محطات شرعية مع دعاة الإفساد والتفجير والإعتداء على البرية
الشيخ أبو عبد الباري عبد الحميد بن أحمد العربي الجزائري
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد:
*المحطة الأولى:
أولا: لا يجوز للمغرر بهم أن يفرحوا بفتاوى المشبوهين، من أمثال أبي قتادة الفلسطيني، وضربه من الهلكى الذين يقيمون في ديار الصلبان، أو بعض المتطفلين على العلم من أشاعرة شنقط؛ الذين يحفظون المتون ولا يفهمون!، فإنّ هذا الصنف لا يحق له أن يتكلم في الحيض والنفاس لجهله بالشريعة، وغرقه في مستنقع التقليد، فكيف يفتي في دماء الناس!؟
ثانيا: يحرم على المغرَّر بهم أن ينطلقوا في نصرة الإسلام في ديارهم الإسلامية والآمنة تقليدا لصنيع بعض المسلمين في العالم، فما يحدث في الشيشان، وأفغانستان، والفلبين، والصومال، وفلسطين، وكشمير، وأخيرا العراق، له أحكام خاصة جدا لا يجوز تعميمها ولا توسيعها، ولا أن يكون أصلا يقاس عليه غيره، أضف إلى ذلك أن القائمين على تصحيح الوضع في هذه الأقاليم فيهم دخن واعوجاج، وتعدٍ وظلم، لجهلهم بمنهج السلف في باب التغير، والسياسة الشرعية.
ثالثا: على المغرّر بهم أن يدركوا أن قضايا الأمة يجب أن لا تؤثر على أمن الوطن القائم وإن كان فيه اعوجاج، وأن الذي يحدث في الأقاليم السابقة يعالج بالمحافظة على أمن الأوطان القائمة، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تكون قضايا الأمة سببا في زرع الفتن في الأوطان الآمنة، ولو كان للمغرر بهم فقه متين لوقفوا على هذه القاعدة التي حررها علماءُ السنّةِ الأفذاذ، وأن مصلحة الوطن المسلم مقدمة على قضايا الأمة.
*المحطة الثانية: جعل دعاة التفجير أصل أصولهم قبل توحيد الله تعالى إسقاط الأنظمة القائمة بكل وسيلة شرعية كانت أو بدعية!!
إنّ دعاة الإرهاب والخروج، وتكفير الخلق بالصّغيرة والكبيرة جعلوا أصلَ أصولهم ذكرَ عيوب الحُكام، ونشرها في وسائل الإعلام: وأن الدين لا تقوم له قائمة إلا بإسقاط الأنظمة الحاكمة، عن طريق التمرد والعصيان وإراقة الدماء، وتدمير وقتل كل ما امتدت إليه أيديهم!.
إن صنيع القوم مخالف تماما للأدلة الشرعية الساطعة، ومباين للواقع المعيش، ومن الأدلة:
قوله جل وعز في سورة الرعد : ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)) وقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة: (لتُنْقضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة؛ تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة). قلت: الحديث إسناده جيد: أخرجه الإمام أحمد (5/251)، وابنه عبد الله في السنّة (برقم764)، والحاكم (4/190 برقم 7101ط: مقبل بن هادي الوادعي ) من طريق عبد العزيز بن إسماعيل بن عبيد الله، أنّ سليمان بن حبيب حدثهم عن أبي أمامة الباهلي به.
قال الحاكم: عبد العزيز هذا هو ابن عبيد الله بن حمزة بن صهيب، وإسماعيل: هو ابن عبيد الله بن المهاجر، والإسناد كله صحيح، ولم يخرجاه.
تعقبه الذهبي بقوله: عبد العزيز ضعيف.
قلت: قد وهم الحاكم والذهبي رحمهما الله في ذلك.
قال العلامة مقبل بن هادي رحمه الله في تذييله على مستدرك الحاكم: (عبد العزيز ترجمه الحافظ في "تعجيل المنفعة" قال أبو حاتم: ليس به بأس، وأمّا الذهبي فقد تبع في هذا الحاكم على أن عبد العزيز هو: ابن عبيد الله إلخ، وليس كذلك، بل هو: ابن إسماعيل بن عبيد الله كما في مسند أحمد (5/251)، وشيخه سليمان بن حرب)اهـ.
قلت وبالله التوفيق: فعبد العزيز هذا ليس هو ابن عبيد بن حمزة بن صهيب بن سنان الحمصي، وإنما هو عبد العزيز ابن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، مولاهم الدمشقي، الذي وثقه ابن حبان في الثقات (7/110)، وقال عنه أبو حاتم في الجرح والتعديل (5/377 برقم 1766): ليس به بأس، انظر تعجيل المنفعة للحافظ (1/820 برقم659). وعليه فيكون حاله أنه حسن الحديث.
وقد نبه إلى وهم الحاكم والذهبي العلاّمة الألباني فقال رحمه الله في تعليقه على صحيح الترغيب والترهيب (1/369) ط مكتبة المعرف) بإيجاز شديد: (وفي سنده تحريف خَفِيَ على الذهبي فضعف الحديث من أجله! وإسناد أحمد صحيح)
قلت: وإسناد الإمام أحمد حسن، ولا أظنّ أنه يرقى إلى الصحة، والله أعلم.
وأخرجه الطبراني في الكبير (برقم 7486)، وفي الشاميين (2/411 برقم 1602)، والبيهقي في الشعب (برقم 7524) من طريق محمد بن عبد الله الحضرمي، عن أحمد بن حنبل به.
وأخرجه ابن حبان (برقم 6715) من طريق إسحاق بن إبراهيم المروزي، والبيهقي في الشعب (5277) من طريق أبي جعفر المسندي؛ كلاهما عن الوليد بن مسلم به.
قلت: وفي هذا الحديث أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ أول شعائر الدين ذهابا الحكم بما أنزل الله، وبين في نفس الحديث أن كثيرًا من شعائر الدين تبقَى بعد ذهاب الحكم، والشيء لا يذهب كله بذهاب أوله كما في هذا الحديث وحديث فيروز الديلمي الذي أخرجه الإمام أحمد (4/232) وقد رُوي موقوفا ومرفوعا، وفيه: (لينقضن الإسلام عروة عروةً، كما ينقض الحبل قوة قوة)، فظهر بذلك أنه ليس الأمر كما يقولون: ذهاب الحكم؛ ذهاب الدين كله، وعليه تصير الدولُ الإسلامية على مفهومهم العفن دُوَلَ كفرٍ شبيهة بروما وباريس، آخذين هذا العفن من رأسهم سيد قطب المصري الذي يقول في ظلال القرآن (4/2122): (إنّه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة، ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي).
ويقول كذلك: كما في ظلال القرآن (3/1634 ): (إن المسلمين اليوم لا يجاهدون، ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون)، ويقول كذلك كما في الظلال (4/2009): (إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم)، ويقول كما في كتابه العدالة الاجتماعية (ص:250): (وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام لا نرى لهذا الدين وجوداً، إن هذا الوجود قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر، ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة، وأن نجهر بها، وألاّ نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين، الذين يحبون أن يستيقنوا كيف يكونون مسلمين..). وقال في تفسيره (3/1451)، حاثاً شباب الأمة على الخروج والفتنة: (إنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم، بإحداث الانقلاب المشهود، والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها)، وقال أيضا في ظلال القرآن (2/1057): ( لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية، وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كان فيه يتنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم…، لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلاّ الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن لا إله إلاّ الله، دون أن يدرك مدلولها…، البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله، بلا مدلول ولا واقع… وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن بعد أن كانوا في دين الله). ولما استقر ضلال سيد قطب - ومن خدم منهجه المنحرف؛ كمحمد سرور زين العابدين، وسفر الحوالي، وعدنان عرعور، والمراكشي، وخلق كثير- في قلوب دعاة التكفير بالكبيرة والصغيرة، صار اهتمامهم بالحاكمية هو شغلهم الشاغل، ولا تجدهم أبدا يعنون بباقي الواجبات، وحق الله على البريات، بل ربما جعل بعضُهم الدعوة إلى التوحيد الخالص، والعقيدة السليمة من التأويل والتمثيل والتحريف؛ مضيعة للوقت، ونفخة في رماد، وأن قضية العصر التي يجب أن تجمع لها الجهود، وتسل في سبيلها السيوف، وتجهز لها الجيوش هي: الإطاحة بالأنظمة القائمة، على قاعدة: أن الهرم يُؤتى عليه من أعلاه، حتى ولو أدى الأمر إلى تحويل الدول الآمنة إلى نسخة شبيهة بالصومال والعراق، والله العاصم من منهج دعاة الضلال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (35/45): (...وأما الحديث النبوي "السّلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كلّ ضعيف وملهوف" ، وهذا صحيح ، فإنّ الظل مفتقر إلى آو، وهو رفيق له، مطابق له نوعا من المطابقة، والآوي إلى الظل المكتنف بالظل صاحب الظل، فالسلطان عبد الله، مخلوق، مفتقر إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وفيه من القدرة والسّلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية، التي بها قوام الخلق، ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض، وهو أقوى الأسباب التي يصلح بها أمور خلقه وعباده، فإذا صلح ذو السلطان؛ صلحت أمور النّاس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده ولا تفسد من كل وجه، بل لا بد من مصالح، إذْ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملًا مانعًا من جميع الأذى، وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى، وأما إذا عُدِم الظل؛ فسد الأمر...).
تعليق