحاجتهم إلى بارئهم وضرورة الاستعداد ليوم لقائه، ورأى أن يبدأ دعوته بتحريك الإيمان في قلوبهم وتصحيح معتقدهم وتعريفهم بمبادئ الاسلام وعبادة الله والدعوة إلى تطبيقها والحثّ على العلم والاشتغال بذكر الله، وحتى لا تقع الحركة الوليدة في النزاع والتحزّب وانعزال الدّاعي وترفّعه عن المجتمع الذي يقوم بالدعوة فيه – كما يحدث غالباً – أضاف إلى أسس دعوته: الحث على إكرام المسلم، وترك الدّاعي ما لا يعنيه، وكان لذلك بتوفيق الله فضل في صيانة هذه الحركة في جوّ مشبع بالخصومات السّياسية والحزبيّة والعنصريّة في الهند.
ورأى الشيخ رحمه الله أن الدّعوة لا يرجى لها الاستمرار والانتشار إلا إذا قام لها رجال متطوعون محتسبون لا يعتمدون على الإعانات الحكومية ولا على التبرعات ولا يشغلون أوقاتهم الثمينة بالأعمال الكتابية والحسابية، فاختار لدعوته أن تطلب من المسلم الفائض من وقته وجهده بدلا من أن تطلب منه الفائض من ماله، وأن تبتعد عن اللغو السّياسي والشعارات واللافتات الحزبية والمظاهر الادارية.
وعلى هذا النهج بدأت الدعوة في منطقة من أحطّ المناطق الهندية خلقاً وأكثرها جهلاً وأبعدها عن الدّين الحنيف وهي منطقة (ميوات) في جنوب الهند، ودعي الناس إلى شغل أوقات فراغهم بالخروج بعض الوقت من بيئاتهم الفاسدة إلى بيئات جديدة يعيشون فيها حياة المسلم كما سنّها رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم ويتعودون فيها على أداء ما أوجب عليهم.
وقد اثرت هذه الحركة بفضل الله في أهل هذه المنطقة فأخذوا في العودة إلى دين الله والحياة في ظلّ شرعه، ثم انتشرت الدعوة في الهند والباكستان دون نفقة كثيرة أو جهاز إداريّ معقِّد، وقام الداعي إلى الله حسب قدرته يحمل زاده ومتاعه وينفق على نفسه ويعيش بين من يدعوهم يخالطهم ويؤاكلهم ويذكّرهم بالله في كلّ وقت وعلى كلّ حال ويكون قدوة لهم في التزام ما يدعوا إليه.
جماعة الدّعوة في الجزيرة العربية
كان من أعزّ أماني محمد إلياس رحمه الله أن تتاح لحركته فرصة العمل في الجزيرة العربية لأنها كانت منطلق الدعوة إلى الله في فجر الإسلام وهو يراها مؤهلة أكثر من غيرها لأن تكون كذلك في المستقبل.
وقد قدم الشيخ رحمه الله إلى المملكة العربية السعودية وعرض منهاج دعوته على مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، تدلّ على ذلك رسالة الدّيوان الملكي للشيخ محمد إلياس وزميله محمد احتشام برقم21/2/11 في1357/2/3هـ التي تنقل لهما شكره على مساعيهما في الدّعوة إلى الله ودعائه لهما بالتوفيق، كما توجد رسالة من مفتي المملكة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ إلى من يراه من علماء الأحساء والمقاطعة الشرقية بتاريخ 1373/5/19هـ يعرّفهم فيها بجماعة الدّعوة ويطلب مساعدتهم والتمكين لهم للقيام بعمل الدّعوة في تلك المناطق.
ثم انتشرت هذه الحركة في الجزيرة في العقدين الأخيرين من القرن الهجري الرابع عشر ووجدت لها مراكز في المدن الرئيسة واشترك فيها وتأثر بها الكثيرون.
جماعة الدعوة كما نعرفها
التنظيم:
المركز الرئيس للجماعة هو المركز القديم في منطقة نظام الدّين دِلهي، ويقيم فيه أميرها (العام) ويعود إليه قرار تعيين أمير الجماعة في كلّ قطر بعد التشاور مع كبار الجماعة في ذلك القطر، وليس لجماعة الدعوة نظام مكتوب أو سجلّ ثابت للأعضاء أو رسم عضوية، وليس لها ميزانية ولا صندوق ولا تقرير دوري.
ويتحمل نفقات الضيافة في المراكز الرئيسة (فيما يظهر لي) القادرون من رجال الجماعة، أما نفقات الخروج للدعوة فيتحملها كلّ مشترك فيها يدفع قبيل الشروع في السفر ما يكفي قوته ثلاثة أيام ويحمل معه متاعه وفراشه ويقيمون في المساجد، ولكلّ بلد أمير (محلّي)، ولكلّ جماعة تخرج من المركز أمير يختاره أمير المركز بالتشاور مع القدماء ولا يحصل الأمير على مقابل مادّي وليست له أيّ سلطة إدارية خارج عمل الدّعوة، وإنما أخذت التسمية من أمر النبي صلى الله عليه وسلم للجماعة المسافرة بتأمير أحدهم.
وعلى رجل الدّعوة (ما أمكن) تفريغ وقته للخروج في سبيل الله للدعوة ثلاثة أيام في الشهر وأربعين يوماً في السّنة وأربعة أشهر مرّة في عمره، وأن يشترك في جولتين أسبوعياً إحداهما في مسجد حيّه والأخرى في مسجد حيّ آخر، وأن يشترك في حلقتين يومياً إحداهما في المسجد والأخرى في البيت مع أهله لذكر الله وللتعرّف على فضل الطاعات وثوابها عند الله سبحانه وتعالى وبالتالي لتزيد رغبتهم فيها.
المنهج:
ينحصر منهج الدعوة في وعظ المسلمين وتذكيرهم بالله واليوم الآخر ونقلهم من بيئات الغفلة إلى المساجد وتعويدهم على تطبيق عقيدتهم وواجباتهم الدينية وأداء النوافل والعمل بالسّنّة في حياتهم العادية: في النوم والأكل والتعامل مع جميع المسلمين.
والركيزة الأساسية في دعوتهم: الموعظة الحسنة ويطلقون عليها (البيان) وتشغل في غالب الوقت بين صلاتي المغرب والعشاء، وموضوعها الذي لا يتغيّر: ستة أصول أو صفات من صفات الصحابة يرون من الضروري أن يتدرّب عليها المسلم تشبّها بالصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه رجاء أن تقوم حياته مثلهم على شرع الله وأن يكون مثلهم أهلاً لنشر دين الله.
1) تحقيق شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله عمليّاً في حياة المسلم بطاعة الله سبحانه وتعالى واتّباع كلّ أوامره واجتناب كلّ نواهيه والاقتداء بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والعادات، ويخطئ أكثرهم (وخاصة الأعاجم) في تفسيرها باليقين بأن الله هو الخالق الرازق المدبّر، ويجهلون أن تفسيرها الحق: إفراد الله بجميع أنواع العبادة.
2) إقامة الصلاة بالخشوع والخضوع.
3) العلم مع ذكر الله، ويقتصرون في فترة خروجهم على ما يسمّونه علم الفضائل، ويتجنبون البحث فيما يطلقون عليه (علم المسائل) (الأحكام) منعاً للانشغال بالخلافات المذهبية وإثارة النزاع بين الدّعاة أنفسهم أو بينهم وبين الآخرين.
4) إكرام المسلمين.
5) تصحيح النية أثناء العمل حتى لا تنحرف عن إخلاصها لله.
6) الدعوة إلى الله، والخروج في سبيل الله، ويعنون لذلك الانتقال من مسجد إلى مسجد ومن حي إلى حي ومن بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر لإصلاح النفس وإصلاح الآخرين عن طريق الموعظة وتغيير البيئة.
طريق التنفيذ:
يجتمع الدعاة ومن يستطيعون إحضاره معهم للصلاة ليلة العطلة الأسبوعية في المسجد الذي اتّخذوه مركزاً لهم ويقوم واحد منهم سبق اختياره في اجتماع الشورى الأسبوعي بحث المجتمعين على تفريغ بعض الوقت لدين الله بعيداً عن مشاغل الحياة الدنيا، ويوزّع الراغبون في الخروج على المدن والقرى والبلدان القريبة والبعيدة كلّ بحسب جهده وماله وفراغه.
يعتكف الجميع في المسجد، وفي الصباح يتكلم أحد قدماء الدّعاة في الخارجين بما يطلقون عليه (هدايات) لإرشادهم إخلاص النية في خروجهم لله سبحانه وتعالى وإلى آداب الدعوة وآداب السفر ومعاملة الناس أثناء سفرهم وإقامتهم وآداب المسجد الذي يقيمون فيه وتحذيرهم بصفة خاصّة من التدخّل في شئون المسجد من إمامة أو أذان أو تغيير شيء من تنظيمه إلاّ بطلب من المسئولين عن المسجد وبعد مشاورة أميرهم، ويحثّهم على المحافظة على المسجد وملحقاته وأن يتركوه أنظف منه عند دخولهم.
ثم تجتمع كل جماعة بأميرها يوصيهم ويرشدهم، ويدفع كلّ منهم مبلغاً زهيداً يكفي لطعام بسيط مدة لا تزيد عن ثلاثة أيام، ويعيّن الأمير اثنين منهم لتحضير وسائل السفر.
تبدأ أعمال الدعوة فور ركوبهم وسيلة السفر بقراءة القرآن أو الحديث أو الموعظة الثنائية بينهم وبين المسافرين من غيرهم، وبعد وصولهم المسجد يضعون أمتعتهم في جانب منه يعيّنه المسئول عن المسجد، وبعد أدائهم تحية المسجد يجتمعون للشورى في ترتيب أعمال الدّعوة في الأربع وعشرين ساعة القادمة ويختارون أحدهم لتعريف المصلّين بهم وحثّهم على مناصرتهم حيث أن دين الله انتشر في بداية أمره بالهجرة والنصرة فهم يتشبّهون بالمهاجرين ويطلبون من أهل القرية التشبه بالأنصار لعلّ الله أن يستخدمهم لنشر دينه في هذا الزّمان، كما يختارون اثنين منهم لإعداد طعامهم.
وينتظم عملهم على النحو التالي:
أولاً: يبدأون عملهم بحلقة التعليم وتتكوّن من:
1) تلاوة القرآن من قصار السور يشترك كلّ منهم في القراءة والاستماع.
2) قراءة بعض الأحاديث في فضائل الأعمال من رياض الصالحين للنووي.
3) تدارس آداب أصول الدّعوة.
4) التدرّب على القيام بالموعظة في حدود الصفات السّت التي مرّ ذكرها.
ثانياً: بعد صلاة الظهر يتم التعارف مع جماعة المسجد، وتناول الغداء وقسطاً من الرّاحة والأعمال الفردية.
ثالثاً: بعد صلاة العصر يقوم أحدهم بموعظة قصيرة يحثّ فيها المصلّين على الاشتراك مع الخارجين في زيارات خاصّة للصالحين للاستفادة منهم والغافلين لتذكيرهم.
رابعاً: قبل المغرب بساعة يجتمع الخارجون ومن استجاب لهم من أهل القرية للاستماع إلى آداب الجولة ويتوزّعون جماعات للتّجوّل على الأماكن العامة: الشارع والدكان والمقهى والنادي ودعوة من يلقونه فيها إلى المسجد بعد تذكيره بغاية وجوده ومنتهاه، ويبقى أحدهم في المسجد لذكر الله استعانة به على نجاح الجولة وآخر للاستقبال ومساعدة المستجيبين للجولة على أداء فرائض الله.
خامساً: بعد صلاة المغرب تكون الموعظة الرئيسة موجهة لجماعة المسجد وجماعة الدعوة ومن استجاب لهم أثناء الزيارات والتجوال.
سادساً: بعد صلاة العشاء يقرأ أحدهم قصّة من حياة الصحابة لئلا يستكثر الدّعاة جهدهم ونفقتهم ولتحريض الآخرين على بذل الجهد في الدّعوة إلى الله.
وقبل الاجتماع لطعام العشاء يذكّرهم أحدهم بآداب الطعام في السّنّة، وقبل النّوم يذكّرهم آخر بآداب النوم في السنة،
سابعاً: قد يقتسمون ساعات الليل في التهجد، ويختلف جهدهم في ذلك باختلاف أشخاصهم، ولكن الجميع يستيقظون قبل نصف ساعة على الأقل من أذان الفجر لقيام شيء من الليل وصلاة الفجر.
ثامناً: بعد صلاة الفجر يحدثهم أحدهم عن عظمة الله وعن الدّار الآخرة، وقد يتدارسون كرّة أخرى الصفات السّتّ المذكورة من صفات الصحابة.
تاسعاً: بعد انتشار الشمس يصلون سبحة الضحى ويتناولون طعام الإفطار، ويتناولون قسطاً من الراحة حتى السّاعة التاسعة حيث يجتمعون لحلقة جديدة من التعليم والتشاور في أعمال اليوم الجديد.
جماعة الدعوة كما يراهم الناس
من الناس من يبالغ في مدحهم لتحلّيهم بحسن الخلق والتزامهم بالطاعات وترك المعاصي والتضحية بالوقت والجهد والمال وتحملهم الأذى والمشقة في سبيل الدّعوة إلى الله وتجنبهم القدح في غيرهم ورغبتهم عن الجدال والمراء وتأثيرهم في غيرهم فلا يذكر فيهم عيباً ولا نقصاً.
ومن الناس من يبالغ في ذمّهم فلا يعترف لهم بفضل، بعض طلاب العلم ينفرون منهم وينفّرون الناس منهم لأن منهجهم لا يتضمّن تدريس الأحكام ولا الإنكار اللفظي المباشر على المبتدعين والمقبورين، وبعض الجماعات الاسلاميّة تقاطعهم وتحثّ على مقاطعتهم لأن منهجهم لا يتضمّن الكلام في السياسة المحلية والدّوليّة ولا الحثّ على القتال في سبيل الله، وبعض العامة (وخاصة في البلاد الفقيرة) يتهمونهم بالعمل لصالح وجهة سياسية أو أخرى لصعوبة تصوّر مسلم في هذا العصر يتخلى عن الكماليات في حياته لينفق على الدّعوة إلى الله.
ومن الناس من يعرف أن البشر عرضة للخطأ والنقص وأن لهذه الجماعة ككل الجماعات الأخرى المتطوّعة بالدعوة إلى الله أو الموظفة فيها نصيبها من النقص ونسأل الله أن يجزي الجميع على ما يقومون به من عمل صالح وأن يجبر نقصهم ويعفو عن تقصيرهم وأن يجمعهم على الهدى.
جماعة الدعوة كما رأيتها
والظاهر لي بعد أن قابلت عدداً كبيراً من أفراد هذه الجماعة وشيوخها وسألت كثيراً عن أحوالهم أنّه لا يجوز الحكم على هذه الجماعة أو أيّ جماعة أخرى بما ينقل عن أحدهم أو عدد منهم، وعلى هذا فإني أبدي رأيي – فيما يلي – في منهج الدّعوة وأوضاعها الثابتة وفيما يظهر من تصرّفات وأحوال غالبية المشتركين فيها، والله وليّ التوفيق:
1) الأصول السّتّة أو الصفات السّتّ التي جعلوها ركيزة وعظهم ليست شاملة لشرع الله ولا تكفي المسلم الذي يريد النجاة من النار والفوز برضوان الله، فالصحابة رضي الله عنهم التزموا بهذه الصفات وبغيرها من أركان الاسلام والايمان وفرائضه وسننه وأحكامه ولم يقتصروا عليها.
ولكن جماعة الدّعوة لا تدّعي أنها كلّها الدّين ولا نظنّ أن مسلماً صالحاً يجرؤ على ادّعاء ذلك.
وهم يؤكدون هذا الرّأي ويوضحون أن خروجهم للدعوة لا يستغرق إلا جزءاً محدوداً من أوقاتهم، وبقية أوقاتهم مصروفة لبقية متطلبات الدين والدنيا كلٌّ بحسب طاقته وحاجته فمنهم المعلّم والمتعلّم والعالم والعامّي والعامل والمزارع والطبيب والمهندس والتاجر وراعي الغنم والواعظ والمؤذّن والامام والخادم.
وفي المدة القصيرة المخصصة للخروج في الدعوة لا يستطيع الداعي إلى الله أن يعظ الناس ويعلّمهم الأحكام ويدربهم على القتال في سبيل الله ويقودهم إليه، وليس كلّ المسلمين محتاج إلى كلّ ذلك في كلّ وقت أو مؤهل له وأكثر أفراد الجماعة من العوامّ كما هو الحال في كلّ مجتمع، ولذلك فهم يحصرون جهدهم فيما يستطيعه كل فرد منهم، وفيما يحتاجه كل مسلم، وهو التذكير بالله وعلاج قبله من مرض الغفلة عن ذكر الله وذلك بنقل الناس من بيوتهم ومتاجرهم وأماكن لهوهم إلى بيت الله وطاعته، ويؤجّلون الأمور الضّروريّة الأخرى ليقوموا هم وغيرهم بما يستطيعونه وما يحتاجون منها في الوقت المناسب والمكان المناسب وبالطريقة المناسبة، فتعليم الأحكام مثلاً يتولاّها العالم والأمر بالقتال والتدريب عليه يتولاّه الحاكم.
وهم يرون في تقييد منهج الدّعوة بمثل هذه الحدود صيانة لها من تشتيت الجهد واختلاف الرّأي ومصادمة أنظمة البلاد التي يعملون فيها.
كما يرون أنهم إذا استطاعوا اجتذاب المسلم من غفلته عن ربّه وإخراجه من سجن شيطانه ودنياه فإنه خطا الخطوة الأولى الضرورية لدخول سبيل هذا الدّين العظيم.
وفي رأيي أن هذا يدخل في باب الحكمة والموعظة الحسنة التي وصفها الله سبحانه وتعالى طريقاً للداعي الأول صلى الله عليه وسلم، وأن ليس من الصواب في شيء مطالبتهم بطرق كلّ مجالات الدّعوة أو التوقّف عنها.
ونصيحتي لمن يرى في هذه الجماعة أو غيرها نقصاً أو تقصيراً أن ينبههم إليه بحكمة ولطف وأن يسعى بنفسه لإكمال هذا النقص وتعويض هذا التقصير.
2) يتفق جميع من عرف هذه الحركة من داخلها أو خارجها على أن الله قد نفع بها نفعاً عظيماً، وأنهم يسدّون ثغراً لا يكاد ينافسهم في سدّه منافس، يزورون الناس في بيوتهم ومتاجرهم ومقاهيهم وخمّاراتهم بعد أن كان المكان الوحيد المتعارف عليه للموعظة: المسجد، وأن كثيراً ممن شارك في هذه الحركة قد تأثر بها وصلحت حاله كثيراً في دينه وخلقه وزادت رغبته في الآخرة، وتأثيرهم على المنحرفين من الشباب وغيرهم لا يخفى على منصف، وكم من إنسان أو مكان تحوّل على أيديهم بفضل الله من معسكر الكفر إلى معسكر الاسلام.
وخلال أكثر من نصف قرن منذ نشأة هذه الحركة لم تبدر منها رغبة في سلطة أو منصب أو عرض من الدّنيا.
3) اتهام بعض طلبة العلم لهم بالتعصب لمذهب فقهيّ معيّن أو تعميمهم بنقص في فهمهم للعقيدة أو أحكام الشرع الأخرى، وتبرئة بعض المناصرين لهم جميعاً من ذلك خطأ يجب التّنبه له، فالحركة ليس لها توجه مذهبي أو حزبي معيّن، بل يصدق على أفرادها ما يصدق على أغلبية مواطنيهم فأكثرهم في الهند أحناف، وفي نجد حنابلة، وفي شمال أفريقيا مالكية، وقد يوجد بينهم ميل إلى التصوّف في القارة الهندية، وحرص على التّوحيد والتجريد والاتباع في الجزيرة العربية.
وقد يخطئ شيخ من مشايخهم أو فرد من أفرادهم في قول أو فعل فلا يحكم بهذا الخطأ على بقيتهم ولا يؤثر على صلاح دعوتهم.
4) يغلب على أفراد هذه الحركة التواضع وحسن السّمت وحسن الخلق والتضحية بالوقت والجهد والمال في طاعة الله والدعوة إليه وتغليب حرث الدّنيا على حرث الآخرة، ويغلب عليهم عدم احتقار النّاس والحرص على مسالمتهم، وعدم الدخول مع الأفراد في جدال ولا مع الحكومات في خصومة أو نزاع.
5) ليس في منهج الدّعوة ما يخلّ بالشرع المطهّر ومعتقد أهل السّنة والجماعة، وإن لم يقدّم صورة كاملة عن العقيد والشريعة.
6) من الملاحظات التي يجب على هذه الجماعة العمل على إزالتها: وجود أربعة قبور في جانب المركز الرئيس لأميرها الأول والثاني وبعض أهلهما، ومع أنّه لا يوجد عليه بناء يزيد عن السّنة وأنها ليْست في قبلة المسجد، إلاّ انّ الواجب على أمراء الجماعة إزالتها ونقلها إلى مقبرة عامة حتى لا ينصرف إليها شيئاً من التعظيم فتشرك في بعض العبادات مع الله في المستقبل، وحتى لا يضطرّ بعض المصلّين عندما يضيق بهم المسجد إلى استقبالها، وعلماء المسلمين من أهل السّنّة والجماعة على وجوب ذلك، وهو خليق بجماعة الدّعوة الذين يهبون أموالهم وأوقاتهم لله في سبيل لفت اتجاه المسلم إليه عن سواه.
ولا أشك في أنهم سيفعلون ذلك إن شاء الله.
7) إبقاء أحد الخارجين لذكر الله في المسجد أثناء الجولة رجاء نجاحها مع أنّه في ذاته عمل صالح وقربة لله إلاّ أن ذلك لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه الذين أمرنا باقتفاء آثارهم، وجميع العبادات والقربات محددة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره، ومن أحدث في الدّين ما لم يأت عن هذا الطريق فهو مردود عليه، وعلى هذا فإني أنصح إخواني أمراء وأفراد هذه الجماعة بتغيير ذلك.
بعض أفراد جماعة الدعوة لا يقدم على أمر مهمّ في حياته كالزواج أو العمل في وظيفة دنيوية إلا بعد استشارة أمير الدعوة في بلده وموافقته حرصاً على عمل الدّعوة، وهذا فيما يبدو أخذ من علاقة المريد بشيخه الصّوفيّ، ولا أرى حاجة للالتزام بذلك، وقد هدانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما هو خير منه: صلاة الاستخارة ويكفينا ما اختاره لنا الحبيب عن اختيار سائر البشر، بالإضافة إلى ممارسة سنة الاستشارة على الوجه الشرعي الخالي من البدعة.
9) يغلو بعض الإخوة الدعاة في البعد عن الخلاف المذهبي حتى يمتنع عن نصح أخيه إذا وجده مرتكباً معصية واضحة في العقيدة أو العبادة على أمل أنه سيترك معصيته إذا خرج في الدّعوة، وهذا لا يجوز ولو كان سببه الخوف على الدّعوة أو الحذر من نفور العاصي، بل يجب التنبيه والنصح والله سبحانه هو الهادي وهو الآمر بالتواصي بالحق، وقد جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق دائماً في بداية البعثة وبعد ما استقر لها الأمر وهو من هو في قيامه بالدّعوة وحرصه عليها.
10) وكذلك يغلو بعضهم في الخوف على سمعة جماعة الدّعوة فيمتنعون من الصّدقة أثناء خروجهم أو المشاركة في توزيع الزّكاة أو ما إلى ذلك حتى لا تتهم الجماعة بالعمالة أو المنفعة المادية، ولا أرى أن يمنعهم الحذر من فعل الخير فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأمرهم به وهو الحافظ للداعي والدعوة، وتركهم لفعل ذلك الخير لم يدفع التهم عنهم.
11) اقتصار الدعاة على تدارس فضائل الأعمال أثناء خروجهم لا يجوز أن يصدّهم عن تعلّم العقيدة وأحكام العبادات والمعاملات بعد عودتهم ليكونوا قدوة صالحة لغيرهم في العلم والعمل، ويجب أن يحرصوا بصفة خاصّة على تعلم هذه العلوم وأن يحاولوا توفير ذلك في مراكزهم وحثّ بعضهم بعضاً على سؤال العلماء ومصاحبتهم وكثرة التّردّد عليهم والأخذ عنهم وكذلك على الدراسة في معاهد ومدارس العلوم الشرعية ومختلف مجالس العلم.
12) من الخير حذف كتاب (حياة الصحابة) للشيخ يوسف الكاندهلوي و(تبليغي نصاب) للشيخ محمد زكريا رحمهما الله من منهج دعوتهم وفيهما من الأخطاء والأحاديث الضعيفة والقصص المختلفة ما يضرّ الدّعوة ورجالها أكثر مما يرجى منهما نفع.
هذا ما ظهر لي حتى شهر رجب1404 ثم زارنا في الرّياض الشيخ عبّاس الشرقاوي وسالم الدعجاني ومحمد بن سعيد بن صالح القحطاني، وأرونا بعض ما اشتمل عليه المقرّر الأساسي للجماعة (تبليغي نصاب) من شرك وخرافة وبدعة، وأخبرنا الشيخ الشرقاوي أنه بايع أمبر الجماعة إنعام الحسن بيعتهم الصّوفيّة ومعه بضعة عشر من جدّة ذكر منهم عدنان المدرّس وزوجته وعصام ريحان ومعتوق، فذهبت إلى جدّة وقابلت الاستاذ المدرّس فوكّد رواية الشرقاوي، كما وكّد بيعتهم في الاجتماعات العامة: فريد العراقي من مصر وفؤاد هاشم من الكويت؛ فلبثت بضعة أشهر أحاول إصلاح أمرائهم وقدمائهم حتى عجزت.
خاتمة
أرجو الله لهذه الجماعة ولكلّ جماعات وأفراد الدعوة لدين الله أن يوفقنا وإياهم لما يحبّه ويرضاه من القول والعمل وأن يعيذنا وإياهم من البدع والفتن وأن يحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأوصي إخواني من العلماء وطلاب العلم وكافة الناس أن يشتركوا في هذا العمل العظيم وأن يعرضوا ما يلقونه فيه على الكتاب والسنة فما وافقهما التزموه وشكروا الله على هدايتهم له وما خالفهما نبذوه ونصحوا مرتكبيه بالإقلاع عنه بحكمة وتواضع وبلا تشهير وصلف وعلى انفراد بمرتكب المعصية، وأن يتذكّروا أن ليس بيننا معصوم وأن في كلّ منا فرداً أو جماعة نصيبه من الخير والشرّ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونسأله سبحانه وتعالى ألاّ يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وأن يقبل منا ما وفقنا إليه من عمل ويجعله خالصاً لوجهه الكريم وألا يكلنا إليه.
والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدّين.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه.
(1) مأخوذ من رسالة الشيخ أبي الحسن الندوي.
(2) للتفصيل يراجع كتاب (إذا هبّت ريح الإيمان) لأبي الحسن الندوي.
المصدر