إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُهُ ونَستَعينُه ونستَغْفِرُه، (ونَعوذُ بِالله مِن شُرورِ أنفُسِنا، وسَيِّئاتِ أعْمَالِنا)، من يهدهِ الله فَلا مُضِلَّ لَه، ومَن يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَه.
وأَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه-.
وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسولُه.
أمَّـا بعـدُ:
فمُذْ رجعتُ مِن الحَجِّ -الأسبوعَ قبل الجاري- وقد استقرَّ في مكتبتي قراري، واطْمَأْنَنَتُ إلى سكَني وداري-: وأنا تأتيني المسائلُ والاتصالات، وتَرِدُ عليَّ الرسائلُ والاستفسارات: حول ما يجري على الساحة السلفيةِ مِن أحداثٍ ومُستجدَّات، وشيءٍ مِن الخِلافات!؟
ولعلَّ هذا -إن شاء اللهُ- وإنْ كان يُسيءُ!- بدايةٌ طيبةٌ لِفجرٍ مُباركٍ يتواصلُ مع أنوار هذه الدعوة الميمونةِ؛ تأتلفُ عليه القلوب، وتجتمعُ إليهِ العقول -علماً وعملاً، عقيدةً ومنهجاً، تصفيةً وتربيةً، أدَباً وأخلاقاً، صدقاً وإخلاصاً-...
وممَّا اطَّلَعْتُ عليه -مِن مقالات وردود وتعقُّبات-: محاضرة الأخ عادل منصور -وفَّقَهُ اللهُ- المُسَمَّاة: «نُصح اللبيب بكشف حال أهل التشغيب»، والتي رأيتُها -في الجملةِ- نافعةً لطيفةً -وإن كان فيها نقصٌ، وتشويشٌ -غيرُ مقصودَيْن-أقرَّ بهما (معتذراً) الأخ عادلٌ -نفسُه- في محاضرتِه- مراراً!-، وإجمالٌ وعمومٌ -مقصودان-؛ لم يُشِرْ إليهِما -وفَّقَهُ المولى -بتاتاً-!
ولقد حَفَزَتْنِي محاضرةُ الأخ الفاضل -وما أعقَبَهَا!- لِذِكْرِ أُمور وأُمور -في هذا المقال والمقام- أكثرُها مُعينٌ على (التكميل والترتيب)، وطريقٌ إلى (التفصيل والتبيين)-:
أولها -وأهمُّها-: ما قَفَزَ إلى ذهني (!) مِن خَبَرِ تلكم الواقعةِ التي جرت بين شيخ الإسلام ابن تيميَّة، والعلاّمة أبي حيَّان الأندلسي اللغوي المُفَسِّر؛ إذ ناظرَ -هذا الأخيرُ- شيخَ الإسلام في شيءٍ مِن علومِ العربية، فذكر له كلامَ سيبويه!
فقال شيخُ الإسلام: يفشُر سيبويه!
فقال أبو حيَّان: هذا لا يستحقُّ هذا الخطابَ!!
فقال شيخُ الإسلام: ما كان سيبويه نبيَّ النحو! ولا كان معصوماً! بل أخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعاً؛ ما تفهمُها أنت!
... فكان ذلك سببَ مُقاطعتِه إيَّاه. [كما في «الدرر الكامنة» (1/144-160)].
أقولُ:
ومَن ذا في غير هذا مِن العلوم نبيُّها؟!
ومَن ذا في غير هذا معصومٌ؟!
فنحنُ (نُقَدِّرُ) العلماءَ.. ولكِنْ؛ لا (نُقَدِّسُهُم)...
ففَهْمُ هذا الأصلِ: أهمُّ الأسباب، وإدراكُهُ: أجلُّ الأبواب..
... دون توريد أدنى شكٍّ أو ارتياب!!
الثاني: كَثُرَ الكلامُ -هُنا وهُناك وهُنالك- في هجر المبتدع، وما يتعلَّقُ به؛ وكأنَّ ثَمَّةَ (مِن دُعاة المنهج السلفيِّ) مَن يُنْكِرُهُ، أو لا يُوافقُ عليه!
وهذا -هكذا!- تشغيبٌ غريب!!
مع أنَّ لشيخِنا الإمام الألبانيّ كلمةً -كان يُكرِّرُها- (قد) يُفهَمُ منها إنكارُ (الهجر) وردُّهُ؛ حيث يقولُ -رحمهُ اللهُ-: «هذا الزمانُ ليس زمانَ هجر»!
وقد بيَّنْتُ وجهَ قولِه -الصوابَ- في كتابي «منهج السلف الصالح..» (ص87 و247 -تحت الطبع-) -بما لا يتعارض مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- الآتي-:
فإنَّ له -رحمهُ اللهُ- كلاماً عظيماً في أحكامِ الهجرِ، ورَبْطِ ذلك بالمصالحِ -جلباً-، وبالمفاسدِ -دفعاً-، وبيان أثر الزَّمَان والمكان في أحكام -وحِكَم -هذا الهجر للأعيان- وجوداً وعدماً-؛ قال -رحمهُ اللهُ- في «مجموع الفتاوى» (28/212-213):
«فالهجرانُ:
قد يكونُ مقصودُه: تركَ سيئةِ البدعةِ التي هي ظُلمٌ وذنبٌ وإثمٌ وفسادٌ.
وقد يكونُ مقصودُه: فِعْلَ حسنةِ الجهاد، والنهيِ عن المنكرِ، وعُقوبةِ الظالمين؛ لِيَنـْزَجِروا، ويرتدعوا، وليَقْوَى الإيمانُ والعملُ الصالحُ عند أهلِه.
فإنَّ عقوبةَ الظالم تمنعُ النفوسَ عن ظلمِه، وتحضُّها على فعلِ ضِدّ ظُلمِه- مِن الإيمان والسُّنَّة -ونحوِ ذلك-.
فإذا لم يكنْ في هجرانِه انزجارُ أحدٍ، ولا انتهاءُ أحدٍ؛ بل بطلانُ كثيرٍ مِن الحسنات المأمورِ بها: لمْ تكنْ هجرةً مأموراً بها، كما ذكره أحمدُ عن أهل خُراسان -إذ ذاك-: أنهم لم يكونوا يَقْوَوْنَ بالجهميةِ، فإذا عَجَزُوا عن إظهارِ العداوةِ لهم سَقَطَ الأمرُ بفِعْلِ هذه الحسنة، وكان مداراتُهم فيه دفعُ الضررِ عن المؤمن الضعيف.
ولعلَّهُ أنْ يكونَ فيه تأليفُ الفاجرِ القويِّ.
وكذلك لـمَّا كَثُرَ القَدَرُ في أهل البصرةِ؛ فلو تُرِكَ روايةُ الحديثِ عنهم لانْدَرَسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم.
فإذا تعذَّرَ إقامةُ الواجباتِ مِن العلمِ والجهادِ -وغير ذلك- إلا بمن فيه بدعةٌ مضرَّتُها دونَ مضرَّةِ تركِ ذلك الواجب: كان تحصيلُ مصلحةِ الواجبِ -مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه- خيراً من العكس.
ولهذا كان الكلامُ في هذه المسائل فيه تفصيلٌ.
وكثيرٌ مِن أجوبةِ الإمام أحمدَ -وغيرِهِ مِن الأئمَّةِ- خَرَجَ على سؤالِ سائلٍ قد علِمَ المسؤولُ حالَهُ، أو خرجَ خِطاباً لمعيَّن قد عُلِمَ حالُه، فيكونُ بمنـزلةِ قضايا الأعيانِ الصادرةِ عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّما يثبُتُ حُكْمُها في نظيرِها.
فإنَّ أقواماً جعلوا ذلك عامًّا، فاستعملوا مِن الهجر والإنكارِ ما لم يُؤْمَرُوا به -فلا يجبُ ولا يُسْتَحَبُّ-، وربَّما تركوا به واجباتٍ أو مستحبَّاتٍ، وفعلوا به محرّماتٍ.
وآخَرونَ: أعرضوا عن ذلك بالكُلِّيَّةِ، فلم يَهْجُرُوا ما أُمِرُوا بهجرِه مِن السيِّئات البدعيَّةِ: بل تركوها تَرْكَ المُعْرِضِ؛ لا تَرْكَ المُنْتَهِي الكارِه، أو وقعوا فيها.
وقد يتركونَها تركَ المنتهي الكارِهِ، ولا يَنْهَوْنَ عنها غيرَهم، ولا يُعاقِبُون بالهجرةِ -ونحوِها- مَن يستحقُّ العقوبةَ عليها، فيكونون قد ضيَّعوا مِن النهيِ عن المنكر ما أُمِرُوا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فِعْلِِ المُنْكَرِ، أو تركِ المَنْهِيِّ عنه.
وذلك: فعلُ ما نُهُوا عنه، وتركُ ما أُمِرُوا به.
فهذا هذا.
ودينُ الله وَسَطٌ بين الغالي فيه، والجافي عنه».
قلتُ:
فالتأصيلُ -في هذا الباب الأصيل-: مُتَّفَقٌ عليه بين جميع دُعاة السنةِ، وحَمَلَةِ منهج السَّلَف، وإنَّما وَقَعَ الاختلافُ مِن جهةِ التطبيقِ- حسبُ- كما هو صريحُ كلامِ شيخ الإسلام-.
فهذا مَسْرَحُ النَّظَرِ، ومَناطُ الفِكَر...
فهل هذا -إنْ حَصَلَ أيُّ خِلافٍ فيه!- مُسْتَنْكَر؟!
وهذا التحقيقُ؛ هو معنى ما قالهُ الشيخُ عُبَيْدٌ الجابريُّ -سلَّمَهُ اللهُ- في بعضِ «أجوبتِه»:
«يجبُ على السلفيِّين أن يَرفُقوا ببعضِهم، وأن يتأنَّوْا، وأن لا يتسرَّعُوا في الهجر؛ فإن هذا خَطَأٌ.. والمُخالفةُ تُرَدُّ، المخالفةُ تُرَدُّ ولا تُقْبَلُ، ويُبَيَّنُ الخطأُ أنَّهُ خطأٌ، وأن الحقَّ خلافُهُ -بالدَّلِيل-.
وإنما يُهْجَرُ المبتدعُ الذي قامت عليه الحُجَّةُ، وظهرت بدعتُه، فإنَّهُ يُهْجَرُ ولا كرامةَ عنده، إلا إذا ترتَّبَ على الهجرِ مفسدةٌ أكبرُ مِن ذلك، فإنَّهُ يُكتَفَى بالحَذَرِ منه، والحَذَرِ مِن مُجالستِه، ولا يُهْجَرُ هجراً تامًّا، بحيث إنَّهُ لا يُسَلَّمُ عليه، وغيرُ ذلك من الأُمورِ.
والحقيقةُ: أنَّ كثيراً مِن السَّلَفِيِّين اشتدُّوا على إخوانِهم في هذا البابِ -حسب ما بَلَغَنَا-؛ فبِمُجَرَّدِ ما يرى سلفيٌّ أخاهُ يُكَلِّمُ آخَرَ غَيْرَ مَرْضِيٍّ عنه، يهجُرُه!!
وهذا -في الحقيقةِ- لا ينبغي.
هذا خطأٌ».
ومِن أمثلةِ ما جرى بين السَّلف مِن خلافٍ -أو استدراك عالمٍ على مَن هو (أكبرُ منه)-:
ما قاله أبو عليّ النيسابوري: قلتُ لابن خُزيمة: لو أخذتَ الإسنادَ عن محمد بن حُميد فإنَّ أحمد قد أحسن الثَّناءَ عليه! فقال:
إنَّه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً. [«تهذيب التهذيب» (9/180)، و«الميزان» (7353)]
... فتأمَّل مُخالفةَ هذا العالم لِمَنْ هو أجلُّ منه، وأكبرُ، وأعلمُ...
ولم يُعَبْ ذلك عليه، ولم يُوَجَّهْ -بسببِه- سَهْمُ نقدٍ إليه!!
وَوَرَدَ مِن آثارهم وأخبارهم -رحمهم الله- أيضاً-: عَدَمُ التفاتهم لما قيل فيهم، أو انتُقِدَ عليهم -شخصيًّا!- حرصاً على الحقِّ ودعوته -عُموماً-:
فقد قال أبو داود: جاء رجلٌ إلى أحمد، فقال: أنكتبُ عن محمد بن منصور الطُّوسي؟ فقال: إذا لم تكتُبْ عن محمد بن منصور فعمَّن؟! يقول ذلك مراراً.
ثُمَّ قال له الرجل: إنَّه يتكلَّمُ فيك!
فقال أحمد: رجلٌ صالحٌ ابتُلي بِنا! فما نعمل؟! [«بحر الدم» (939)، و«طبقات الحنابلة» (2/45)]
... إنّه ترجيحُ (المصلحة الشرعية العامَّة) على (المصالح الشخصية الضيِّقة!)...
وبين هذا وذاك:
نراهم -رحمهم الله- لا يسترسلون في أحكامِهم -ربطاً للماضي بالحاضر؛ فضلاً عن توصيلِ الحاضر بالمستقبل!! حبلاً واحداً، وسلسلةً لا تنقطعُ!!
بل يُمَيِّزون، ويتفَقَّدون، ويصبرون، ويتأنَّونَ، ويتأمَّلُون، وَبِالثَّبْتِ يحكُمون:
فقد قال أبو مزاحم موسى بن عُبيد الله: سأل عمّي أبو علي عبدالرحمن بن يحيى، أحمدَ بن حنبل عن ابن المؤذن؟ فقال:
كان مع ابنِ أبي دُؤاد وفي ناحيتهِ، ولا أعرف رأيَه اليوم! [«تاريخ بغداد» (5/416)]
... فمَن ذا لا (يتغيَّر) -سواءٌ -في هذا-: السلبُ أو الإيجاب-؟!
نسألُ اللهَ الثباتَ حتى الممات -على نهج السلف وأئمَّته الأثبات-...
قلتُ:
وهذه الآثار السلفيةُ -المذكورةُ -هُنا- عن أئمّةِ السُّنَّة النَّبويَّةِ -وغيرها- مُقْتَطَفةٌ مِن كتابي «التحقيق المؤصَّل، والتطبيق المُفصَّل - في العقيدة، والسُّنَّة، والمنهج، والأخلاق - عند الإمام المُبجَّل أحمد
وأَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه-.
وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسولُه.
أمَّـا بعـدُ:
فمُذْ رجعتُ مِن الحَجِّ -الأسبوعَ قبل الجاري- وقد استقرَّ في مكتبتي قراري، واطْمَأْنَنَتُ إلى سكَني وداري-: وأنا تأتيني المسائلُ والاتصالات، وتَرِدُ عليَّ الرسائلُ والاستفسارات: حول ما يجري على الساحة السلفيةِ مِن أحداثٍ ومُستجدَّات، وشيءٍ مِن الخِلافات!؟
ولعلَّ هذا -إن شاء اللهُ- وإنْ كان يُسيءُ!- بدايةٌ طيبةٌ لِفجرٍ مُباركٍ يتواصلُ مع أنوار هذه الدعوة الميمونةِ؛ تأتلفُ عليه القلوب، وتجتمعُ إليهِ العقول -علماً وعملاً، عقيدةً ومنهجاً، تصفيةً وتربيةً، أدَباً وأخلاقاً، صدقاً وإخلاصاً-...
وممَّا اطَّلَعْتُ عليه -مِن مقالات وردود وتعقُّبات-: محاضرة الأخ عادل منصور -وفَّقَهُ اللهُ- المُسَمَّاة: «نُصح اللبيب بكشف حال أهل التشغيب»، والتي رأيتُها -في الجملةِ- نافعةً لطيفةً -وإن كان فيها نقصٌ، وتشويشٌ -غيرُ مقصودَيْن-أقرَّ بهما (معتذراً) الأخ عادلٌ -نفسُه- في محاضرتِه- مراراً!-، وإجمالٌ وعمومٌ -مقصودان-؛ لم يُشِرْ إليهِما -وفَّقَهُ المولى -بتاتاً-!
ولقد حَفَزَتْنِي محاضرةُ الأخ الفاضل -وما أعقَبَهَا!- لِذِكْرِ أُمور وأُمور -في هذا المقال والمقام- أكثرُها مُعينٌ على (التكميل والترتيب)، وطريقٌ إلى (التفصيل والتبيين)-:
أولها -وأهمُّها-: ما قَفَزَ إلى ذهني (!) مِن خَبَرِ تلكم الواقعةِ التي جرت بين شيخ الإسلام ابن تيميَّة، والعلاّمة أبي حيَّان الأندلسي اللغوي المُفَسِّر؛ إذ ناظرَ -هذا الأخيرُ- شيخَ الإسلام في شيءٍ مِن علومِ العربية، فذكر له كلامَ سيبويه!
فقال شيخُ الإسلام: يفشُر سيبويه!
فقال أبو حيَّان: هذا لا يستحقُّ هذا الخطابَ!!
فقال شيخُ الإسلام: ما كان سيبويه نبيَّ النحو! ولا كان معصوماً! بل أخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعاً؛ ما تفهمُها أنت!
... فكان ذلك سببَ مُقاطعتِه إيَّاه. [كما في «الدرر الكامنة» (1/144-160)].
أقولُ:
ومَن ذا في غير هذا مِن العلوم نبيُّها؟!
ومَن ذا في غير هذا معصومٌ؟!
فنحنُ (نُقَدِّرُ) العلماءَ.. ولكِنْ؛ لا (نُقَدِّسُهُم)...
ففَهْمُ هذا الأصلِ: أهمُّ الأسباب، وإدراكُهُ: أجلُّ الأبواب..
... دون توريد أدنى شكٍّ أو ارتياب!!
الثاني: كَثُرَ الكلامُ -هُنا وهُناك وهُنالك- في هجر المبتدع، وما يتعلَّقُ به؛ وكأنَّ ثَمَّةَ (مِن دُعاة المنهج السلفيِّ) مَن يُنْكِرُهُ، أو لا يُوافقُ عليه!
وهذا -هكذا!- تشغيبٌ غريب!!
مع أنَّ لشيخِنا الإمام الألبانيّ كلمةً -كان يُكرِّرُها- (قد) يُفهَمُ منها إنكارُ (الهجر) وردُّهُ؛ حيث يقولُ -رحمهُ اللهُ-: «هذا الزمانُ ليس زمانَ هجر»!
وقد بيَّنْتُ وجهَ قولِه -الصوابَ- في كتابي «منهج السلف الصالح..» (ص87 و247 -تحت الطبع-) -بما لا يتعارض مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- الآتي-:
فإنَّ له -رحمهُ اللهُ- كلاماً عظيماً في أحكامِ الهجرِ، ورَبْطِ ذلك بالمصالحِ -جلباً-، وبالمفاسدِ -دفعاً-، وبيان أثر الزَّمَان والمكان في أحكام -وحِكَم -هذا الهجر للأعيان- وجوداً وعدماً-؛ قال -رحمهُ اللهُ- في «مجموع الفتاوى» (28/212-213):
«فالهجرانُ:
قد يكونُ مقصودُه: تركَ سيئةِ البدعةِ التي هي ظُلمٌ وذنبٌ وإثمٌ وفسادٌ.
وقد يكونُ مقصودُه: فِعْلَ حسنةِ الجهاد، والنهيِ عن المنكرِ، وعُقوبةِ الظالمين؛ لِيَنـْزَجِروا، ويرتدعوا، وليَقْوَى الإيمانُ والعملُ الصالحُ عند أهلِه.
فإنَّ عقوبةَ الظالم تمنعُ النفوسَ عن ظلمِه، وتحضُّها على فعلِ ضِدّ ظُلمِه- مِن الإيمان والسُّنَّة -ونحوِ ذلك-.
فإذا لم يكنْ في هجرانِه انزجارُ أحدٍ، ولا انتهاءُ أحدٍ؛ بل بطلانُ كثيرٍ مِن الحسنات المأمورِ بها: لمْ تكنْ هجرةً مأموراً بها، كما ذكره أحمدُ عن أهل خُراسان -إذ ذاك-: أنهم لم يكونوا يَقْوَوْنَ بالجهميةِ، فإذا عَجَزُوا عن إظهارِ العداوةِ لهم سَقَطَ الأمرُ بفِعْلِ هذه الحسنة، وكان مداراتُهم فيه دفعُ الضررِ عن المؤمن الضعيف.
ولعلَّهُ أنْ يكونَ فيه تأليفُ الفاجرِ القويِّ.
وكذلك لـمَّا كَثُرَ القَدَرُ في أهل البصرةِ؛ فلو تُرِكَ روايةُ الحديثِ عنهم لانْدَرَسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم.
فإذا تعذَّرَ إقامةُ الواجباتِ مِن العلمِ والجهادِ -وغير ذلك- إلا بمن فيه بدعةٌ مضرَّتُها دونَ مضرَّةِ تركِ ذلك الواجب: كان تحصيلُ مصلحةِ الواجبِ -مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه- خيراً من العكس.
ولهذا كان الكلامُ في هذه المسائل فيه تفصيلٌ.
وكثيرٌ مِن أجوبةِ الإمام أحمدَ -وغيرِهِ مِن الأئمَّةِ- خَرَجَ على سؤالِ سائلٍ قد علِمَ المسؤولُ حالَهُ، أو خرجَ خِطاباً لمعيَّن قد عُلِمَ حالُه، فيكونُ بمنـزلةِ قضايا الأعيانِ الصادرةِ عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّما يثبُتُ حُكْمُها في نظيرِها.
فإنَّ أقواماً جعلوا ذلك عامًّا، فاستعملوا مِن الهجر والإنكارِ ما لم يُؤْمَرُوا به -فلا يجبُ ولا يُسْتَحَبُّ-، وربَّما تركوا به واجباتٍ أو مستحبَّاتٍ، وفعلوا به محرّماتٍ.
وآخَرونَ: أعرضوا عن ذلك بالكُلِّيَّةِ، فلم يَهْجُرُوا ما أُمِرُوا بهجرِه مِن السيِّئات البدعيَّةِ: بل تركوها تَرْكَ المُعْرِضِ؛ لا تَرْكَ المُنْتَهِي الكارِه، أو وقعوا فيها.
وقد يتركونَها تركَ المنتهي الكارِهِ، ولا يَنْهَوْنَ عنها غيرَهم، ولا يُعاقِبُون بالهجرةِ -ونحوِها- مَن يستحقُّ العقوبةَ عليها، فيكونون قد ضيَّعوا مِن النهيِ عن المنكر ما أُمِرُوا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فِعْلِِ المُنْكَرِ، أو تركِ المَنْهِيِّ عنه.
وذلك: فعلُ ما نُهُوا عنه، وتركُ ما أُمِرُوا به.
فهذا هذا.
ودينُ الله وَسَطٌ بين الغالي فيه، والجافي عنه».
قلتُ:
فالتأصيلُ -في هذا الباب الأصيل-: مُتَّفَقٌ عليه بين جميع دُعاة السنةِ، وحَمَلَةِ منهج السَّلَف، وإنَّما وَقَعَ الاختلافُ مِن جهةِ التطبيقِ- حسبُ- كما هو صريحُ كلامِ شيخ الإسلام-.
فهذا مَسْرَحُ النَّظَرِ، ومَناطُ الفِكَر...
فهل هذا -إنْ حَصَلَ أيُّ خِلافٍ فيه!- مُسْتَنْكَر؟!
وهذا التحقيقُ؛ هو معنى ما قالهُ الشيخُ عُبَيْدٌ الجابريُّ -سلَّمَهُ اللهُ- في بعضِ «أجوبتِه»:
«يجبُ على السلفيِّين أن يَرفُقوا ببعضِهم، وأن يتأنَّوْا، وأن لا يتسرَّعُوا في الهجر؛ فإن هذا خَطَأٌ.. والمُخالفةُ تُرَدُّ، المخالفةُ تُرَدُّ ولا تُقْبَلُ، ويُبَيَّنُ الخطأُ أنَّهُ خطأٌ، وأن الحقَّ خلافُهُ -بالدَّلِيل-.
وإنما يُهْجَرُ المبتدعُ الذي قامت عليه الحُجَّةُ، وظهرت بدعتُه، فإنَّهُ يُهْجَرُ ولا كرامةَ عنده، إلا إذا ترتَّبَ على الهجرِ مفسدةٌ أكبرُ مِن ذلك، فإنَّهُ يُكتَفَى بالحَذَرِ منه، والحَذَرِ مِن مُجالستِه، ولا يُهْجَرُ هجراً تامًّا، بحيث إنَّهُ لا يُسَلَّمُ عليه، وغيرُ ذلك من الأُمورِ.
والحقيقةُ: أنَّ كثيراً مِن السَّلَفِيِّين اشتدُّوا على إخوانِهم في هذا البابِ -حسب ما بَلَغَنَا-؛ فبِمُجَرَّدِ ما يرى سلفيٌّ أخاهُ يُكَلِّمُ آخَرَ غَيْرَ مَرْضِيٍّ عنه، يهجُرُه!!
وهذا -في الحقيقةِ- لا ينبغي.
هذا خطأٌ».
ومِن أمثلةِ ما جرى بين السَّلف مِن خلافٍ -أو استدراك عالمٍ على مَن هو (أكبرُ منه)-:
ما قاله أبو عليّ النيسابوري: قلتُ لابن خُزيمة: لو أخذتَ الإسنادَ عن محمد بن حُميد فإنَّ أحمد قد أحسن الثَّناءَ عليه! فقال:
إنَّه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً. [«تهذيب التهذيب» (9/180)، و«الميزان» (7353)]
... فتأمَّل مُخالفةَ هذا العالم لِمَنْ هو أجلُّ منه، وأكبرُ، وأعلمُ...
ولم يُعَبْ ذلك عليه، ولم يُوَجَّهْ -بسببِه- سَهْمُ نقدٍ إليه!!
وَوَرَدَ مِن آثارهم وأخبارهم -رحمهم الله- أيضاً-: عَدَمُ التفاتهم لما قيل فيهم، أو انتُقِدَ عليهم -شخصيًّا!- حرصاً على الحقِّ ودعوته -عُموماً-:
فقد قال أبو داود: جاء رجلٌ إلى أحمد، فقال: أنكتبُ عن محمد بن منصور الطُّوسي؟ فقال: إذا لم تكتُبْ عن محمد بن منصور فعمَّن؟! يقول ذلك مراراً.
ثُمَّ قال له الرجل: إنَّه يتكلَّمُ فيك!
فقال أحمد: رجلٌ صالحٌ ابتُلي بِنا! فما نعمل؟! [«بحر الدم» (939)، و«طبقات الحنابلة» (2/45)]
... إنّه ترجيحُ (المصلحة الشرعية العامَّة) على (المصالح الشخصية الضيِّقة!)...
وبين هذا وذاك:
نراهم -رحمهم الله- لا يسترسلون في أحكامِهم -ربطاً للماضي بالحاضر؛ فضلاً عن توصيلِ الحاضر بالمستقبل!! حبلاً واحداً، وسلسلةً لا تنقطعُ!!
بل يُمَيِّزون، ويتفَقَّدون، ويصبرون، ويتأنَّونَ، ويتأمَّلُون، وَبِالثَّبْتِ يحكُمون:
فقد قال أبو مزاحم موسى بن عُبيد الله: سأل عمّي أبو علي عبدالرحمن بن يحيى، أحمدَ بن حنبل عن ابن المؤذن؟ فقال:
كان مع ابنِ أبي دُؤاد وفي ناحيتهِ، ولا أعرف رأيَه اليوم! [«تاريخ بغداد» (5/416)]
... فمَن ذا لا (يتغيَّر) -سواءٌ -في هذا-: السلبُ أو الإيجاب-؟!
نسألُ اللهَ الثباتَ حتى الممات -على نهج السلف وأئمَّته الأثبات-...
قلتُ:
وهذه الآثار السلفيةُ -المذكورةُ -هُنا- عن أئمّةِ السُّنَّة النَّبويَّةِ -وغيرها- مُقْتَطَفةٌ مِن كتابي «التحقيق المؤصَّل، والتطبيق المُفصَّل - في العقيدة، والسُّنَّة، والمنهج، والأخلاق - عند الإمام المُبجَّل أحمد
للشيخ على الحلبي / شبكة المنهاج الإسلامية /