الحلقة الثانية
سادسا : قوله (( أن الذي يخرج من الملة هو الكفر الإعتقادي ))
أقول : هذه العبارة وقعت للشيخ رحمه الله ، وهي توهم أن لا كفر إلا الكفر الإعتقادي ، مع أن المقرر أن الكفر الأكبر المخرج من الملة [ خمسة أنواع : كفر تكذيب ، و كفر استكبار و إباء مع التصديق ، وكفر إعراض ، وكفر شك ، وكفر نفاق ] ، فقد يحكم بكفر الشخص بالعمل أو بالقول ، أو بالشك ، أو بالتكذيب ، فلم ينحصر الكفر في الإعتقاد .
أقول : الشيخ رحمه الله جرت العبارة في لسانه من خلال وقوفه على كلام ابن قيم الجوزية الذي استعمل فيه نحو هذه العبارة ، حيث قال ابن القيم رحمه الله ( إن الكفر نوعان : كفر عمل . و كفر جحود و عناد .
الجحود : أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا و عنادا من أسماء الرب و صفاته و أفعاله و أحكامه ، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه .
أما كفر العمل فينقسم إلى : ما يضاد الإيمان ، و إلى ما لا يضاده.
فالسجود للصنم و الإستهانة بالمصحف و قتل النبي و سبه يضاد الإيمان .
و أما الحكم بغير ما أنزل الله ، و ترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا ، ولا يمكن أن ينفي عنه أسم الكفر بعد أن أطلقه الله و رسوله عليه ، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر ، و تارك الصلاة كافر ، بنص رسول الله و لكن ؛ هو كفر عمل لا كفر اعتقاد .
و من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ، و يسمي رسول الله تارك الصلاة كافرا ، و لا يطلق عليهما اسم الكفر ، و قد نفى رسول الله الإيمان عن الزاني و السارق و شارب الخمر و عمن لا يأمن جاره بوائقه ، و إذا نفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه كفر الجحود و العناد .
ثم قال : فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي ، و الإيمان الإعتقادي يضاده الكفر الإعتقادي ، و قد أعلن النبي بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح : ((سباب المسلم فسوق و قتاله كفر)) ففرق بين قتاله و سبابه و جعل أحدهما فسوقا لا يكفر به و الآخر كفرا ، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الإعتقادي ، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية ، لا يخرج الزاني و السارق و الشارب من الملة و إن زال عنه اسم الإيمان )) اهـ .
و الشيخ لما روجع في ذلك أثبت أنه يكفر بمجرد القول و بمجرد الفعل ، إذا كان يضاد الإيمان ، فهو يحكم بكفر ساب الدين ، إذا أصر بعد العلم ، وقرر أن من يدوس المصحف مع علمه به و قصده له فقد كفر كفرا مخرجا من الملة .
بل قد نص على أنه يحصر الكفر في الإعتقاد و في العمل الدال على الإعتقاد وهو يعني بهذا : العمل الذي يضاد الإيمان ، وظهرت إرادة الشخص و قصده فيه للفعل ( عملا و قولا).
ومن ذلك ما جاء في تعليقه على قول سفر الحوالي –شفاه الله - :(مع أن الكفر في الشرع : منه كفر تكذيب ، وكفر استهزاء ، وكفر إباء و امتناع و إعراض ، وكفر شك ) اهـ.
يعلق الألباني بقوله :(( هذه كلها من أعمال القلوب ، فليست كفرا عمليا محضا و بعضها ينبيء عما في القلب و ليس كل عمل كذلك بداهة ، كقتال المسلم)) اهـ.
وعموما : فإن إطلاق القول : أن لا كفر إلا بالإعتقاد ، عبارة لا تتفق مع ما يقرره أهل السنة في الباب وما انتهى إليه قول الشيخ في المسألة ، يوضح أن إطلاقها عنده غير مراد ، و الحمد لله .
سابعا : قوله : إن تارك الصلاة لا يكفر .
أقول : الشيخ يقول إن تارك الصلاة كسلا و تهاونا لا يكفر ، و لا يقصد من تركها بالكلية فلم يصل يوما إلى أن توفاه الله مع القدرة وعدم المانع ، بل يقصد : من يصلي أحيانا و يتكاسل و يتهاون أحيانا حتى يخرج و قتها من غير أن يصليها بلا عذر.
و للشيخ كلام نص في هذا ، فتراه يعلق على قول ابن تيمية رحمه الله :( وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب ، فإن كثيرا من الناس بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلاوات الخمس ، ولا هم تاركيها بالجملة ، بل يصلون أحيانا و يدعون أحيانا ، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق ، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث و نحوها من الأحكام ، فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي و أمثاله من المنافقين فلأن تجري على هؤلاء أولى و أحرى) اهـ.
يعلق الألباني على قول ابن تيمية هذا فيقول )) كلام عدل من كلام شيخ الإسلام وهو ينافي قول من يقول بتكفير تارك الصلاة ولو مرة واحدة بعد خروج وقتها ! و يوضح أن الذي يكفر إنما هو المعاند ، وقد مثل له بما تقدم ، كمن عرض على السيف إلا أن يصلي فأبى)) اهـ.
ولما قال الشيخ سفر الحوالي –عافاه الله- عن رسالة الألباني في حكم تارك الصلاة (( حيث جعل [أي الألباني] التارك الكلي مؤمنا من أهل الشفاعة و ركب رسالته كلها على هذا !)) اهـ.
تعقبه الألباني بقوله : (( ليس كذلك ، فالرسالة قائمة على تارك الصلاة كسلا)) اهـ.
وقال في تعليق آخر )) من لوازم التحقيق بل من ضرورياته – أن يبين المؤلف رأيه بوضوح : ماهو مذهب السلف ؟! أهو التكفير بصلاة واحدة فقط؟ أم بإصراره على تركها مطلقا ؛ بحيث يموت و قد شاخ و لم يصل لله صلاة ؟! أو هو الذي رفع أمره إلى الحاكم ، فأمره بالصلاة ، فأبى فقتل ؟!)) اهـ.
ولما قال الشيخ سفر الحوالي – شفاه الله -: (( فمن ترك الصلاة بالكلية ؛ فهو من جنس هؤلاء الكفار ، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب ، وحاله بهم أشبه ، من كان يصلي أحيانا و يدع أحيانا فهو متردد متذبذب بين الكفر و الإيمان و العبرة بالخاتمة ، و ترك المحافظة غير الترك الكلي الذي هو كفر )) اهـ.
علق عليه الألباني رحمه الله :(( وهذا التفصيل نراه جيدا و لكن: هل علة الكفر في هذه الحالة هو الترك لأنه ترك؟ أم لأنه يدل بظاهره على العناد و الإستكبار ، وهو الكفر القلبي ؟ ! هذا هو الظاهر وهو مناط الحكم بالكفر ، و ليس مجرد الترك ، وهو معنى ما كنت نقلته في رسالتي عن ابن تيمية (ص- 44-46) وهو المصر على الترك مع قيام الداعي على الفعل _ كما فصلته هناك – فراجعه فكلام المؤلف لا يخرج عنه بل يبينه و يوضحه) اهـ.
وهذا القول الذي اختاره الألباني رحمه الله في حكم تارك الصلاة هو من أقوال أهل السنة والجماعة في المسألة :
قال أبو عمر بن عبد البر(ت-463هـ) رحمه الله عن القول بأن تارك الصلاة كسلا وتهاونا بغير جحود لا يخرج من الإسلام وهو مؤمن ناقص الإيمان :( هذا قول قد قال به جماعة من الأئمة ممن يقول : الإيمان قول و عمل .
وقالت به المرجئة أيضا ، إلا أن المرجئة تقول: المؤمن المقر مستكمل الإيمان .... فأما أهل البدع فإن المرجئة قالت : تارك الصلاة مؤمن مستكمل الإيمان ، إذا كان مقرا غير جاحد ، و مصدقا غير مستكبر، و حكيت هذه المقالة عن أبي حنيفة و سائر المرجئة وهو قول جهم.
و قالت المعتزلة : تارك الصلاة فاسق ، لامؤمن ولا كافر ، وهو مخلد في النار إلا أن يتوب.
وقالت الصفرية و الأزارقة من الخوارج: هو كافر ، حلال الدم والمال.
وقالت الإباضية : هو كافر ، غير أن دمه وماله محرمان ، و يسمونه كافر نعمة ، فهذا جميع ما اختلف فيه أهل القبلة في تارك الصلاة )اهـ.
وقال مجد الدين ابن تيمية رحمه الله :(ومن أخر الصلاة تكاسلا لا جحودا أمر بها ، فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى وجب قتله، وعنه لا يجب إلا بترك ثلاث و بضيق وقت الرابعة ، و يستتاب بعد وجوب قتله ثلاثة أيام ، و يقتل حدا ، وعنه كفرا)اهـ.
وقال حفيده تقي الدين ابن تيمية رحمه الله )جاء في بعض الأحاديث ذكر بعض الأركان دون بعض ، ولهذا تنازع العلماء في تكفير من ترك شيئا من هذه الفرائض الأربع [الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ] بعد الإقرار بوجوبها.
فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة ، فهو كافر باتفاق المسلمين ، وهو كافر باطنا و ظاهرا عند سلف الأمة و أئمتها وجماهير علمائها.
وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر ، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش و الظلم والكذب والخمر ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة ؛ مثل أن يكون حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك ، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر ، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر ، وأمثال ذلك ؛ فإنهم يستتابون و تقام الحجة عليهم ، فإن أصروا كفروا حينئذ ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك ، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون ، و أصحابه لما غلطوا فيه من التأويل.
وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ، ففي التكفير أقوال للعلماء ، هي روايات عن أحمد:
أحــدها: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة ، حتى الحج و إن كان جواز تأخيره نزاع بين العلماء ، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف ، وهي أحدى الروايات عن أحمد اختارها أبوبكر.
و الثاني: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ، ومالك ،والشافعي ، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة و غيره.
والثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة ، وهي الرواية الثالثة عن أحمد ، وقول كثير من السلف ، وطائفة من أصحاب مالك و الشافعي ، وطائفة من أصحاب أحمد .
والرابع : يكفر بترك الصلاة و ترك الزكاة .
والخامس : يكفر بتركها و ترك الزكاة، إذا قاتل عليها دون ترك الصيام و الحج .
وهذه المسألة وهي : هل يكفر من أقر بالشهادتين ، وبوجوب الصلاة و الصوم و الزكاة والحج ، إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة؟ - لها طرفان:
أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر .
والثاني : في إثبات الكفر الباطن .
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا و عملا .
ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج ، و يعيش دهره لا يسجد لله سجدة ، و لا يصوم من رمضان ، ولا يؤدي زكاة ، ولا يحج إلى بيته ، فهذا ممتنع.
ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب ، وزندقة ، لا مع إيمان صحيح....
ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه ، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه و سلم وما جاء به ، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل ، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن فقط، لا يكون إلا كافرا.
ولو قال : أنا مقر بوجوبها ، غير أني لا أفعلها ، كان هذا القول مع هذه الحالة كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ، ويقول : أشهد أن ما فيه كلام الله ، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء و يقول : أشهد أنه رسول الله ، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب ، فإذا قال : أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحالة ، كان كاذبا فيما أظهره من القول .
فهذا الموضع ينبغي تدبره: فمن عرف إرتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب ، وعلم أن من قال من الفقهاء : أنه إذا أقر بالوجوب و امتنع عن الفعل لا يقتل ، أو يقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة و الجهمية ، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان ، وأن الأعمال ليست من الإيمان ، وقد تقدم : جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب .
و أن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه .
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات و يترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله ، و الإيمان يزيد و ينقص ، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، و إذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر .)) اهـ.
ثامنـــــا : محل الإرجاء في هذه المسألة هو في قول من قال من الفقهاء : إنه إذا أصر على ترك الصلاة وهو يدعى إليها و يرى بارقة السيف حتى يقتل ؛ أنه يقتل حدا لا ردة !
أو قال : من امتنع عن فعل الصلاة لا يقتل !
أو قال : من أقر بالصلاة و لم يلتزم وجوبها فهو مؤمن !
أو قال : من ترك الصلاة كسلا و تهاونا هو مؤمن مستكمل الإيمان !
أو قال : من أقر و لم يجحد وجوب الصلاة ، ثم هو تارك لها لم يفعلها بالكلية حتى يموت ، هو مؤمن !
هذا هو محل الإرجاء .
قال سفيان بن عيينة : (( فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافرا ، ومن تركها كسلا أو تهاونا أدبناه وكان بها عندنا ناقصا )) اهـ.
وقال ابن تيمية رحمه الله : ((فهذا الموضع ينبغي تدبره: فمن عرف إرتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب ، وعلم أن من قال من الفقهاء : أنه إذا أقر بالوجوب و امتنع عن الفعل لا يقتل ، أو يقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة و الجهمية ، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان ، وأن الأعمال ليست من الإيمان ))اهـ.
قلـــــــــــت : فهذا هو محل الإرجاء في المسألة ، فلا يقال عمن قال : إن من ترك الصلاة كسلا وتهاونا من غير جحود وعناد ، ومن غير ترك لها بالكلية مع التزامه بفعلها و إقراره بوجوبها ؛ فلا يخرج من الملة ، وهو ناقص الإيمان فإن دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها و أصر على الامتناع و الترك يقتل كافرا ؛ أقول : لا يقال عمن قال هذا : إنه هوّن من شأن الصلاة ، أو إن هذا من آثار الإرجاء ، أو من قال بذلك فيه إرجاء ! لا يقال هذا ؛ إذ قد بينت لك محل الإرجاء فلا تلتبس عليك الأمور والله يرعاك ! بل هذا القول من أقوال أهل السنة في المسألة .
فقد جاء في رواية عن أحمد بن حنبل (ت-241) رحمه الله :(( يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام [فإن تاب رجع إلى الإيمان] . ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم ، او يرد فريضة من فرائض الله عزوجل جاحدا بها ، فإن تركها كسلا و تهاونا كان في مشيئة الله ، إن شاء عذبه و إن شاء عفا عنه)) اهـ.
بل نقل عن بعض أهل البدع تسمية أهل السنة مرجئة في قولهم هذا في الصلاة ؛ قال السكسكي (ت-683هـ) رحمه الله أثناء كلامه عن الفرقة الناجية و الطائفة المنصورة : أهل السنة و الجماعة : قال : (( و تسميها ( يعني : تسمي أهل السنة و الجماعة) المنصورة – وهم أصحاب عبدالله بن زيد – مرجئة ؛ لقولها :
إن تارك الصلاة إذا لم يكن جاحدا لوجوبها مسلم على الصحيح من المذهب . و يقولون : هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل )) اهـ.
و المقصـــــود : أن المراد بـ(( من ترك الصلاة كسلا و تهاونا لا يكفر كفرا مخرجا من الملة )) هو من لم يجحد وجوب الصلاة ، و أقر بوجوب التزامها ، و لكنه لم يفعلها ، ولم يتركها بالكلية ، من غير جحود حقيقة أو حكما .
أمّا حقيقة فجحد وجوب الصلاة و إنكاره أو جحد أنها من الشرع أصلا ؛ وهذا ظاهر . و أمّا جحدها حكما فهو كأن يدعى من قبل الإمام أو نائبه إلى فعلها فيصر على الترك مع تهديده بالقتل ، فيختار القتل على فعل الصلاة ، أو كأن يقول إنه مسلم و لم يصل لله ركعة قط منذ قال إنه أسلم إلى موته بلا عذر أو مانع شرعي معتبر . و الله أعلم وأحكم .
تاسعا : فرق ما بين الرجل والإرجاء :
عن سويد بن سعيد الهروي قال : (( سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال : يقولون : الإيمان قول ونحن نقول : الإيمان قول و عمل . والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض . و سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ؛ و ليس بسواء ؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل و لا عذر هو كفر ((في الهامش : مراده بالترك الجحد كما سيأتي في مثاله عن إبليس !)) . و بيان ذلك في أمر آدم – صلوات الله عليه- و إبليس و علماء اليهود ؛ أما آدم فنهاه الله عزوجل عن أكل الشجرة و حرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسمي عاصيا من غير كفر . و أما إبليس –لعنه الله – فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا . و أما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم و أنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم و أقروا به باللسان و لم يتبعوا شريعته فسماهم الله عزوجل كفارا . فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام و غيره من الأنبياء . و أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس – لعنه الله – وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود . والله أعلم ))اهـ.
عن سفيان الثوري (ت-161) رحمه الله قال : (( خلاف مابيننا و بين المرجئة ثلاث : هم يقولون : الإيمان قول لا عمل . و نقول الإيمان قول و عمل . و نقول يزيد و ينقص ، وهم يقولون : لا يزيد و لا ينقص . ونحن نقول : النفاق . وهم يقولون : لا نفاق )) اهـ.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : (( قيل لابن المبارك : ترى الإرجاء؟ قال : أنا أقول الإيمان قول و عمل ، و كيف أكون مرجئا ؟! ))اهـ.
و قال البربهاري رحمه الله : (( ومن قال الإيمان قول وعمل يزيد و ينقص فقد خرج من الإرجاء كله أوله و آخره)) اهـ.
وعن إسماعيل بن سعيد : (( سألت أحمد بن حنبل : من قال الإيمان يزيد و ينقص ؟ قال : هذا بريء من الإرجاء )) اهـ.
وعن محمد بن أعين : (( قال شيبان لابن المبارك : يا أبا عبدالرحمن ماتقول فيمن يزني و يشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو ؟ قال ابن المبارك : لا أخرجه من الإيمان ! فقال : على كبر السن صرت مرجئا ؟ فقال له ابن المبارك : يا أبا عبدالله إن المرجئة لا تقبلني ؛ أنا أقول الإيمان يزيد و ينقص و المرجئة لا تقول ذلك . و المرجئة تقول : حسناتنا متقبلة و أنا لا أعلم تقبلت مني حسنة . [ و يقولون : إنهم في الجنة ! وأنا أخاف أن أخلد في النار . و تلا عبدالله هذه الآية :{ يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى } [ البقرة-264] ، { يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } [ الحجرات-2] .
وما يؤمني ؟! قال ابن أعين : قال له ابن المبارك : وما أحوجك إلى أن تأخذ سبورجة فتجالس العلماء )) اهـ..
و الألباني –رحمه الله – كما تقدم يقرر أن الإيمان تصديق بالقلب و قول باللسان و عمل بالجوارح ، وأنه يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية ، و أن العمل من الإيمان . فهل مع هذا جميعه يقال عنه مرجيء ؟!
يتبع إن شاه الله تعالى
الحلقة الثالثة من قوله :
أما قولهم: محدث ليس بفقيه.
سادسا : قوله (( أن الذي يخرج من الملة هو الكفر الإعتقادي ))
أقول : هذه العبارة وقعت للشيخ رحمه الله ، وهي توهم أن لا كفر إلا الكفر الإعتقادي ، مع أن المقرر أن الكفر الأكبر المخرج من الملة [ خمسة أنواع : كفر تكذيب ، و كفر استكبار و إباء مع التصديق ، وكفر إعراض ، وكفر شك ، وكفر نفاق ] ، فقد يحكم بكفر الشخص بالعمل أو بالقول ، أو بالشك ، أو بالتكذيب ، فلم ينحصر الكفر في الإعتقاد .
أقول : الشيخ رحمه الله جرت العبارة في لسانه من خلال وقوفه على كلام ابن قيم الجوزية الذي استعمل فيه نحو هذه العبارة ، حيث قال ابن القيم رحمه الله ( إن الكفر نوعان : كفر عمل . و كفر جحود و عناد .
الجحود : أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا و عنادا من أسماء الرب و صفاته و أفعاله و أحكامه ، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه .
أما كفر العمل فينقسم إلى : ما يضاد الإيمان ، و إلى ما لا يضاده.
فالسجود للصنم و الإستهانة بالمصحف و قتل النبي و سبه يضاد الإيمان .
و أما الحكم بغير ما أنزل الله ، و ترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا ، ولا يمكن أن ينفي عنه أسم الكفر بعد أن أطلقه الله و رسوله عليه ، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر ، و تارك الصلاة كافر ، بنص رسول الله و لكن ؛ هو كفر عمل لا كفر اعتقاد .
و من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ، و يسمي رسول الله تارك الصلاة كافرا ، و لا يطلق عليهما اسم الكفر ، و قد نفى رسول الله الإيمان عن الزاني و السارق و شارب الخمر و عمن لا يأمن جاره بوائقه ، و إذا نفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه كفر الجحود و العناد .
ثم قال : فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي ، و الإيمان الإعتقادي يضاده الكفر الإعتقادي ، و قد أعلن النبي بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح : ((سباب المسلم فسوق و قتاله كفر)) ففرق بين قتاله و سبابه و جعل أحدهما فسوقا لا يكفر به و الآخر كفرا ، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الإعتقادي ، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية ، لا يخرج الزاني و السارق و الشارب من الملة و إن زال عنه اسم الإيمان )) اهـ .
و الشيخ لما روجع في ذلك أثبت أنه يكفر بمجرد القول و بمجرد الفعل ، إذا كان يضاد الإيمان ، فهو يحكم بكفر ساب الدين ، إذا أصر بعد العلم ، وقرر أن من يدوس المصحف مع علمه به و قصده له فقد كفر كفرا مخرجا من الملة .
بل قد نص على أنه يحصر الكفر في الإعتقاد و في العمل الدال على الإعتقاد وهو يعني بهذا : العمل الذي يضاد الإيمان ، وظهرت إرادة الشخص و قصده فيه للفعل ( عملا و قولا).
ومن ذلك ما جاء في تعليقه على قول سفر الحوالي –شفاه الله - :(مع أن الكفر في الشرع : منه كفر تكذيب ، وكفر استهزاء ، وكفر إباء و امتناع و إعراض ، وكفر شك ) اهـ.
يعلق الألباني بقوله :(( هذه كلها من أعمال القلوب ، فليست كفرا عمليا محضا و بعضها ينبيء عما في القلب و ليس كل عمل كذلك بداهة ، كقتال المسلم)) اهـ.
وعموما : فإن إطلاق القول : أن لا كفر إلا بالإعتقاد ، عبارة لا تتفق مع ما يقرره أهل السنة في الباب وما انتهى إليه قول الشيخ في المسألة ، يوضح أن إطلاقها عنده غير مراد ، و الحمد لله .
سابعا : قوله : إن تارك الصلاة لا يكفر .
أقول : الشيخ يقول إن تارك الصلاة كسلا و تهاونا لا يكفر ، و لا يقصد من تركها بالكلية فلم يصل يوما إلى أن توفاه الله مع القدرة وعدم المانع ، بل يقصد : من يصلي أحيانا و يتكاسل و يتهاون أحيانا حتى يخرج و قتها من غير أن يصليها بلا عذر.
و للشيخ كلام نص في هذا ، فتراه يعلق على قول ابن تيمية رحمه الله :( وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب ، فإن كثيرا من الناس بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلاوات الخمس ، ولا هم تاركيها بالجملة ، بل يصلون أحيانا و يدعون أحيانا ، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق ، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث و نحوها من الأحكام ، فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي و أمثاله من المنافقين فلأن تجري على هؤلاء أولى و أحرى) اهـ.
يعلق الألباني على قول ابن تيمية هذا فيقول )) كلام عدل من كلام شيخ الإسلام وهو ينافي قول من يقول بتكفير تارك الصلاة ولو مرة واحدة بعد خروج وقتها ! و يوضح أن الذي يكفر إنما هو المعاند ، وقد مثل له بما تقدم ، كمن عرض على السيف إلا أن يصلي فأبى)) اهـ.
ولما قال الشيخ سفر الحوالي –عافاه الله- عن رسالة الألباني في حكم تارك الصلاة (( حيث جعل [أي الألباني] التارك الكلي مؤمنا من أهل الشفاعة و ركب رسالته كلها على هذا !)) اهـ.
تعقبه الألباني بقوله : (( ليس كذلك ، فالرسالة قائمة على تارك الصلاة كسلا)) اهـ.
وقال في تعليق آخر )) من لوازم التحقيق بل من ضرورياته – أن يبين المؤلف رأيه بوضوح : ماهو مذهب السلف ؟! أهو التكفير بصلاة واحدة فقط؟ أم بإصراره على تركها مطلقا ؛ بحيث يموت و قد شاخ و لم يصل لله صلاة ؟! أو هو الذي رفع أمره إلى الحاكم ، فأمره بالصلاة ، فأبى فقتل ؟!)) اهـ.
ولما قال الشيخ سفر الحوالي – شفاه الله -: (( فمن ترك الصلاة بالكلية ؛ فهو من جنس هؤلاء الكفار ، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب ، وحاله بهم أشبه ، من كان يصلي أحيانا و يدع أحيانا فهو متردد متذبذب بين الكفر و الإيمان و العبرة بالخاتمة ، و ترك المحافظة غير الترك الكلي الذي هو كفر )) اهـ.
علق عليه الألباني رحمه الله :(( وهذا التفصيل نراه جيدا و لكن: هل علة الكفر في هذه الحالة هو الترك لأنه ترك؟ أم لأنه يدل بظاهره على العناد و الإستكبار ، وهو الكفر القلبي ؟ ! هذا هو الظاهر وهو مناط الحكم بالكفر ، و ليس مجرد الترك ، وهو معنى ما كنت نقلته في رسالتي عن ابن تيمية (ص- 44-46) وهو المصر على الترك مع قيام الداعي على الفعل _ كما فصلته هناك – فراجعه فكلام المؤلف لا يخرج عنه بل يبينه و يوضحه) اهـ.
وهذا القول الذي اختاره الألباني رحمه الله في حكم تارك الصلاة هو من أقوال أهل السنة والجماعة في المسألة :
قال أبو عمر بن عبد البر(ت-463هـ) رحمه الله عن القول بأن تارك الصلاة كسلا وتهاونا بغير جحود لا يخرج من الإسلام وهو مؤمن ناقص الإيمان :( هذا قول قد قال به جماعة من الأئمة ممن يقول : الإيمان قول و عمل .
وقالت به المرجئة أيضا ، إلا أن المرجئة تقول: المؤمن المقر مستكمل الإيمان .... فأما أهل البدع فإن المرجئة قالت : تارك الصلاة مؤمن مستكمل الإيمان ، إذا كان مقرا غير جاحد ، و مصدقا غير مستكبر، و حكيت هذه المقالة عن أبي حنيفة و سائر المرجئة وهو قول جهم.
و قالت المعتزلة : تارك الصلاة فاسق ، لامؤمن ولا كافر ، وهو مخلد في النار إلا أن يتوب.
وقالت الصفرية و الأزارقة من الخوارج: هو كافر ، حلال الدم والمال.
وقالت الإباضية : هو كافر ، غير أن دمه وماله محرمان ، و يسمونه كافر نعمة ، فهذا جميع ما اختلف فيه أهل القبلة في تارك الصلاة )اهـ.
وقال مجد الدين ابن تيمية رحمه الله :(ومن أخر الصلاة تكاسلا لا جحودا أمر بها ، فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى وجب قتله، وعنه لا يجب إلا بترك ثلاث و بضيق وقت الرابعة ، و يستتاب بعد وجوب قتله ثلاثة أيام ، و يقتل حدا ، وعنه كفرا)اهـ.
وقال حفيده تقي الدين ابن تيمية رحمه الله )جاء في بعض الأحاديث ذكر بعض الأركان دون بعض ، ولهذا تنازع العلماء في تكفير من ترك شيئا من هذه الفرائض الأربع [الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ] بعد الإقرار بوجوبها.
فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة ، فهو كافر باتفاق المسلمين ، وهو كافر باطنا و ظاهرا عند سلف الأمة و أئمتها وجماهير علمائها.
وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر ، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش و الظلم والكذب والخمر ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة ؛ مثل أن يكون حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك ، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر ، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر ، وأمثال ذلك ؛ فإنهم يستتابون و تقام الحجة عليهم ، فإن أصروا كفروا حينئذ ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك ، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون ، و أصحابه لما غلطوا فيه من التأويل.
وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ، ففي التكفير أقوال للعلماء ، هي روايات عن أحمد:
أحــدها: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة ، حتى الحج و إن كان جواز تأخيره نزاع بين العلماء ، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف ، وهي أحدى الروايات عن أحمد اختارها أبوبكر.
و الثاني: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ، ومالك ،والشافعي ، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة و غيره.
والثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة ، وهي الرواية الثالثة عن أحمد ، وقول كثير من السلف ، وطائفة من أصحاب مالك و الشافعي ، وطائفة من أصحاب أحمد .
والرابع : يكفر بترك الصلاة و ترك الزكاة .
والخامس : يكفر بتركها و ترك الزكاة، إذا قاتل عليها دون ترك الصيام و الحج .
وهذه المسألة وهي : هل يكفر من أقر بالشهادتين ، وبوجوب الصلاة و الصوم و الزكاة والحج ، إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة؟ - لها طرفان:
أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر .
والثاني : في إثبات الكفر الباطن .
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا و عملا .
ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج ، و يعيش دهره لا يسجد لله سجدة ، و لا يصوم من رمضان ، ولا يؤدي زكاة ، ولا يحج إلى بيته ، فهذا ممتنع.
ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب ، وزندقة ، لا مع إيمان صحيح....
ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه ، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه و سلم وما جاء به ، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل ، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن فقط، لا يكون إلا كافرا.
ولو قال : أنا مقر بوجوبها ، غير أني لا أفعلها ، كان هذا القول مع هذه الحالة كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ، ويقول : أشهد أن ما فيه كلام الله ، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء و يقول : أشهد أنه رسول الله ، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب ، فإذا قال : أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحالة ، كان كاذبا فيما أظهره من القول .
فهذا الموضع ينبغي تدبره: فمن عرف إرتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب ، وعلم أن من قال من الفقهاء : أنه إذا أقر بالوجوب و امتنع عن الفعل لا يقتل ، أو يقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة و الجهمية ، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان ، وأن الأعمال ليست من الإيمان ، وقد تقدم : جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب .
و أن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه .
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات و يترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله ، و الإيمان يزيد و ينقص ، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، و إذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر .)) اهـ.
ثامنـــــا : محل الإرجاء في هذه المسألة هو في قول من قال من الفقهاء : إنه إذا أصر على ترك الصلاة وهو يدعى إليها و يرى بارقة السيف حتى يقتل ؛ أنه يقتل حدا لا ردة !
أو قال : من امتنع عن فعل الصلاة لا يقتل !
أو قال : من أقر بالصلاة و لم يلتزم وجوبها فهو مؤمن !
أو قال : من ترك الصلاة كسلا و تهاونا هو مؤمن مستكمل الإيمان !
أو قال : من أقر و لم يجحد وجوب الصلاة ، ثم هو تارك لها لم يفعلها بالكلية حتى يموت ، هو مؤمن !
هذا هو محل الإرجاء .
قال سفيان بن عيينة : (( فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافرا ، ومن تركها كسلا أو تهاونا أدبناه وكان بها عندنا ناقصا )) اهـ.
وقال ابن تيمية رحمه الله : ((فهذا الموضع ينبغي تدبره: فمن عرف إرتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب ، وعلم أن من قال من الفقهاء : أنه إذا أقر بالوجوب و امتنع عن الفعل لا يقتل ، أو يقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة و الجهمية ، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان ، وأن الأعمال ليست من الإيمان ))اهـ.
قلـــــــــــت : فهذا هو محل الإرجاء في المسألة ، فلا يقال عمن قال : إن من ترك الصلاة كسلا وتهاونا من غير جحود وعناد ، ومن غير ترك لها بالكلية مع التزامه بفعلها و إقراره بوجوبها ؛ فلا يخرج من الملة ، وهو ناقص الإيمان فإن دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها و أصر على الامتناع و الترك يقتل كافرا ؛ أقول : لا يقال عمن قال هذا : إنه هوّن من شأن الصلاة ، أو إن هذا من آثار الإرجاء ، أو من قال بذلك فيه إرجاء ! لا يقال هذا ؛ إذ قد بينت لك محل الإرجاء فلا تلتبس عليك الأمور والله يرعاك ! بل هذا القول من أقوال أهل السنة في المسألة .
فقد جاء في رواية عن أحمد بن حنبل (ت-241) رحمه الله :(( يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام [فإن تاب رجع إلى الإيمان] . ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم ، او يرد فريضة من فرائض الله عزوجل جاحدا بها ، فإن تركها كسلا و تهاونا كان في مشيئة الله ، إن شاء عذبه و إن شاء عفا عنه)) اهـ.
بل نقل عن بعض أهل البدع تسمية أهل السنة مرجئة في قولهم هذا في الصلاة ؛ قال السكسكي (ت-683هـ) رحمه الله أثناء كلامه عن الفرقة الناجية و الطائفة المنصورة : أهل السنة و الجماعة : قال : (( و تسميها ( يعني : تسمي أهل السنة و الجماعة) المنصورة – وهم أصحاب عبدالله بن زيد – مرجئة ؛ لقولها :
إن تارك الصلاة إذا لم يكن جاحدا لوجوبها مسلم على الصحيح من المذهب . و يقولون : هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل )) اهـ.
و المقصـــــود : أن المراد بـ(( من ترك الصلاة كسلا و تهاونا لا يكفر كفرا مخرجا من الملة )) هو من لم يجحد وجوب الصلاة ، و أقر بوجوب التزامها ، و لكنه لم يفعلها ، ولم يتركها بالكلية ، من غير جحود حقيقة أو حكما .
أمّا حقيقة فجحد وجوب الصلاة و إنكاره أو جحد أنها من الشرع أصلا ؛ وهذا ظاهر . و أمّا جحدها حكما فهو كأن يدعى من قبل الإمام أو نائبه إلى فعلها فيصر على الترك مع تهديده بالقتل ، فيختار القتل على فعل الصلاة ، أو كأن يقول إنه مسلم و لم يصل لله ركعة قط منذ قال إنه أسلم إلى موته بلا عذر أو مانع شرعي معتبر . و الله أعلم وأحكم .
تاسعا : فرق ما بين الرجل والإرجاء :
عن سويد بن سعيد الهروي قال : (( سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال : يقولون : الإيمان قول ونحن نقول : الإيمان قول و عمل . والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض . و سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ؛ و ليس بسواء ؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل و لا عذر هو كفر ((في الهامش : مراده بالترك الجحد كما سيأتي في مثاله عن إبليس !)) . و بيان ذلك في أمر آدم – صلوات الله عليه- و إبليس و علماء اليهود ؛ أما آدم فنهاه الله عزوجل عن أكل الشجرة و حرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسمي عاصيا من غير كفر . و أما إبليس –لعنه الله – فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا . و أما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم و أنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم و أقروا به باللسان و لم يتبعوا شريعته فسماهم الله عزوجل كفارا . فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام و غيره من الأنبياء . و أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس – لعنه الله – وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود . والله أعلم ))اهـ.
عن سفيان الثوري (ت-161) رحمه الله قال : (( خلاف مابيننا و بين المرجئة ثلاث : هم يقولون : الإيمان قول لا عمل . و نقول الإيمان قول و عمل . و نقول يزيد و ينقص ، وهم يقولون : لا يزيد و لا ينقص . ونحن نقول : النفاق . وهم يقولون : لا نفاق )) اهـ.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : (( قيل لابن المبارك : ترى الإرجاء؟ قال : أنا أقول الإيمان قول و عمل ، و كيف أكون مرجئا ؟! ))اهـ.
و قال البربهاري رحمه الله : (( ومن قال الإيمان قول وعمل يزيد و ينقص فقد خرج من الإرجاء كله أوله و آخره)) اهـ.
وعن إسماعيل بن سعيد : (( سألت أحمد بن حنبل : من قال الإيمان يزيد و ينقص ؟ قال : هذا بريء من الإرجاء )) اهـ.
وعن محمد بن أعين : (( قال شيبان لابن المبارك : يا أبا عبدالرحمن ماتقول فيمن يزني و يشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو ؟ قال ابن المبارك : لا أخرجه من الإيمان ! فقال : على كبر السن صرت مرجئا ؟ فقال له ابن المبارك : يا أبا عبدالله إن المرجئة لا تقبلني ؛ أنا أقول الإيمان يزيد و ينقص و المرجئة لا تقول ذلك . و المرجئة تقول : حسناتنا متقبلة و أنا لا أعلم تقبلت مني حسنة . [ و يقولون : إنهم في الجنة ! وأنا أخاف أن أخلد في النار . و تلا عبدالله هذه الآية :{ يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى } [ البقرة-264] ، { يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } [ الحجرات-2] .
وما يؤمني ؟! قال ابن أعين : قال له ابن المبارك : وما أحوجك إلى أن تأخذ سبورجة فتجالس العلماء )) اهـ..
و الألباني –رحمه الله – كما تقدم يقرر أن الإيمان تصديق بالقلب و قول باللسان و عمل بالجوارح ، وأنه يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية ، و أن العمل من الإيمان . فهل مع هذا جميعه يقال عنه مرجيء ؟!
يتبع إن شاه الله تعالى
الحلقة الثالثة من قوله :
أما قولهم: محدث ليس بفقيه.