رسالة أبى إلى عبيد الله -رحمه الله- فى القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
871- حدثنا صالح، قال:
كتب عبيد الله بن يحيى إلى أبي -رحمة الله عليه- يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن أمر القرآن
لا مسألة امتحان ولكن مسألة معرفة وبصيرة ،
فأملى علي أبي -رحمه الله-:(إلى عبيد الله أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلها ودفع عنك مكاره الدنيا والآخرة برحمته
قد كتبت إليك رضي الله عنك بالذي سأل عنه أمير المؤمنين فقد كان الناس في خوض من الباطل واختلاف شديد يغتمسون فيه حتى أَفْضَت الخلافة إلى أمير المؤمنين
فنفى الله بأمير المؤمنين كل بدعة وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس فصرف الله ذلك كله وذهب به أمير المؤمنين
ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما ودعوا الله لأمير المؤمنين فأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء
وأن يتمم ذلك لأمير المؤمنين ويزيد في نيته ويعينه على ما هو عليه .
وقد ذكر عن عبد الله بن عباس رحمة الله عليه أنه قال : "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم".
وذكر عبد الله بن عمرو أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا
قال: فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان فقال:
"أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم مما ها هنا في شيء
انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه".
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مراء في القرآن كفر".
وروي عن أبي جهيم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر".
وقال عبد الله بن عباس قدم على عمر بن الخطاب رجل فجعل عمر يسأله عن الناس
فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة.
قال: فزبرني عمر ، ثم قال: مه ، فانطلقت إلى منزلي مكتئبا حزينا فبينما أنا كذلك إذ أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين
فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني فأخذ بيدي فخلا بي وقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل؟
قال: إنما قلت: يا أمير المؤمنين! متى ما يتسارعوا هذه المسارعة يحتقوا،
ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا.
قال: لله أبوك ، والله إن كنت لأكاتمها الناس حتى جئت بها.
وروي عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف
فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي".
وروي عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه". يعني: القرآن.
وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه". يعني: القرآن.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "جردوا القرآن ولا تكتبوا فيه شيئا إلا كلام الله".
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "إن هذا القرآن كلام الله فضعوه على مواضعه".
وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إذا قرأت كتاب الله وتدبرته ونظرت في عملي كدت أن أيأس وينقطع رجائي.
قال: فقال له الحسن: "إن القرآن كلام الله وأعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير فاعمل وأبشر".
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنت جارا لخباب -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- فخرجت معه يوما من المسجد وهو آخذ بيدي فقال:
"يا هناة تقرب الله إلى بما استطعت فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه".
وقال رجل للحكم بن عتيبة: "ما حمل أهل الأهواء على هذا ؟ قال: الخصومات".
وقال معاوية بن قرة: -وكان أبوه ممن أتى النبي صلى الله عليه وسلم- "إياكم وهذه الخصومات، فإنها تحبط الأعمال".
وقال أبو قلابة: -وكان أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- "لا تجالسوا أصحاب الأهواء أو قال أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون".
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث ؟ قال: لا .
قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟ قال: "لا، لتقومان عني أو لأقومنه" قال: فقام الرجلان فخرجا.
فقال بعض القوم: يا أبا بكر! ما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله ؟ فقال محمد بن سيرين: "إني خشيت أن يقرآ علي آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي".
فقال محمد: "لو أعلم أني أكون مثل الساعة لتركتهما".
وقال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر ! أسألك عن كلمة ، فولى وهو يقول بيده: "ولا نصف كلمة".
وقال ابن طاوس لابن له -وتكلم رجل من أهل البدع-: "أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول", ثم قال: "اشدد ، اشدد".
وقال عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل".
وقال إبراهيم النخعي: "إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبىء لكم الفضل عندكم".
وكان الحسن البصري يقول: "شر داء خالط قلبا". يعنى: الهوى.
وقال حذيفة بن اليمان: -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- "اتقوا الله معاشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم،
والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا، - أو قال: مبينًا".
وإنما تركت ذكر الأسانيد لما تقدم من اليمين التي قد حلفت بها مما قد علمه أمير المؤمنين لولا ذلك ذكرتها بأسانيدها.
وقد قال الله جل ثناؤه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.
وقال: {ألا له الخلق والأمر} , وأخبر تبارك وتعالى بالخلق، ثم قال "والأمر"فأخبر أن الأمر غير الخلق.
وقال تبارك وتعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} , فأخبر تبارك وتعالى أن القرآن من علمه.
وقال: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}.
وقال: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}.
وقال: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} , فالقرآن من علم الله.
وفي هذه الآيات دليل على أن الذي جاءه صلى الله عليه وسلم هو القرآن لقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم}.
وقد روي عن غير واحد ممن مضى من سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وهو الذي أذهب إليه ولست بصاحب كلام،
ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن أصحابه -رحمة الله عليهم-، أو عن التابعين،
فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.
وإني أسأل الله أن يطيل بقاء الأمير، وأن يثبته ويمده منه بمعونة، إنه على كل شيء قدير.اهـ
.................................................. ........
مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه أبي الفضل صالح
تأليف صالح بن الإمام أحمد بن حنبل / 266 هـ
تعليق