هجرة الخوارج إلى بلاد الكفر أدنى ضلالهم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أعجب من ضلال خوارج العصر ومعصيتهم لله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله من صحيح مسلم: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» جوابًا لسؤال سلمة بن يزيد: أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقَّنا؟ فكيف إذا أعطوا فوق حقَّهم، ولم يؤخذ منهم شيء كما هو واقع الحال؟ فإن الله يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب. ولكني أعجب من الرعاع الذين يتبعون كل ناعق، كالأنعام بل هم أضلُّ، كيف يُختَم على أسماعهم وقلوبهم ويجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يسمعون الحق ولا يفقهونه، ولا يبصرون طريق العدل، وإنما يصدق عليهم قول شوقي: (يا له من ببغاءٍ * عقله في أذُنَيه)
الخوارج (مثل الفقيه والمسعري) علمتهم دولة التجديد والتوحيد من جهل، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف، فلما شبعوا طغوا وبغوا كما قال الله تعالى عن بعض شرار خلقه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، وبلغ بهم سوء المنقلب أن جمعوا مع معصية الله ورسوله وأولي أمرهم: هجر بلاد الإسلام والدعوة إلى التوحيد والسنة، وبيت الله الحرام، ومدينة الرسول والمهاجرين والأنصار، والهجرة إلى بلاد الشرك والكفر وما دونهما من البدع والمعاصي. كان الإيمان يأزر إلى المدينة، ثم صار الضلال والفتنة يأزران إلى أوربا النصرانية العلمانية ليكون أبناء المسلمين أبواقًا لأعداء الإسلام والدعاة إليه. وخوارج العصر يقتدون بأسوة ضالة سبقتهم إلى كفر النعمة والهجرة من بلاد ودولة التوحيد والسنة إلى بلاد أوثان المقامات والمزارات والأضرحة وما دونها من البدع والمعاصي، ولكنهم اختاروا بلادًا من بلاد المسلمين (ولو بالانتماء) أشهرهم (وربما كان أولهم): عبد الله القصيمي، الذي آوته بلاد ودولة التجديد والتوحيد، بعد هجرته من مصر وإعلانه اختيار التوحيد على الشرك، والسنة على البدعة، في مثل كتابه الصراع والبروق، ثم انتكس في اختياراته كلها ـ عافانا الله مما ابتلاه به ـ، ولكنه كان صريحًا في توجيه خروجه على الدين أكثر من الخروج على الجماعة والولاية، وعاش عشرات السنين ينشر الإلحاد في مصر خدمة للشيطان وأوليائه، ولما بلغ أولاده سن التعليم لم تأخذهم الدولة السعودية بجريمة والدهم بل تحملت نفقات دراستهم في الخارج، ولعل هذا من أسباب ما يروى عن التفات الوالد قبيل موته لدراسة القرآن الكريم، ولعله مات مسلمًا.
وبرز بعد القصيمي (وأصله صعيدي) ومعه الخارجي على الدين والدولة: عبد الرحمن المنيف (وأهله من القصيم وإن ولد في الخارج)، واختار طريق البعث العربي الاشتراكي حتى عدَّ من رموزه، وعاش عشرات السنين في الخارج بين البعثية والشيوعية، وأسقطت الدولة السعودية جنسيتها عنه لأن أول شروطها: الإسلام، ولكنها (فيما أعلن بعد موته) عرضت الجنسية على أولاده أملًا في إنقاذهم من ملة والدهم.
وبين هذين الخارجيين خرج ناصر السعيد على دولة التوحيد والسنة، واختار بيروت مركزًا لإعلان انشقاقه، ولا أعلم عنه خروجًا على أحكام الشريعة (غير الخروج)، ولا أعلم عنه ارتباطًا بأحكام الشريعة، ويظهر أن أكبر همه مجرد الخروج والانشقاق، وعاش عشرات السنين خارجيًّا منشقًّا، ولما أراد الله كف أذاه أعلن السعيد (الشقي، عافانا الله مما ابتلاه به) أنه وراء فتنة جهيمان وعصابته في المسجد الحرام، ولما كانت الدولة ـ كعادتها ـ لا تلاحق المجرمين خارج حدودها، وكانت لبنان تعاني من الحرب الأهلية؛ فلربما استحل أحد المسلمين إقامة حدِّ الحرابة على هذا الخارجي بادعائه على نفسه الاعتداء على المسجد الحرام بما لا يقره جلُّ الطوائف المنتمية للإسلام، وأعلن في بعض وسائل الإعلام أن مسلحًا لبنانيًّا أخذ السعيد الشقي من أحد مقاهي شارع الحمراء فلم يسمع له بعدها صوت (ولو صدى نباح الكلاب الضالة، مثل بقية الخارجين المنشقين)، والحمد لله على فضله ونصره.
وفي العام الذي طُهِّرت الجنسية السعودية من أن يحملها المنيف طهِّرت من أن يحمل جواز سفرها عدد من الخارجين المنشقين (تسعة رهط أو يزيدون) لجؤوا إلى مصر إعجابًا بالثورة المصرية، فعالجتهم دولة التوحيد والسنة بعلاجها الوحيد لكل خارجي منشق: الإهمال، وبعد أن قضى الإعلام المصري منهم وطره وأهملوا في مصر أيضًا، فتسابقوا يستجدون العودة إلى الدولة المباركة تحدُوهم الدنيا (لا الدين في غالب الظن، مثلهم مثل جل الوافدين للعمل أو الإقامة أو الهجرة)، فأذن لهم بالعودة بعد مماطلة قصيرة ليذوقوا وبال أمرهم، تجاوز الله عنهم.
وقبلهم وبعدهم لم يجد الشيطان صعوبة في إغراء عدد من الضباط والطيارين والسياسيين للوقوع في خيانة دينهم وولاة أمرهم، فما تكلَّف الشيطان إلا أن دعاهم فاستجابوا له، ولما أخزاهم الله وردَّ كيدهم أعلنوا التوبة (أكثرهم) واستجدوا الصفح، فعُفِي عنهم، وعدد منهم حصلوا على أعلى الوظائف الإدارية والثروة.
ولكن اثنين من الخارجين المنشقين هما الأعتى والأشرس والأقرب إلى تحقيق أهدافهما الباغية، وأشهرهما: فيصل الدويش (الحفيد)، وقد تعاون مع الملك عبد العزيز رحمهما الله على توحيد أكثر جزيرة العرب على التوحيد بصفته أحد قادة جيشه في المرحلة الثالثة من مراحل التجديد، ولعله كان يأمل في توليته الإمارة، ولما يئس من ذلك خرج على ولي الأمر بحجة مخالفته الشريعة بتعاقده مع النصارى على التنقيب عن الزيت واستخراجه، وباستعماله البرق والهاتف والراديو، وبفرضه الضرائب على المستوردات من الخارج، ونحو ذلك من المستحدثات، واختار المواجهة الحربية وخسر أكثر من مرة، وعفا عنه الملك عبد العزيز أكثر من مرة، وفي المرة الأخيرة ظنَّ أن عفو الملك لن يتسع له، فلجأ إلى المعتمد البريطاني في الكويت (كما فعل الفقيه والمسعري بعده بعشرات السنين دون ذريعة دينية ولا خوف من القتل)، وأثناء محاربة الدويش (وأعوانه الخارجين) لولي أمره حقق محمد أسد ( ليوبولد فايس) رحمه الله في مصدر سلاح المنشقين ومصدر تمويلهم، فتأكد من أن إنكلترا مصدر السلاح والتمويل بطريق الكويت، وحقق في هدف إنكلترا من ذلك فاكتشف مخططًا لتقسيم جزيرة العرب بين إنكلترا (لحماية حدود احتلالها وطرق اتصالها بالهند)، وبين المطران والعجمان والعتبان وأعوانهم من الخوارج، ويعتقد محمد أسد أن نشر اكتشافه في الصحف الأوربية ساهم في إفساد هذا المخطط، (اقرأ التفاصيل إن شئت ـ وليس لزامًا ـ في كتابه: الطريق إلى مكة).
أما ثاني الخارجين فهو فيصل الدويش (الجدُّ) الذي تعاون مع الدولة السعودية في أواخر مرحلتها الأولى، وكان من أهم أسباب نكبتها فيما يروى عنه أوربي آخر (يتوفر له الحياد والدقة والصبر على البحث مثل محمد أسد) كان يقيم في مصر أثناء غزو إبراهيم باشا دولة ودعوة التجديد في جزيرة العرب بأمر الدولة العثمانية الظالمة دينيًّا ودنيويًّا، وتميز بالتعرف على الحقيقة كما يراها السعوديون المنفيون في مصر من العلماء والأمراء، وكما يراها المصريون الذين اشتركوا في الغزو الظالم، كان فيصل الدويش (الجدُّ) حسب روايته أقوى أعوان إبراهيم باشا في هجومه على الدرعية عاصمة الدعوة والدولة بما وفره من رجال وجمال ومؤن ومعرفة بالمنطقة وأهلها على وعد بتوليته على الدرعية بعد طرد أهلها منها، ولما تحقق الهدف من الغزو ونقض إبراهيم باشا وعده للدويش بل طالبه بأداء ضرائب خمس سنوات مضت لم يطالب بها وقت الحاجة إلى خيانة الدعوة والدولة السعودية، فلما يئس من الحصول على الإمارة هرب إلى أرضه وقومه، وأرسل إلى إبراهيم يعيره بنكث وعده، ويذكره بأنه ما كان له أن يهزم الدرعية دون عونه، وأيَّد هذه الدعوى المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان في كتابه: تاريخ مصر في عهد محمد علي (ترجم ما يتعلق بحملات محمد علي على الدعوة ودولتها: د. محمد خير البقاعي)، قال مانجان عن أول علاقة الدويش الجدِّ بحملة إبراهيم باشا: (عقد اجتماعًا طويلًا ووعده إبراهيم باشا بتعيينه حاكمًا على الدرعية، لقد أصبح فيصل الدويش تابعًا للقيادة العامة وقدم لحليفه وسائل النقل والمؤن، وأصبحت قبيلته جزمًا من الجيش التركي)، ويقول عن آخر العلاقة بينهما: (قال الدويش لمرافقيه من ضباط جيش إبراهيم باشا: إن إسهامي في سقوط الدرعية لا يقل عن إسهام جيشه، وإنه مكافأة لي على خدماتي قابلني بالجحود. كان باستطاعة فيصل الدويش أن يهزم الأتراك ويخلص بلاد نجد من أعدائها ولكنه فضل الاعتزال في الصحراء على طريق بغداد).
هذه الأمثلة تبين كيف: {وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ كم يحرِّك الشيطان والأنفس الأمارة بالسوء شياطين الخوارج على أوَّل دولة تؤسس على التجديد والتوحيد والدعوة منذ القرون الخيِّرة، فيرجع الخوارج بالحسرة والندامة والخزي، وترجع الدولة المباركة بالنصر والتمكين وحسن العاقبة في كل حادثة خروج.
ويتبين من هذه الأمثلة ونحوها أن الأسباب المتخذة ذريعة للخروج مختلفة، وكأن المهم الخروج، ثم البحث عن سبب يحتج به الخوارج.
وإذا كان كثير من الخارجين (بالفعل) يخدم البلاد والدولة بالبعد عنها كما ورد في الحديث: أن الأرض المقدسة ترجف بالمنافقين ليخرجوا منها؛ فإن البلاد والعباد والدولة تبتلى بخوارج (القول) ممن لا يستفيد منهم الدين ولا الدنيا، ويبقون في البلاد يأكلون خيرها وينشرون الإشاعات والأكاذيب، يسمَّون في لغة الجرائد (الطابور الخامس)، يبثون سمومهم ويحسبون أنهم مهتدون.
قال لي أحدهم: لماذا تنكر المظاهرات والإضرابات؟ فأجبته: ما الحاجة إليها؟ فقال: أعرف شارعًا مكسرًا في الدمام من يصلحه؟ فتعجبت: تنسى عشرات الآلاف من الكيلومترات الصالحة وتذكر فاسدًا واحدًا؟ فزاد في الكذب: كل الدمام مسكَّرة، فذكرت قول الله تعالى {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، ولو لم تذكر نعمة الله بالطرق؛ فلتذكر الأهم منها ومن الدنيا كلها: أنك لا تجد مسجدًا مبنيًّا على قبر، ولا وثنًا من أوثان المقامات والمزارات، ولا زاوية صوفية مما ابتلي به كل بلاد المسلمين.
ولقد بدأت إنكاري المظاهرات والإضرابات بالآيات والأحاديث التي تنهى عن الخروج بالقول والعمل، فكيف لا تقتنع بها، وتلزمني برأيك الفاسد؟ والله الهادي.
(1432هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أعجب من ضلال خوارج العصر ومعصيتهم لله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله من صحيح مسلم: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» جوابًا لسؤال سلمة بن يزيد: أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقَّنا؟ فكيف إذا أعطوا فوق حقَّهم، ولم يؤخذ منهم شيء كما هو واقع الحال؟ فإن الله يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب. ولكني أعجب من الرعاع الذين يتبعون كل ناعق، كالأنعام بل هم أضلُّ، كيف يُختَم على أسماعهم وقلوبهم ويجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يسمعون الحق ولا يفقهونه، ولا يبصرون طريق العدل، وإنما يصدق عليهم قول شوقي: (يا له من ببغاءٍ * عقله في أذُنَيه)
الخوارج (مثل الفقيه والمسعري) علمتهم دولة التجديد والتوحيد من جهل، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف، فلما شبعوا طغوا وبغوا كما قال الله تعالى عن بعض شرار خلقه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، وبلغ بهم سوء المنقلب أن جمعوا مع معصية الله ورسوله وأولي أمرهم: هجر بلاد الإسلام والدعوة إلى التوحيد والسنة، وبيت الله الحرام، ومدينة الرسول والمهاجرين والأنصار، والهجرة إلى بلاد الشرك والكفر وما دونهما من البدع والمعاصي. كان الإيمان يأزر إلى المدينة، ثم صار الضلال والفتنة يأزران إلى أوربا النصرانية العلمانية ليكون أبناء المسلمين أبواقًا لأعداء الإسلام والدعاة إليه. وخوارج العصر يقتدون بأسوة ضالة سبقتهم إلى كفر النعمة والهجرة من بلاد ودولة التوحيد والسنة إلى بلاد أوثان المقامات والمزارات والأضرحة وما دونها من البدع والمعاصي، ولكنهم اختاروا بلادًا من بلاد المسلمين (ولو بالانتماء) أشهرهم (وربما كان أولهم): عبد الله القصيمي، الذي آوته بلاد ودولة التجديد والتوحيد، بعد هجرته من مصر وإعلانه اختيار التوحيد على الشرك، والسنة على البدعة، في مثل كتابه الصراع والبروق، ثم انتكس في اختياراته كلها ـ عافانا الله مما ابتلاه به ـ، ولكنه كان صريحًا في توجيه خروجه على الدين أكثر من الخروج على الجماعة والولاية، وعاش عشرات السنين ينشر الإلحاد في مصر خدمة للشيطان وأوليائه، ولما بلغ أولاده سن التعليم لم تأخذهم الدولة السعودية بجريمة والدهم بل تحملت نفقات دراستهم في الخارج، ولعل هذا من أسباب ما يروى عن التفات الوالد قبيل موته لدراسة القرآن الكريم، ولعله مات مسلمًا.
وبرز بعد القصيمي (وأصله صعيدي) ومعه الخارجي على الدين والدولة: عبد الرحمن المنيف (وأهله من القصيم وإن ولد في الخارج)، واختار طريق البعث العربي الاشتراكي حتى عدَّ من رموزه، وعاش عشرات السنين في الخارج بين البعثية والشيوعية، وأسقطت الدولة السعودية جنسيتها عنه لأن أول شروطها: الإسلام، ولكنها (فيما أعلن بعد موته) عرضت الجنسية على أولاده أملًا في إنقاذهم من ملة والدهم.
وبين هذين الخارجيين خرج ناصر السعيد على دولة التوحيد والسنة، واختار بيروت مركزًا لإعلان انشقاقه، ولا أعلم عنه خروجًا على أحكام الشريعة (غير الخروج)، ولا أعلم عنه ارتباطًا بأحكام الشريعة، ويظهر أن أكبر همه مجرد الخروج والانشقاق، وعاش عشرات السنين خارجيًّا منشقًّا، ولما أراد الله كف أذاه أعلن السعيد (الشقي، عافانا الله مما ابتلاه به) أنه وراء فتنة جهيمان وعصابته في المسجد الحرام، ولما كانت الدولة ـ كعادتها ـ لا تلاحق المجرمين خارج حدودها، وكانت لبنان تعاني من الحرب الأهلية؛ فلربما استحل أحد المسلمين إقامة حدِّ الحرابة على هذا الخارجي بادعائه على نفسه الاعتداء على المسجد الحرام بما لا يقره جلُّ الطوائف المنتمية للإسلام، وأعلن في بعض وسائل الإعلام أن مسلحًا لبنانيًّا أخذ السعيد الشقي من أحد مقاهي شارع الحمراء فلم يسمع له بعدها صوت (ولو صدى نباح الكلاب الضالة، مثل بقية الخارجين المنشقين)، والحمد لله على فضله ونصره.
وفي العام الذي طُهِّرت الجنسية السعودية من أن يحملها المنيف طهِّرت من أن يحمل جواز سفرها عدد من الخارجين المنشقين (تسعة رهط أو يزيدون) لجؤوا إلى مصر إعجابًا بالثورة المصرية، فعالجتهم دولة التوحيد والسنة بعلاجها الوحيد لكل خارجي منشق: الإهمال، وبعد أن قضى الإعلام المصري منهم وطره وأهملوا في مصر أيضًا، فتسابقوا يستجدون العودة إلى الدولة المباركة تحدُوهم الدنيا (لا الدين في غالب الظن، مثلهم مثل جل الوافدين للعمل أو الإقامة أو الهجرة)، فأذن لهم بالعودة بعد مماطلة قصيرة ليذوقوا وبال أمرهم، تجاوز الله عنهم.
وقبلهم وبعدهم لم يجد الشيطان صعوبة في إغراء عدد من الضباط والطيارين والسياسيين للوقوع في خيانة دينهم وولاة أمرهم، فما تكلَّف الشيطان إلا أن دعاهم فاستجابوا له، ولما أخزاهم الله وردَّ كيدهم أعلنوا التوبة (أكثرهم) واستجدوا الصفح، فعُفِي عنهم، وعدد منهم حصلوا على أعلى الوظائف الإدارية والثروة.
ولكن اثنين من الخارجين المنشقين هما الأعتى والأشرس والأقرب إلى تحقيق أهدافهما الباغية، وأشهرهما: فيصل الدويش (الحفيد)، وقد تعاون مع الملك عبد العزيز رحمهما الله على توحيد أكثر جزيرة العرب على التوحيد بصفته أحد قادة جيشه في المرحلة الثالثة من مراحل التجديد، ولعله كان يأمل في توليته الإمارة، ولما يئس من ذلك خرج على ولي الأمر بحجة مخالفته الشريعة بتعاقده مع النصارى على التنقيب عن الزيت واستخراجه، وباستعماله البرق والهاتف والراديو، وبفرضه الضرائب على المستوردات من الخارج، ونحو ذلك من المستحدثات، واختار المواجهة الحربية وخسر أكثر من مرة، وعفا عنه الملك عبد العزيز أكثر من مرة، وفي المرة الأخيرة ظنَّ أن عفو الملك لن يتسع له، فلجأ إلى المعتمد البريطاني في الكويت (كما فعل الفقيه والمسعري بعده بعشرات السنين دون ذريعة دينية ولا خوف من القتل)، وأثناء محاربة الدويش (وأعوانه الخارجين) لولي أمره حقق محمد أسد ( ليوبولد فايس) رحمه الله في مصدر سلاح المنشقين ومصدر تمويلهم، فتأكد من أن إنكلترا مصدر السلاح والتمويل بطريق الكويت، وحقق في هدف إنكلترا من ذلك فاكتشف مخططًا لتقسيم جزيرة العرب بين إنكلترا (لحماية حدود احتلالها وطرق اتصالها بالهند)، وبين المطران والعجمان والعتبان وأعوانهم من الخوارج، ويعتقد محمد أسد أن نشر اكتشافه في الصحف الأوربية ساهم في إفساد هذا المخطط، (اقرأ التفاصيل إن شئت ـ وليس لزامًا ـ في كتابه: الطريق إلى مكة).
أما ثاني الخارجين فهو فيصل الدويش (الجدُّ) الذي تعاون مع الدولة السعودية في أواخر مرحلتها الأولى، وكان من أهم أسباب نكبتها فيما يروى عنه أوربي آخر (يتوفر له الحياد والدقة والصبر على البحث مثل محمد أسد) كان يقيم في مصر أثناء غزو إبراهيم باشا دولة ودعوة التجديد في جزيرة العرب بأمر الدولة العثمانية الظالمة دينيًّا ودنيويًّا، وتميز بالتعرف على الحقيقة كما يراها السعوديون المنفيون في مصر من العلماء والأمراء، وكما يراها المصريون الذين اشتركوا في الغزو الظالم، كان فيصل الدويش (الجدُّ) حسب روايته أقوى أعوان إبراهيم باشا في هجومه على الدرعية عاصمة الدعوة والدولة بما وفره من رجال وجمال ومؤن ومعرفة بالمنطقة وأهلها على وعد بتوليته على الدرعية بعد طرد أهلها منها، ولما تحقق الهدف من الغزو ونقض إبراهيم باشا وعده للدويش بل طالبه بأداء ضرائب خمس سنوات مضت لم يطالب بها وقت الحاجة إلى خيانة الدعوة والدولة السعودية، فلما يئس من الحصول على الإمارة هرب إلى أرضه وقومه، وأرسل إلى إبراهيم يعيره بنكث وعده، ويذكره بأنه ما كان له أن يهزم الدرعية دون عونه، وأيَّد هذه الدعوى المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان في كتابه: تاريخ مصر في عهد محمد علي (ترجم ما يتعلق بحملات محمد علي على الدعوة ودولتها: د. محمد خير البقاعي)، قال مانجان عن أول علاقة الدويش الجدِّ بحملة إبراهيم باشا: (عقد اجتماعًا طويلًا ووعده إبراهيم باشا بتعيينه حاكمًا على الدرعية، لقد أصبح فيصل الدويش تابعًا للقيادة العامة وقدم لحليفه وسائل النقل والمؤن، وأصبحت قبيلته جزمًا من الجيش التركي)، ويقول عن آخر العلاقة بينهما: (قال الدويش لمرافقيه من ضباط جيش إبراهيم باشا: إن إسهامي في سقوط الدرعية لا يقل عن إسهام جيشه، وإنه مكافأة لي على خدماتي قابلني بالجحود. كان باستطاعة فيصل الدويش أن يهزم الأتراك ويخلص بلاد نجد من أعدائها ولكنه فضل الاعتزال في الصحراء على طريق بغداد).
هذه الأمثلة تبين كيف: {وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ كم يحرِّك الشيطان والأنفس الأمارة بالسوء شياطين الخوارج على أوَّل دولة تؤسس على التجديد والتوحيد والدعوة منذ القرون الخيِّرة، فيرجع الخوارج بالحسرة والندامة والخزي، وترجع الدولة المباركة بالنصر والتمكين وحسن العاقبة في كل حادثة خروج.
ويتبين من هذه الأمثلة ونحوها أن الأسباب المتخذة ذريعة للخروج مختلفة، وكأن المهم الخروج، ثم البحث عن سبب يحتج به الخوارج.
وإذا كان كثير من الخارجين (بالفعل) يخدم البلاد والدولة بالبعد عنها كما ورد في الحديث: أن الأرض المقدسة ترجف بالمنافقين ليخرجوا منها؛ فإن البلاد والعباد والدولة تبتلى بخوارج (القول) ممن لا يستفيد منهم الدين ولا الدنيا، ويبقون في البلاد يأكلون خيرها وينشرون الإشاعات والأكاذيب، يسمَّون في لغة الجرائد (الطابور الخامس)، يبثون سمومهم ويحسبون أنهم مهتدون.
قال لي أحدهم: لماذا تنكر المظاهرات والإضرابات؟ فأجبته: ما الحاجة إليها؟ فقال: أعرف شارعًا مكسرًا في الدمام من يصلحه؟ فتعجبت: تنسى عشرات الآلاف من الكيلومترات الصالحة وتذكر فاسدًا واحدًا؟ فزاد في الكذب: كل الدمام مسكَّرة، فذكرت قول الله تعالى {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، ولو لم تذكر نعمة الله بالطرق؛ فلتذكر الأهم منها ومن الدنيا كلها: أنك لا تجد مسجدًا مبنيًّا على قبر، ولا وثنًا من أوثان المقامات والمزارات، ولا زاوية صوفية مما ابتلي به كل بلاد المسلمين.
ولقد بدأت إنكاري المظاهرات والإضرابات بالآيات والأحاديث التي تنهى عن الخروج بالقول والعمل، فكيف لا تقتنع بها، وتلزمني برأيك الفاسد؟ والله الهادي.
(1432هـ)