بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :
فإن من الأمور الخطيرة التي وقع فيها كثير ممن يحسب على طلب العلم ويدعي الانتساب إلى منهج السلف الصالحين اتباع العالم على زلته ، وخطأه ، والتعصب له على ذلك ، مما يسبب انحرافا وضلالا عن الصراط المستقيم ، ويسبب الشقاق والافتراق على الوحي المبين ، مع العلم أن العالم لا يتعمد مخالفة السنة والكتاب ، فإذا اجتهد وحصل منه خلاف الصواب ؛ فبمجرد ما يظهر له الحق يرجع إليه ، ويؤوب فرحا مسرورا أن ظهر له الحق شعاره – رحم الله امرؤ أهدى إلي عيوبي - فإذا رُوجع في اجتهاده فظهر له خطؤه ، وتبين أن الحق في غير ما أفتى به ، رجع إلى الصواب وترك الخطأ .. فإذ بيّن وأصلح فقد برئت ذمته ، تبقى تبعة خطئه على الأمة ممن لم يعرف رجوعه ..وذهب بعثرته فأنى له أن يستدركه ؟؟
وإذا لم يبين حصل بذلك زلة ؛بل زلل وانحراف لكثير من الخلق ، وأخطر من هذا وأشد ضررا على الدين من عرف أن العالم رجع عن خطئه فكتمه وبقي متعصبا لقوله المخالف للسنة ومنهج السلف الصالح ؛ كحال الأشاعرة مع أبي الحسن الأشعري ، فقد رجع عما كان عليه ، ولكن أتباعه تعصبوا لقوله المخالف وتمسكوا به ، وبعضهم أنكر رجوعه ، وبعضهم كتمه ، فانظر- رحمني الله وإياك - كم زل ، وضل بسبب ذلك ولذلك قيل : زلة العَالِم زلة العَالَم .
هذه الخصلة مع ثانية وثالثة لها تهدم الإسلام ؛ بل تهدم العَالمَ جاء بيان ذلك في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ففي سنن الدارمي 220 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَنبَأَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: «هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: ((يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ ))[تعليق المحقق] إسناده صحيح. وهو في جامع بيان العلم وفضله (1867-1869)باب فساد التقليد .وقال محققه إسناده صحيح ، وأورده البغوي في شرح السنة (1/317) وصححه العلامة الألباني في المشكاة (269). الله أكبر ما أخطر هذه الخصال ، وما أشد ضررها على ديننا الحنيف ، زلة العالِم، هي زلة العالمَ كما قيل ، وزلة العالَم سبب للتقليد والتعصب ، وهذا سبب للشحناء والتفرق ، وهذا سبب للحالقة التي تحلق الدين .
وجدال المنافق بالكتاب ، الذي يظهر السنة ، ويبطن البدعة ويتبع المتشابه لما في قلبه زيغ وضلال ، وهذا يسبب ظهور البدعة وطمس السنة وانقلاب الحق إلى باطل والباطل إلى حق .
وحكم الأئمة المضلين ، من ظلم السلطان وجور القضاة ، وفتوى أئمة الضلال . وهذا سبب إلى إظهار الفتن والإحن ، والبلايا والخوف والتقاتل وغير ذلك من الشرور التي تذهب وتغطي معالم الدين الحق .
وفي معجم الطبراني الكبير (14) عن كَثِير بن عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ» قَالُوا: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «زَلَّةُ الْعَالِمِ، أَوْ حُكْمٌ جَائِرٌ، أَوْ هَوًى مُتَّبَعٌ» . وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1865)قال محققه الزهيري إسناده ضعيف ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد(1/187)فيه كثير بن عبد الله بن عوف وهو متروك ، وقد حسن له الترمذي . وقال مرة (5/239)كثير بن عبد الله ضعيف .
وقال الحسن البصري : قال أبو الدرداء: (( إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق)).جامع بيان العلم وفضله ( 1867). وقال محققه : رجال إسناده ثقات غير أنه منقطع بين الحسن وأبي الدرداء ، وباقي رجاله ثقات ، وله شاهد من حديث معاذ أخرجه الدارمي ، واللالكائي وابن بطة .
وقال سلمان الفارسي: ((كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ؟ زَلَّةِ عَالِمٍ وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنِ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ، وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوا وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهْ فَكِلُوهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ».
قال ابن عبد البر بعده : وَشَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ الْعَالِمَ يُخْطِئُ وَيَزِلُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ وَيَدِينَ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ وَجْهَهُ . جامع بيان العلم وفضله (2/982)(1873) .
وعن ابن عباس قال : (( ويل للأتباع من عثرات العَالِم . قيل كيف ذاك؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع )). جامع بيان العلم وفضله (1877).
هذا في زمننا حاصل ؛ بل هو كثير عند كثير من الأئمة الخطباء ينشرون الأحاديث الموضوعة ، والضعيفة ، والقصص المنكرة والخرافات والشبه يبثونها في الّنّاس ثم يمضون ولا يعرف عنهم أنهم رجعوا ، حتى إذا استنكر عليهم وقت العثرة والزلة علانية استنكروا على من أنكر عليهم ورموه بكل ناقصة ، وقالوا فتان مراء ، وغير ذلك من الألقاب التي لا يرضى أحدهم أن يوصف بأقل شيء منها ..
وللأمانة فإن القليل منهم من يقبل الحق ولكنه يستحي أن يصحح علانية ما أُخذ به وأقل من القليل من يصحح ويبين، والنادر من يشكر للناصح الذي بين له ما وقع فيه ..
هذا هو حال النفس في زمن يقل فيه الخير ويكثر في الشر ، ويكون الفهم الصحيح الذي أراده الله للمسلمين أن يكونوا عليه غريبا ، كغربة أهل السنة المحضة وسط أهل السنة كما ذكره ابن القيم الرباني في شرحه للحديث :(( بدأ الإسلام غريبا وسيود غريبا...))
فابن عباس - رضي الله عنهما- يقول ويل للأتباع من زلة العالم وعثرته من غير قصد ؛ فكيف بمن يقصد إلى إضلال خلق الله من عوام وطلاب العلم ولبس عليهم الحق بالكذب والافتراء أحيانا ، وبالتأويل ولي عنق الأدلة والنصوص وتحريفها مرة أخرى لما يوافق زلته وعثرته .
وإذا كان ذلك كذلك من العالم بغير قصد ، وعن اجتهاد وهو مأجور على اجتهاده فكيف بزلة طالب العلم متعمدا قاصدا صرف وجوه النّاس إليه ، وفوق ذلك يذكر فلا يتذكر ، وينصح فـتأخذه العزة بالإثم فيتعصب ويشتد استنكاره على ناصحه .
مَضَارُّ زَلَّةِ الْعَالِمِ]
قال ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين (2/134) قُلْت: وَالْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ جَمَعُوا بَيْنَ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِهِ ، وَبَيَانِ زَلَّةِ الْعَالِمِ لِيُبَيِّنُوا بِذَلِكَ فَسَادَ التَّقْلِيدِ.
وَأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَزِلُّ وَلَا بُدَّ؛ إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ ، فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَيُنَزَّلُ قَوْلُهُ مَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَعْصُومِ ؛ فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ كُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَحَرَّمُوهُ، وَذَمُّوا أَهْلَهُ .
وَهُوَ أَصْلُ بَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ وَفِتْنَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ الْعَالِمَ فِيمَا زَلَّ فِيهِ وَفِيمَا لَمْ يَزِلَّ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُمْ تَمْيِيزٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُونَ الدِّينَ بِالْخَطَأِ - وَلَا بُدَّ - فَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَيُشَرِّعُونَ مَا لَمْ يُشَرِّعْ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةً عَمَّنْ قَلَّدُوهُ، وَالْخَطَأُ وَاقِعٌ مِنْهُ وَلَا بُدَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرٍ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: « اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ » .
وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « أَشَدُّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ » .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَخُوفَ فِي زَلَّةِ الْعَالِمِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا؛ إذْ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَخَفْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا عَرَفَ أَنَّهَا زَلَّةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْخَطَأِ عَلَى عَمْدٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا زَلَّةٌ فَهُوَ أَعْذَرُ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا مُفْرِطٌ فِيمَا أُمِرَ بِهِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ عُمَرُ: يُفْسِدُ الزَّمَانَ ثَلَاثَةٌ : أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ، وَزَلَّةُ الْعَالِمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ إلَّا قَالَ حِينَ يَجْلِسُ: (( اللَّهُ حَكَمُ قِسْط، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ ...)) الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ((.. وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ الضَّلَالَةُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ )).
قُلْت لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي - رَحِمَك اللَّهُ - أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟
قَالَ لِي: اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْبِهَاتِ الَّتِي يُقَالُ مَا هَذِهِ، وَلَا يُثْنِيَك ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ، وَتَلْقَ الْحَقَّ إذَا سَمِعْته، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا.
قلت : رواه أبو داود(183) وقال العلامة الألباني صحيح الإسناد موقوف .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ؟
قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ، ثُمَّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَدَعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: فَيَلْقَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ فَيُخْبِرُهُ فَيَرْجِعُ وَيَقْضِي الْأَتْبَاعُ بِمَا حَكَمَ.
قلت : ومن هنا وجب عليه أن يبين عثرته حتى لا يتبعه عليها غيره ، فإذا بين برئت ذمته أما إن لم يبين وقد انتشرت عنه عثرته وزلته فالتبعة باقية فعليه أن يصلح ما كان منه عثرة ولو من غير قصد فإذا كان يستطيع أن يبين ولم يبين فالتبعئة قائمة وذمته لا تبرأ فلعيه وزر من تبعه عليها.. أما من علمها من الأتباع وتبعه عليها فهو إتباع الخطأ عن عمد فيكون مخطئ آثم ، أما من لم يعرف ذلك فهو معذور من جهة جهله لكنه مقصر من حيث البحث والتحري عن الحق ، وسؤال أهل العلم .
وَقَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ : اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: مَا زَلَّةُ الْعَالِمِ؟ قال: يَزِلُّ بِالنَّاسِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ الْعَالِمُ ، وَالنَّاسُ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ : عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ: دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، وَزَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، فَسَكَتُوا، فَقَالَ: أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ، وَإِنْ اُفْتُتِنَ فَلَا تَقْطَعُوا مِنْهُ إيَاسَكُمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْتَتِنُ ثُمَّ يَتُوبُ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَهُ مَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَمَا شَكَكْتُمْ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ لَا فَلَيْسَ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَاهُ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُمَرَ: كَمَا أَنَّ الْقُضَاةَ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ فَالْمَفْتُونَ ثَلَاثَةٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي كَوْنِ الْقَاضِي يُلْزَمُ بِمَا أَفْتَى بِهِ، وَالْمُفْتِي لَا يُلْزَمُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو النَّصْرِيُّ: ثنا أَبُو مُسْهِرٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّ حَدِيثَكُمْ شَرُّ الْحَدِيثِ، إنَّ كَلَامَكُمْ شَرُّ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّكُمْ قَدْ حَدَّثْتُمْ النَّاسَ حَتَّى قِيلَ: قَالَ فُلَانٌ ، وَقَالَ فُلَانٌ، وَيَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَائِمًا فَلْيَقُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَإِلَّا فَلْيَجْلِسْ. فَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ – رضي الله عنه - لِأَفْضَلِ قَرْنٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ مَا أَصْبَحْنَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ ، فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ - وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِسْنَادِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ -: يَا كُمَيْلُ، إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
ثُمَّ قَالَ: آهْ إنَّ هَهُنَا عِلْمًا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ - لَوْ أَصَبْت لَهُ حَمَلَةٌ، بَلْ قَدْ أَصَبْت لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ للدُّنْيَا، وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، أَوْ حَامِلُ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إحْيَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ.
قلت : رحم الله أبا الحسنين ورضي عنهم أجمعين ، وكأنه شاهد عيان نطق بالحق على ما نعيشه في وصفه هذا ، فما أكثر من وصفهم بقوله : لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ للدُّنْيَا، وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، أَوْ حَامِلُ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إحْيَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ.
فما أكثر الزلل والعثرات بهؤلاء ، حين ظهرت بعض علامات الساعة التي كانت سببا في ذلك وهي فشو الجهل ، وظهور القلم ، ونطق الرويبضات ، واتخاذ النّاس أئمة جهالا ، يفتون بغير العلم فضلوا وأضلوا ، ورحم الله من عرف قدر نفسه فكبح هواها ، وحاسبها أشد حسابها ، فصان دينه عن العثرات ، وأرضى ربه فخرج من الدنيا ولا تبعة عليه من الأتباع الرعاع الذين وصفهم علي رضي الله عنه .
فإنه من الصعب جدا أن يحاسب العبد على ضلال الرعاع الذين لم يبلغهم رجوع العالم عن عثرته وبيانه لزلته ، وأعظم منه حسابا من علم من نفسه ذلك وبقي مصرا على عثرته وزلته فكيف يكون موقفه أمام ربه وقد تحمل وزره ووزر من اقتدى به ؟؟؟ اللهم نسألك العفو والعافية يا رحمان الدنيا والآخرة .
[نَهْيُ الصَّحَابَةِ عَنْ الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ]:
ويواصل ابن القيم - رحمه الله - وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ – رضي الله عنه - قَالَ: إيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - : لَا يُقَلِّدْنَ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (( يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ يَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، يَسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ)).
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ لِلتَّقْلِيدِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ لِمَنْ فَهِمَهُ وَهُدي لِرُشْدِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ:" اضْطَجَعَ رَبِيعَةُ مُقَنِّعًا رَأْسَهُ وَبَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيَك؟
فَقَالَ: رِيَاءٌ ظَاهِرٌ، وَشَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ، وَالنَّاسُ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي إمَامِهِمْ: مَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ انْتَهَوْا، وَمَا أُمِرُوا بِهِ ائْتَمَرُوا.انتهى كلامه.إعلام الموقعين (2/135-136).
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ في المدخل إلى السنن (1/445) أغلب تلك الآثار وبوب عليها باب ما يخشى من زلة العالم في العلم أو العمل (ح 830 – 831 - 832 – 833 - 834 – 835 – 836 - 837).
وَقَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ: اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: مَا زَلَّةُ الْعَالِمِ؟ قال : العالم يَزِلُّ بِالنَّاسِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ الْعَالِمُ وَالنَّاسُ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ.
قلت : أخرجه ابن المبارك وأبو نعيم في الزهد والرقائق (1449 ) أَخْبَرَكُمْ أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَوَيْهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ، اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فِي الْقَصَصِ، فَقَالَ: إِنَّهُ عَلَيَّ مِثْلُ الذَّبْحِ، فَقَالَ: «إِنِّي أَرْجُو الْعَافِيَةَ» فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ - يَعْنِي عُمَرَ - يَوْمًا، فَقَالَ تَمِيمٌ فِي قَوْلِهِ: «اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ» ، فَكَرِهَ عُمَرُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ، فَيَقْطَعَ بِالْقَوْمِ، فَحَضَرَ مِنْهُ قِيَامٌ، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا فَرَغَ فَسَلْهُ، مَا زَلَّةُ الْعَالِمِ؟ ثُمَّ قَامَ عُمَرُ، فَجَلَسَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَغَفَلَ غَفْلَةً، وَفَرَغَ تَمِيمٌ، وَقَامَ يُصَلِّي، وَكَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ.. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ رَجَعْتُ فَقُلْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَرَجَعَ، وَطَالَ عَلَى عُمَرَ، فَأَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَتَى تَمِيمًا الدَّارِيَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا زَلَّةُ الْعَالِمِ؟ فَقَالَ: «الْعَالِمُ يَزِلُّ بِالنَّاسِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ الْعَالِمُ، وَالنَّاسُ يَأْخُذُونَ بِهِ». وأورده البيهقي في المدخل إلى السنن (1/445)(837).
قال علي القارئ في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/334): (وَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا رَاءٌ كَذَا فِي الْأَسْمَاءِ لِلْمُصَنِّفِ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: تَابِعِيٌّ سَمِعَ عُمَرَ وَعَلِيًّا (قَالَ) : قَالَ لِي عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ أَيْ: يُزِيلُ عِزَّتَهُ، وَالْهَدْمُ فِي الْأَصْلِ إِسْقَاطُ الْبِنَاءِ: (قُلْتُ: لَا!). أَيْ: لَا أَعْرِفُ (قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ) : أَيْ عَثْرَتُهُ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ (وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ) : الَّذِي يُظْهِرُ السُّنَّةَ وَيُبْطِنُ الْبِدْعَةَ (بِالْكِتَابِ) : وَإِنَّمَا خُصَّ لِأَنَّ الْجِدَالَ بِهِ أَقْبَحُ، إِذْ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ (وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ) : بِالْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ (الْمُضِلِّينَ) :
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِهَدْمِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُ أَرْكَانِهِ الْخَمْسَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " « بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» " الْحَدِيثَ. وَتَعْطِيلُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْ جِدَالِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَغُلُوِّهِمْ فِي إِقَامَةِ الْبِدَعِ بِالتَّمَسُّكِ بِتَأْوِيلَاتِهِمُ الزَّائِفَةِ وَمِنْ ظُهُورِ ظُلْمِ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ وَحُكْمِ الْمُزَوِّرِينَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ زَلَّةُ الْعَالِمِ لِأَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، كَمَا جَاءَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ زَلَّةُ الْعَالَمِ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) : أَيْ مَوْقُوفًا. شرح المشكاة للطيبي (2/714) .
قال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (1/31) قوله: (اتَّقوا زلَّة الْعَالم) أَي فعله الْخَطِيئَة جَهرا لِأَن بزلته يزل عَالمَ كثير لاقتدائهم بِهِ .
قال العلامة الألباني في الضعيفة (4/193)(1700): قوله: (اتَّقوا زلَّة الْعَالم ..):
ولعل أصل الحديث موقوف ، فرفعه كثير عمدا أو خطأ، فقد رأيت الشطر الأول منه من قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه،- في مناقشة هادئة رائعة بين ابن مسعود وأبي مسلم الخولاني التابعي الجليل، لا بأس من ذكرها لما فيها من علم وخلق كريم، ما أحوجنا إليه في مناظراتنا ومجادلاتنا، وأن المنصف لا يضيق ذرعا مهما علا وسما إذا وجه إليه سؤال أو أكثر في سبيل بيان الحق..
فأخرج الطبراني في " مسند الشاميين " (ص 29 بسند جيد عن الخولاني: أنه قدم العراق فجلس إلى رفقة فيها ابن مسعود، فتذاكروا الإيمان، فقلت: أنا مؤمن. فقال ابن مسعود: أتشهد أنك في الجنة؟ فقلت: لا أدري مما يحدث الليل والنهار.
فقال ابن مسعود: لو شهدت أني مؤمن لشهدت أني في الجنة. قال أبو مسلم: فقلت: يا ابن مسعود! ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف : مؤمن السريرة مؤمن العلانية، كافر السريرة كافر العلانية، مؤمن العلانية كافر السريرة؟ قال : نعم. قلت: فمن أيهم أنت؟ قال : أنا مؤمن السريرة مؤمن العلانية.
قال أبو مسلم: قلت: وقد أنزل الله عز وجل: { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن }، فمن أي الصنفين أنت؟ قال: أنا مؤمن. قلت: صلى الله على معاذ. قال: وما له؟ قلت: كان يقول: " اتقوا زلة الحكيم ". وهذه منك زلة يا ابن مسعود! فقال: أستغفر الله.
وأقول : رضي الله عن ابن مسعود ما أجمل إنصافه، وأشد تواضعه ، لكن يبدو لي أنه لا خلاف بينهما في الحقيقة، فابن مسعود نظر إلى المآل، ولذلك وافقه عليه أبو مسلم، وهذا نظر إلى الحال، ولهذا وافقه ابن مسعود، وأما استغفاره، فالظاهر أنه نظر إلى استنكاره على أبي مسلم كان عاما فيما يبدو من ظاهر كلامه. والله أعلم.