بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :-
فإننى أقدم لكم اليوم بحثا قيما لشيخنا الحبيب ( عماد الدين بن فراج - حفظه الله تعالى - ) بعنوان :-
(لماذا نسكت عن أخطاء الحكام في حين أننا نتكلم في أخطاء العلماء )
وهذا سؤال مهم و شبهة قوية يثيرها بين الحين والحين أعداء المنهج الصحيح ، وفى الحقيقة أن الجواب على هذه الشبهة الآن من الأهمية بمكان .وأصل هذا البحث سؤال وجه لشيخنا - حفظه الله - فانبرى للجواب عنه وقد أجاد وأفاد جزاه الله خيرا .
ولما رأى أهمية الموضوع قام بكتابة الجواب فى هذا البحث الصغير حجما ، الكبير نفعا بفضل الله تعالى .
وكتبه
أبوعبدالله وائل بن على بن أحمد الأثرى
أبوعبدالله وائل بن على بن أحمد الأثرى
لماذا نسكت عن أخطاء الحكام
في حين أننا نتكلم في أخطاء العلماء
في حين أننا نتكلم في أخطاء العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:فقد تقدم أحد الإخوة بالسؤال التالي:-
( لماذا نسكت عن أخطاء الحكام في حين أننا نتكلم في أخطاء العلماء؟ ) .
وفي الحقيقة إن الإجابة على هذا السؤال من الأهمية بمكان لأنها تجلي شبهًا كثيرة وتزيل إشكالات كبيرة .
فأقول مستعينًا بالله: إن هذه المسألة (الكلام عن أخطاء العلماء والسكوت عن أخطاء الحكام) تساق هذا المساق :
أولأ: الأصل في المكلفين أنهم خطّاءون، وخير الخطّاءين التوابون، فالخطأ صادر منهم لا محالة .
فولي الأمر يخطئ ، والعالم يخطىء ، والعامي يخطئ .
ثانيًا: ومن أصول هذا الدين العظيمة وأركانه القويمة:-
النصيحة : والنصيحة تكون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، والنصيحة تقتضي تبيين الخطأ والرد على المخطئ .
ثالثًا: ويختلف أسلوب النصيحة على حسب مكان الشخص المنصوح .
فالنصيحة للحكام تختلف في الأسلوب عن النصيحة للعلماء ، وكذلك النصيحة للعلماء تختلف في أسلوبها عن النصيحة للعامة .
رابعًا: أما الحكام فقد أمرتنا الشريعة بمناصحتهم سرًا، وعدم إظهار أخطائهم والتحدث بها في المجالس العامة أوالخاصة ومقصد الشريعة في ذلك الحفاظ على هيبة الولاة وحرمتهم ، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره ، عن معاذ- رضي الله عنه - قال: عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خمس؛ من فعل منهن كان ضامنًا على الله: من عاد مريضًا ، أو خرج في جنازة، أو خرج غازيًا في سبيل الله ، أو دخل على إمام يريد بذلك تعزيره وتوقيره ، أو قعد في بيته فيسلم الناس منه ويسلم".
وعن عائشة – رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "ست خصال ما من مسلم يموت في واحدة منهن إلا كنت له ضامنًا على الله أن يدخله الجنة – وذكر منها – ورجل أتى إمامًا لا يأتيه إلا ليعزره ويوقره، فإن من مات في وجهه ذلك، كان ضامنًا على الله".
فهكذا جاءت السنة باحترام السلطان وتوقيره ، ولقد كان السلف الصالح
- رضوان الله عليهم - يقدرون الأمير ويحترمونه حتى لقد صار ذلك مضرب المثل عندهم ، فمن ذلك قول مغيرة – رحمه الله – " كنا نهاب إبراهيم هيبة الأمير".اهـ
قال ابن جماعة( في حقوق ولي الأمر ): "يعرف له عظيم حقه ، وما يجب من تعظيم قدره ، فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام ، وما جعل الله تعالى له من الإعظام ، ولذلك كان العلماء والأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم ويلبون دعوتهم مع زهدهم وورعهم ، وعدم الطمع فيما لديهم".اهـ
فالنصيحة على الملأ وفي المحافل تتنافى وما أمرت به الشريعة من إكرام الأمراء واحترامهم ، بل فيها استخفاف بولي الأمر وإسقاط هيبته وانتهاك حرمته وتشغيب الدهماء والغوغاء عليه، وزرع الفتنة والفساد، فالواجب إيصال النصيحة لهم بالطرق المشروعة، لا بالتشهير والإشاعة.
والطريقة المشروعة هي مناصحتهم في السر، كما في حديث عياض بن غنم الذي أخرجه أحمد وغيره: " من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبد له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك ، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له".
قال الشيخ صالح الفوزان : " لا شك أن الولاة كغيرهم من البشر ليسوا بمعصومين من الخطأ ومناصحتهم واجبة ولكن تناولهم في المجالس وعلى المنابر يعتبر من الغيبة المحرمة، وهو منكر أشد من المنكر الذي يحصل من الولاة لأنه غيبة، ولما يلزم عليه من زرع الفتنة، وتفريق الكلمة، والتأثير على سير الدعوة".اهـ
فمن قال: إننا نسكت على أخطاء الحكام فقد أخطأ ، خطأ بيِّنًا ، فإن هذا لا يقول به أحد ، فإن السكوت على الخطأ لا يجوز ، لكن الأمر بالنسبة للحكام له وضع خاص ، فمن ينصحونه هم العلماء وأصحاب الرأي والمشورة ويفعلون ذلك سرًا، كما قال أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه، فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من فتحه ".
وقال – حفظه الله – حين سئل: ما هو المنهج الصحيح في المناصحة ، وخاصة مناصحة الحكام ، أهو بالتشهير على المنابر بأفعالهم المنكرة ؟ أم مناصحتهم في السر؟ أرجو توضيح المنهج الصحيح في هذه المسألة؟
فأجاب: " العصمة ليست لأحد إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالحكام بشر يخطئون ، ولا شك أن عندهم أخطاء ، وليسوا معصومين ، ولكن لا نتخذ من أخطائهم مجالا للتشهير بهم ، ونزع اليد من طاعتهم حتى وإن جاروا، وإن ظلموا، حتى وإن عصوا، ما لم يأتوا بكفر بواح ، كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان عندهم معاصٍ ، وعندهم جور وظلم ، فإن الصبر على طاعتهم جمع للكلمة ، ووحدة للمسلمين ، وحماية لبلاد المسلمين وفي مخالفتهم ومنابذتهم مفاسد عظيمة أعظم من المنكر الذي هم عليه ، يحصل في مخالفتهم ما هو أشد من المنكر الذي يصدر منهم ما دام هذا المنكر دون الكفر، ودون الشرك ولا نقول: إنه يسكت على ما يصدر من الحكام من أخطاء، لا؛ بل نعالج ، ولكن تعالج بالطريقة السليمة: بالمناصحة لهم سرًا، والكتابة لهم سرًا وليست بالكتابة التي تكتب ويوقع عليها جمع كثير، وتوزع على الناس ؛ هذا لا يجوز، بل تكتب كتابة سرية فيها نصيحة ، تسلم لولي الأمر، أو يكلم شفويًا، أما الكتابة التي تكتب وتصور وتوزع على الناس، فهذا عمل لا يجوز لأنه تشهير، وهو مثل الكلام على المنابر ، بل هو أشد ؛ بل الكلام يمكن أن ينسى ، ولكن الكتابة تبقى وتتداولها الأيدي ، فليس هذا من الحق . وأولى من يقوم بالنصيحة لولاة الأمور هم العلماء، وأصحاب الرأي والمشورة، وأهل الحل والعقد، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } فليس كل أحد من الناس يصلح لهذا الأمر، وليس الترويج للأخطاء والتشهير بها من النصيحة في شئ ، بل هو من إشاعة المنكر والفاحشة في الذين آمنوا، ولا هو من منهج السلف الصالح، وإن كان قصد صاحبها حسنًا طيبً، وهو إنكار المنكر بزعمه، لكن ما فعله أشد منكراً مما أنكره. وقد يكون إنكار المنكر منكرًا إذا كان على غير الطريقة التي شرعها الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يتبع طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشرعية التي رسمها حيث قال - صلى الله عليه وسلم -:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
فجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس ثلاثة أقسام:
منهم: من يستطيع أن يزيل المنكر بيده، وهو صاحب السلطة ، أي ولي الأمر، أو من وكل له الأمر من الهيئات، والأمراء والقادة.
والقسم الثاني: العالم الذي لا سلطة له، فينكر بالبيان والنصيحة، بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإبلاغ ذوي السلطان بالطريقة الحكيمة.
والقسم الثالث: من لا علم عنده ولا سلطة، فإنه ينكر بقلبه، فيبغضه ويبغض أهله ويعتزلهم".اهـ بتصرف
وقال الحافظ ابن رجب: "اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذم والعيب والنقص ، فأما إذا كان فيه مصلحة لعامة المسلمين ، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود به تحصيل تلك المصلحة ، فليس بمحرم بل مندوب إليه ، وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في "الجرح والتعديل"، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة ، وردوا على من سوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه، ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث و التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأول شيئًا منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به، ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا.
ولهذا تجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من: التفسير، وشروح الحديث ، والفقه ، واختلاف العلماء وغير ذلك، ممتلئة من المناظرات، وردوا أقوال من تُضعف أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم، ولا ادعى فيه طعنًا على من رد عليه قوله، ولا ذمًا ولا نقصًا، اللهم إلا أن يكون المصنف يفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة، فينكر عليه فحاشته وإساءته، دون أصل رده ومخالفته، إقامة للحجج الشرعية، والأدلة المعتبرة.
وسبب ذلك: أن علماء الدين كلهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا، وكلهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شئ منه ليس هو مرتبة أحد منهم ، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين ، فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم، يقبلون الحق ممن أورد عليهم وإن كان صغيرًا، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم، كما قال عمر - رضي الله عنه - في مهور النساء ، وردت المرأة عليه بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً} فرجع عن قوله وقال "أصابت امرأة ورجل أخطأ"، وروي عنه أنه قال: "كل أحد أفقه من عمر".
وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشئ يقول: "هذا رأينا فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه".
وكان الشافعي يبالغ في هذا المعنى ويوصي أصحابه باتباع الحق وقبول السنة، إذا ظهرت لهم على خلاف قوله، وأن يضرب بقوله حينئذ الحائط، وكان يقول في كتبه "لابد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة، لأن الله تعالى يقول: {أَفَلاَيَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} فحينئذ؛ فرد المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه فلا يكون داخلًا في باب الغيبة بالكلية.
فلو فرض أن أحدًا يكره إظهار خطئه المخالف للحق، فلا عبرة بكراهته لذلك، فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين به سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدين، كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله ، إذا تأدب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب، فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه عليه، وإن صدر منه من الاغترار بمقالته ، فلا حرج عليه ، وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول: "كذب فلان".
ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كذب أبو السنابل" لما بلغه أنه أفتى: أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا لا تحل بوضع الحمل حتى يمضي عليها أربعة أشهر وعشرًا.
وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردها أبلغ الرد ، كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردها عليهم، هذا كله حكم الظاهر. وأما في باطن الأمر؛ فإن مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته، فلا ريب أنه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم وسواء كان الذي بين خطؤه صغيرًا أو كبيرًا، وله أسوة بمن رد من العلماء مقالات "ابن عباس" التي شذ بها وأنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك.
ثم قال -رحمه الله-: إن العلماء ردوا مقالات لمثل "سعيد بن المسيب" و"الحسن" و"عطاء" و"طاووس" و"علي" وغيرهم ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها ، طعنًا في هؤلاء الأئمة ولا عيبًا لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين خطأ هذه المقالات وما أشبهها مثل: كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات، وما كان بمثابتها، شيء كثير، ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جدًا.
وأما إن كان مراد الراد بذلك إظهار العيب على من رد عليه وتنقصه وتبيين جهله ، وقصوره في العلم ونحو ذلك ، كان محرمًا ، سواء كان رده لذلك في وجه من رد عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته وهذا داخل فيما ذمه الله في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز وداخل أيضًا في قول النبي
-صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".
وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم".اهـ بتصرف
ومن عرف منه أنه أراد برده على العلماء النصيحة لله ورسوله فإنه يجب أن يعامل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان ومن عرف أنه أراد برده عليهم التنقيص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة.اهـ
خامسًا : وأما العلماء فمن أخطأ منهم وجب بيان خطئه ، وهذا من النصيحة ، وليس من الغيبة، لأن الغيبة تجوز فى مواضع، كما قيل:
القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةِ : **** متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرِ
ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكرِ
ولقد أجمع السلف - رضوان الله عليهم - على نقد وجرح المجروحين من المبتدعين والمنحرفين، فتحذير المسلمين من الشر ونصحهم، أصل من أصول هذا الدين وواجب بإجماع المسلمين، فهذا النبى - صلى الله عليه وسلم - قد جرح وعدّل فقال فى باب الجرح: "بئس أخو العشيرة" ، "ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا" ، "إنك امرؤ فيك جاهلية" ، "أفتان أنت يا معاذ" ، "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه" ، "وقالت هند بحضرته: إن أبا سفيان رجل شحيح" ، "وذكر الخوارج محذرًا منهم" ، "وذكر أهل الأهواء والبدع وأنهم سبب افتراق هذه الأمة".
"ومن استقرأ حال السلف الصالح –رضوان الله عليهم– فى حالهم وترحالهم، وجد أنهم قد رفعوا قواعد الرد على المخالف على أصل النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وقد ذكر النووي وابن تيمية الإجماع على جرح الرواة والشهود إذا كانوا مجروحين، وأجمع المسلمون على أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول اليه إلا بها، وهل هناك غرض أشرف من الذب عن الدين والدفاع عن شريعة سيد المرسلين.
قال ابن تيمية: " واذا كان النصح واجبًا فى المصالح الدينية الخاصة والعامة: مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون؛ كما قال يحيى بن سعيد:" سألت مالكًا والثوري والليث بن سعد –أظنه– والأوزاعي عن الرجل يتهم فى الحديث، أو لا يحفظ؟ فقالوا: بيّن أمره، وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: إنه يثقل عليّ أن أقول: فلان كذا، فلان كذا؟ فقال: اذا سكت أنت وسكت أنا؛ فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!" ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أحب إليك؛ أو يتكلم فى أهل البدع؟ فقال: "إذا قام وصلّى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم فى أهل البدع؛ فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل".
وقال: "فبيّن أن نفع هذا عامٌ للمسلمين فى دينهم، من جنس الجهاد فى سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء، لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين، إلا تبعاً، وأما أولئك، فهم يفسدون القلوب ابتداء".اهـ
سادسًا: فالفرق بين النصيحة للحكام والنصيحة للعلماء، أن الحكام ينصحوا وفق قواعد شرعية وضوابط مرعية حفاظًا على الاجتماع والائتلاف وحذرًا من الفرقة والاختلاف، أما العلماء فليسوا كذلك ولا يترتب على خطئهم شىء تخشى عواقبه كالذى يترتب على فعل ذلك مع الحكام، وأيضًا هؤلاء الحكام إنما يفسدون القلوب وما فيها من الدين تبعًا، أما العلماء فهم يفسدون القلوب ابتداء، فالشريعة جاءت بالتفريق بين المسألتين، وعلى هذا جرى عمل السلف.
سابعًا: فإن قيل لماذا لا تظهرون أخطاء الحكام؟
قلنا: هذا الإظهار والتشهير خلاف السنة وخلاف منهج السلف الصالح.
وإن قيل لماذا تظهرون أخطاء العلماء؟! قلنا: لأن السنة جاءت بهذا، وجرى عليه عمل السلف -رضي الله عنهم-، ونحن فى هذا كله نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع، ورحم الله السلف فإنهم عن علم تكلموا وببصر نافذ كفوا.
ثامنًا: خطأ العالم ينسب إلى الدين في حين أن خطأ الحاكم لا ينسب إلى الدين، فالأول ضرره أعظم من الثاني.
تاسعًا: أما خطأ بقية الناس من غير الحكام والعلماء فلا يجوز إظهار الخطأ فى حقهم من غير مطلب شرعي أو حاجة ضرورية، وقد ذكرنا آنفًا أن بعض العلماء قد جمع ذلك فى بيتين ذكر فيهما الأسباب المبيحة للغيبة.
قال النووي فى رياض الصالحين: (باب ما يباح من الغيبة)
"اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهوستة أسباب ...... ثم قال:
الأول: التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم للسلطان والقاضي وغيرهما، ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه.
الثانى: الاستعانة على تغيير منكر ورد العاصي إلى الصواب.
الثالث: الاستفتاء: فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو فلان بكذا.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم: ومنها؛ جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه وبدعته.
السادس: التعريف: فإذا كان الإنسان معرفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم، جاز تعريفهم بذلك.
ثم قال: " فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء، وأكثرها مجمع عليه ودلائلها من الأحاديث الصحيح مشهورة ".اهـ بتصرف
فظهر مما سبق أن قول السائل (إنكم تسكتون عن أخطاء الحكام) كلام فيه إجمال فيحتاج إلى تفصيل وهو:
إن كنت تقصد السكوت المطلق فهذا خطأ محض.
وإن كنت تقصد: لماذا لا تشهرون وتهيجون العوام على أخطاء الحكام؛ فهذا الذي سبق جوابه، والله أعلم.
هذا ما تيسر سطره ، وأسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
(وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم )