#سلسلة_ردود_أهل_السنة_على_المخالفين
التوضيح والتصريح
في الردّ على المعتدي المسعودي في مقاله القبيح القريح، وما ضمّنه من التّهويل والتلبيس والتجريح
للشيخ عبد المجيد جمعة
حفظه الله
الحمد لله ربّ العالمين، ولا عدوان إلا على لظالمين.
أمّا بعد، فقد أُبْلغت ([1]) أنّ المدعو مسعود المسعودي قد نشر مقالاً في منتديات الكلّ بعنوان:«عبد المجيد جمعة ونشره لرسالة القرافي (لطائف المنن في قواعد السنن)». ولما رأيت العنوان توسّمت فيه أنّ المدعو المسعودي أراد أن ينبّه على أخطاء، أو أوهام –التي لا يسلم منها أحد-، وقعت في الكتاب، كَقُطْنٍ قَد مَسَّهُ البَلَل، فَسَدَّ الخَلل، وَرَقّع الحَلل، وزيّن بالحُلل، فإذا به قد أبان الغلّ، وأظهر الجهل، وكشف الخطل؛ حيث حشا مقاله هذا بالهمز واللّمز، ونفث صدره باللهز والنبز؛ وتبيّن أنّه رجل حقود مِلَزّ.
وقد بنى مقاله على مجرّد الظّنون والأوهام، وما تصوّره في الأذهان والأفهام، وكأنّه يعيش في خيال أو أحلام، أو كَطَيْف زاره في المنام.
أحلام نوم أو كظلٍّ زائل...إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع
إذ تكلّم في المغيبات بالتخيّلات، وجادل في البديهيات بالتوهّمات؛ وكأنّه قد اطّلع على المقاصد والنيّات، وعلم بالإرادات والاعتقادات؛ والمشتكى إلى الله ربِّ الأرض والسموات.
وبيان ذلك: أنّ الذي دفعه إلى كتاب المقال، هو ما ذكره في مطلعه حيث قال:
«وفي الرسالة بعض الأخطاء من جهة المعتني، إلا أن الذي لفت انتباهي هو أمر آخر، ما كنت أظنه يصدر من عبد المجيد جمعة»([2]).
أقول: لو كنت –حقًّا- ناصحًا ومنصفًا، ولم تك ناطحًا ومرجفًا، لتثبّت في الأمر، وراجعت المعني بالأمر، فيزول عنك الظنّ والحَدْس، ولم تقع في الإفك واللَّبْس، لكن كذب ظنّك، وطاش سهمك، وخاب سعيك؛ إذ ورّطت نفسك، وورطت من كان على شاكلتك، من الذين، كأنهم لا يحسنون إلا التّصفيق، ولا يعرفون إلا التلفيق، وليس لهم حظٌّ من العلم أو التحقيق، وسبحان الذي خلق الأزواج كلّها، وجعل الطيور تقع على أشكالها، والأرواح تتعارف على شاكلها.
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر
ثم بيّن ما هاله، ولفت انتباهه، فقال ما قاله:«لقد سبق وأن نشر هذه الرسالة عبد المجيد جمعة خارج الجزائر، أي في مؤسسة بينونة للنشر، 1435 هـ، أبو ظبي في 56 ص.وقد كتب على الغلاف ما يلي: تأليف مولانا شيخ الإسلام المحدث الحافظ نور الدين أبي الحسن علي الأنصاري القرافي. تحقيق الدكتور عبد المجيد جمعة الجزائري.وإذا نظرت إلى الغلاف من طبعة الجزائر تجد هكذا: المحدث الحافظ.. ثم مثل ما تقدم. وبدل كلمة تحقيق كتب: اعتنى به فضيلة الدكتور.. مثل ما تقدم».
ثم فسّر هذا الأمر حسب ما يحلو له بالظنون الكاذبة الواضحة، والتّوهّمات الفاسدة الفاضحة، فقال: «وهذا العمل تفسيره هو أن الدكتور عندما نشرها في الخارج، أثنى على القرافي السابق، بل وقال: مولانا وشيخ الإسلام، مع أن القرافي حاله معروفة كحال شيخه السيوطي. إلا أن هذا الثناء لا بأس به إذا كان سيأتي بشيء من الدنيا. وأما إذا كان هذا الثناء سينقص شيئا من الدنيا فلا بد من حذفه وهذا ما فعله في الجزائر فحذف كلمة مولانا وشيخ الإسلام. وطبعة أبو ظبي في 56 صفحة، خلافا لطبعة قسنطينة ففي 47 صفحة. فماذا حذف أيضا تقربا لأتباعه من أهل الجزائر؟
إلا أنّ التبعة عليه أيضا لأنه لم يحذر من عقيدة المؤلف في طبعة الجزائر، بل ولم يترجم له الترجمة التي تليق بمثل هذه الرسائل.ولعل استبداله لكلمة تحقيق بكلمة اعتنى وراءها ما وراءها.وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. مسعود مسعودي».
وهذا أوان الردّ على ذاك الفتّان، وما لفظه من الإفك والبهتان، بالحجّة والبرهان، مستعينًا بالواحد الدّيّان، فأقول:
قوله: «أثنى على القرافي السابق، بل وقال: مولانا وشيخ الإسلام».
هذا يؤكّد جهل الرجل المطبق بأيسر قواعد التحقيق، إذ لا يعلم أنّ هذه العبارة هي من خطّ الناسخ، وليست من قلمي حتى ينسبها إليّ، أم أنّ جهله وغلّه أعمى بصره عن النظر إلى طرّة المخطوط؛ كما هو مثبت في مقدمة الرسالة.
قوله: «إلا أن هذا الثناء لا بأس به إذا كان سيأتي بشيء من الدنيا وأما إذا كان هذا الثناء سينقص شيئا من الدنيا فلا بد من حذفه وهذا ما فعله في الجزائر».
كذا يتكلّم في النيّات –دون حياء وخجل- بالظنّ والتخمين، والتوهّم والتخيّل، وكأنّ الرجل قد سكن في جناني، وخلط بخلدي ووجداني، فعلم ما أعبر ببناني، وأفصح بلساني؛ أم اتّخذ عندي عهدا، وأسررته به فردا، ألا يعلم أنّ هذا من الرجم بالظنّ، والقذف بالغيب، والقفو بلا علم؟!وهذا على القاعدة الجارفية -التي صفَّق لها المرجفون- جهل بأبسط([3]) مسائل الاعتقاد!
ألا فاعلم -يا أُخَي- أني أذكّرك بقوله تعالى: ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾، وبقوله سبحانه: ﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون﴾، وبقوله عزّ وجلّ: ﴿ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾، وبقوله جلّ جلاله: ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا﴾.
واعلم –يا أُخَي- أنّنا سنقف بين الله تعالى، يوم تبلى السرائر، وتجلى الضمائر، ويبعثر ما في القبور، ويحصّل ما في الصدور، فأحاججك عند الله على ما خطّته يمينك في تلك السطور، وعند الله تعالى تفضّ الخصومات، ويقتصّ في الحقوق والحرمات، ويعطى كل ذي حقّ حقه من المظالم والحكومات.
ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون... عليها يوم تبلى السرائر
وقال آخر:
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي... يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر
فوالله الذي أهلك ثمود وعاد؛ إن لم تتحلّل، وتتوب على الأشهاد، كما أظهرت ما في جعبتك من الأضغان والأحقاد، فسأكون خصمك يوم التَّناد. ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلم سليم﴾؛ ولا يغني عنك المصفّقون لك شيئًا. ﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين﴾.
ألاَ فاعلم –أخي القاري([4])- أنّه والله الذي لا إله غيره لم أقبض من هذه الرسالة دينارًا واحدًا، ولا نصفه، ولا طلبت ذلك من الناشر؛ وهو لا يزال على قيد الحياة، ومتّعه الله بالصّحة والعافية.
وقوله: «فحذف كلمة مولانا وشيخ الإسلام» كذا، نسب إليّ الحذف، ورمى بحصى الخذف، وقصد بذلك القذف؛ وهو من الظلم والحيف؛ والجواب عنه من وجوه:
أوّلها: أن يعلم ذاك المدّعي المعتدي أن لا علم لي بهذا الحذف، وما اطّلعت عليه إلا بعدما نشرت الرسالة.
الوجه الثاني: أنّ هذا الحذف كان من تصرّف الناشر، اختصارا للعبارة، وليس كما زعم ذاك المفتري رجمًا بالغيب، وقذفًا بالظن؛ وكان قد استأذنني في إعادة طبعها فأذنت له.
الوجه الثالث: أنّ هذا يؤكّد جهل الرجل المطبق بقواعد التحقيق، إذ ضبط أسماء المؤلِّفين، وذكر ألقابهم على طرّة المخطوط، هو من تصرّفات النسّاخ، إلا ما كان من نسخة الأمّ، وهي النسخة التي كتبها المؤلّف بخطّه؛ فالتصرّف فيها بالاختصار لا يعد تصرّفًا في لقب المؤلِّف واسمه؛ كما لا يخفى على من له أدنى مستوى بفنّ التحقيق.
الوجه الرابع: أنّه هب أنّي تصرّفت في ذلك، فهل يلزم من هذا كل ذاك التهريج والتهييج، والدعوى أنّي فعلت ذلك من أجل كذا وكذا.
الوجه الخامس: أنّه هب أنّي تصرفت في لقب المؤلّف، وحذفت ما قضَّ مضجعك، فهل –يا رجل- تقرّ بلفظ: «مولانا»، والذي يجري غالبا على ألسنة أهل التصوّف؟!
ألاَ كان الأجدر بك أن تحسن الظنّ، ويتبادر إلى ذهنك أنّ المتّهم لعلّه لم ينتبه إلى هذه العبارة، فتراجع عنها، أم دبّ إليك داء الأمم؟!
وقوله: «وطبعة أبو ظبي في 56 صفحة، خلافا لطبعة قسنطينة ففي 47 صفحة. فماذا حذف أيضا تقربا لأتباعه من أهل الجزائر؟».
هذا يؤكّد ما ذكرته سابقا، وهو أنّ الرجل لا علم له بفنّ التحقيق، ولا بنشر الكتب، لأنّه اعتاد التسويق في بيت العنكبوت، -﴿وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت﴾- ففيها يعرض بضاعته الكاسدة، في السوق الراكدة، يجلب فيها بكلّ رَجِلٍ وَخَيْل؛ فلا يساومها إلا من كان على شاكلته، ممّن يساوم ويشتري في الظلام؛ كحاطب ليل، يجرّ كلّ رذْل، وذيل.
والجواب عن هذا الهراء: أن يعلم ذاك المفتري أنّ هذا إنّما يرجع إلى الصّفّ، فصاحب دار «معالم السنن» لم يعتمد على صفّ دار بينونة، بل أعاد تصفيفها من جديد، ولهذا وقع بين الطبعتين تفاوت في عدد الأوراق.
وقوله: «فماذا حذف أيضا تقربا لأتباعه من أهل الجزائر؟» فانظر أخي القارئ–سلم الله عقلك- إلى التدني الذي نزل إليه القوم؛ والانحراف الذي وصل إليه الفهم، والإفراط الذي بلغه الوَهْم؛ يرجم بالظنون، والجنون فنون، ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾.
أقول: أمّا قوله: «فماذا حذف أيضا» فكان عليك أن تقابل بين الطبعتين، لتكشف ما حذفت وما تركت.
وأمّا قوله: «تقربا لأتباعه من أهل الجزائر» فهذا كأنّ الرجل، مطّلع على السرائر، يحكم على الأعمال، أهي لله أم لغيره؛ ألا فاعلم -يا هذا-، أنّ التقرّب بالأعمال لا يكون إلا لله الواحد المتعال، وهو سبحانه وحده المطلع على السرائر، العالم بجميع الأحوال، وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي كلّه لوجهه خالصا، ومن النار مُنجيا ومخلِّصًا، وهذا أيضا على القاعدة الجارفية: جهل بأبسط مسائل الاعتقاد.
وقوله: «إلا أن التبعة عليه أيضا لأنه لم يحذر من عقيدة المؤلف في طبعة الجزائر».
وهذا يدلّ على أنّ الرجل أخبط من عشواء في ظلماء؛ فإنّه سبق وأن اتّهمني بحذف لقب المؤلّف، لأني نشرتها في الخارج، إذا كان سيأتي بشيء من الدنيا –على حدّ قوله-؛ فكيف أُعْمِي عقيدته، والحال أنّي نشرتها تقرّبا لأتباعي من أهل الجزائر؟! أليس الأولى أن أخفي عقيدته في الخارج في نظرك، حتى يأتيني بشيء من الدنيا؟! لكنّه الهوى يعمي ويصمّ.
وقوله: «بل ولم يترجم له الترجمة التي تليق بمثل هذه الرسائل» وهذا يؤكد أيضا جهله بقواعد التحقيق، لأنّ ترجمة المؤلف ليست لزامًا إلا في الدراسات الجامعية، وها هي تحقيقات الشيخ الألباني رحمه الله بين يديه، هل رأيته ترجم للمؤلّف بما «تليق بمثل هذه الرسائل» (على لغته)؟!
على أنّ عبارته ركيكة وغير مستقيمة، فقوله: «بل ولم» فيه عطف حرف العطف على حرف العطف؛ وحروف العطف لا يعطف بعضها على بعض، وصوابه: «بل لم ...».
وقوله: «التي تليق بمثل..» صوابه: «التي تليق به في مثل..» لأنّ العائد يعود على المؤلِّف، وليس على المؤلَّف «مثل هذه الرسائل»، فتنبّه!
وقوله: «ولعل استبداله لكلمة تحقيق بكلمة اعتنى وراءها ما وراءها».كذا، كأنّه يستشف من وراء حُجُبِ الغيب؛ فيا ليتك أطلعت المصفّقين لك ما وراءها، ما دام قد تكلّمت في المغيبات، وشكّكت في النيات، وَصِرْتَ تقرأ ما وراء الكلمات.
وليتك بيّنت الفرق بين كلمة «التحقيق»، وكلمة «اعتنى بها» حتى أدرك ما وراء الكلمتين.
وأكثر من الهَدِيد وَالفَدِيد، والوعيد من وراء وراء. وإنّما أقول لك: والله من وراء القصد.
ثم ذكر جملة من الأخطاء التي وقف عليها في التعليق على الرسالة، والحقّ أنّي كنت سأعرض عن الإجابة عنها، لأنّ ما تقدّم ذكره كافٍ لكلّ منصف في بيان حال هذا الرجل، بل كنت سأعرض عنه مطلقا، لأنّ السكوت عن السّفيه جواب له؛ كما قيل:
متاركةُ السفيهِ بلا جوابِ... أشدّ على السَّفيهِ من الجوابِ
وقال آخر:
قل بما شئت في مسبّة عرضي... فسكوتي عن اللئيم جواب
ما أنا عادم الجواب ولكن ... ما من الأسد أن تجيب الكلاب.
وقال آخر:
سكت عن السفيه فظنّ أنّي... عيِيت عن الجواب وما عييت
فإنْ كلمته فرّجت عنه .......... وإن خليته كمداً يموت
لكن نحن أبناء زمان، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم؛ فاضطرّني إلى الردّ عليه دفعًا لتلبيسه وكشفًا لتدليسه، وتعرية لجهله، وتجلية لخبله.
([1]) قلت: أُبلغت؛ لأنّي لست ممن يدخل هذه المنتديات، ولهذا لم أعلم بهذا المقال إلا مؤخّرا.
([2]) الأصل أن أنقل كلامه بالخط البارز حتى يتميّز عن كلامي، لكن هذا الرجل لا يستحق كلامه البروز، ووالله لولا أني أردت أن اطلع القرّاء الكرام على سذاجة عقله، وسخافة قوله، لمَا نقلته؛ ولهذا حصرته بين علامة التنصيص، وجعلت تحته خطًا.
([3]) كذا قال الجارف الهارف؛ وهذا لجهله، فإنّ البسط في اللغة السعة. قال تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ أي يوسع؛ على أن كلامه هذا يتضمن التكفير، لأن الذي يجهل أبسط (على لغته) مسائل الاعتقاد هو الكافر. هذه بضاعته، يهرف بما لا يعرف؛ تشابهت قلوبهم.
([4]) وجّهت الخطاب إلى القارئ الكريم، ولم أوجّهه إلى ذاك الرجل، لأنّه سواء برّ قسمي أو لم يبرّه، لا يهمني، ولا يعنيني؛ وليس له ذكر في حسباني، ولا أثر في عيني.
التوضيح والتصريح
في الردّ على المعتدي المسعودي في مقاله القبيح القريح، وما ضمّنه من التّهويل والتلبيس والتجريح
للشيخ عبد المجيد جمعة
حفظه الله
الحمد لله ربّ العالمين، ولا عدوان إلا على لظالمين.
أمّا بعد، فقد أُبْلغت ([1]) أنّ المدعو مسعود المسعودي قد نشر مقالاً في منتديات الكلّ بعنوان:«عبد المجيد جمعة ونشره لرسالة القرافي (لطائف المنن في قواعد السنن)». ولما رأيت العنوان توسّمت فيه أنّ المدعو المسعودي أراد أن ينبّه على أخطاء، أو أوهام –التي لا يسلم منها أحد-، وقعت في الكتاب، كَقُطْنٍ قَد مَسَّهُ البَلَل، فَسَدَّ الخَلل، وَرَقّع الحَلل، وزيّن بالحُلل، فإذا به قد أبان الغلّ، وأظهر الجهل، وكشف الخطل؛ حيث حشا مقاله هذا بالهمز واللّمز، ونفث صدره باللهز والنبز؛ وتبيّن أنّه رجل حقود مِلَزّ.
وقد بنى مقاله على مجرّد الظّنون والأوهام، وما تصوّره في الأذهان والأفهام، وكأنّه يعيش في خيال أو أحلام، أو كَطَيْف زاره في المنام.
أحلام نوم أو كظلٍّ زائل...إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع
إذ تكلّم في المغيبات بالتخيّلات، وجادل في البديهيات بالتوهّمات؛ وكأنّه قد اطّلع على المقاصد والنيّات، وعلم بالإرادات والاعتقادات؛ والمشتكى إلى الله ربِّ الأرض والسموات.
وبيان ذلك: أنّ الذي دفعه إلى كتاب المقال، هو ما ذكره في مطلعه حيث قال:
«وفي الرسالة بعض الأخطاء من جهة المعتني، إلا أن الذي لفت انتباهي هو أمر آخر، ما كنت أظنه يصدر من عبد المجيد جمعة»([2]).
أقول: لو كنت –حقًّا- ناصحًا ومنصفًا، ولم تك ناطحًا ومرجفًا، لتثبّت في الأمر، وراجعت المعني بالأمر، فيزول عنك الظنّ والحَدْس، ولم تقع في الإفك واللَّبْس، لكن كذب ظنّك، وطاش سهمك، وخاب سعيك؛ إذ ورّطت نفسك، وورطت من كان على شاكلتك، من الذين، كأنهم لا يحسنون إلا التّصفيق، ولا يعرفون إلا التلفيق، وليس لهم حظٌّ من العلم أو التحقيق، وسبحان الذي خلق الأزواج كلّها، وجعل الطيور تقع على أشكالها، والأرواح تتعارف على شاكلها.
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر
ثم بيّن ما هاله، ولفت انتباهه، فقال ما قاله:«لقد سبق وأن نشر هذه الرسالة عبد المجيد جمعة خارج الجزائر، أي في مؤسسة بينونة للنشر، 1435 هـ، أبو ظبي في 56 ص.وقد كتب على الغلاف ما يلي: تأليف مولانا شيخ الإسلام المحدث الحافظ نور الدين أبي الحسن علي الأنصاري القرافي. تحقيق الدكتور عبد المجيد جمعة الجزائري.وإذا نظرت إلى الغلاف من طبعة الجزائر تجد هكذا: المحدث الحافظ.. ثم مثل ما تقدم. وبدل كلمة تحقيق كتب: اعتنى به فضيلة الدكتور.. مثل ما تقدم».
ثم فسّر هذا الأمر حسب ما يحلو له بالظنون الكاذبة الواضحة، والتّوهّمات الفاسدة الفاضحة، فقال: «وهذا العمل تفسيره هو أن الدكتور عندما نشرها في الخارج، أثنى على القرافي السابق، بل وقال: مولانا وشيخ الإسلام، مع أن القرافي حاله معروفة كحال شيخه السيوطي. إلا أن هذا الثناء لا بأس به إذا كان سيأتي بشيء من الدنيا. وأما إذا كان هذا الثناء سينقص شيئا من الدنيا فلا بد من حذفه وهذا ما فعله في الجزائر فحذف كلمة مولانا وشيخ الإسلام. وطبعة أبو ظبي في 56 صفحة، خلافا لطبعة قسنطينة ففي 47 صفحة. فماذا حذف أيضا تقربا لأتباعه من أهل الجزائر؟
إلا أنّ التبعة عليه أيضا لأنه لم يحذر من عقيدة المؤلف في طبعة الجزائر، بل ولم يترجم له الترجمة التي تليق بمثل هذه الرسائل.ولعل استبداله لكلمة تحقيق بكلمة اعتنى وراءها ما وراءها.وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. مسعود مسعودي».
وهذا أوان الردّ على ذاك الفتّان، وما لفظه من الإفك والبهتان، بالحجّة والبرهان، مستعينًا بالواحد الدّيّان، فأقول:
قوله: «أثنى على القرافي السابق، بل وقال: مولانا وشيخ الإسلام».
هذا يؤكّد جهل الرجل المطبق بأيسر قواعد التحقيق، إذ لا يعلم أنّ هذه العبارة هي من خطّ الناسخ، وليست من قلمي حتى ينسبها إليّ، أم أنّ جهله وغلّه أعمى بصره عن النظر إلى طرّة المخطوط؛ كما هو مثبت في مقدمة الرسالة.
قوله: «إلا أن هذا الثناء لا بأس به إذا كان سيأتي بشيء من الدنيا وأما إذا كان هذا الثناء سينقص شيئا من الدنيا فلا بد من حذفه وهذا ما فعله في الجزائر».
كذا يتكلّم في النيّات –دون حياء وخجل- بالظنّ والتخمين، والتوهّم والتخيّل، وكأنّ الرجل قد سكن في جناني، وخلط بخلدي ووجداني، فعلم ما أعبر ببناني، وأفصح بلساني؛ أم اتّخذ عندي عهدا، وأسررته به فردا، ألا يعلم أنّ هذا من الرجم بالظنّ، والقذف بالغيب، والقفو بلا علم؟!وهذا على القاعدة الجارفية -التي صفَّق لها المرجفون- جهل بأبسط([3]) مسائل الاعتقاد!
ألا فاعلم -يا أُخَي- أني أذكّرك بقوله تعالى: ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾، وبقوله سبحانه: ﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون﴾، وبقوله عزّ وجلّ: ﴿ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾، وبقوله جلّ جلاله: ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا﴾.
واعلم –يا أُخَي- أنّنا سنقف بين الله تعالى، يوم تبلى السرائر، وتجلى الضمائر، ويبعثر ما في القبور، ويحصّل ما في الصدور، فأحاججك عند الله على ما خطّته يمينك في تلك السطور، وعند الله تعالى تفضّ الخصومات، ويقتصّ في الحقوق والحرمات، ويعطى كل ذي حقّ حقه من المظالم والحكومات.
ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون... عليها يوم تبلى السرائر
وقال آخر:
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي... يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر
فوالله الذي أهلك ثمود وعاد؛ إن لم تتحلّل، وتتوب على الأشهاد، كما أظهرت ما في جعبتك من الأضغان والأحقاد، فسأكون خصمك يوم التَّناد. ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلم سليم﴾؛ ولا يغني عنك المصفّقون لك شيئًا. ﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين﴾.
ألاَ فاعلم –أخي القاري([4])- أنّه والله الذي لا إله غيره لم أقبض من هذه الرسالة دينارًا واحدًا، ولا نصفه، ولا طلبت ذلك من الناشر؛ وهو لا يزال على قيد الحياة، ومتّعه الله بالصّحة والعافية.
وقوله: «فحذف كلمة مولانا وشيخ الإسلام» كذا، نسب إليّ الحذف، ورمى بحصى الخذف، وقصد بذلك القذف؛ وهو من الظلم والحيف؛ والجواب عنه من وجوه:
أوّلها: أن يعلم ذاك المدّعي المعتدي أن لا علم لي بهذا الحذف، وما اطّلعت عليه إلا بعدما نشرت الرسالة.
الوجه الثاني: أنّ هذا الحذف كان من تصرّف الناشر، اختصارا للعبارة، وليس كما زعم ذاك المفتري رجمًا بالغيب، وقذفًا بالظن؛ وكان قد استأذنني في إعادة طبعها فأذنت له.
الوجه الثالث: أنّ هذا يؤكّد جهل الرجل المطبق بقواعد التحقيق، إذ ضبط أسماء المؤلِّفين، وذكر ألقابهم على طرّة المخطوط، هو من تصرّفات النسّاخ، إلا ما كان من نسخة الأمّ، وهي النسخة التي كتبها المؤلّف بخطّه؛ فالتصرّف فيها بالاختصار لا يعد تصرّفًا في لقب المؤلِّف واسمه؛ كما لا يخفى على من له أدنى مستوى بفنّ التحقيق.
الوجه الرابع: أنّه هب أنّي تصرّفت في ذلك، فهل يلزم من هذا كل ذاك التهريج والتهييج، والدعوى أنّي فعلت ذلك من أجل كذا وكذا.
الوجه الخامس: أنّه هب أنّي تصرفت في لقب المؤلّف، وحذفت ما قضَّ مضجعك، فهل –يا رجل- تقرّ بلفظ: «مولانا»، والذي يجري غالبا على ألسنة أهل التصوّف؟!
ألاَ كان الأجدر بك أن تحسن الظنّ، ويتبادر إلى ذهنك أنّ المتّهم لعلّه لم ينتبه إلى هذه العبارة، فتراجع عنها، أم دبّ إليك داء الأمم؟!
وقوله: «وطبعة أبو ظبي في 56 صفحة، خلافا لطبعة قسنطينة ففي 47 صفحة. فماذا حذف أيضا تقربا لأتباعه من أهل الجزائر؟».
هذا يؤكّد ما ذكرته سابقا، وهو أنّ الرجل لا علم له بفنّ التحقيق، ولا بنشر الكتب، لأنّه اعتاد التسويق في بيت العنكبوت، -﴿وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت﴾- ففيها يعرض بضاعته الكاسدة، في السوق الراكدة، يجلب فيها بكلّ رَجِلٍ وَخَيْل؛ فلا يساومها إلا من كان على شاكلته، ممّن يساوم ويشتري في الظلام؛ كحاطب ليل، يجرّ كلّ رذْل، وذيل.
والجواب عن هذا الهراء: أن يعلم ذاك المفتري أنّ هذا إنّما يرجع إلى الصّفّ، فصاحب دار «معالم السنن» لم يعتمد على صفّ دار بينونة، بل أعاد تصفيفها من جديد، ولهذا وقع بين الطبعتين تفاوت في عدد الأوراق.
وقوله: «فماذا حذف أيضا تقربا لأتباعه من أهل الجزائر؟» فانظر أخي القارئ–سلم الله عقلك- إلى التدني الذي نزل إليه القوم؛ والانحراف الذي وصل إليه الفهم، والإفراط الذي بلغه الوَهْم؛ يرجم بالظنون، والجنون فنون، ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾.
أقول: أمّا قوله: «فماذا حذف أيضا» فكان عليك أن تقابل بين الطبعتين، لتكشف ما حذفت وما تركت.
وأمّا قوله: «تقربا لأتباعه من أهل الجزائر» فهذا كأنّ الرجل، مطّلع على السرائر، يحكم على الأعمال، أهي لله أم لغيره؛ ألا فاعلم -يا هذا-، أنّ التقرّب بالأعمال لا يكون إلا لله الواحد المتعال، وهو سبحانه وحده المطلع على السرائر، العالم بجميع الأحوال، وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي كلّه لوجهه خالصا، ومن النار مُنجيا ومخلِّصًا، وهذا أيضا على القاعدة الجارفية: جهل بأبسط مسائل الاعتقاد.
وقوله: «إلا أن التبعة عليه أيضا لأنه لم يحذر من عقيدة المؤلف في طبعة الجزائر».
وهذا يدلّ على أنّ الرجل أخبط من عشواء في ظلماء؛ فإنّه سبق وأن اتّهمني بحذف لقب المؤلّف، لأني نشرتها في الخارج، إذا كان سيأتي بشيء من الدنيا –على حدّ قوله-؛ فكيف أُعْمِي عقيدته، والحال أنّي نشرتها تقرّبا لأتباعي من أهل الجزائر؟! أليس الأولى أن أخفي عقيدته في الخارج في نظرك، حتى يأتيني بشيء من الدنيا؟! لكنّه الهوى يعمي ويصمّ.
وقوله: «بل ولم يترجم له الترجمة التي تليق بمثل هذه الرسائل» وهذا يؤكد أيضا جهله بقواعد التحقيق، لأنّ ترجمة المؤلف ليست لزامًا إلا في الدراسات الجامعية، وها هي تحقيقات الشيخ الألباني رحمه الله بين يديه، هل رأيته ترجم للمؤلّف بما «تليق بمثل هذه الرسائل» (على لغته)؟!
على أنّ عبارته ركيكة وغير مستقيمة، فقوله: «بل ولم» فيه عطف حرف العطف على حرف العطف؛ وحروف العطف لا يعطف بعضها على بعض، وصوابه: «بل لم ...».
وقوله: «التي تليق بمثل..» صوابه: «التي تليق به في مثل..» لأنّ العائد يعود على المؤلِّف، وليس على المؤلَّف «مثل هذه الرسائل»، فتنبّه!
وقوله: «ولعل استبداله لكلمة تحقيق بكلمة اعتنى وراءها ما وراءها».كذا، كأنّه يستشف من وراء حُجُبِ الغيب؛ فيا ليتك أطلعت المصفّقين لك ما وراءها، ما دام قد تكلّمت في المغيبات، وشكّكت في النيات، وَصِرْتَ تقرأ ما وراء الكلمات.
وليتك بيّنت الفرق بين كلمة «التحقيق»، وكلمة «اعتنى بها» حتى أدرك ما وراء الكلمتين.
وأكثر من الهَدِيد وَالفَدِيد، والوعيد من وراء وراء. وإنّما أقول لك: والله من وراء القصد.
ثم ذكر جملة من الأخطاء التي وقف عليها في التعليق على الرسالة، والحقّ أنّي كنت سأعرض عن الإجابة عنها، لأنّ ما تقدّم ذكره كافٍ لكلّ منصف في بيان حال هذا الرجل، بل كنت سأعرض عنه مطلقا، لأنّ السكوت عن السّفيه جواب له؛ كما قيل:
متاركةُ السفيهِ بلا جوابِ... أشدّ على السَّفيهِ من الجوابِ
وقال آخر:
قل بما شئت في مسبّة عرضي... فسكوتي عن اللئيم جواب
ما أنا عادم الجواب ولكن ... ما من الأسد أن تجيب الكلاب.
وقال آخر:
سكت عن السفيه فظنّ أنّي... عيِيت عن الجواب وما عييت
فإنْ كلمته فرّجت عنه .......... وإن خليته كمداً يموت
لكن نحن أبناء زمان، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم؛ فاضطرّني إلى الردّ عليه دفعًا لتلبيسه وكشفًا لتدليسه، وتعرية لجهله، وتجلية لخبله.
([1]) قلت: أُبلغت؛ لأنّي لست ممن يدخل هذه المنتديات، ولهذا لم أعلم بهذا المقال إلا مؤخّرا.
([2]) الأصل أن أنقل كلامه بالخط البارز حتى يتميّز عن كلامي، لكن هذا الرجل لا يستحق كلامه البروز، ووالله لولا أني أردت أن اطلع القرّاء الكرام على سذاجة عقله، وسخافة قوله، لمَا نقلته؛ ولهذا حصرته بين علامة التنصيص، وجعلت تحته خطًا.
([3]) كذا قال الجارف الهارف؛ وهذا لجهله، فإنّ البسط في اللغة السعة. قال تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ أي يوسع؛ على أن كلامه هذا يتضمن التكفير، لأن الذي يجهل أبسط (على لغته) مسائل الاعتقاد هو الكافر. هذه بضاعته، يهرف بما لا يعرف؛ تشابهت قلوبهم.
([4]) وجّهت الخطاب إلى القارئ الكريم، ولم أوجّهه إلى ذاك الرجل، لأنّه سواء برّ قسمي أو لم يبرّه، لا يهمني، ولا يعنيني؛ وليس له ذكر في حسباني، ولا أثر في عيني.
تعليق