علم الجرح والتعديل
تعريفه..تاريخه..ثمراته
تعريفه..تاريخه..ثمراته
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتّبع هُداه.
أما بعد:
فهذه نُبذة يسيرة عن علم "الجرح والتعديل"، هذا العلم الذي خصَّ الله سبحانه هذه الأمة به دون سائر الأمم، حفظًا للوحيين أن يدخل فيهما ما ليس منهما، وهو علمٌ يبحث في أحوال الرجال –رواة الحديث وغيرهم من المتصدرين للتعليم والدعوة والفتوى والتصنيف ونحو ذلك من المهمات- والفرق والكتب، والحكم عليهم بما يليق من حالهم جرحًا أو تعديلاً.
فهذه نُبذة يسيرة عن علم "الجرح والتعديل"، هذا العلم الذي خصَّ الله سبحانه هذه الأمة به دون سائر الأمم، حفظًا للوحيين أن يدخل فيهما ما ليس منهما، وهو علمٌ يبحث في أحوال الرجال –رواة الحديث وغيرهم من المتصدرين للتعليم والدعوة والفتوى والتصنيف ونحو ذلك من المهمات- والفرق والكتب، والحكم عليهم بما يليق من حالهم جرحًا أو تعديلاً.
وجرح الرجال نوعان:
النوع الأول: جرح في العدالة، والذي يشمل التبديع والتضليل والتفسيق.
النوع الثاني: جرح في الضبط والحفظ، والذي يشمل: سوء الحفظ، والغفلة، والخطأ، والوهم، والتخليط..إلخ.
ويُسمى هذا العلم أيضًا بـ: "الرد على المخالف"، و"التحذير من أهل البدع والأهواء"، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة، ولذلك اعتنوا بذكره في كتب أصول الاعتقاد.
وقد أخرجت هذا العمل في طبعته الأولى منذ حوالي خمس سنوات على صورة مطوية، ثم بدا لي أن أنقحه وأزيد فيه، ثم أعرضه على العلماء، وقد تم هذا، وشرُف العمل بمراجعة وتقريظ عدة من أفاضل أهل العلم له، وكان على رأسهم إمام هذا العلم في هذا الزمان شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله ونفع بعلمه-، حيث قرأت عليه هذه المطوية إبان ظهورها، فأجازها ووصَّى بطبعها ونشرها، وقال لي: انشرها على شبكة سحاب.
فجزاه الله خيرًا، وجزى إخوانه من مشايخنا الذين بذلوا معي وقتًا لمراجعة هذه المطوية وتصحيح بعض العبارات فيها؛ كي تخرج في أبهى حلة إن شاء الله، والغرض منها هو تعريف عامة بالمسلمين بأهمية هذا العلم العظيم، ومعناه، وكيفية نشأته، وثمراته الجليلة؛ حيث إن أهل البدع والأهواء قد شوَّشوا على كل هذا، حتى اندثر هذا العلم وسط المسلمين، وصار غريبًا بغربة الإسلام.
ونظرًا لزيادة حجم العمل عن الطبعة الأولى، رأيت أن نجعله في كتيب صغير بدلاً عن المطوية.
والله أسأل أن يبلغ كلمة الحق فيه إلى كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ كي يعرفوا قدر هذا العلم، ولا ينجرفوا خلف شبهات أهل الأهواء في التنقص والسُّخرية منه، وليدركوا خطورة بخس حق علماء الجرح والتعديل، والطعن فيهم، الذي يؤول إلى الطعن في أصول ديننا، وتنفتح الثغرات التي ينفذ منها أهل الزيغ والكفر والضلال.
اعلم –رحمني الله وإياك- أن أوَّل من جرح الرجال نصحًا للأمة هو نبي الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي سنَّ هذا المنهج الحكيم بوحي من الله لحماية هذا الدين من أهل البدع والأهواء، ولهذا أمثلة منها: تحذير النبي من ذي الخويصرة التميمي، فلما قال له ذو الخويصرة: "اتق الله يا محمد"، سأله رجل قتله، فمنعه فلما ولَّى قال: "إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا -أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا- قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ"؛ وقال أيضًا عن الخوارج: "ألا إنَّهم كلابُ أَهْل النَّار".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عَائِشَةَ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : "ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا دَخَلَ ألانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: "أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ".
ولما قال حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ ولا أَكَلَ ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّان"، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
ولما سألته فاطمة بنت قيس عن حال مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ لما خطباها، فقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ"، أخرجه مسلم.
فهذه الأقوال من النبي صلى الله عليه وسلم كلُّها من باب النصيحة، والتحذير مِمَّا يجب التحذير منه، وليست هي من الغيبة باتفاق أهل العلم، وإليك بعض أقوالهم الدالة على هذا كما أوردها بأسانيد صحيحة الخطيب البغدادي –رحمه الله- في كتابه "الكفاية في علم الرواية" : (باب: وجوب تعريف الْمُزكي ما عنده من حال المسئول عنه) (ط دار الهدى):
(80) عن الحسن قال: "ليس لأهل البدعة غيبة".
(81) عن يحيى بن سعيد قال: سألت شعبة وسفيان ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ: قالوا: "بيّن أمره للناس".
(82) عن عفَّان قال: "كنا عند إسماعيل بن عُلية جلوسًا فحدَّث رجل عن رجل فقلت: إن هذا ليس بثبت، فقال الرجل: اغتبته، قال إسماعيل: "ما اغتابه، ولكنه حكم أنه ليس بثبت".
(85) عن حماد بن زيد قال: "كلَّمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد وجرير بن حازم في رجل، قلنا لو كففت عن ذكره؛ فكأنه لان وأجابنا ثم مضيت يومًا أريد الجمعة فإذا شعبة يناديني من خلفي، فقال: "ذاك الذي قلت لكم فيه لا أراه يسعني".
(87) عن أبي بكر بن خلاد قال: قلت ليحيى بن سعيد القطان: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى؟ قال: قال: لأن يكون هؤلاء خُصمائي أحب إلَيَّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ حدَّثت عني حديثًا ترى أنه كذب؟!
(8 عن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصِّر بعمرو بن عُبَيْد فجثوت على ركبتي، فقلت: يا أبا الخطاب، هذه الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ فقال: يا أحول رجلٌ ابتدع بدعة فيُذكَر خيرٌ من أن يُكَفَّ عنه.
(91) عن مكي بن إبراهيم قال: كان شعبة يأتي عمران بن حُدَيْر يقول: "يا عمران تعال حتى نغتاب ساعة في الله عز وجل÷ -يذكرون مساوئ أصحاب الحديث-.
(92) عن ابن المبارك قال: "المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، قال: فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن، تغتاب؟ قال: "اسكت، إذا لم نُبَين كيف يعرَف الحق من الباطل؟!" -أو نحو هذا الكلام-.
(93) عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو قال: سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم ويُصحِّف؛ فقال: فقلت: لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: لا.
(95) عن محمد بن بندار السبَّاك الجرجاني قال: قلت لأحمد بن حنبل: "إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذَّاب، فقال أحمد: "إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!".
(96) عن عبد الله بن أحمد قال: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعلَّه أن يكون مُرجئًا أو شيعيًّا أو فيه شيء من خلاف السنة؟! أيسعني أن أسكت عنه أم أحذر عنه؟ فقال أبي: "إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام ويدعو إليها قال: نعم، تحذِّر عنه".
وسئل العلامة صالح الفوزان -حفظه الله-:
لقد تفشى ورع بارد بين بعض علوم طلبة العلم، وهو إذا سمعوا الناصحين من طلبة العلم أو العلماء يُحذِّرون من البدع وأهلها ومناهجها، ويذكرن حقيقة ما هم عليه ويردون عليهم وقد يوردون أسماء بعضهم ولو كان ميتًا لافتتان الناس به، وذلك دفاعًا عن هذا الدين، وكشفًا للمتلبسين والمندسين بين صفوف الأمة لبث الفُرقة والنزاع فيها، فيدَّعون أن ذلك من الغيبة المحرمة، فما قولكم في هذا المسألة؟
الجواب: "القاعدة في هذا التنبيه على الخطأ والانحراف وتشخيصه، وإذا اقتضى الأمر أن يُصرح باسم الأشخاص حتى لا يُغتر بِهم، وخصوصًا الأشخاص الذين عندهم انحراف فِي الفكر، أو انحراف فِي السيرة والمنهج، وهم مشهورون عند الناس، ويحسنون فيهم الظن، فلا بأس أن يذكروا بأسمائهم وأن يُحذر منهم، والعلماء بحثوا في علم الجرح والتعديل فذكروا الرواة وما قيل فيهم من القوادح، لا من أجل أشخاصهم، وإنما من أجل نصيحة الأمة أن تتلقى عنهم أشياء فيها تجن على الدين، أو كذب على رسول اللّه ج، فالقاعدة أولاً أن ينبه على الخطأ ولا يذكر صاحبه إذا كان يترتب على ذكره مضرة أو ليس لذكره فائدة، أما إذا اقتضى الأمر أن يُصرِّح باسمه من أجل تَحذير الناس منه، فهذا من النصحية لله ولكتابه ولرسوله لأئمة المسلمين وعامتهم، وخصوصًا إذا كان له نشاط بين الناس، ويحسنون الظن به، ويقتنون أشرطته وكتبه، لا بد من البيان، وتَحذير الناس منه، لأن السكوت عنه ضرر على الناس، لا بد من كشفه لا من أجل التجريح أو التشهير، وإنما من أجل النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". اهـ
قلت: وهل يقال إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ليس حريصًا على توحيد صفوف الأمة حين جرح هؤلاء بهذه الألفاظ الشديدة: "بئس أخو العشيرة"، "إنما هذا من إخوان الكهَّان"، "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، "لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ"، "ألا إنَّهم كلابُ أَهْل النَّار"؟! وهل هذا من الغلو في الجرح يا صاحب "رسالة إلى غلاة التجريح" ؟!
وسار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا السبيل القويم في حماية الدين من أهل الزيغ؛ فحذَّر علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج، فأخرج مسلم عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا : لا حُكْمَ إلا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأعرَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ.
ولما ظهرت القدرية حذَّر منهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وتبرأ منهم، فأخرج مسلم عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر َأنه قَالَ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَن، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا قَدَرَ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ، قَال ابن عمر: "فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لَوْ أَنَّ لأحدهم، مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ، حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ".
بل طعن فيهم بجرح شديد قائلاً: "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ" (جاء موقوفًا ومرفوعًا).
و وأخرج ابن أبي عاصم في السنة (905) عن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ. فَقَالَ: مَا فَعَلَ وَالِدُكَ؟ فَقُلْتُ: قَتَلَتْهُ الْأَزَارِقَةُ. قَالَ: قَتَلَ اللَّهُ الْأَزَارِقَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: ثنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ» . قَالَ: قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ كُلُّهَا، أَوِ الْخَوَارِجُ؟ قَالَ: الْخَوَارِجُ كُلُّهَا.
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة (934) عن عقبة بن وساج أنه سأل ابن عمرو عن أناس بالعراق يطعنون على أمرائهم ويشهدون عليهم بالضلالة، فقال –مجرِّحًا إياهم-: "أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
ولما ذُكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن؟ قال: "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابِهه، وقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]" ([1]).
فكانت الخوارج والقدرية هما أول فرقتين فارقتا سبيل الصحابة؛ وكان هذا هو موقف الصحابة منهما بأن حذَّروا منهما بهذه الألفاظ الشديدة في الجرح، بل استخدم الصحابة قوة السلطان في قمع أهل البدع؛ فضرب عمر رضي الله عنه صَبِيغ الذي أراد اتباع المتشابه من آيات القرآن، وحرَّق عليٌ رضي الله عنه الزنادقة الذين قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا (انظر الفتح 12/270)؛ وقاتل عليٌ الخوارج –الذين وقعوا في بدعة الغلو في التكفير- وقتل منهم الكثير؛ فهل هذا من الغلو يا صاحب "رسالة إلى غلاة التجريح" ؟!!
وبلا شك هذه الفرق فيها خطأ وصواب، وحقٌّ وباطل؛ فليست هي على الباطل المبين، كما ذُكر من حال الخوارج واجتهادهم في العبادة، ورغم هذا كان هذا هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من هذه الفرق؛ وبِهذا يُرَد على صاحب " رسالة إلى غلاة التجريح" احتجاجه بفتاوى مجملة منسوخة للجنة الدائمة سئلت فيها عن أحزاب هي امتداد لفرق: الخوارج والمعتزلة والصوفية والرافضة؛ وهي: حزب الإخوان المسلمين، وفرقة التكفير والهجرة، وفرفة التبليغ والدعوة..إلخ؛ فأجابت: "كل من هذه الفرق فيها حق وباطل وخطأ وصواب، وبعضها أقرب إلى الحق والصواب وأكثر خيرًا وأعمُّ نفعًا من بعض؛ فعليك أن تتعاون مع كل منها على ما معها من الحق، وتنصح لها فيما تراه خطأ"؛ فنقول: وهل نصح النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاون مع الخوارج فيما معهم من الحق حيث كانوا أصحاب اجتهاد في العبادة؟! وهل نصح عمر جند المسلمين أن يتعاونوا مع صبيغ بن عِسل فيما معه من الحق، ويدعوه يبث شبهاته في وسطهم دون ردع أو زجر؟! وهل نصح ابن عمر يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أن يتعاونا مع القدرية في قراءة القرآن وتقفر العلم؟! وهل..؟! ..وهل..؟! أم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نفَّروا أشد التنفير من هذه الفرق، وأمروا بمجانبتها بالكليَّة، خشية التأثر بمناهجها الفاسدة، حيث إن الحقَّ الذي معها، هو مع أهل السنة، فلسنا في حاجة إلى صوابِها؛ ولأن شرها غلب على خيرها، وخطأها على صوابِها، وفي الغالب من يتبع هذه الفرق من العامة يأخذ كل ما عندها من شر وخير؛ لأنه لا يستطيع التمييز؛ فلماذا نفتن الناس عن الدين الحقِّ بهذا التمييع المشين الذي يوقع المغرَّر بهم في حبال هذه الفرق المخالفة للسنة؟!!
وقد كتم صاحب "رسالة إلى غلاة التجريح" الفتاوى المحكمة لعلماء اللَّجنة الدائمة الناسخة لهذه الفتوى المجملة؛ فلما سئل الإمام عبدالعزيز بن باز –رحمه الله- رئيس اللجنة الدائمة سابقًا- عن فرقتي الإخوان والتبليغ قبل موته بسنتين: هل هاتان الفرقتان تدخلان في الفرق الهالكة؟ أجاب: "تدخل في الثنتين والسبعين، من خالف عقيدة أهل السنة دخل في الثنتين والسبعين".
وقال الإمام الألباني: "ليس صوابًا أن يُقال إن الإخوان المسلمين هم من أهل السنة؛ لأنهم يحاربون السنة"، وقال العلامة صالح اللحيدان: "الإخوان وجماعة التبليغ ليسوا من أهل المناهج الصحيحة فإن جميع الجماعات والتسميات ليس لها أصل في سلف هذه الأمة"، وقال العلامة عبد الرزاق عفيفي –رحمه الله- نائب رئيس اللجنة الدائمة- عن فرقة التبليغ: "الواقع أنَّهم مبتدعة ومُخرِّفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم، وخروجهم ليس فِي سبيل الله، لكنه فِي سبيل إلياس، وهم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعونَ إلى إلياس شيخهم"...إلخ الفتاوى المحكمة التي ذكرتُها كاملةً في "الكواشف الجلية"، وفيه توثيق هذه الفتاوى.
ولنا مقام آخر -إن شاء الله- أوسع من هذا نرد فيه ترهات وشبهات الجريح صاحب غلاة التجريح، ونظهر فيه زيف الجواهر الحسان في بيان منهج محمد حسَّان، والله المستعان.
وسار التابعون بإحسان إلى وقتنا هذا على هذا المنهج الرباني، وهذه مصنَّفات الجرح والتعديل شاهدة على هذا، ومنها: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"بحر الدم فيمن تكلَّم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذمّ" لابن عبد الهادي، والتواريخ الثلاثة "الكبير والأوسط والصغير"، و"الضعفاء" كلُّها للبخاري، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي، و"الضعفاء" للعقيلي، و"ميزان الاعتدال" للذهبي، ولسانه لابن حجر، و"الضعفاء والمتروكين" للنسائي، ونحوه للدارقطني ثم ابن الجوزي..إلخ، وفيها تقرأ تجريح وتبديع مئات من الرجال –رواة وغيرهم- وبيان مخالفاتِهم –صغُرت أم كبُرت-، دون الاعتناء بذكر محاسنهم؛ لأن المقام مقام تحذير، ونصح للمسلمين، وهذه نُبذة يسيرة من هذه الأقوال:
في طبقات الحنابلة (1/233، 234) في ترجمة علي بن أبي خالد: قال علي: "قال قلت لأحمد: إن هذا الشيخ لشيخ حضر معنا هو جاري وقد نهيته عن رجل ويحب أن يسمع قولك فيه -حارث القصير، يعني: حارثًا المحاسبي- كنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة فقلت لي: لا تجالسه، ولا تكلِّمه؛ فلم أكلِّمه حتى الساعة، وهذا الشيخ يجالسه فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احْمَّر لونه وانتفخت أوداجه وعيناه وما رأيته هكذا قط ثم جعل ينتفض ويقول: ذاك فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك إلا من خبره وعرفه، أويه أويه أويه، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه، ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان فأخرجهم إلى رأي جهم هلكوا بسببه؛ فقال له الشيخ: يا أبا عبدالله يروى الحديث ساكن خاشع من قصته ومن قصته؛ فغضب أبو عبدالله، وجعل يقول: لا يغرك خشوعه ولينه ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه؛ فإنه رجل سوء ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره، لا تكلِّمه ولا كرامة له، كُلُّ من حدَّث بأحاديث رسول الله ج، وكان مُبتدعًا تجلس إليه لا ولا كرامة ولا نعمي عين، وجعل يقول: ذاك ذاك÷.
وجاء فِي سؤالات البرذعي (ص561): "شهدت أبا زرعة سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقلت للسائل: إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغني عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنَّفوا هـذه الكتب فِي الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؛ هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم؛ فآتوْنا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبد الرحيم الديبلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق البلخي، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع".اهـ
قلت: فهذا هو موقف جبلين من جبال علم الجرح والتعديل مع أحد القُصَّاص الكبار، رغم أنه لم يكن جاهلاً متعالِمًا كحال كثير من قُصَّاص هذا الزمان، بل كان كما قال الخطيب في تاريخ بغداد (8/211): "وللحارث كتب كثيرة في الزهد وفي أصول الديانات والرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة وغيرهما÷.
قلت: أي أنه كان له ردود على بعض المخالفين لأصول أهل السنة، وفي الوقت نفسه كان هو واقعًا في مخالفات أخرى لأصول أهل السنة، منها رأي جهم، وكلامه في الخطرات والوساوس، فلم يأبه أحمد بردوده على المعتزلة والرافضة، ويعقد موازنة بين حسناته وسيئاته كما يصنع رويبضة هذا الزمان.
وقال الذهبي في الميزان (2/166) بعد أن نقل كلام أبي زرعة: "وأين مثل الحارث؟! فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كـ(القوت) لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟ كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم وحقائق التفسير للسلمي لطار لُبَّه؟ كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر؟ كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟ بلى لما كان الحارث لسان القوم في ذاك العصر كان معاصره ألف إمام في الحديث فيهم مثل أحمد بن حنبل وابن راهوية، ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي، وابن شحانة، كان قطب العارفين كصاحب الفصوص وابن سبعين، نسأل الله العفو والمسامحة آمين".اهـ
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! فكيف إذا رأوا كتب سيد قطب، ومحمد الغزالي، والمودودي، والقرضاوي، والترابي؟ فكيف لو استمعوا لقُصَّاص هذا الزمان؟! لطار لُبَّهم.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: كنا عند ابن عيينة فسأله منصور بن عمار عن القرآن؟ فزبره وأشار إليه بعكازه؛ فقيل يا أبا محمد: إنه عابد؛ فقال: ما أراه إلا شيطانًا".
وقال العقيلي في الضعفاء (4/193): "منصور بن عمار القاص، لا يقيم الحديث وكان فيه تجهُم".
قلت: هكذا لم يغتر ابن عيينة به، وقال فيه مثل هذا الجرح الشديد، فهلاَّ قام أصحاب منهج القصص والتمييع باتِّهَام ابن عيينة بالغلو في الجرح؟؟
وقال البخاري في ترجمة إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى المدني الأسلمي مَولاهم: "كان يرى القَدَر، عن يحيي بن سعيد: تركه ابن المبارك والناس، حدثنا محمد حدثني ابن المثني، ثنا بشر بن عمر، قال: نهاني مالك، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قلت من أجل القدر تنهاني عنه؟ قال: ليس في دينه بَذَاك".(الضعفاء 9).
وقال في ترجمة أبان بن أبي عَيَّاش: "وهو أبان بن فَيْرُوز أبو إسماعيل البصري، عن أنس، كان شعبة سيئ الرأي فيه" (الضعفاء 33).
وقال في ترجمة عبد المجيد بن أبي روَّاد: "كان يرى الإرجاء عن أبيه، وكان الحميدي يتكلَّم فيه"(الضعفاء 239).
وقال في ترجمة يحيى بن بِسطام: "يُذكر بالقدر" (الضعفاء 394).
وقد جرح البخاري في الضعفاء ما يقرب من أربعمائة رجلاً، والنسائي جرح ما يزيد عن ستمائة وخمسين رجلاً في كتابه.
وقال إبراهيم بن طهمان: حدثنا من لا يتهم –غير واحد- أن جهمًا رجع عن قوله ونزع عنه وتاب إلى الله منه فما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه، ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم".
وعلى هذا المنهج الرباني أسَّس أئمة الجرح والتعديل مصنَّفاتِهم في بيان حال الرجال –رواة وغير رواة- حفظًا لهذا الدين من التبديل والتحريف والإحداث، وحتى ينقل جيلاً بعد جيل عن الثقات الأمناء إلى الثقات الأمناء، بأسانيد نظيفة إلى أن وصل إلينا في زماننا صاف غير مكدَّر محفوظًا بحفظ الله، فهنيئًا لك يا أمة الإسناد بعلم الجرح والتعديل.
قال أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم –رحمه الله- في تقدمته على "الجرح والتعديل" (ص5-6): "فلمَّا لم نجد سبيلاً إلى معرفة شئ من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة.
ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عزوجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة حق علينا معرفتهم ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل، لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات.
وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليعرف به أدلة هذا الدين [وأعلامه]
وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم هؤلاء أهل العدالة، فيتمسك بالذي رووه، ويعتمد عليه، ويحكم به، وتجري أمور الدين عليه، وليعرف أهل الكذب تخرصا، وأهل الكذب وهما، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيكشف عن حالهم وينبأ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها، إن كذب فكذب، وإن وهم فوهم، وان غلط فغلط وهؤلاء هم أهل الجرح، فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يعبأ به ولا يعمل عليه، ويكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار، ومن حديث بعضهم الآداب الجميلة والمواعظ الحسنة والرقائق والترغيب والترهيب هذا أو نحوه".اهـ
وقال الجوزجاني في مقدّمته على "أحوال الرجال": "وسأصفهم على مراتبهم ومذاهبهم منهم الزائغ عن الحق كذاب في حديثه ومنهم الكذاب في حديثه لم أسمع عنه ببدعة وكفى بالكذب بدعة ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس حديثه إذ كان مخذولا في بدعته مأمونا في روايته فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إذا لم يقو به بدعته فيتهم عند ذلك.
ومنهم الضعيف في حديثه غير سائغ لذي دين أن يحتج بحديثه وحده إلا أن يقويه حديث من هو أقوى منه فحينئذ يعتبر به.
فأبدأ بذكر الخوارج إذ كانت أول بدعة ظهرت في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً أعني التميمي الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل حين وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياعه وجلاَّهم ونعتهم وأحسن نعتهم ثم هم تحركوا أيضًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرقوا جماعة الأمة وميلوا اعتدال الإلفة فشاموا أنفسهم أولا والأمة بعدها آخرا فنبذ الناس حديثهم اتهامًا لهم.
منهم:
1 - عبد الله بن الكواء رأسهم.
2 - وعبد الله بن راسب
3 - وشبث بن ربعي أول من حلل الحرورية.
4 - ومالك بن الحارث.
5 - وأبو بلال مرداس بن أدية
6 - وأخوه عروة بن أدية
7 - ونافع بن الأزرق
8 - ونجدة بن عامر
9 - وصعصعة بن صوحان ...".اهـ
قلت: كذا استهل الجوزجاني كتابه بذكر أسماء أول من ظهر من رءوس بدعة الخوارج، ناعتًا إياهم بأنهم سبب تفريق الأمة، وإذا تقفى الأئمة في زماننا آثار الأئمة السابقين نحو الجوزجاني في تعداد رءوس أهل البدع في زماننا خاصة رءوس الخوارج المفرقين للأمة من قديم، إذ برويبضة هذا الزمان يتهمون هؤلاء الأئمة بأنهم هم المفرقون الفتَّانون، فاللهم الصبر والثبات في زمن الغربة.
ولا نعلم أحدًا أبدًا من العلماء المعتبرين اعتبر التجريح الشديد لأهل الأهواء المخالفين لمنهج السلف غلوًّا، بل كانوا يعتبرونه مَحمدة لصاحبه، كما قال الحافظ في الإصابة (3/130): "وكان سمُرة بن جندب رضي الله عنه شديدًا على الخوارج، فكانوا يطعنون عليه".
وقال أحمد: "إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام؛ فإنه كان شديدًا على المبتدعة"(السير7/447).
وقال مالك: "كان ابن هرمز قليل الكلام، وكان يشدُّ على أهل البدع، وكان أعلم الناس بما اختلفوا فيه من ذلك، وكذا كان عبد الرحمن عبد القاسم" (مناقب مالك للزواوي ص152).
وقال قتيبة بن سعيد: "كان عمر بن هارون شديدًا على المرجئة، وكان يذكر مساوئهم وبلاياهم"(تاريخ دمشق45/365).
وقال أبو الصلت الهروي في ترجمة إبراهيم بن طهمان: "كان شديدًا على الجهمية"(السير7/380).
وقال عبد الله بن أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2/15: سمعت أبي يقول: وكان أبو عصمة شديدًا على الجهمية والرد عليهم، ومنه تعلم نُعَيْم بن حَمَّاد الردَّ على الجهمية.
وقال ابن رجب في ترجمة البربهاري: "شيخ الطائفة في وقته ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع والمباينة لهم باليد واللسان"(طبقات الحنابلة2/1...إلخ الأمثلة المبثوثة في كتب التراجم([3]).
وقال شيخ الإسلام في نقض المنطق (ص12): "الراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذَّبّ عن السنة أفضل من الجهاد".
وقد أجمع العلماء على وجوب التحذير من أهل البدع والأهواء، وحذَّروا من مجالستهم، كما قال الفضيل بن عياض: "وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وهم ينهون عن أصحاب البدعة".
وقال أبو عثمان الصَّابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص123): "واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم".اهـ
وقال ابن بطة في الشرح والإبانة (ص282): "ومن السنة مُجانبة كلّ من اعتقد شيئًا مما ذكرناه –أي من البدع- وهجرانه، والمقت له، وهجران من والاه ونصره وذبَّ عنه وصاحبه، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السُّنَّة".
وحذَّر السلف من القراءة في كتب أهل البدع، كما قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله –أي أحمد- عن الكرابيسي، وما أظهره؟ فكلح وجهه ثم قال: "إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على هذه الكتب" (المعرفة والتاريخ 3/494)، وقال أحمد أيضًا: "إياكم أن تكتبوا عن أحد من أصحاب الأهواء قليلاً ولا كثيرًا، عليكم بأصحاب الآثار والسُّنَن" (السير 11/321)، وقال ابن أبي حاتم: "وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلّظان في ذلك أشد التغليظ، ويُنكران وضع الكتب برأي في غير آثار، وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين، ويقولان لا يفلح صاحب كلام أبدًا" (شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 322).
واعلم –أرشدك الله- أن هذا العلم العظيم ليس قاصرًا على رواة الحديث كما يُموه البعض، واسمع إلى ما قاله ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير (3/464-مجموع الرسائل): "ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث، ولا التمييز بين مَن تقبل روايته ومن لا تقبل وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّل شيئًا منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به، ليُحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا([4])".
وكذلك الرد على المخالف لا يشمل أهل الأهواء فحسب بل يدخل فيه أيضًا المخالف من أهل السنة، لكنهم يفرقون في كيفية الرد بين المبتدع والسلفي، وبين العالم والمتعالم الجاهل، فقال ابن رجب في النصيحة (3/467): "وأما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن في الخطاب وأحسن في الرد والجواب؛ فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه...وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردَّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردِّها عليهم هذا كله حكم الظاهر...وسواء كان الذي بيِّن الخطأ صغيرًا أو كبيرًا فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتَيْن وغير ذلك.."، إلى أن قال: "وهذا كلّه في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم".اهـ
وأهل البدع يشتركون في سمة رئيسة هي: مخالفة سبيل السلف الصالح في فهم الكتاب والسنة، فهم يتبعون أهواءهم وأراءهم المبنية على المتشابهات لا المحكمات، ويعارضون بها الكتاب والسنة، ومن ثَمَّ لا ينتسبون إلى السلف إما بلسان مقالهم أو بلسان حالهم، فإما أن ينتسبون صراحة إلى مسميات أخرى نحو الجهمية والخوارج والأشاعرة والمعتزلة والصوفية والإخوان والتبليغ..إلخ، أو يظهرون الانتساب إلى السلفية ادعاءً، ويخالفون هذا الانتساب اعتقادًا وعملاً، فيخالفون أصولاً عظيمة من الأصول السلفية، وأخطرهم من ينسب مخالفاته إلى المنهج السلفي، ويقدمها للناس على أنها من أصول منهج السلف الصالح، وفي واقع الأمر هي أصول الخوارج والمعتزلة والصوفية وغيرهم، ويدرك تدليسه وكذبه مَن له أدنى اهتمام بكتب العقيدة السلفية، وهذا بخلاف العالم الرباني المجتهد –لا المتعالم القصَّاص أو الجاهل- الذي قد تزل قدمه في بدعة أو خطأ في الأصول دون تعمُّد أو اتباع للهوى.
ومن سماتهم أيضًا إطلاق الألفاظ المنفرة على أصحاب الطائفة المنصورة والفرقة الناجية: السلفيين –أهل الحديث والأثر- إذا حذَّروا من أهل البدع والفرق المبتدعة، فيلقبونهم بأنهم وهابية، جامية، ألبانيون، مداخلة، فتَّانون، مفرِّقون..إلخ، ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع لنا التحذير من مُخالفي السنة، وهو الذي أخبر بافتراق الأمة، وحذَّر من سبل هذه الفرق، وأمر باتباع سبيل الجماعة الأم وهو ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن ثَمَّ ندرك الثمرة العظيمة لهذا العلم الجليل –علم الجرح والتعديل-، الذي ما وُضع إلا لبيان حال كل مخالف لسبيل هذه الفرقة الناجية –سبيل الصحابة والسلف الصالح-، والتحذير من سبل الفرق والأحزاب الذين قال الله سبحانه عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام:159].
وعليه فإن الواجب على المسلم إذا سمع عالِمًا يحذِّر من أحد المخالفين للسنة أن لا يغضب ويتعصَّب له، بل الواجب عليه أن يذعن للحق، ويعتقد أن هذا التحذير يدخل في باب "النصيحة في الدين"، وأن به يتحقَّق توحيد المسلمين على المنهج الحق، وبه يحدث الفرقان بين الفرقة الناجية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سبيلها، وبين الفرق التي فارقت هذا السبيل القويم.
ومن أراد المزيد فليراجع كتب العلامة ربيع بن هادي –إمام الجرح والتعديل-: "منهج أهل السنة في نقد الرجال والكتب والطوائف"، "والمحجة البيضاء في حماية السنة الغراء"، و"النقد منهج شرعي".
ودعك من تهويل المرجفين الذين اتهموا أئمة السنة- ومنهم العلامة ربيع- بالغلو في الجرح؛ فإن سلفهم في ذلك هو بكر بن حَمَّاد المغربي الذي قال منتقصًا أصحاب الحديث ومنهم ابن معين:
ولابن معين في الرجال مقالة *** سيُسأل عنها والمليك شهيد
فإن يكُ حقًّا قوله فهي غيبة *** وإن يكُ زورًا فالقصاص شديد
فأجابه أبو عبدالله الْحُمَيدي:
ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت *** معالمه في الآخرين تبيد
هم حفظوا الآثار من كل شبهة *** وغيرهم عمَّا اقتنوه رقود
وهم هاجروا في جمعها وتبادروا *** إلى كل أفق والمرام كؤود
وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم *** فدام صحيح النَّقل وهو جديد
في أبيات طويلة أخرجها الخطيب في الكفاية (ص3
نسأل الله سبحانه أن يهدينا إلى سبيل الفرقة الناجية، وأن يجنبنا سبل الفرق المحدثة، وأن يوفقنا إلى تعظيم ما عظَّمه السلف الصالح من العلوم والأصول، ومنها علم الجرح والتعديل، وأصل الرد على أهل البدع والأهواء، ونبرأ إلى الله من التنقص من أئمة الحديث والسنة، ومن تلقيبهم بالألقاب السيئة؛ فإن هذا من الخيبة والخسران أن يُجرح العدول من أهل العلم، ويُعدل المجروحين من الحزبيين والقُّصَّاص والمتعصِّبين للباطل والأهواء، وعليه يُوسد الأمر إلى غير أهله، وهذا من غربة الإسلام الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد محمد عثمان المصري
في ليلة الجمعة 17 من ذي القعدة 1427هـ(الطبعة الأولى)
وانتهيت من تحريرها إعدادًا للطبعة الثانية:
في ليلة الأربعاء 24 رمضان 1432هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/343) (45/ط دار الوطن)، والهروي في "ذمِّ الكلام وأهله" (2/33) (193)، وإسماعيل القاضي في "أحكام القرآن"، وسعيد بن منصور في سننه، وابن أبي داود في المصاحف، كما في "إتحاف المهرة" للحافظ ابن حجر (7/301) (7857) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس به.
قلت: إسناده صحيح، وقال الحافظ: "على شرط الشيخين".
([2]) قال ابن عبدالبر في "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء" (ص109): " أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ يَحْيَى الْبُوَيْطِيُّ.. كَانَ عَالِمًا فَقِيهًا لَطِيفًا فِي أَسْبَابِهِ يُدْنِي الْغُرَبَاءَ وَيُقَرِّبُهُمْ إِذَا قَدِمُوا لِلطَّلَبِ وَيُعَرِّفُهُمْ فَضْلَ الشَّافِعِيِّ وَفَضْلَ كُتُبِهِ حَتَّى كَثُرَ الطَّالِبُونَ لِكُتُبِ الشَّافِعِيِّ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانَ يَقُولُ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ لِي اصْبِرْ لِلْغُرَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّلامِيذِ؛ وَكَانَ ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْحَنَفِيُّ قَاضِي مِصْرَ يَحْسِدُهُ وَيُعَادِيهِ فَأَخْرَجَهُ فِي وَقْتِ الْمِحْنَةِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَنْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى بَغْدَادَ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ غَيْرِهِ وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ وَحُبِسَ فَلم يجب الى مادعى إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ هُوَ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحُبِسَ وَمَاتَ فِي السِّجْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلاةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ".
([3]) راجع كتاب "إجماع العلماء على التحذير من أهل البدع والأهواء" للشيخ خالد الظفيري.
([4]) قال الشيخ عبدالرحمن محيي الدين –حفظه الله-: "بل على وجوبه على الكفاية".
الطبعة الأولى: http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=11792
ـــــــــ
ــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــ
ـــــــــ
تقاريظ العلماء على مطوية
"علم الجرح والتعديل ..تعريفه وتاريخه وثمراته"
تقريظ فضيلة الشيخ العلامة عبيد الله عبدالله الجابري –حفظه الله-
قال –حفظه الله-:
"محتواه جيد ونوصي بنشره".
وكتبه
عبيد بن عبدالله الجابري
المدرس بالجامعة الإسلامية سابقًا
صباح الخميس السادس عشر من جمادى الثاني عام 1432هـ
الموافق 19 مايو 2011
تقريظ فضيلة الشيخ العلامة محمد بن هادي المدخلي –حفظه الله-
قال –حفظه الله-: "قرأ عليَّ أخي في الله كاتب هذه المطوية أبو عبدالأعلى –وفقه الله- مطويته هذه من أولها إلى قوله: "ومن سماتهم أيضًا إطلاق الألفاظ المنفرة..."، وأكملت الباقي بنفسي فوجدتها مطوية جميلة جدًّا نافعة في بابها.
وقد صحَّحت معه –وفقه الله- بعض العبارات، وأحثُّه على طبعها بعد تصحيحها ونشرها؛ ليعم الانتفاع بها.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وكتبه: محمد بن هادي المدخلي
المدرس بكلية الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
بعد صلاة العشاء من يوم الأحد الموافق 20/5/1432هـ
تقريظ فضيلة الشيخ أ.د. عبدالمحسن المنيف –حفظه الله-
أستاذ الفرائض بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية وعميد البحث العلمي بها سابقًا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد، فإن ما كتبه فضيلة الشيخ خالد بن محمد بن عثمان المصري في هذه المطوية عن علم الجرح والتعديل كتابة قيمة مستوفية للمطلوب عن هذا العلم على سبيل الاختصار غير المخل، فهي تذكرة للمنتهي ومفيدة ونافعة للمبتدي.
وبناء على ذلك فإني أوصي طلاب العلم بقراءتها والاستفادة منها.
وأسأل الله عز وجل للجميع التوفيق والسداد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه الفقير إلى الله تعالى
أ.د. عبدالمحسن بن محمد بن عبدالمحسن المنيف
الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
حرِّر في يوم الثلاثاء 7/6/1432هـ
تقريظ فضيلة الشيخ الوالد حسن بن عبدالوهَّاب البنا –حفظه الله تعالى-
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد، فقد اطلعت على هذه العجالة –القليلة أوراقها العظيمة أهميتها، والتي يلزم معرفتها لكلِّ طالب علم، والتي كتبها مؤلِّفها؛ ليخرج بها الناس من دائرة التعصُّب والتزام قول الأشياخ المخالفين لأصول أهل السنة المتبعين سبل أهل الفرق والأحزاب الذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفرقهم في الدين، وقد كان الأوائل تحت لواء الكتاب والسنة مجتمعين متآلفين بالحق المبين على منهج الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
وهنا وقفة للتأني ومعرفة الحق بعيدًا عن انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين الذين يتعصَّبون لأشياخهم ويتبعون أهواءهم مستكبرين عن مراجعة علمهم المخلوط على الثوابت من دين الله عقيدة ومنهجًا، وهي وقفة مع علم جليل جعله الله سببًا في تمييز المحق من المبطل، والسني من البدعي، هذا العلم الذين اتفق أهل السنة على مر العصور على تعظيمه لأهميته القصوى في حفظ هذا الدين من الابتداع والتحريف !
ألا وهو علم "الجرح والتعديل" الذي وضع لبنته أَمَنَة هذه الأمة، فكانوا حقًّا حماة لهذا الدين.
والذين يطعنون في هذا العلم الشريف، يخيل إليهم أن هذه الأمة لم تفترق، وأن الذي يحذِّر من هذه الفرق والأحزاب البدعية –الكائنة في أرض الواقع-، إنما هو الذي يريد أن يفرِّق الأمة !!
وأين هم من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتراق الأمة –أمة الإجابة- بقدر الله الكوني إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة –أي: جماعة المسلمين ممثلين في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من تبعهم بإحسان- الذين يسيرون على السبيل القويم.
وإنه مما لا شكَّ فيه أن الكثيرين –خاصة من الدعاة- قد سمعوا هذا الحديث في افتراق الأمة، ولكنهم يغالطون أنفسهم، وقلَّما يذكرونه، حتى لا ينكشف منهجهم المخالف للثوابت والأصول من الكتاب والسنة، ومن ثَمَّ باتوا يغمزون في هذا العلم وحَمَلته، ويطعنون في أمانتهم، ويتهمونهم بالغلو والشطط من أجل تنفير الناس عن الأخذ بأحكامهم العادلة المبنية على الأدلة الثابتة.
وإن تعجب فعجب قولهم أن البعض أو الغالب يتهموننا بتفريق الأمة إذا جرحنا المبتدعة الذين تبنوا البدعة في الأصول وخاصموا عليها ودعوا إليها عامة المسلمين –ونحن نجرح بتجريح العلماء-، فهل من الأمانة أن نترك الدعاة إلى البدع العقدية ولا يكون لنا معهم موقف يدعونا إليه الغيرة على شرع الله؟!
لكن المبتدعة –في حقيقة الأمر- هم المفرِّقون للأمة، المفارقون لسبيل أهل الحق، الداعون إلى تحزيب الأمة إلى أحزاب شتى {كل حزب لما لديهم فرحون}.
وباطلاعي على هذه الوريقات التي كتبها ابننا وتلميذنا: الشيخ أبو عبدالأعلى خالد محمد عثمان –وفقه الله-؛ وجدت أنها مدعمة بالأدلة الواضحة الراسخة من الكتاب والسنة، ومن آثار السلف الصالح، وهذا من الحقِّ، وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال، ولو وُفِّق هؤلاء لقراءة هذه الحقائق القيمة الظاهرة بقلب سليم، لَما اختاروا بديلاً لها.
ونصيحتي لكلِّ مَن يريد الخير أن يقرأها بتمعن، وأن يدرسها وينشرها بين الناس، ويعمل بها حتى تدحض البدع، وتُنشَر السنن، ويعلو الدين الحق بأصوله وفروعه، وحينئذ يصير المسلمون أهلاً للاستخلاف في الأرض، ويمكِّن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم، كما وعد سبحانه في قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
هذا وبالله التوفيق، والله من وراء القصد.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أخوكم في الله
حسن عبدالوهاب البنا
المدرس بالجامعة الإسلامية وعضو هيئة التوعية الإسلامية
بالمدينة النبوية سابقًا
الثلاثاء الخامس من محرم 1433 هـ
المصدر: من هنا