السلام عليكم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله سبحانه وتعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأ ...} [النساء/92]وهذه الصيغة من صيغ الامتناع . أي : يمتنع ويستحيل ، أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن أي : متعمدا . وفي هذا الإخبار بشدة تحريمه ، وأنه مناف للإيمان أشد منافاة . وإنما يصدر ذلك ، إما من كافر ، أو من فاسق ، قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك . فإن الإيمان الصحيح ، يمنع المؤمن من قتل أخيه ، الذي قد عقد الله بينه وبينه ، الأخوة الإيمانية ، التي من مقتضاها ، محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدق قوله صلى الله عليه وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض » . فعلم أن القتل من الكفر العملي ، وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله . ولما كان قوله :
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما ، لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه ، بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال :
{ إلَّا خَطَأ} فإن المخطىء الذي لا يقصد القتل ، غير آثم ، ولا مجترىء على محارم الله . ولكنه لما كان قد فعل فعلا شنيعا ، وصورته كافية في قبحه ، وإن لم يقصده ـ أمر تعالى بالكفارة والدية فقال : ...{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَم خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء/93] تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي . وذكر هنا ، وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب ، وتنصدع له الأفئدة ، وينزعج منه أولو العقل . فلم يرد في أنواع الكبائر ، أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله . ألا : وهو الإخبار ، بأن جزاءه جهنم. أي : فهذا الذنب العظيم ، قد انتهض وحده ، أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ،والخزي المهين ، وسخط الجبار وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذا بالله ، من كل سبب يبعد عن رحمته . وهذا الوعيد ، له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي ، بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة . وقد اختلف الأئمة رحمهم الله ، في تأويلها ، مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة ، الذين يخلدونهم في النار ، ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ، ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في « المدارج » فإنه قال ـ بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فرقة : إن هذه النصوص وأمثالها ، مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه . وغاية هذه النصوص ، الإعلام بأن كذا ، سبب للعقوبة ومقتضى لها . وقد قام الدليل على ذكر الموانع . فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص . فالتوبة ، مانع بالإجماع . والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة ، التي لا مدفع لها . والحسنات العظيمة الماحية ، مانعة . والمصائب الكبار المكفرة ، مانعة . وإقامة الحدود في الدنيا ، مانع بالنص . ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص ، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين . ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارا لمقتضى العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها . قالوا : وعلى هذا ، بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا ، بناء الأحكام الشرعية ، والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها ، خلقا وأمرا . وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ، ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما . فالقوة ، مقتضية للصحة والعافية . وفساد الأخلاق وبغيها ، مانع من عمل الطبيعة . وفعل القوة ، والحكم ، للغالب منهما وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ، ومقتض للعطب . وأحدهما ، يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه . فإذا ترجح عليه وقهره ، كان التأثير له . ومن هنا يعلم ، انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة ، ولا يدخل النار ، وعكسه . ومن يدخل النار ثم يخرج منها ، ويكون مكثه فيها ، بحسب ما فيه من مقتضى المكث ، في سرعة الخروج ، وبطئه . ومن له بصيرة منورة ، يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه ، من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي العين . ويعلم أن هذا مقتضى إلهيته سبحانه ، وربوبيته ، وعزته ، وحكمته ، وأنه مستحيل عليه خلاف ذلك . ونسبة ذلك إليه ، نسبة ما لا يليق به إليه . فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته ، كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره . وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب . وصاحب هذا المقام من الإيمان ، يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان ، يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه . وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه ، قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .
من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله سبحانه وتعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأ ...} [النساء/92]وهذه الصيغة من صيغ الامتناع . أي : يمتنع ويستحيل ، أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن أي : متعمدا . وفي هذا الإخبار بشدة تحريمه ، وأنه مناف للإيمان أشد منافاة . وإنما يصدر ذلك ، إما من كافر ، أو من فاسق ، قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك . فإن الإيمان الصحيح ، يمنع المؤمن من قتل أخيه ، الذي قد عقد الله بينه وبينه ، الأخوة الإيمانية ، التي من مقتضاها ، محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدق قوله صلى الله عليه وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض » . فعلم أن القتل من الكفر العملي ، وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله . ولما كان قوله :
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما ، لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه ، بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال :
{ إلَّا خَطَأ} فإن المخطىء الذي لا يقصد القتل ، غير آثم ، ولا مجترىء على محارم الله . ولكنه لما كان قد فعل فعلا شنيعا ، وصورته كافية في قبحه ، وإن لم يقصده ـ أمر تعالى بالكفارة والدية فقال : ...{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَم خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء/93] تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي . وذكر هنا ، وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب ، وتنصدع له الأفئدة ، وينزعج منه أولو العقل . فلم يرد في أنواع الكبائر ، أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله . ألا : وهو الإخبار ، بأن جزاءه جهنم. أي : فهذا الذنب العظيم ، قد انتهض وحده ، أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ،والخزي المهين ، وسخط الجبار وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذا بالله ، من كل سبب يبعد عن رحمته . وهذا الوعيد ، له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي ، بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة . وقد اختلف الأئمة رحمهم الله ، في تأويلها ، مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة ، الذين يخلدونهم في النار ، ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ، ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في « المدارج » فإنه قال ـ بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فرقة : إن هذه النصوص وأمثالها ، مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه . وغاية هذه النصوص ، الإعلام بأن كذا ، سبب للعقوبة ومقتضى لها . وقد قام الدليل على ذكر الموانع . فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص . فالتوبة ، مانع بالإجماع . والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة ، التي لا مدفع لها . والحسنات العظيمة الماحية ، مانعة . والمصائب الكبار المكفرة ، مانعة . وإقامة الحدود في الدنيا ، مانع بالنص . ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص ، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين . ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارا لمقتضى العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها . قالوا : وعلى هذا ، بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا ، بناء الأحكام الشرعية ، والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها ، خلقا وأمرا . وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ، ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما . فالقوة ، مقتضية للصحة والعافية . وفساد الأخلاق وبغيها ، مانع من عمل الطبيعة . وفعل القوة ، والحكم ، للغالب منهما وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ، ومقتض للعطب . وأحدهما ، يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه . فإذا ترجح عليه وقهره ، كان التأثير له . ومن هنا يعلم ، انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة ، ولا يدخل النار ، وعكسه . ومن يدخل النار ثم يخرج منها ، ويكون مكثه فيها ، بحسب ما فيه من مقتضى المكث ، في سرعة الخروج ، وبطئه . ومن له بصيرة منورة ، يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه ، من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي العين . ويعلم أن هذا مقتضى إلهيته سبحانه ، وربوبيته ، وعزته ، وحكمته ، وأنه مستحيل عليه خلاف ذلك . ونسبة ذلك إليه ، نسبة ما لا يليق به إليه . فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته ، كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره . وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب . وصاحب هذا المقام من الإيمان ، يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان ، يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه . وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه ، قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .
من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله