بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعينفهذه كلمة توجيهية
للشيخ عرفات بن حسن المحمدي حفظه الله
ألقاها عبر الهاتف في مسجد المقاصبة بقرية المقاصبة بمصراتة
أسأل الله أن ينفع بها الجميع
كانت في ليلة 27-ذو القعدة-1434
المصدر
التّحميل مِن المُرفقات
ـــــــ
التّفريغ
ـــــــ
المصدر
التّحميل مِن المُرفقات
ـــــــ
التّفريغ
ـــــــ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
فإنّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وشرّ الأُمور مُحدثاتها، وكُلّ مُحدثة بدعة، وكُلّ بدعة ضلالة، وكُلّ ضلالة في النّار؛ ثُمّ أمّا بعد:
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقد رغِبَ إخوانُنا السّلفيُّون -جزاهم اللهُ خيرًا- بكلمةٍ ولو يسِيرة، إخوانِنا في مِصراتة عند أخِينا الشّيخ أبي حُذيفة -جزاه اللهُ خيرًا-، فنقول:
اللهُ سُبحانه وتعالى يقول في القُرآن: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[آل عمران: 102]، ويقول: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾[ التّغابن: 16]؛ فالواجبُ على المُسلِمِ الاستِمرار والثّبات على ما يُحبُّه اللهُ حتّى الممات، وقال اللهُ لنبيِّه عليه الصّلاة والسّلام: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[هود: 112]، وكان النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام يُكثر أنْ يقول: "يا مٌقلِّب القُلوب ثبِّت قلبي على دينِك"، كما في مُسند الإمام أحمد، وعند التِّرمذيّ في جامِعه، حتّى إنّه ... عليه الصّلاة والسّلام: يا رسول الله آمّنا بك وبِما جئتَ، فهل تخاف علينا؟ فقال: "نعم"، في الحديث نفسِه: "يا مُقلِّب القُلوب" عندما سمِعوه وهو يُكثِرُ مِن هذا الدُّعاء: فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إنّ القُلوب بيْن أُصبُعيْن مِن أصابع الله يُقلِّبُها كيف يشاء"، وجاء أيضًا أنّ أمّ سلمة رضي اللهُ عنها كانت تقول: ما أكثر ما كان يدعو النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام بهذا الدُّعاء: "يا مُقلِّب القُلوب ثبِّتْ قلبي على دينِك"، فلمّا سُئِلَ أيضًا -سألته أمّ سلمة-، قال لها: "يا أمّ سلمة إنّه ليس آدميٌّ إلاّ وقلبُه بيْن أُصبُعيْن مِن أصابع الرّحمن".
فنحنُ نتعوّذ باللهِ مِن الانحراف، والتّلوّن بالمُخالَفات، والبدع؛ وهذا لايحصُلُ إلاّ بسبب عدم العلم، أو لعدم اليقين، أولعدم الإيمان التّامّ الرّادع الّذي يردع؛ ولِهذا قال عليه الصّلاة والسّلام: "لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن"[مُتّفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه]؛ إذًا الاستِقامة على أمرِ اللهِ باجتِناب ما حرّم اللهِ، وفعلِ المأمورات يكون بالإيمان الّذي يردع المُسلِمَ، الإيمان الوازع، وهو الّذي يقوم على العلم.
فاسألوا اللهَ الثّبات أيُّها الإخوة، اسألوه الهدايةَ، اسألوه الاستِمرار على السُّنّةِ، وعلى الطاعة. النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: كان يقول: "اللّهمّ إني أسألُك الهُدى، والتُّقى، والعفاف، والغِنى"[حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، رواه مُسلم]، وكان يقول: "اللّهم اهدِني وسدّّدني"[من حديث عليّ رضي الله عنه عند مُسلم]؛ فسُؤال الله الهِداية، وسُؤاله الثّبات، وكذلك استِمداد العوْن مِن الله سُبحانه وتعالى؛ هذا شيءٌ مطلوبٌ.
كان صلّى اللهُ عليه وسلّم في دُبر صلاتِه يقول: "اللّهمّ أعنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسن عبادتِك"[حديث معاذ، رواه أبو داود وغيرُه]، فَبِدُون هِداية الله وبدون عوْنه وتوفيقه لا يَصِلُ الإنسان إلى شيءٍ، ولا يَقْوى على شيءٍ، ولا حول ولا قُوّة إلا بالله العلِّيِّ العظيم.
هذه الدّعوة المُباركة، الدّعوة السّلفيّة، دعوة الحقِّ، هي أعظم نِعمة أنعم اللهُ سُبحانه وتعالى بها علينا، دعوة التّوحيد، دعوة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، دعوة أصحابه، دعوة شرعها ربُّ العالَمين، لا تقبل الباطل، ولا الأخطاء، ولا المُداهنة، ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[الأنعام: 153]، ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[يوسف: 108].
هذه الدّعوة مَبنيّة على التّبصُّر في الدِّين، مَبنيّة على العلم بما جاء به الرّسولُ عليه الصّلاة والسّلام مِن كِتاب الله مِن الحِكمة؛ التّدبّر لهذا القُرآن العظيم الّذي يُورِثُ المعرِفة بما أمر الله، وبما نهى عنه سُبحانه وتعالى.
فاحرِصوا حفطكم الله على هذه الدّعوة العظيمة، واحرِصوا على أسباب الائتِلاف والاتِّفاق، احرِصوا على الصُّحبة الصّالحة، احرِصوا على الّذين يُذكِّرونكم بالله إذا نسِيتم، ويأمرونكم بِما يجب عليكم، ويُنكرون عليكم إذا أخطأتم وانحرفتم، ويُعِينونكم إذا فشلتم، يقول اللهُ في القُرآن: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾[التوبة: 71].
هذه الأخُوّة العظيمة هي أوثق الأُخُوّات، هي أوثقُ مِن أُخوّة النّسب. أخُوّة النّسب قد يختلِفُ مُقتضاها، فيكون هذا الشّخص أخاك مِن النّسب يكون عدُوًا لك، كارِهًا لك، واللهُ يقول:﴿ الأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾[الزخرف:67]، بخِلاف الأُخُوّة والصُّحبة الّتي تكون بالله وفي الله، أُخوّة الدِّين، أُخوّة ثابتة، راسخة في الدُّنيا، وتنفع في الآخرة، في حياتِه، وبعد مماتِه.
النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: "المُسلم أخو المُسلم"[ مِن حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه، أخرجه مُسلم]، وقال: " المُؤمن للمؤمن كالبُنيان"[مُتّفق عليه مِن حديث أبي موسى رضي الله عنه]، وقال: "مثل المُؤمِنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى مِنه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى"[حديث النّعمان بن البشير رضي اللهُ عنهما، مُتّفق عليه].
إذًا هذا هو المطلوب، اللهُ أمر بالتّعاون، أمر بالتّناصر على البرِّ، وعلى التّقوى، وعلى الخير، وعلى العلم، ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾[المائدة: 2].
فإذا أراد اللهُ سُبحانه وتعالى بعبدٍ خيرًا؛ وفّقه لِمُعاشرة أهل السُّنّة، وفّقه لأهلِ الصّلاح، لأهل الدِّين، لأهلِ العلم، يحضر مجالسَهم، ويسمع كلامَهم، ويستفيدُ مِن توجيهاتِهم، ونزّههُ اللهُ سُبحانه وتعالى عن صُحبة السُّوء مِن أهل الأهواء، ومِن أهل البدع، ومِن أهل الفُجور، والمعاصي، والفُسوق، ومِن الطّائِشين الّذين لا يأتوتن إلاّ بالفِتنِّ.
وأفضلُ ما أُعطيَ المُسلم الخُلق الحسن كما قال عليه الصّلاة والسّلام -عند أحمد، وعند أبي داود، وعند النّسائيّ-، سُئِلَ: ما أفضل يا رسول الله ما أُعطي المرء المُسلِم؟ فقال: "الخُلق الحسن"[حديث أُسامة بن شريك].
هذا الخُلق الحسن لَمّا سُئِلَ عنه الإمام أحمد رحمه الله، قال: "ألاّ تغضب، ولا تحقد"، ومِن السّلف مَن قال: "هو أنْ تبسط الوجه، وأنْ لا تغضب"، ومِنهم مَن عرّفه بـكظم الغيظ، وإظهار الطّلاقة، لِمَن؟ لأخيك، للمُسلِم، أمّا المُبتدع والفاجر؛ فهؤلاء يحتاجون إلى التّأديب وإلى إقامة الحُدود؛ فعلى كُلِّ حال كُلٌّ سيُوفّى عملَه، الأخيار والأشرار.
فالله الله بهذه المسئوليّة الّتي تحمِلونها على أعتاقكم يا أهل السُّنّة، هذه الدّعوة العظيمة، إيّاكم والخِلاف وبُذور الشّرِّ، "والّذي نفسي بيده لن تدخُلوا الجنّة حتى تُؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلّكم على أمرٍ إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السّلام بينكم"[رواه مُسلم مِن حديث ابي هريرة رضي اللهُ عنه].
إيّاكم والخلاف بينكم في أُمور تافهة يسعكم فيها الخلاف، وإيّاكم والخِلاف والتّقدّم بين يديْ أهل العلم، إيّاكم والتّعصّب الّذي يهلك الحرثَ والنّسل.
اجتهدوا في طلب العلم، اجتهدوا في حفظ القُرآن، اجتهدوا في حفظ السُّنّة، طالب العلم إذا كان له وقت يحفظ كتابَ الله، ويُراجعه تفسيرًا، وتِلاوةً، وتدبّرًا، وعملاً؛ لَمَا وجد وقتًا للقيل والقال.
إيّاكم والتّعصّب لِفُلان وفُلان، وحاشاكم وأنتم أهل السُّنّة أهل العقيدة السّليمة أنْ تتعصّبوا لأخطاء فُلان، أو زلاّت فُلان.
وقِّروا الكبير فيكم ولو كان قليل العلم،"فليس مِنّا مَن لا يُوقّر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالِمِنا حقّه"[حديث حسن: رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه]، وفي هذا الحديث ذكر النّبيُّ -عليه الصّلاة والسّلام- العالِمَ، وذكر الكبير، وذكر الصّغير، وأعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقًّه.
العلم لا يكون سببًا للكِبْر، وسببًا لاحتِقار النّاس؛ بل والله لا يزداد المرء علمًا إلاّ ازداد نُورًا، وتبصّرًا، وتواضُعًا، ورحمة، وشفقةً بالنّاس، حتّى بالمُخالِف. فتحذيرُنا مِن أهل البدع ليس إلاّ رحمة بهم، حتىّ لا تزداد الذُّنوب والأثقال عليهم يوم القِيامة.
ولِهذا جاء ما يدلُّ على أنّ مِن أسباب الفُرقة الذُّنوب؛ التّفريق بين الإخوة قد يكون بسب ذُنوبِهم؛ عقوبة مِن الله سُبحانه وتعالى كما جاء عند أحمد في المُسند، وعند البُخاريّ في الأدب المُفرد: أنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام قال: "ما تواد اثنان في الله جلّ وعزّ -أو في الإسلام- فيُفرِّقُ بينهما أوّل ذنب يُحدثُهُ أحدُهما"[مِن حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه، رواه البُخاريّ في الأدب المُفرد وصحّحه الألبانيّ في السّلسلة الصّحيحة] بسبب الذّنب، وفي بعض الرِّوايات: "فيُفسد ذلك بينهما؛ إلاّ مِن ذنبٍ يُحدثُه أحدّهما".
فكُلّما تعلمتَ، وكُلّما ازددتَ علمًا؛ عَلِمْتَ أنّك جاهلٌ، وتحتاج إلى العلم أكثر فأكثر؛ فيكون إقبالُك على العلم رغبةً فيما عند الله سُبحانه وتعالى مِن الثّواب العظيم؛ لترفع عن نفسِك الجهل، وتعبد الله على بصيرة. ليس لِتُجادل به العُلماء، وتُماري به السُّفهاء؛ هذه مُصيبة، هذا ضياع، هذا ضياع للعُمر، وكُلُّكم يعرف أنّ أوّل مَن تُسعّر به النّار ثلاثة: ذلكم العالِمُ القارئُ الّذي قرأ القُرآن.
فأصلُ العلم هو خشية اللهَ سُبحانه وتعالى، كما كان السّلف يقولون: "بحسب المرء مِن العلم أنْ يخشى اللهَ عزّ وجلّ".
العلم لا بُدّ له مِن عمل، فالعلم بدون عمل لا قيمة له. فالعمل بما ورد عن الصّحابة في جميع أُمور الدِّين مع السَّيْر على نهجهم وسُننهم هو ما يدعو إليه أهل السُّنّة، أعرف النّاس بالحقِّ، وأرحم الخلق بالخلق؛ ولِهذا لَمّا كان الصّحابة هم أيضًا أعرف النّاس بالحقِّ، وأعلم النّاس بالتّنزيل؛ أُمِرنا باتِّباعِهم ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ جَهَنَّم مَصِيرًا ﴾[النّساء: 115]، هذا هو السّبيل، سبيل الأوائل مِن المُهاجرين والأنصار رضي اللهُ عنهم، فمَن استمسك به كان مِن النّاجِين يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾[الشّعراء: 88-89]، فالسّعادة كُلُّ السّعادة والنّجاة تكون بالتّمسّك بطريقة هؤلاء رضي اللهُ عنه وأرضاهم، أعلم النّاس بالحقِّ، وأرحم الخلق بالخلق.
هذه الدّعوة -الدّعوة السّلفيّة- دعوة رحمة، دعوة محبّة وشفقة، دعوة يٌقال للمُخالِفِ مِن أهلِها إذا أخطأ: ما حملك على هذا؟-بكُلِّ رحمة وشفقة-، يقودها عُلماء راسخون، عُلماء ربّانيُّون، يُعلِّمون النّاس صِغار العلم قبل كِباره.
كم مِن فتنٍّ عصفتْ بالمُسلِمين فنجا أهل السُّنّة بتوجيهٍ مِن عُلمائهم، وبالأخذ بنصائحهم. وإذا رأيتَ أهلَ العناد والكبْر يتساقطون؛ بسبب ذُنوبِهم، وبسبب مُخالفتهم لأهل الحقِّ، للعُلماء الرّبّانيِّين الرّاسِخِين مِن أهل الذِّكر؛ فنرى أهل الغطرسة وأهل العناد تعصفُ بهم الفتنِّ؛ فتُهلِكهم.
وما زلنا نسمع، الآن تجد مَن يُريد أنْ يُخالِف العُلماء، يقول: نحن أعلم بفُلان مِن العُلماء! أو تجده يقول: نحن لسنا صوفيّة، نتّبع فُلان وفُلان مَِن العُلماء! فيُسقِطون أحكام العُلماء -الّذين هم أعلم بهذا الدّين- بهذا الكلام الفارغ الّذي أخذوه عن سلفِهم مِن أهل التّحزّب وأهل البدع.
فهل يُعقل أنّ سلفيًّا يقول هذا الكلام؟! هذا ما عرف السّلفيّة.
ولِهذا أُذكِّرُكُم بأثر أبي موسى الأشعريّ -رضي اللهُ عنه- في سُننِّ الدّارِميّ لَمّا رأى أولئك في الحِلقِ يتحلَّقُون حِلَقًا حِلَقًا، فماذا صنع أبو موسى الأشعريّ؟
ذهب إلى عبدالله بن مسعود إلى بيتِه، فانظروا! عالِمٌ مِن عُلماء الصّحابة أبو موسى، قارئ، فقيه، مِن خيرة أصحاب النّبيِّ عليه الصّلاة والسّلام، لكنّه ذهب إلى بيت ابن مسعود، يرى أنّه أعلم مِنه، وأرسخ مِنه، وأقعد مِنه؛ فذهب إليه، ويُخبره عن هؤلاء الّذين في المسجد، فيأتي ابن مسعود فيُنكر على هؤلاء، ويقول لهم: أنتم بيْن أمريْن إمّا أنّكم مُفتتِحوا باب ضلالة أو أنّكم على هدي خيرٌ مِن هدي النّبيِّ عليه الصّلاة والسّلام.
هل يعجز أبو موسى على الإنكار؟! لا يعجز، ولكن أراد أنْ يُؤصِّل ويُقعِّد لِمَن وراءه، ويُعلِّمهم حتّى أنّه كان يقول: لا تسألوني مادام هذا الحبْر فيكم. كما جاء عنه بإسناد صحيح: يعني مادام أنّ عبدالله بن مسعود فيكم؛ فلا تسألوني.
فالله الله بهذه الدّعوة، والله الله بالرُّجوع إلى العُلماء الرّاسِخِين الكبار، وسُؤالِهم.
الدّعوة عندكم -ولله الحمد- نسمع مُبشِّرات وخيرات، ونسمع إقبال النّاس، كبيرهم وصغيرهم، نساؤهم ورجالهم على هذه الدّعوة المُباركة، تعلّمًا وسُؤالاً؛ وهذا خير كبير، على الشّباب أنْ يحرِصوا على هذا الخير، وأنْ يستفيدوا مِنه، وأنْ يستغلُّوا إقبال النّاس؛ فيُعلّمونهم الخير، ولا يُظهِروا لهم الشّرّ، ولا الخلاف، ولا ما يُنفِّرهم.
وإذا حصل شيءٌ مِن الخِلاف؛ يرجع إلى أهل العلم، والحمد لله عندكم طلبة علم في ليبيا، نُوصي الطُّلاّب بالدّراسة عليهم، بل إنّ عُلماءنا يُوصون بهم إذا سُئِلُوا، فعندكم في العاصمة أخونا أبو مُصعب الشّيخ مجدي، وعندنا أيضًا في مِصراتة الشّيخ أبو حُذيفة، والشّيخ أبو عُبيْدة، والشّيخ أبو أحمد، وأخونا الشّيخ أبو الفضل كذلك في العاصمة -أظنّه-، وكذلك كثير مِن طلبة العلم مِمّن قد لا نعرفهم نفع اللهُ بدعوتهم إلى السُّنّة وإلى التّوحيد، نحن نُوصي بهؤلاء.
ومَن أخطأ مِنهم؛ قُلنا له أخطأتَ، وقال له العُلماء: أخطأتَ، ويُطالِبونه بالرُّجوع بأُسلوبٍ، وبرفقٍ، وبشفقة، وبرحمة؛ فلا تشغلوا أنفسكم أنتم بهذا الخلاف الّذي يحصل بين طلبة العلم أو بين كبرائهم مِن طلبة العلم، ولا تنشغلوا بالقيل والقال.
انشغلوا بما ينفعكم، استفيدوا، وتعلّموا، واقرأوا، واحضروا الدُّروس، واجتهدوا في قراءة كُتب أهل العلم، كتب أهل السُّنّة كتب السّلف، اقرأوا الكتب الّتي هي كُتب مأمونة، الكتب الّتي ينصح بها العُلماء، الشّريعة للآجرّيّ، وكتاب السُّنّة للإمام أحمد، والسُّنّة لابنه، والسُّنّة للخلال، والسُّنّة لابن أبي عاصم، كتب السّلف. والّذي يعجز عن قراءة هذه الكُتب لا يُفوِّت الدُّروس الّتي تُدرّس فيه مثل هذه الكُتب: كتب شيخ الإسلام، وكتب ابن القيّم، وكتب محمّد بن عبدالوهّاب، وكتب ابن باز، كتب ابن عثيمين، كتب أئمّة الدّعمة، كُلّ هذا خيرٌ عظيم.
وإيّاكم والاختِلاط بأهل البدع؛ فلا يُجالَسون، ولا يُسمع كلامهم، ولا شُبههم، بل يُحذّر مِنهم أشدّ التّحذير لاسيّما مَن عُرِف مِنهم بعناده واتِّباعه للهوى؛ فالسّلف أجمعوا على هجرهم، كما أنّهم كانوا يُفرِّقون بين الدّاعية وغير الدّاعية، الله ذمّهم ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾[آل عمران: 7]؛ ولهذا لَمّا أشار النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام؛ حذّر مِن هؤلاء: "إذا رأيتم الذّين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى اللهُ فاحذروهم"[حديث عائشة رضي اللهُ عنها في صحيح مُسلم]، وقرأ الصّحابة هذه الآية ونزّلوها عن أهل البدع مِن الخوارج الّذين يقتُلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان.
إذًا هؤلاء هم أهل البدع، وهم المقصودون أيضًا بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ ﴾[الأنعام: 68]؛ فلا تلتفتوا إلى هؤلاء، ولاتلتفتوا إلى الّذين يقولون لكم أنّ زمن الهجر قد انتهى، وأنّه لا تحذير، لا تلتفتوا إلى هؤلاء.
المُبتدع مُعاند للشّرع، ومُشاق؛ فيستدرك على الرِّسالة، ولا شكّ أنّ هذا ضلال مُبين، المُبتدع يتّبع هواه؛ فنهجر هؤلاء، ونُحذّر مِنهم، ونتّقي شرّهم؛ وبهذا الهجر أيضًا يُتّقى شرّهم، ويُزجرون حتّى يتوبوا، وقد أجمع السّلف على التّحذير مِنهم؛ ولِهذا البغويّ -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم شرح السُّنّة -وهو مِن أجمل ما كتب رحمه الله- يقول -بعد أنْ ساق بعض الأدلّة-: في هذه الأدلّة دليل على أنّ هُجران أهل البدع على التّأبيد، وقد مضت الصّحابة والتّابعون وأتباعُهم على ذلك، وعُلماء السُّنّة على هذا؛ بمعنى أنّهم مُجمعون مُتّفقون على مُعاداة أهل البدع.
فهذه كلمة مُختصرة لإخواني، وإنْ كان حقيقة لم أُعطها حقّها؛ إذْ أتكلّم وأنا في السّيّارة.
وأختم هذه الكلمة بالتّأنِّي، تأنّوا يا إخوتاه، لا تستعجلوا، الدّعوة في أوّل مهدها، ارجعوا إلى أهل العلم، تواصلوا بهم. والحمد لله طلبة العلم الكبار عندكم يرجعون، ويتّصلون على أهل العلم الكبار، ويستشيرونهم، ويتّصِلون بهم، ويحرِصون على زيارتهم إذا جاءوا، وإذا تكلّموا مدحوا أهل السُّنّة، وإذا ذمّوا أهل البدعة، والمعصوم مَن عصمه اللهُ، الخطأ حاصلٌ، ولا يرفع اللهُ عزّ وجلّ العبدَ إلاّ بتوبته ورُجوعه، وإنابته، واعترافه بالخطأ؛ هذا يدلُّ على رِفعة؛ يرفَعهُ اللهُ سُبحانه وتعالى.
فمَن هذا الّذي يسلم مِن الخطأ؟! إنّما المُراد هو الرُّجوع عن الخطأ، مع الاعتراف بأنّ هذا خطأ، وأنّ هذا ذنب، مع أيضًا إشهارِه لرجوعه، وأنّه قد رجع إلى الحقّ، وإلى الصّواب.
عُلماء حصل لهم ذلك، ورجعوا، وكم مِن عالِم في زمن أحمد وفي غيرِه يُشيد بأحمد، وبإمامة أحمد في العلم والسُّنّة، ثمّ يقول: أنا راجع إلى مذهب أحمد، وهو مذهب حقّ، مذهب الصّحابة والتّابعين.
إذًا هذه الكلمة المُختصرة الّتي أردتها، نسأل اللهَ عزّ وجلّ لنا ولكم التّوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالَمين، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.