بسم الله الرحمن الرحيم
سبق لي أن نقلت لكن أقوال العلماء عن المذهب الحديثي الخطير المبتدع، والذي يتزعمه حمزة المليباري وعبد الله السعد ومصطفى العدوي والطريفي وغيرهم، وتأثر بسمه جمع كبير من طلاب العلم المصريين والسعوديين وغيرهم، وإتماما لما سبق ... هذا قول للشيخ العلامة المحقق محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله، في المذهب الحديثي، الذي يدعو إليه حمزة المليباري وآخرون، الذي يفرق بين العلماء المتقدمين والمتأخرين في الحديث، وهو مقتطف من كتاب " روافد حديثية "، من صفحة 34 الطبعة الأولى سنة 1427 هـ :
.. وقضية الاصطلاح في علم الحديث بُني عليها بعض المفاهيم، وجعلت منطلقا لقضايا فيها نظر، ومن ذلك:
1- منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين.
2- تطوير المصطلحات.
والقضيتان متداخلتان ! فأقول مستعينا بالله:
قضية منهج المتقدمين والمتأخرين:
لفظة المتقدمين والمتأخرين ليست خاصة بعلم الحديث، ففي كل علم هناك علماء وأئمة متقدمون ومتأخرون، هذه واحدة !
وهي كلمة نسبية تذكر لكل من تقدم بالنسبة لغيره ممن تأخر عنه، وإن لم يكن في عصر الأئمة الكبار، فابن حجر ( ت 852 هـ ) والسخاوي ( ت 902 هـ ) والسيوطي ( ت 911 هـ ) – رحمهم الله – من المتقدمين بالنسبة لنا، وهم متأخرون بالنسبة لمن قبلهم (1)، وهذه الثانية. [ 1: وقد رأيت العراقي ( 806 هـ ) رحمه الله في كتابه التقييد والإيضاح ( ص 183)، يتعقب قول ابن الصلاح ( ت 643 هـ ) رحمه الله، عن الإجازة لغير المعين بوصف العموم، فيقول العراقي: وإن المصنف ذكر أنه لم يَرَ ولم يسمع أن أحداً ممن يقتدى به روى بها، وقد أحسن من وقف عند ما انتهى إليه، ومع هذا فقد روى بها بعض الأئمة المتقدمين على ابن الصلاح كالحافظ أبي بكر محمد بن خير بن عمر الأموي – بفتح الهمزة - ، الإشبيلي خال أبي القاسم السهيلي ... " اه .
قلت: فانظر كيف ذكر أن ابن الخير من المتقدمين بالنسبة لابن الصلاح ! ]
والمقصود بهذه اللفظة هنا أئمة علم الحديث كمالك ( ت 179 هـ ) وابن مهدي ( ت 198 هـ ) وابن معين ( ت 233 هـ ) وعلي بن المديني ( 234 هـ ) والشافعي ( ت 204 هـ ) وأحمد بن حنبل ( 241 هـ )، وغيرهم ممن هو من بابتهم !
وقد اختلف المغالون في منهج المتقدمين ما هو الحد الزمني للمتقدمين !
فقيل: الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو القرن الثالث، بناءً على كلمة أطلقها الذهبي ( ت 748 هـ ) رحمه الله في مقدمة كتابه " ميزان الاعتدال " ! ولا متمسك لهؤلاء في هذه الكلمة، إذ مراد الذهبي تحديد الحد الفاصل بين الرواة الذين عليهم تدور الأسانيد التي في الكتب الحديثية، مادة كتابه، ويُحتاج إلى بيان حالهم جرحا وتعديلا، وتوظيف هذه العبارة في قضية المتقدمين والمتأخرين توظيف لها في غير محلها.
وقيل: الحد الفاصل بين المتقد والمتأخر هو الزمن الذي كانت تورد فيه الأسانيد في الكتب، وآخر هذا زمن الخطيب، ( ت 463 هـ ) رحمه الله.
وقد تجد في قوة كلام من يتبنى منهج المتقدمين والمتأخرين أنه يعني بالمتقدمين العلماء الذين يستقلون في الكلام على الحديث وعلله مع سعة دائرتهم في معرفة الطرق والأسانيد والعلل.
وعلى كل حال، فإن هذه القضية – أعني: قضية المتقدمين والمتأخرين – يقررها الواقع، إذ كل ممارس لعلم الحديث يلحظ أن بعض كلام المتقدمين لا ينطبق تماما مع ما هو مشهور مقرر في كتب علوم الحديث التي استقر فيها العلم على قواعد وأصول معروفة متداولة ! بل ويجد من أهل العلم من يصرح أن هذا الاصطلاح خلاف ما جرى عند بعض أئمة الحديث المتقدمين، خذ مثلاً:
قال العراقي ( ت 806 هـ )رحمه الله ذاكراً اعتراض بعضهم على ابن الصلاح، بأنه لم يشر إلى الخلاف في الاصطلاح في مسألة، فقال حاكيا الاعتراض: ثم أجاب عليه، قال: " إن ما نقله – يعني ابن الصلاح – عن أهل الحديث من كون الحديث ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة ليس بجيد، فإن بعضهم يقسمه إلى قسمين فقط: صحيح وضعيف. وقد ذكر المصنف هذا الخلاف في النوع الثاني في التاسع من التفريعات المذكورة فيه فقال: من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في نوع ما يحتج به، قال: وهو الظاهر من كلام أبي عبد الله الحاكم ( ت 405 هـ ) في تصرفاته إلى آخر كلامه، فكان ينبغي الاحتراز عن الخلاف هنا !
والجواب: أن ما نقله المصنف عن أهل الحديث قد نقله الخطابي عنهم في خطبة معالم السنن، فقال: اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم، ولم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه ذلك، وإن كان في كلام المتقدمين من ذكر الحسن، وهو موجود في كلام الشافعي ( ت 204 هـ ) رضي الله عنه، والبخاري ( ت 256 هـ ) وجماعة، ولكن الخطابي ( ت 388 هـ ) نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه المصنف على ذلك هنا، ثم حكى الخلاف في الموضع الذي ذكره فلم يهمل حكاية الخلاف، والله أعلم " اهـ [ التقييد والإيضاح، ص 19].
وقال ابن حجر ( ت 852 هـ ): والظاهر أن قوله – يعني ابن الصلاح في تعريفه للحديث الصحيح - : " عند أهل الحديث "، من العام الذي أريد به الخصوص، أي: الأكثر أو الذي استقر اتفاقهم عليه بعد الاختلاف. [ نقله في تدريب الراوي، 1/63].
واعترض ابن كثير ( ت 773 هـ ) رحمه الله على تقسيم ابن الصلاح الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فقال: هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح وضعيف، وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك، كما قد ذكره آنفاً هو وغيره أيضاً. [ اختصار علوم الحديث ص 31 ].
فتعقبه السيوطي ( ت 911 هـ ) بقوله: وجوابه أن المراد الثاني والكل راجع إلى هذه الثلاثة. [ تدريب الراوي 1/63 ].
قلت: فنظر – رحمك الله – إلى هذا التحرير حول مصطلح الصحيح، والحسن، وتقسيم الحديث إلى الأقسام الثلاثة، كيف حرروا هل هو من تقسيم علماء الحديث أو لا ؟ وهل الحسن من اصطلاحهم أو لا ؟ وهل تحكم ابن الصلاح في ذلك أو لا .
وهذا الواقع هو في حقيقته اختلاف في الاصطلاح بين المتقدمين والمتأخرين، ولا يحتاج إلى أكثر من التنبيه على ذلك عند تطبيق مسائل الحديث والجرح والتعديل، وعند التعامل مع عبارات الأئمة من أجل الوقوف على مرادهم وفهمه.
وقد يغلو بعض الناس في فهم هذا الواقع، فيبني على ما يلحظه من خلاف بين المتقدمين والمتأخرين: وجوب طرح كلام المتأخرين، وقد يمعن في تقرير ذلك فيقول: بما أن المتقدمين هم أئمة الفن فالرجوع إلى عباراتهم والوقوف على تقريراتهم هو الأصل، إذ هم طريق هذا العلم وعلى ألفاظهم وعباراتهم يقوم هذا العلم ومنه يستمد أغلب قواعده وأصوله !
وقد يزيد بعضهم الأمر فينادي بإعادة كتابة قواعد المصطلح بناء على كلام المتقدمين !
وقد يزيد بعضهم غلوّاً فيقول: لا يحق لنا إذا صحح أحد من المتقدمين حديثاً أن نخالفه فنضعفه، وكذا إذا ضعف أحد من المتقدمين حديثاً أن نخالفه فنصححه، بل غاية ما نستطيعه الترجيح بين كلامهم عند الاختلاف، بل قد تجد من يقول: يسوغ عند اختلافهم الأخذ بالقولين، فيجوِّز الأخذ بالقول ونقيضه !!
والواقع هو ما قدمته لك من أن المتأخرين حاولوا التقعيد للاصطلاح العام، ولم يخرجوا في ذلك عما قرره المتقدمون، مع تنبيههم على المصطلح الخاص إن وجد !
وعلى هذا فإن ما يبنيه بعضهم على التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين من إهدار لكلام المتأخرين، أو غلق لباب الكلام على الأحاديث التي تكلموا عليها، هذا البناء غلو وأمر غير مرغوب فيه، وهو في حقيقته كلمة حق أريد بها باطل، إذ الدعوة إلى دراسة منهج المتقدمين في علوم الحديث دعوة صحيحة في أصلها، وينبغي أن تأخذ محلها من الاعتبار لدى الباحثين بلا إفراط أو تفريط.
فلا محل لتوظيف هذه الدعوة لاطراح علم الحديث جملة وتفصيلاً بحسب تقعيدات المتأخرين ! أو طرح كلام ابن الصلاح أو كلام ابن حجر ! فإن هذا لا يرضاه من أنصف ! كما أنه لإنكار فائدة بل وأهمية دراسة مناهج المتقدمين في مسائل العلم عموماً، وفي مسائل الحديث خصوصاً!
ولا ينكر هذا إلا من أشرب قلبه التعصب والتقليد المحض الذي قد يصل عند بعضهم إلى ما يشبه اعتقاد العصمة فيمن يقلده ! ولست أشك أن التوسط في القضية أن تكون قواعد علوم الحديث المقررة محل اعتماد، وأن يفتح الباب على مصراعيه للدرس والاستنباط والنظر المبني على الاستقراء التام، وآلة علمية صحيحة والاستفادة مما ينتج من ذلك في تقييد قواعد العلم وإيضاحها بل وإبطال ما قام الدليل على بطلانه من فُهومِنا غير المستقيمة على نتائج هذا الدرس والنظر !
وقد سبقت كلمة الذهبي رحمه الله حيث قال: نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة. ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام: عُرْف ذلك الإمام الجهبذ، واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة. [ الموقظة ص 83 ].
فالموقف الوسط بلا إفراط أو تفريط – وهو منهج البحث في علوم الحديث – يقوم على أساس:
- اعتماد ما جاء في كتب علم الحديث مما قرره العلماء، والبناء عليه والاستفادة منه في فهم كلام الأئمة المتقدمين في علم الحديث !
- تشجيع الدراسات المبنية على الاستقراء التام أو الأغلبي، مع صحة الآلة العلمية للاستنباط !
دون أن نفصل إحداهما عن الأخرى ! فنبدأ من حيث انتهوا، ونبني على ما أصلوا، متممين في بنائهم ما يحتاج إلى تتميم !
ولا أجدني قادراً على تجاوز هذا الموضع قبل تقرير وبيان أن الدعوة إلى منهج المتقدمين بمعنى عدم اعتماد تقريرات ابن الصلاح ومن بعده من العلماء في علوم الحديث، وإهمالها، بدعوى أنها لا تمثل ما عليه أئمة الحديث، وأنها مليئة بتحكم وتطوير في مصطلح الأئمة، وأن علينا تقعيد علوم الحديث بناء على الاستقراء التام لعباراتهم، أقول: لا أجدني قادراً على تجاوز ذلك قبل التدليل على بطلانه.
ومن الأدلة على بطلانه أن هذا الأمر يخالف المسلمات التالية:
المسلمة الأولى: أن الاشتغال بالحاصل تحصيل حاصل !
وتوضيح ذلك: أن العمل الذي قال به ابن الصلاح والعلماء من بعده، هو خلاصة استقرائهم وتتبعهم، وتقعيدهم مبني على أصول علمية صحيحة، فالدعوة إلى الاستقراء وتقعيد القواعد، هي عودة إلى تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل لا فائدة فيه ! بل هو إهدار للجهد، وإضاعة للوقت بما لا ينفع !
فإن قيل: وماذا يمنع من أن نستقرئ كلام المتقدمين ونقعد القواعد من كلامهم مباشرة ؟
فالجواب: يمنع من ذلك الأمور التالية:
1- أنه تحصيل حاصل كما تقدم ! ودخول من باب لا تنتهي قضيته، فأنت تزعم أنك تستقرئ وتقعد، يأتي آخر لا يرضى ما قعدته ولا استقراءك فيعيد العملية لأنك متأخر، وهكذا بعد، وهذا كله جهد ضائع، لا مبرر له !
2- أن استقراءنا مهما زعمنا ناقص، إذا هناك كتب ومصادر علمية يذكرها ابن الصلاح في كتابه ولم نقف عليها إلى اليوم ! فمن أين لنا الاستقراء التام المزعوم أو حتى الأغلبي !
3- أننا لو خيرنا أدنى طلبة العلم بين قواعد يقعدها ناس في عصرنا هذا وبين قواعد قعدها العلماء وجروا عليها أجيالاً كثيرة مع التحرير والتدقيق، فإنهم بلا شك سيختارون الجري على القواعد المقررة ولا القواعد المحدثة !
نعم، استقرئ وتتبع بحسب ما بين يديك، وابدأ من حيث انتهى غيرك، فعسى أن تكمل نقصاً وقع في كلامه، أو توضح مبهماً جاء في عباراته، أو تقيد مطلقاً جاء بيانه!
المسلمة الثانية: ما كان لازمه باطل فهو باطل !
ويوضح هذا هنا: أن هذه الدعوة إلى طرح ما قرره العلماء من ابن الصلاح إلى اليوم، جملة وتفصيلاً، والعودة إلى استقراء لكلام أئمة الحديث والتقعيد مرة ثانية، تستلزم إلغاء جميع أحكام العلماء على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، من بعد ابن الصلاح إلى يومنا، وهذا هدم للدين، وإضاعة للسنة ! [ وقد نقل لي أحد الفضلاء أنه قرأ على الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله شيئا مما قرره بعضهم حول هذا المعنى يدعو فيه إلى صياغة علوم الحديث، وتقعيدها على أساس كلام المتقدمين، فلما سمع الشيخ هذا قال: هذا هدم للسنة ! أو قال كلمة نحوها، وقد اشتهرت هذه الكلمة عن الشيخ حماد رحمه الله في حق هؤلاء ].
المسلمة الثالثة: العبرة بالمآل، وعواقب الأمور وخواتيمها !
وذلك أن هذا القول سيؤول إلى خلل كبير، إذ لا يعود أصحابه قادرين على الحكم على حديث ما بالتصحيح أو التضعيف، خاصة عندما يختلف كلام الأئمة المتقدمين في حديث ما، أو لم يضبط مصطلحا ما لهم، فما صححه فلان ضعيف عند فلان، وهذه العبارة من فلان بهذا المعنى عند فلان وبهذا المعنى عند الآخر ! فالذي عنده غير الذي عندك !
ومعلوم أن شعب السفطسة، هي: العندية، والعنادية، واللا أدرية، ومآل هذا القول: إما إلى العناد في إثبات ما يظنونه من الحقائق، على سبيل " عنزة ولو طارت " ! وإما إلى العندية، فكل واحد منهم عنده من فهم الحقائق والمراد منها ما لي عند الآخر، وكلٌّ راضٍ بما عنده، فهذا الحق عندك وهذا الحق عندنا في المسألة الواحدة !
وأما اللا أدرية فجواب كل شيء عندها: " لا أدري ممكن كذا وممكن كذا "! وكفى بهذا سفسطة ونفياً للحقائق!
المسلمة الخامسة: أن الأمة لا تجتمع على ضلالة !
وتوضيح ذلك: أن الحكم باختلال قواعد علم الحديث التي قعدها ابن الصلاح رحمه الله، مستقرئاً لها من كلام أئمة الحديث، متبعاً تقريراتهم وكلامهم على الرواة والأحاديث، مقتدياً بمن سبقه إلى هذا كأبي عبد الله الحاكم والخطيب البغدادي، وسار عليها العلماء إلى يومنا هذا، حكم باجتماع الأمة على ضلالة، واتّهام للعلماء بالقصور والتقصير، وكفى بهذا جهلاً !
المسلمة السادسة: أن لا قدح فيما تبرئ منه !
وذلك أنك لو نظرت في الحجج التي يوردها من زعم أن ابن الصلاح ومن بعده من العلماء لم يحسنوا تقعيد العلم على أصول وقواعد علم الحديث التي تبنى على كلام المتقدمين لوجدت منها:
- تهمتهم بإدخال مسائل في علم الحديث هي ليست منه! كإدخالهم مبحث المتواتر في علوم الحديث، وهو ليس منها، لأن المتواتر لا يبحث عن رجاله!
والواقع أنه لا محل للاعتراض أو القدح هنا، لأن ابن الصلاح ومن تبعه من العلماء تبرءوا من ذلك، ونبهوا إلى إدراكهم هذه الأمور.
فبالنسبة إلى المتواتر نبَّه ابن الصلاح إلى أنه ليس مما تشمله صناعة الحديث، وذلك في كتابه علوم الحديث في النوع الموفي الثلاثين، حيث قال رحمه الله: ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه. [ علوم الحديث ص 267 ].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل – يعني: في متن نخبة الفكر – لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يُترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث. [ نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر / العتر ( ص 41 - 42 ) ].
قلت: فكيف يُجعل ذكر المتواتر في كتب علوم الحديث دليلاً على أنهم لم يلتزموا بكلام المتقدمين، والحال أنهم تبرءوا من عهدة نسبته إلى علوم الحديث، وإنما ذكروه من أجل بيان القسمة والصورة التي يقع عليها النقل، وتحرير النقل الذي هو موضوع علم الحديث.
يتبع
سبق لي أن نقلت لكن أقوال العلماء عن المذهب الحديثي الخطير المبتدع، والذي يتزعمه حمزة المليباري وعبد الله السعد ومصطفى العدوي والطريفي وغيرهم، وتأثر بسمه جمع كبير من طلاب العلم المصريين والسعوديين وغيرهم، وإتماما لما سبق ... هذا قول للشيخ العلامة المحقق محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله، في المذهب الحديثي، الذي يدعو إليه حمزة المليباري وآخرون، الذي يفرق بين العلماء المتقدمين والمتأخرين في الحديث، وهو مقتطف من كتاب " روافد حديثية "، من صفحة 34 الطبعة الأولى سنة 1427 هـ :
.. وقضية الاصطلاح في علم الحديث بُني عليها بعض المفاهيم، وجعلت منطلقا لقضايا فيها نظر، ومن ذلك:
1- منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين.
2- تطوير المصطلحات.
والقضيتان متداخلتان ! فأقول مستعينا بالله:
قضية منهج المتقدمين والمتأخرين:
لفظة المتقدمين والمتأخرين ليست خاصة بعلم الحديث، ففي كل علم هناك علماء وأئمة متقدمون ومتأخرون، هذه واحدة !
وهي كلمة نسبية تذكر لكل من تقدم بالنسبة لغيره ممن تأخر عنه، وإن لم يكن في عصر الأئمة الكبار، فابن حجر ( ت 852 هـ ) والسخاوي ( ت 902 هـ ) والسيوطي ( ت 911 هـ ) – رحمهم الله – من المتقدمين بالنسبة لنا، وهم متأخرون بالنسبة لمن قبلهم (1)، وهذه الثانية. [ 1: وقد رأيت العراقي ( 806 هـ ) رحمه الله في كتابه التقييد والإيضاح ( ص 183)، يتعقب قول ابن الصلاح ( ت 643 هـ ) رحمه الله، عن الإجازة لغير المعين بوصف العموم، فيقول العراقي: وإن المصنف ذكر أنه لم يَرَ ولم يسمع أن أحداً ممن يقتدى به روى بها، وقد أحسن من وقف عند ما انتهى إليه، ومع هذا فقد روى بها بعض الأئمة المتقدمين على ابن الصلاح كالحافظ أبي بكر محمد بن خير بن عمر الأموي – بفتح الهمزة - ، الإشبيلي خال أبي القاسم السهيلي ... " اه .
قلت: فانظر كيف ذكر أن ابن الخير من المتقدمين بالنسبة لابن الصلاح ! ]
والمقصود بهذه اللفظة هنا أئمة علم الحديث كمالك ( ت 179 هـ ) وابن مهدي ( ت 198 هـ ) وابن معين ( ت 233 هـ ) وعلي بن المديني ( 234 هـ ) والشافعي ( ت 204 هـ ) وأحمد بن حنبل ( 241 هـ )، وغيرهم ممن هو من بابتهم !
وقد اختلف المغالون في منهج المتقدمين ما هو الحد الزمني للمتقدمين !
فقيل: الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو القرن الثالث، بناءً على كلمة أطلقها الذهبي ( ت 748 هـ ) رحمه الله في مقدمة كتابه " ميزان الاعتدال " ! ولا متمسك لهؤلاء في هذه الكلمة، إذ مراد الذهبي تحديد الحد الفاصل بين الرواة الذين عليهم تدور الأسانيد التي في الكتب الحديثية، مادة كتابه، ويُحتاج إلى بيان حالهم جرحا وتعديلا، وتوظيف هذه العبارة في قضية المتقدمين والمتأخرين توظيف لها في غير محلها.
وقيل: الحد الفاصل بين المتقد والمتأخر هو الزمن الذي كانت تورد فيه الأسانيد في الكتب، وآخر هذا زمن الخطيب، ( ت 463 هـ ) رحمه الله.
وقد تجد في قوة كلام من يتبنى منهج المتقدمين والمتأخرين أنه يعني بالمتقدمين العلماء الذين يستقلون في الكلام على الحديث وعلله مع سعة دائرتهم في معرفة الطرق والأسانيد والعلل.
وعلى كل حال، فإن هذه القضية – أعني: قضية المتقدمين والمتأخرين – يقررها الواقع، إذ كل ممارس لعلم الحديث يلحظ أن بعض كلام المتقدمين لا ينطبق تماما مع ما هو مشهور مقرر في كتب علوم الحديث التي استقر فيها العلم على قواعد وأصول معروفة متداولة ! بل ويجد من أهل العلم من يصرح أن هذا الاصطلاح خلاف ما جرى عند بعض أئمة الحديث المتقدمين، خذ مثلاً:
قال العراقي ( ت 806 هـ )رحمه الله ذاكراً اعتراض بعضهم على ابن الصلاح، بأنه لم يشر إلى الخلاف في الاصطلاح في مسألة، فقال حاكيا الاعتراض: ثم أجاب عليه، قال: " إن ما نقله – يعني ابن الصلاح – عن أهل الحديث من كون الحديث ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة ليس بجيد، فإن بعضهم يقسمه إلى قسمين فقط: صحيح وضعيف. وقد ذكر المصنف هذا الخلاف في النوع الثاني في التاسع من التفريعات المذكورة فيه فقال: من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في نوع ما يحتج به، قال: وهو الظاهر من كلام أبي عبد الله الحاكم ( ت 405 هـ ) في تصرفاته إلى آخر كلامه، فكان ينبغي الاحتراز عن الخلاف هنا !
والجواب: أن ما نقله المصنف عن أهل الحديث قد نقله الخطابي عنهم في خطبة معالم السنن، فقال: اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم، ولم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه ذلك، وإن كان في كلام المتقدمين من ذكر الحسن، وهو موجود في كلام الشافعي ( ت 204 هـ ) رضي الله عنه، والبخاري ( ت 256 هـ ) وجماعة، ولكن الخطابي ( ت 388 هـ ) نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه المصنف على ذلك هنا، ثم حكى الخلاف في الموضع الذي ذكره فلم يهمل حكاية الخلاف، والله أعلم " اهـ [ التقييد والإيضاح، ص 19].
وقال ابن حجر ( ت 852 هـ ): والظاهر أن قوله – يعني ابن الصلاح في تعريفه للحديث الصحيح - : " عند أهل الحديث "، من العام الذي أريد به الخصوص، أي: الأكثر أو الذي استقر اتفاقهم عليه بعد الاختلاف. [ نقله في تدريب الراوي، 1/63].
واعترض ابن كثير ( ت 773 هـ ) رحمه الله على تقسيم ابن الصلاح الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فقال: هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح وضعيف، وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك، كما قد ذكره آنفاً هو وغيره أيضاً. [ اختصار علوم الحديث ص 31 ].
فتعقبه السيوطي ( ت 911 هـ ) بقوله: وجوابه أن المراد الثاني والكل راجع إلى هذه الثلاثة. [ تدريب الراوي 1/63 ].
قلت: فنظر – رحمك الله – إلى هذا التحرير حول مصطلح الصحيح، والحسن، وتقسيم الحديث إلى الأقسام الثلاثة، كيف حرروا هل هو من تقسيم علماء الحديث أو لا ؟ وهل الحسن من اصطلاحهم أو لا ؟ وهل تحكم ابن الصلاح في ذلك أو لا .
وهذا الواقع هو في حقيقته اختلاف في الاصطلاح بين المتقدمين والمتأخرين، ولا يحتاج إلى أكثر من التنبيه على ذلك عند تطبيق مسائل الحديث والجرح والتعديل، وعند التعامل مع عبارات الأئمة من أجل الوقوف على مرادهم وفهمه.
وقد يغلو بعض الناس في فهم هذا الواقع، فيبني على ما يلحظه من خلاف بين المتقدمين والمتأخرين: وجوب طرح كلام المتأخرين، وقد يمعن في تقرير ذلك فيقول: بما أن المتقدمين هم أئمة الفن فالرجوع إلى عباراتهم والوقوف على تقريراتهم هو الأصل، إذ هم طريق هذا العلم وعلى ألفاظهم وعباراتهم يقوم هذا العلم ومنه يستمد أغلب قواعده وأصوله !
وقد يزيد بعضهم الأمر فينادي بإعادة كتابة قواعد المصطلح بناء على كلام المتقدمين !
وقد يزيد بعضهم غلوّاً فيقول: لا يحق لنا إذا صحح أحد من المتقدمين حديثاً أن نخالفه فنضعفه، وكذا إذا ضعف أحد من المتقدمين حديثاً أن نخالفه فنصححه، بل غاية ما نستطيعه الترجيح بين كلامهم عند الاختلاف، بل قد تجد من يقول: يسوغ عند اختلافهم الأخذ بالقولين، فيجوِّز الأخذ بالقول ونقيضه !!
والواقع هو ما قدمته لك من أن المتأخرين حاولوا التقعيد للاصطلاح العام، ولم يخرجوا في ذلك عما قرره المتقدمون، مع تنبيههم على المصطلح الخاص إن وجد !
وعلى هذا فإن ما يبنيه بعضهم على التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين من إهدار لكلام المتأخرين، أو غلق لباب الكلام على الأحاديث التي تكلموا عليها، هذا البناء غلو وأمر غير مرغوب فيه، وهو في حقيقته كلمة حق أريد بها باطل، إذ الدعوة إلى دراسة منهج المتقدمين في علوم الحديث دعوة صحيحة في أصلها، وينبغي أن تأخذ محلها من الاعتبار لدى الباحثين بلا إفراط أو تفريط.
فلا محل لتوظيف هذه الدعوة لاطراح علم الحديث جملة وتفصيلاً بحسب تقعيدات المتأخرين ! أو طرح كلام ابن الصلاح أو كلام ابن حجر ! فإن هذا لا يرضاه من أنصف ! كما أنه لإنكار فائدة بل وأهمية دراسة مناهج المتقدمين في مسائل العلم عموماً، وفي مسائل الحديث خصوصاً!
ولا ينكر هذا إلا من أشرب قلبه التعصب والتقليد المحض الذي قد يصل عند بعضهم إلى ما يشبه اعتقاد العصمة فيمن يقلده ! ولست أشك أن التوسط في القضية أن تكون قواعد علوم الحديث المقررة محل اعتماد، وأن يفتح الباب على مصراعيه للدرس والاستنباط والنظر المبني على الاستقراء التام، وآلة علمية صحيحة والاستفادة مما ينتج من ذلك في تقييد قواعد العلم وإيضاحها بل وإبطال ما قام الدليل على بطلانه من فُهومِنا غير المستقيمة على نتائج هذا الدرس والنظر !
وقد سبقت كلمة الذهبي رحمه الله حيث قال: نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة. ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام: عُرْف ذلك الإمام الجهبذ، واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة. [ الموقظة ص 83 ].
فالموقف الوسط بلا إفراط أو تفريط – وهو منهج البحث في علوم الحديث – يقوم على أساس:
- اعتماد ما جاء في كتب علم الحديث مما قرره العلماء، والبناء عليه والاستفادة منه في فهم كلام الأئمة المتقدمين في علم الحديث !
- تشجيع الدراسات المبنية على الاستقراء التام أو الأغلبي، مع صحة الآلة العلمية للاستنباط !
دون أن نفصل إحداهما عن الأخرى ! فنبدأ من حيث انتهوا، ونبني على ما أصلوا، متممين في بنائهم ما يحتاج إلى تتميم !
ولا أجدني قادراً على تجاوز هذا الموضع قبل تقرير وبيان أن الدعوة إلى منهج المتقدمين بمعنى عدم اعتماد تقريرات ابن الصلاح ومن بعده من العلماء في علوم الحديث، وإهمالها، بدعوى أنها لا تمثل ما عليه أئمة الحديث، وأنها مليئة بتحكم وتطوير في مصطلح الأئمة، وأن علينا تقعيد علوم الحديث بناء على الاستقراء التام لعباراتهم، أقول: لا أجدني قادراً على تجاوز ذلك قبل التدليل على بطلانه.
ومن الأدلة على بطلانه أن هذا الأمر يخالف المسلمات التالية:
المسلمة الأولى: أن الاشتغال بالحاصل تحصيل حاصل !
وتوضيح ذلك: أن العمل الذي قال به ابن الصلاح والعلماء من بعده، هو خلاصة استقرائهم وتتبعهم، وتقعيدهم مبني على أصول علمية صحيحة، فالدعوة إلى الاستقراء وتقعيد القواعد، هي عودة إلى تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل لا فائدة فيه ! بل هو إهدار للجهد، وإضاعة للوقت بما لا ينفع !
فإن قيل: وماذا يمنع من أن نستقرئ كلام المتقدمين ونقعد القواعد من كلامهم مباشرة ؟
فالجواب: يمنع من ذلك الأمور التالية:
1- أنه تحصيل حاصل كما تقدم ! ودخول من باب لا تنتهي قضيته، فأنت تزعم أنك تستقرئ وتقعد، يأتي آخر لا يرضى ما قعدته ولا استقراءك فيعيد العملية لأنك متأخر، وهكذا بعد، وهذا كله جهد ضائع، لا مبرر له !
2- أن استقراءنا مهما زعمنا ناقص، إذا هناك كتب ومصادر علمية يذكرها ابن الصلاح في كتابه ولم نقف عليها إلى اليوم ! فمن أين لنا الاستقراء التام المزعوم أو حتى الأغلبي !
3- أننا لو خيرنا أدنى طلبة العلم بين قواعد يقعدها ناس في عصرنا هذا وبين قواعد قعدها العلماء وجروا عليها أجيالاً كثيرة مع التحرير والتدقيق، فإنهم بلا شك سيختارون الجري على القواعد المقررة ولا القواعد المحدثة !
نعم، استقرئ وتتبع بحسب ما بين يديك، وابدأ من حيث انتهى غيرك، فعسى أن تكمل نقصاً وقع في كلامه، أو توضح مبهماً جاء في عباراته، أو تقيد مطلقاً جاء بيانه!
المسلمة الثانية: ما كان لازمه باطل فهو باطل !
ويوضح هذا هنا: أن هذه الدعوة إلى طرح ما قرره العلماء من ابن الصلاح إلى اليوم، جملة وتفصيلاً، والعودة إلى استقراء لكلام أئمة الحديث والتقعيد مرة ثانية، تستلزم إلغاء جميع أحكام العلماء على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، من بعد ابن الصلاح إلى يومنا، وهذا هدم للدين، وإضاعة للسنة ! [ وقد نقل لي أحد الفضلاء أنه قرأ على الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله شيئا مما قرره بعضهم حول هذا المعنى يدعو فيه إلى صياغة علوم الحديث، وتقعيدها على أساس كلام المتقدمين، فلما سمع الشيخ هذا قال: هذا هدم للسنة ! أو قال كلمة نحوها، وقد اشتهرت هذه الكلمة عن الشيخ حماد رحمه الله في حق هؤلاء ].
المسلمة الثالثة: العبرة بالمآل، وعواقب الأمور وخواتيمها !
وذلك أن هذا القول سيؤول إلى خلل كبير، إذ لا يعود أصحابه قادرين على الحكم على حديث ما بالتصحيح أو التضعيف، خاصة عندما يختلف كلام الأئمة المتقدمين في حديث ما، أو لم يضبط مصطلحا ما لهم، فما صححه فلان ضعيف عند فلان، وهذه العبارة من فلان بهذا المعنى عند فلان وبهذا المعنى عند الآخر ! فالذي عنده غير الذي عندك !
ومعلوم أن شعب السفطسة، هي: العندية، والعنادية، واللا أدرية، ومآل هذا القول: إما إلى العناد في إثبات ما يظنونه من الحقائق، على سبيل " عنزة ولو طارت " ! وإما إلى العندية، فكل واحد منهم عنده من فهم الحقائق والمراد منها ما لي عند الآخر، وكلٌّ راضٍ بما عنده، فهذا الحق عندك وهذا الحق عندنا في المسألة الواحدة !
وأما اللا أدرية فجواب كل شيء عندها: " لا أدري ممكن كذا وممكن كذا "! وكفى بهذا سفسطة ونفياً للحقائق!
المسلمة الخامسة: أن الأمة لا تجتمع على ضلالة !
وتوضيح ذلك: أن الحكم باختلال قواعد علم الحديث التي قعدها ابن الصلاح رحمه الله، مستقرئاً لها من كلام أئمة الحديث، متبعاً تقريراتهم وكلامهم على الرواة والأحاديث، مقتدياً بمن سبقه إلى هذا كأبي عبد الله الحاكم والخطيب البغدادي، وسار عليها العلماء إلى يومنا هذا، حكم باجتماع الأمة على ضلالة، واتّهام للعلماء بالقصور والتقصير، وكفى بهذا جهلاً !
المسلمة السادسة: أن لا قدح فيما تبرئ منه !
وذلك أنك لو نظرت في الحجج التي يوردها من زعم أن ابن الصلاح ومن بعده من العلماء لم يحسنوا تقعيد العلم على أصول وقواعد علم الحديث التي تبنى على كلام المتقدمين لوجدت منها:
- تهمتهم بإدخال مسائل في علم الحديث هي ليست منه! كإدخالهم مبحث المتواتر في علوم الحديث، وهو ليس منها، لأن المتواتر لا يبحث عن رجاله!
والواقع أنه لا محل للاعتراض أو القدح هنا، لأن ابن الصلاح ومن تبعه من العلماء تبرءوا من ذلك، ونبهوا إلى إدراكهم هذه الأمور.
فبالنسبة إلى المتواتر نبَّه ابن الصلاح إلى أنه ليس مما تشمله صناعة الحديث، وذلك في كتابه علوم الحديث في النوع الموفي الثلاثين، حيث قال رحمه الله: ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه. [ علوم الحديث ص 267 ].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل – يعني: في متن نخبة الفكر – لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يُترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث. [ نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر / العتر ( ص 41 - 42 ) ].
قلت: فكيف يُجعل ذكر المتواتر في كتب علوم الحديث دليلاً على أنهم لم يلتزموا بكلام المتقدمين، والحال أنهم تبرءوا من عهدة نسبته إلى علوم الحديث، وإنما ذكروه من أجل بيان القسمة والصورة التي يقع عليها النقل، وتحرير النقل الذي هو موضوع علم الحديث.
يتبع
تعليق