خطورة القدح في العلماء وانتقاصهم
الشيخ د.عاصم بن عبدالله القريوتي
إنَّ القدح والطعن بالعلماء أمرٌ خطيٌر وعظيمٌ ، وذلك لما يحملونه في صدورهم من تعاليم الشرع الحكيم والدين الحنيف ، ولما يتبع ذلك من آثارٍ سلبيةٍ ، ولذلك لما استهزأ رجلٌ من المنافقين بالصحابة-رضي الله عنهم- قائلاً: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء" أنزل الله عزَّ وجَّل:]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[[التوبة: 65 –66 ] ([130]).
وفي هذه الآية دلالةٌ قويةٌ واضحةٌ، وتحذيرٌ شديدٌ من الاستهزاء بالله ورسوله، وبشعائر الله وعلماء الأمة، ولو كان على سبيل اللعب والهزل.
ولهذا كان أخطر شيءٍ في الطعن هو القدح في كتاب الله عز وجل ، وفي النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ، إذ الواجب على المسلم التصديق بما جاء في كتاب الله وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه و التسليم الكامل ، والانقياد التام له، يقول الله سبحانه وتعالى: ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[ [النساء:65] .
وكذا الطعن في عدالة الصحابة -رضي الله عنهم-أمرٌ خطيرٌ، إذ يجب اعتقاد عدالتِهم جَميعًا، وعدم التفريق فِي العدالة بينهم، فلا يستثنَى أحدٌ، بِخلاف الْجُفاة والغلاة الطاعنين فِي كثيرٍٍٍٍٍ ٍمنهم ، والذين يعتقدون وقوع الكفر فِي بعض الصحابة والنفاق والردة .
وقد قال الإمام أبو زرعة الرازي –رحمه الله : « إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة »([131]) .
ولهذا كان من تعظيم السلف للصحابة أنَّهم يعلِّمون أبناءهم محبة أبي بكرٍٍِِِ وعمر- رضي الله عنهما- كما قال مالك بن أنس-رحمه الله تعالى-:" كان صالح السلف يعلِّمون أولادهم حب أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- كما يعلمون السورة أو السنة"([132]).
كما يجب الكف والإمساك عما شجر بينهم - رضي الله عنهم - إذ ما حصل منهم إنَّما هو مَحض اجتهادٍ فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ.
وكذلك إنَّ الطعن والوقيعة في أئمة السلف ونهجهم من علامات أهل البدع والزيغ ، ولا نشكُّ أنَّ مذهب السلف أسلمُ وأعلمُ وأحكمُ من المناهج كلها، ومن صور الطعن بأئمة السلف والمسلمين ما جرى من المنافقين في حادثة الإفك في حقِّ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر – رضي الله عنهما - الطاهرة البتول، المبرَّأة من فوق سبع سمواتٍ ، لأنَّ الإفك في حقيقته طعنةٌ موجَّهةٌ لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، ثم للرجل الثاني رضي الله عنه ، ثم لعائشة رضي الله عنها .
ومن ذلك الطعن في أبي هريرة- رضي الله عنه- راوية الإسلام الأوَّل- من أعداء السنة من المستشرقين وأذنابهم ، لأنَّ أبا هريرة راوية الإسلام وبالطعن فيه تذهب كثيرٌ من السنة.
ويحسن بنا أن نتأمل ما سبق في بيان فضل العلماء ومكانتهم حتى نعلم خطورة الانتقاص منهم، إذ هذا ليس من طريقة أهل السنة حيث يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله تعالى-: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل"([133]).
وللإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر كلمةٌ ساميةٌ يقول فيها: " اعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته- أنَّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هَتْك مُتَنَقِّصهم معلومةٌ، وأنَّ من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب بلاه الله قبل موته بموت القلب([134]).
وللعلامة الشيخ طاهر الجزائري (ت1338هـ) وهو على فراش الموت كلماتٌ رائعةٌ قال فيها -رحمه الله-:"عدوا رجالكم ، واغفروا لهم بعض زلاتهم ، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم ، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم".
وقال ابن الحاج- بعد ذكره حديث :" ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء"- : "لا شك أنَّ هذا الذي ذكره من بذاءة اللسان وهي ممنوعةٌ في حق آحاد عامة الناس ، فكيف بها في حق العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم؟ ([135]).
ويقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد-حفظه الله- في التحذير من التطاول على العلماء والحط من أقدارهم:"بادرةٌ ملعونةٌ .. وهي تكفير الأئمة: النووي ، وابن دقيق العيد ، وابن حجر العسقلاني ، أو الحطِّ من أقدارهم ، أو أنَّهم مبتدعةٌ ضلاَّل ، كلُّ هذا من عمل الشيطان ، وباب ضلالةٍ وإضلال ٍ، وفسادٍ وإفسادٍ ، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون" ([136]).
ولهذا فإنَّ جرح العالم ليس جرحًا هيِّناً، ولكنه جرحٌ وطعنٌ يصل إلى ما يحمله العالم من العلم، ولذلك كان الطعن في العلماء بابًا من أبواب الزندقة، كما في الآثار التالية:
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتَّهمه على الإسلام، فإنَّه كان شديدًا على المبتدعة"([137]).
وقال يحيى بن معين-رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة وعكرمة مولى ابن عباس فاتهمه على الإسلام"([138]).
وقال سفيان بن وكيع-رحمه الله-: "أحمد عندنا محنةٌ، به يُعرف المسلم من الفاسق "([139]) ، وقال أبوالحسن الطرخاباذي الهمداني :" أحمد بن حنبل محنةٌ، به يعرف المسلم من الزنديق "([140]) .
ولقد سئل الشيخ العلامة محمد بن عثيمين- رحمه الله- عن هؤلاء الذين يقعون في أهل العلم ويتطاولون عليهم فقال: "الذي أرى أنَّ هذا عملٌ محرَّمٌ، فإذا كان لا يجوز لإنسانٍ أنْ يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالماً فكيف يسوغ له أنْ يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟!والواجب على الإنسان المؤمن أنْ يكفَّ لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين، قال الله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [[الحجرات: 12] ، وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرّح العالم فسيكون سبباً في ردِّ ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال ردِّ الحق وإثمه على هذا الذي جرّح العالم، لأنَّ جرح العالم في الواقع ليس جرحاً شخصياً بل هو جرحٌ لإرث محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم، وهو موروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يثقون بشيءٍ من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح" ([141]).
وقال معالي الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله : " وأنَّ الحطَّ من قدر العلماء بسبب وقوع الخطأ الاجتهادي من بعضهم هو من طريقة المبتدعة ، ومن مخططات أعداء الآفة للتشكيك في دين الإسلام ولإيقاع العداوة بين المسلمين ، ولأجل فصل خلف الأمة عن سلفها ، وبثِّ الفرقة بين الشباب والعلماء، كما هو الواقع الآن ، فلينتبه لذلك بعض الطلبة المبتدئين الذين يحطُّون من قدر الفقهاء ومن قدر الفقه الإسلامي، ويزهِّدون في دراسته والانتفاع بما فيه من حقٍّ وصواب، فليعتزوا بفقههم وليحترموا علماءهم ، ولا ينخدعوا بالدعايات المضللة والمغرضة، واللّه الموفق"([142]) .
وبعد ما تقدَّم من بيان خطر القدح في العلماء ، ينبغي أن نعلم أنا لا ندَّعي العصمة لهم ، وعدم الوقوع لأحدهم في الخطأ ، فهم بشرٌ يخطئون ويصيبون ، وهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر و الأجرين ، مصداقاً لحديث عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ "([143]) .
قال شارح الطحاوية -رحمه الله- :" فيجب على كل مسلم بعد موالاة اللّه ورسوله موالاة المؤمنين ، كما نطق به القرآن خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء ، الذين جعلهم اللّه بمنزلة النجوم يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر" ، إلى أن قال:"وكلهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنْ إذا وجد لواحدٍ منهم قولٌ قد جاء حديثٍ صحيحٍ بخلافه فلا بدَّ له في تركه من عذرٍ ،وجماع الأعذار ثلاثة أصنافٍ :
أحدها : عدم اعتقاده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله .
الثاني : اعتقاده أنَّه أراد تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أنَّ الحكم منسوخٌ.
فلهم الفضل علينا ، والمنة بالسبق وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا ، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا ، فرضي اللّه عنهم وأرضاهم ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ [ الحشر : 10 ] "([144]).
ولقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-رسالةًً عظيمةً في بابها بعنوان:" رفع الملام عن الأئمة الأعلام"أبان فيها أسباب الاختلاف في الاجتهاد بين الأئمة، والأعذار في ذلك.
وأما كيفية الواجب التعامل مع العلماء في حالة خطأ أحدهم فتكون بالتثبت من صحَّة ما نسب إليهم ، ونصحهم بعد ذلك بالأدب وبالوجه اللائق بمكانتهم، دون انتقاصٍ لمنزلتهم ، وإنَّ للنصيحة منزلةٌ عظيمةٌ ، وهي دأب الأنبياء صلوات الله وسلامه ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "الدين النصيحة"([145]) ، ولكن النصيحة لها ضوابط وأصول يسار عليها ، وإلا خرجت عن طورها ، وأتت بنتائج لا تتلاءم مع مشروعيتها .
ولقد بيَّن الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - ما يتعلق بنصح العالم فقال :" وإذا كان مراد الرادِّ على العالم إظهار عيبه ، وتنقصه ، وإظهار قصوره في العلم ، ونحو ذلك ، كان محرماً ، سواءٌ كان ردُّه ذلك في وجه من ردَّ عليه أو في غيبته ، وسواءٌ كان في حياته أو في موته ، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه ، وتوعَّد عليه من الهمز واللمز ، وداخلٌ أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ ، وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم . وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم "([146]).
من كتاب :
حقوق العلماء في ضوء الكتاب والسنة
([130])رواه ابن جرير الطبري في تفسيره(14/333) وابن أبي حاتم في تفسيره(7/312)، ورجاله رجال الصحيح خلا هشام بن سعد فإنه روى له مسلم مقروناً، وله شاهدٌ بسندٍ حسنٍ عند أبي حاتم، كما في" الصحيح المسند من أسباب النزول " للشيخ مقبل بن هادي-رحمه الله-.
([131])الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ج 1 / ص 119).
([132])مسند الجوهري(ص110)كما في مقدمة موطأ الإمام مالك للدكتور محمد الأعظمي(1/ 255).
([133]) شرح العقيدة الطحاوية ص 554.
([134])نقلها عنه النووي في مقدمة"المجموع" .
([135]) المدخل (4 / 467).
([136]) تصنيف الناس بين الظن واليقين(ص900).
([137]) تهذيب الكمال(7/267).
([138]) شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة(900).
([139])تاريخ بغداد (2 / 36.
([140]) المصدر السابق .
([141]) العلم والدعوة(5/159).
([142]) كتاب التوحيد للفوزان (1 / 134).
([143])رواه البخاري(7352) ومسلم(1716).
([144])شرح الطحاوية ص 555.
([145]) رواه مسلم (55).
([146])الفرق بين النصيحة والتعيير ( ص ، والحديث رواه أحمد 18940وأبو داود 4880.
الشيخ د.عاصم بن عبدالله القريوتي
إنَّ القدح والطعن بالعلماء أمرٌ خطيٌر وعظيمٌ ، وذلك لما يحملونه في صدورهم من تعاليم الشرع الحكيم والدين الحنيف ، ولما يتبع ذلك من آثارٍ سلبيةٍ ، ولذلك لما استهزأ رجلٌ من المنافقين بالصحابة-رضي الله عنهم- قائلاً: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء" أنزل الله عزَّ وجَّل:]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[[التوبة: 65 –66 ] ([130]).
وفي هذه الآية دلالةٌ قويةٌ واضحةٌ، وتحذيرٌ شديدٌ من الاستهزاء بالله ورسوله، وبشعائر الله وعلماء الأمة، ولو كان على سبيل اللعب والهزل.
ولهذا كان أخطر شيءٍ في الطعن هو القدح في كتاب الله عز وجل ، وفي النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ، إذ الواجب على المسلم التصديق بما جاء في كتاب الله وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه و التسليم الكامل ، والانقياد التام له، يقول الله سبحانه وتعالى: ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[ [النساء:65] .
وكذا الطعن في عدالة الصحابة -رضي الله عنهم-أمرٌ خطيرٌ، إذ يجب اعتقاد عدالتِهم جَميعًا، وعدم التفريق فِي العدالة بينهم، فلا يستثنَى أحدٌ، بِخلاف الْجُفاة والغلاة الطاعنين فِي كثيرٍٍٍٍٍ ٍمنهم ، والذين يعتقدون وقوع الكفر فِي بعض الصحابة والنفاق والردة .
وقد قال الإمام أبو زرعة الرازي –رحمه الله : « إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة »([131]) .
ولهذا كان من تعظيم السلف للصحابة أنَّهم يعلِّمون أبناءهم محبة أبي بكرٍٍِِِ وعمر- رضي الله عنهما- كما قال مالك بن أنس-رحمه الله تعالى-:" كان صالح السلف يعلِّمون أولادهم حب أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- كما يعلمون السورة أو السنة"([132]).
كما يجب الكف والإمساك عما شجر بينهم - رضي الله عنهم - إذ ما حصل منهم إنَّما هو مَحض اجتهادٍ فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ.
وكذلك إنَّ الطعن والوقيعة في أئمة السلف ونهجهم من علامات أهل البدع والزيغ ، ولا نشكُّ أنَّ مذهب السلف أسلمُ وأعلمُ وأحكمُ من المناهج كلها، ومن صور الطعن بأئمة السلف والمسلمين ما جرى من المنافقين في حادثة الإفك في حقِّ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر – رضي الله عنهما - الطاهرة البتول، المبرَّأة من فوق سبع سمواتٍ ، لأنَّ الإفك في حقيقته طعنةٌ موجَّهةٌ لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، ثم للرجل الثاني رضي الله عنه ، ثم لعائشة رضي الله عنها .
ومن ذلك الطعن في أبي هريرة- رضي الله عنه- راوية الإسلام الأوَّل- من أعداء السنة من المستشرقين وأذنابهم ، لأنَّ أبا هريرة راوية الإسلام وبالطعن فيه تذهب كثيرٌ من السنة.
ويحسن بنا أن نتأمل ما سبق في بيان فضل العلماء ومكانتهم حتى نعلم خطورة الانتقاص منهم، إذ هذا ليس من طريقة أهل السنة حيث يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله تعالى-: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل"([133]).
وللإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر كلمةٌ ساميةٌ يقول فيها: " اعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته- أنَّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هَتْك مُتَنَقِّصهم معلومةٌ، وأنَّ من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب بلاه الله قبل موته بموت القلب([134]).
وللعلامة الشيخ طاهر الجزائري (ت1338هـ) وهو على فراش الموت كلماتٌ رائعةٌ قال فيها -رحمه الله-:"عدوا رجالكم ، واغفروا لهم بعض زلاتهم ، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم ، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم".
وقال ابن الحاج- بعد ذكره حديث :" ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء"- : "لا شك أنَّ هذا الذي ذكره من بذاءة اللسان وهي ممنوعةٌ في حق آحاد عامة الناس ، فكيف بها في حق العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم؟ ([135]).
ويقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد-حفظه الله- في التحذير من التطاول على العلماء والحط من أقدارهم:"بادرةٌ ملعونةٌ .. وهي تكفير الأئمة: النووي ، وابن دقيق العيد ، وابن حجر العسقلاني ، أو الحطِّ من أقدارهم ، أو أنَّهم مبتدعةٌ ضلاَّل ، كلُّ هذا من عمل الشيطان ، وباب ضلالةٍ وإضلال ٍ، وفسادٍ وإفسادٍ ، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون" ([136]).
ولهذا فإنَّ جرح العالم ليس جرحًا هيِّناً، ولكنه جرحٌ وطعنٌ يصل إلى ما يحمله العالم من العلم، ولذلك كان الطعن في العلماء بابًا من أبواب الزندقة، كما في الآثار التالية:
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتَّهمه على الإسلام، فإنَّه كان شديدًا على المبتدعة"([137]).
وقال يحيى بن معين-رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة وعكرمة مولى ابن عباس فاتهمه على الإسلام"([138]).
وقال سفيان بن وكيع-رحمه الله-: "أحمد عندنا محنةٌ، به يُعرف المسلم من الفاسق "([139]) ، وقال أبوالحسن الطرخاباذي الهمداني :" أحمد بن حنبل محنةٌ، به يعرف المسلم من الزنديق "([140]) .
ولقد سئل الشيخ العلامة محمد بن عثيمين- رحمه الله- عن هؤلاء الذين يقعون في أهل العلم ويتطاولون عليهم فقال: "الذي أرى أنَّ هذا عملٌ محرَّمٌ، فإذا كان لا يجوز لإنسانٍ أنْ يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالماً فكيف يسوغ له أنْ يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟!والواجب على الإنسان المؤمن أنْ يكفَّ لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين، قال الله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [[الحجرات: 12] ، وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرّح العالم فسيكون سبباً في ردِّ ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال ردِّ الحق وإثمه على هذا الذي جرّح العالم، لأنَّ جرح العالم في الواقع ليس جرحاً شخصياً بل هو جرحٌ لإرث محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم، وهو موروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يثقون بشيءٍ من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح" ([141]).
وقال معالي الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله : " وأنَّ الحطَّ من قدر العلماء بسبب وقوع الخطأ الاجتهادي من بعضهم هو من طريقة المبتدعة ، ومن مخططات أعداء الآفة للتشكيك في دين الإسلام ولإيقاع العداوة بين المسلمين ، ولأجل فصل خلف الأمة عن سلفها ، وبثِّ الفرقة بين الشباب والعلماء، كما هو الواقع الآن ، فلينتبه لذلك بعض الطلبة المبتدئين الذين يحطُّون من قدر الفقهاء ومن قدر الفقه الإسلامي، ويزهِّدون في دراسته والانتفاع بما فيه من حقٍّ وصواب، فليعتزوا بفقههم وليحترموا علماءهم ، ولا ينخدعوا بالدعايات المضللة والمغرضة، واللّه الموفق"([142]) .
وبعد ما تقدَّم من بيان خطر القدح في العلماء ، ينبغي أن نعلم أنا لا ندَّعي العصمة لهم ، وعدم الوقوع لأحدهم في الخطأ ، فهم بشرٌ يخطئون ويصيبون ، وهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر و الأجرين ، مصداقاً لحديث عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ "([143]) .
قال شارح الطحاوية -رحمه الله- :" فيجب على كل مسلم بعد موالاة اللّه ورسوله موالاة المؤمنين ، كما نطق به القرآن خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء ، الذين جعلهم اللّه بمنزلة النجوم يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر" ، إلى أن قال:"وكلهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنْ إذا وجد لواحدٍ منهم قولٌ قد جاء حديثٍ صحيحٍ بخلافه فلا بدَّ له في تركه من عذرٍ ،وجماع الأعذار ثلاثة أصنافٍ :
أحدها : عدم اعتقاده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله .
الثاني : اعتقاده أنَّه أراد تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أنَّ الحكم منسوخٌ.
فلهم الفضل علينا ، والمنة بالسبق وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا ، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا ، فرضي اللّه عنهم وأرضاهم ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ [ الحشر : 10 ] "([144]).
ولقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-رسالةًً عظيمةً في بابها بعنوان:" رفع الملام عن الأئمة الأعلام"أبان فيها أسباب الاختلاف في الاجتهاد بين الأئمة، والأعذار في ذلك.
وأما كيفية الواجب التعامل مع العلماء في حالة خطأ أحدهم فتكون بالتثبت من صحَّة ما نسب إليهم ، ونصحهم بعد ذلك بالأدب وبالوجه اللائق بمكانتهم، دون انتقاصٍ لمنزلتهم ، وإنَّ للنصيحة منزلةٌ عظيمةٌ ، وهي دأب الأنبياء صلوات الله وسلامه ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "الدين النصيحة"([145]) ، ولكن النصيحة لها ضوابط وأصول يسار عليها ، وإلا خرجت عن طورها ، وأتت بنتائج لا تتلاءم مع مشروعيتها .
ولقد بيَّن الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - ما يتعلق بنصح العالم فقال :" وإذا كان مراد الرادِّ على العالم إظهار عيبه ، وتنقصه ، وإظهار قصوره في العلم ، ونحو ذلك ، كان محرماً ، سواءٌ كان ردُّه ذلك في وجه من ردَّ عليه أو في غيبته ، وسواءٌ كان في حياته أو في موته ، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه ، وتوعَّد عليه من الهمز واللمز ، وداخلٌ أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ ، وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم . وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم "([146]).
من كتاب :
حقوق العلماء في ضوء الكتاب والسنة
([130])رواه ابن جرير الطبري في تفسيره(14/333) وابن أبي حاتم في تفسيره(7/312)، ورجاله رجال الصحيح خلا هشام بن سعد فإنه روى له مسلم مقروناً، وله شاهدٌ بسندٍ حسنٍ عند أبي حاتم، كما في" الصحيح المسند من أسباب النزول " للشيخ مقبل بن هادي-رحمه الله-.
([131])الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ج 1 / ص 119).
([132])مسند الجوهري(ص110)كما في مقدمة موطأ الإمام مالك للدكتور محمد الأعظمي(1/ 255).
([133]) شرح العقيدة الطحاوية ص 554.
([134])نقلها عنه النووي في مقدمة"المجموع" .
([135]) المدخل (4 / 467).
([136]) تصنيف الناس بين الظن واليقين(ص900).
([137]) تهذيب الكمال(7/267).
([138]) شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة(900).
([139])تاريخ بغداد (2 / 36.
([140]) المصدر السابق .
([141]) العلم والدعوة(5/159).
([142]) كتاب التوحيد للفوزان (1 / 134).
([143])رواه البخاري(7352) ومسلم(1716).
([144])شرح الطحاوية ص 555.
([145]) رواه مسلم (55).
([146])الفرق بين النصيحة والتعيير ( ص ، والحديث رواه أحمد 18940وأبو داود 4880.