بسم الله الرحمن الرحيم
عظم خطر تكفير المسلم وضوابطه عند أهل السنة
عظم خطر تكفير المسلم وضوابطه عند أهل السنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ التكفير حكم شرعي يستمد قوته ونفوذه من مرجعية الشريعة الإسلامية، فلا يترتب حكمه إلاّ على أساس ميزان الشرع القائم على الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمّة، فالتكفير-إذن- حق لله تعالى وحده وليس للعباد حق فيه، وتفريعا على هذا الأصل فإنّ أهل السنة والجماعة لا يكفرون إلاّ من قام الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على كفره، فلا يكفرون أحدا بمحض الهوى، فلا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والذنوب كما هو صنيع الخوارج، ولا يسلبون الفاسق الملي الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تفعله المعتزلة، وإنّما معتقد أهل السنة في صاحب الكبيرة والمعصية أنّه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم(١- انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية:(٣/١٥٢-١٥٣)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز:(٣٦٩/٣١٦)).
كما أنّ أهل السنة والجماعة لا يكفرون مخالفيهم لمجرد المخالفة، وإنّما يعتقدون في الفرق الثنتين والسبعين المخالفة لأهل السنة أنّ حكمهم هو حكم أهل الوعيد من أهل الكبائر والمعاصي من هذه الأمّة الذين لهم حكم الإسلام في الدنيا، وهم في الآخرة داخلون تحت مشيئة الله ، فإن شاء غفر لهم برحمته سبحانه وإن شاء عذبهم بعدله سبحانه، ثمّ مآلهم إلى الجنّة(٢- انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية:(٣/٣٤٨ وما بعدها ٧/٢١٧-٢١٨)).
وأهل السنة يفرقون بين الإطلاق والتعيين في إصدار حكم التكفير، فقد يكون الفعل أو المقالة كفرا لكن الشخص المعيّن الذي تلبّس بذلك الفعل أو تلك المقالة لا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها وحتى تزال عنه كلّ شبهة يمكن أن يعلق بها، فلا يشهدون على معيّن من أهل القبلة أنّه من أهل النّار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو لثبوت مانع(٣- المصدق السابق نفسه:(١٠/٣٧٠-٣٧٢)(٣٥/١٦٥-١٦٦))، فهم لا يكفرون إلاّ ببينة شرعية بعد النظر في توفر الأسباب وتحقق الشروط وانتفاء الموانع في حقه، كما أنّ أهل السنة والجماعة يفرقون بين من اجتهد لإصابة الحق فأخطأ فهو معذور وخطؤه مغفور، وبين من عاند بعدما تبين له الحق وبقي مصرا على مخالفة الأدلة والنصوص الشرعية فشاقّ الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين فصفة الكفر لاصقة بفاعله، وبين من قصّر في طلب الحق أو اتبع هواه فهو فاسق مذنب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: <وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنّه ليس كلّ من قال قولا أخطأ فيه أنّه يكفر، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كلّ مخطئ خلاف الإجماع>(٤- المصدر السابق:(٧/٦٨٥))، وقال -رحمه الله- في تقرير الأصل السابق: <وأمّا التكفير: فالصواب أنّه من اجتهد من أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وقصد الحق، فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطأه، ومن تبيّن له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصّر في طلب الحق، وتكلّم بلا علم فهو عاص مذنب، ثمّ قد يكون فاسقا، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته>(٥- المصدر السابق:(١٢/١٨٠)).
ومن مجمل أصول أهل السنة والجماعة المتقدمة يتجلى التوسط والاعتدال في هذه المسألة الدقيقة وفي سائر مسائل الاعتقاد التي ضلّت فيها كثير من الأفهام، وزلّت فيها كثير من الأقدام، ومن ممادح أهل السنة والجماعة الذين عصمهم الله تعالى فيها وهداهم إلى التوسط والاعتدال أنّهم يُخَطِئُون ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بكل ذنب، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، والنصوص من الآيات والأحاديث جاءت صراحة تحمي أعراض المؤمنين والمسلمين وتحمي دينهم، وتحذّر التحذير الشديد من تكفير أحد من المسلمين وهو ليس كذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُم السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾[النساء ٩٤]، وقال تعالى: ﴿وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَد احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَّإِثْماً مُّبِيناً﴾[الأحزاب ٥٨]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)(٦- أخرجه البخاري:(١٠/٤٦٤) في الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه)، ولأنّ إطلاق الكفر بغير حق على المؤمن لمز في الإيمان نفسه، بل إنّ سوء الظنّ بالمسلم والنيل منه محرّم فكيف يحكم بردته وتكفيره؟! فالواجب على المسلم -إذن- عدم الخوض في هذا الأمر الجلل من غير أن يكون ممكنا شرعيا لما في التكفير من عظيم أمره، وخطورة نتائجه وما يورثه من البلايا والرزايا، من جملتها استحلال دمه وماله، وفسخ العصمة بينه وبين زوجه، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة وراءه والصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾[الإسراء ٣٦]، فعلينا أن نجتنب الشر، ونقترب من الخير ونعمل على تحصيله، ونتحلى بالصلاح والتقوى فهو مقياس التفاضل، وميزان الرجال.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 15 ربيع الثاني 1426هـ
المـوافق لـ: 24 ماي 2005 م
فإنّ التكفير حكم شرعي يستمد قوته ونفوذه من مرجعية الشريعة الإسلامية، فلا يترتب حكمه إلاّ على أساس ميزان الشرع القائم على الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمّة، فالتكفير-إذن- حق لله تعالى وحده وليس للعباد حق فيه، وتفريعا على هذا الأصل فإنّ أهل السنة والجماعة لا يكفرون إلاّ من قام الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على كفره، فلا يكفرون أحدا بمحض الهوى، فلا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والذنوب كما هو صنيع الخوارج، ولا يسلبون الفاسق الملي الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تفعله المعتزلة، وإنّما معتقد أهل السنة في صاحب الكبيرة والمعصية أنّه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم(١- انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية:(٣/١٥٢-١٥٣)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز:(٣٦٩/٣١٦)).
كما أنّ أهل السنة والجماعة لا يكفرون مخالفيهم لمجرد المخالفة، وإنّما يعتقدون في الفرق الثنتين والسبعين المخالفة لأهل السنة أنّ حكمهم هو حكم أهل الوعيد من أهل الكبائر والمعاصي من هذه الأمّة الذين لهم حكم الإسلام في الدنيا، وهم في الآخرة داخلون تحت مشيئة الله ، فإن شاء غفر لهم برحمته سبحانه وإن شاء عذبهم بعدله سبحانه، ثمّ مآلهم إلى الجنّة(٢- انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية:(٣/٣٤٨ وما بعدها ٧/٢١٧-٢١٨)).
وأهل السنة يفرقون بين الإطلاق والتعيين في إصدار حكم التكفير، فقد يكون الفعل أو المقالة كفرا لكن الشخص المعيّن الذي تلبّس بذلك الفعل أو تلك المقالة لا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها وحتى تزال عنه كلّ شبهة يمكن أن يعلق بها، فلا يشهدون على معيّن من أهل القبلة أنّه من أهل النّار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو لثبوت مانع(٣- المصدق السابق نفسه:(١٠/٣٧٠-٣٧٢)(٣٥/١٦٥-١٦٦))، فهم لا يكفرون إلاّ ببينة شرعية بعد النظر في توفر الأسباب وتحقق الشروط وانتفاء الموانع في حقه، كما أنّ أهل السنة والجماعة يفرقون بين من اجتهد لإصابة الحق فأخطأ فهو معذور وخطؤه مغفور، وبين من عاند بعدما تبين له الحق وبقي مصرا على مخالفة الأدلة والنصوص الشرعية فشاقّ الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين فصفة الكفر لاصقة بفاعله، وبين من قصّر في طلب الحق أو اتبع هواه فهو فاسق مذنب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: <وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنّه ليس كلّ من قال قولا أخطأ فيه أنّه يكفر، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كلّ مخطئ خلاف الإجماع>(٤- المصدر السابق:(٧/٦٨٥))، وقال -رحمه الله- في تقرير الأصل السابق: <وأمّا التكفير: فالصواب أنّه من اجتهد من أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وقصد الحق، فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطأه، ومن تبيّن له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصّر في طلب الحق، وتكلّم بلا علم فهو عاص مذنب، ثمّ قد يكون فاسقا، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته>(٥- المصدر السابق:(١٢/١٨٠)).
ومن مجمل أصول أهل السنة والجماعة المتقدمة يتجلى التوسط والاعتدال في هذه المسألة الدقيقة وفي سائر مسائل الاعتقاد التي ضلّت فيها كثير من الأفهام، وزلّت فيها كثير من الأقدام، ومن ممادح أهل السنة والجماعة الذين عصمهم الله تعالى فيها وهداهم إلى التوسط والاعتدال أنّهم يُخَطِئُون ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بكل ذنب، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، والنصوص من الآيات والأحاديث جاءت صراحة تحمي أعراض المؤمنين والمسلمين وتحمي دينهم، وتحذّر التحذير الشديد من تكفير أحد من المسلمين وهو ليس كذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُم السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾[النساء ٩٤]، وقال تعالى: ﴿وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَد احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَّإِثْماً مُّبِيناً﴾[الأحزاب ٥٨]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)(٦- أخرجه البخاري:(١٠/٤٦٤) في الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه)، ولأنّ إطلاق الكفر بغير حق على المؤمن لمز في الإيمان نفسه، بل إنّ سوء الظنّ بالمسلم والنيل منه محرّم فكيف يحكم بردته وتكفيره؟! فالواجب على المسلم -إذن- عدم الخوض في هذا الأمر الجلل من غير أن يكون ممكنا شرعيا لما في التكفير من عظيم أمره، وخطورة نتائجه وما يورثه من البلايا والرزايا، من جملتها استحلال دمه وماله، وفسخ العصمة بينه وبين زوجه، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة وراءه والصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾[الإسراء ٣٦]، فعلينا أن نجتنب الشر، ونقترب من الخير ونعمل على تحصيله، ونتحلى بالصلاح والتقوى فهو مقياس التفاضل، وميزان الرجال.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 15 ربيع الثاني 1426هـ
المـوافق لـ: 24 ماي 2005 م
١- انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية: (٣/١٥٢-١٥٣)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: (٣٦٩/٣١٦).
٢- انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (٣/٣٤٨ وما بعدها ٧/٢١٧-٢١٨).
٣- المصدق السابق نفسه: (١٠/٣٧٠-٣٧٢)(٣٥/١٦٥-١٦٦).
٤- المصدر السابق: (٧/٦٨٥).
٥- المصدر السابق: (١٢/١٨٠).
٦- أخرجه البخاري: (١٠/٤٦٤) في الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
٢- انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (٣/٣٤٨ وما بعدها ٧/٢١٧-٢١٨).
٣- المصدق السابق نفسه: (١٠/٣٧٠-٣٧٢)(٣٥/١٦٥-١٦٦).
٤- المصدر السابق: (٧/٦٨٥).
٥- المصدر السابق: (١٢/١٨٠).
٦- أخرجه البخاري: (١٠/٤٦٤) في الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
الشيخ محمد علي فركوس