:: هل من منهج أهل السنة والجماعة؛ تعيير المذنب بأمرٍ تاب منه؟ ::
================
فمن المعلوم المقرر؛ في شريعة الإسلام العظيم: أن ((التائب من الذنب؛ كمن لا ذنب له)).
بمعنى: أن من تاب؛ تاب الله عليه، وكأن شيئًا لم يكن، بل: تُبدَّل سيئاته -أي: التائب- إلى حسنات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68-70].
وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
وبوَّب البخاري -رحمه الله- في صحيحه بابًا بعنوان: (باب الصدقة تُكَفِّر الخطيئةُ)، وأورد في هذا الباب حديثًا عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: ((كنَّا جلوسًا عند عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ!، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ -قَالَ سُلَيْمَانُ قَدْ كَانَ يَقُولُ الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ- قَالَ عمر: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ؛ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ؟.......الحديث)) [البخاري:2-350].
والآيات والأحاديث في إثبات تلك القاعدة -((التائب من الذنب؛ كمن لا ذنب له))- كثيرة موفورة ولله الحمد والمنة، وليس هذا موضع استقصائها؛ ولكن المراد هو:
هل التائب من هذا الذنب؛ يُعَيَّر به بعد توبته منه؟
والجواب: مجمل ومفصل.
فأمَّا المجمل:
فلا يجوز التعيير ألبته، بل ويَحرم ذلك.
وأما المُفَصَّلُ فهو:
· المُعَيِّرُ مُنَفِّرٌ لعباد الله، صادٌ عن سبيل الله.
هذا المُعَيِّرُ يَصدُّ الناس عن صراط الله المستقيم من حيث لا يشعر، لأنه بتعييره يُثبط عبادَ الله عن الإقبال على الله!، كيف؟ لأن التائب الذي هو (المُعَيَّرُ) يُصاب بالإحباط، إذا لم يجد من يعاونه على الاستقامة، والإقبال على الله، ولكم رأينا وسمعنا عن أُناس انتكسوا وتركوا الدعوة إلى الله بسبب مَن؟ بسبب المُعَيَّرين.
· المُعَيِّرُ مُتألٍ على الله -وما يدريه لعل الله قبل من المُعَيَّرِ توبته-.
أخرج مسلم في الصحيح، عن عَنْ جُنْدَبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ؛ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) أَوْ كَمَا قَالَ.
والمُعَيِّرُ يقول بلسان حاله -وربما بقاله- أنا أشك في توبة هذا المذنب، أظنُّ أن الله لن يَقبل منه توبته! ويغُضُّ الطرف عن حاله -يعني: المُذنب المُعَيَّر- بعد التوبة.
· هل من الصحابة من عَيَّر أحدَا بذنب تاب منه؟
والجواب: لا، ومعلوم أن الفرقة الناجية هي: من كان على مل ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، قال تعالى في الحث على التزام نهج الأصحاب، والتحذير من مخالفته: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والمُخاطَبُ بــ (المؤمنين) ابتداءً هم: الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقد سدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذرائعَ والطرقَ الموصلة والمؤدية إلى هذا التعيير، ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: أن رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا؛ فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَا تَلْعَنُوهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).
· حكم التعيير والتحقير.
قال السعديُّ في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]: وهذا أيضًا، من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخورُ به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ((بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم)) أ هــ .
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ:قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي: قَصِيرَةً- فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً؛ لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ!))، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا -أي: مثَّلت له الوصف- فَقَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)) والحديث أخرجه أبو داود والترمذي وهو صحيح.
· جزاء المُعَيِّرِ من جنس عمله.
ذكر ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (53/227) قال: حدث المدائنيُّ قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدَّين؛ أنه اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرةً، فقال: الفأرة كانت في المعصرة -يعني: معصرة الزيت-، فصَبَّ الزيتَ كله.
وكان يقول: عيَّرْتُ رجلًا بشيء منذ ثلاثين سنة، أحسبني عوقبت به.
وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر، فابتلي به.
· لو انتكس المُعَيَّرُ؛ من يبوءُ بإثمه؟
لو انتكس المُعَيَّرُ؛ فإنَّ المُعَيِّرَ عليه من الإثم مثل إثم المنتكس؛ بل ربما أشد، والقاعدة في ذلك معروفة مشهورة: ((المتسبب كالفاعل المباشر))، فلو أن رجلًا أزَّ إنسانًا على القتل؛ فقتل؟ كان عليه نفس إثم القاتل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا؛ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا- لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلًا)) أخرجه مسلم في باب (بيان إثم من سنَّ القتل) والبخاري في باب (بَاب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }الْآيَةَ)
· تعييرك أيها المُعَيِّرُ: بيانٌ عن إساءةِ ظنِّك.
فالمُعَيِّرُ سيئُ الظنِّ، لأن حسنَ الظنِّ مُقدم على إساءة الظنِّ، ولو أحسن هذا المُعَيِّرُ الظنَّ بأخيه المُعَيَّرُ لما عيَّره، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات:11] وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ))
*************************
تأمل حالة عمرٍو -رضي الله عنه- كيف كان؟
وكيف صار؟ وهل عَيَّرَهُ أحدٌ بما كان؟
قال الإمام مسلم -رحمه الله- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي: أَبَا عَاصِمٍ-، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ:
حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلًا؛ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَذَا؟، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَذَا؟
قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ:
لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنِّي وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ؛ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ! لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي؛ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي!، قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ.
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ؛ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي؛ فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ؛ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي)). [مسلم:1-304]
فتأمل -بارك الله فيك- هذه الحالة الأولى التي مرَّ بها عمرٌو -رضي الله عنه-، ومع هذا حَسُنَ إسلامه، وصار من الأفاضل، وشهد المشاهد، وفتح الأمصار؛ هذا في الدنيا، وأمّا في الآخرة فهو مع المصطفين الأخيار، والصحابة الأبرار، ومن رضي عنهم العزيز الغفار.
ونصيحة قبل الختام لك أيها المُعَيِّر: قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94]، فلو أن الله أنعم عليك بالهداية، وحرمها غيرك، فهذا دليل لكرم الله عليك ومنته، فلا تتمن الانتكاسة والتعاسة والضلال لغيرك، فتُعطاهم!.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وكتبه: أبو معاذ محمود الصعيدي، من بورسعيد - مصر - في يوم الثلاثاء، الرابع من شهر رجب سنة 1434 هــ. الموافق 14-5- 2013 م.
التحميل من هنا [PDF] أو [WORD]
================
هل من منهج أهل السُّنة والجماعة؛ تعييــر المُذنب
بأمـــــر تــاب منه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أمَّا بعد؛....بأمـــــر تــاب منه؟
فمن المعلوم المقرر؛ في شريعة الإسلام العظيم: أن ((التائب من الذنب؛ كمن لا ذنب له)).
بمعنى: أن من تاب؛ تاب الله عليه، وكأن شيئًا لم يكن، بل: تُبدَّل سيئاته -أي: التائب- إلى حسنات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68-70].
وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
وبوَّب البخاري -رحمه الله- في صحيحه بابًا بعنوان: (باب الصدقة تُكَفِّر الخطيئةُ)، وأورد في هذا الباب حديثًا عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: ((كنَّا جلوسًا عند عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ!، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ -قَالَ سُلَيْمَانُ قَدْ كَانَ يَقُولُ الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ- قَالَ عمر: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ؛ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ؟.......الحديث)) [البخاري:2-350].
والآيات والأحاديث في إثبات تلك القاعدة -((التائب من الذنب؛ كمن لا ذنب له))- كثيرة موفورة ولله الحمد والمنة، وليس هذا موضع استقصائها؛ ولكن المراد هو:
هل التائب من هذا الذنب؛ يُعَيَّر به بعد توبته منه؟
والجواب: مجمل ومفصل.
فأمَّا المجمل:
فلا يجوز التعيير ألبته، بل ويَحرم ذلك.
وأما المُفَصَّلُ فهو:
· المُعَيِّرُ مُنَفِّرٌ لعباد الله، صادٌ عن سبيل الله.
هذا المُعَيِّرُ يَصدُّ الناس عن صراط الله المستقيم من حيث لا يشعر، لأنه بتعييره يُثبط عبادَ الله عن الإقبال على الله!، كيف؟ لأن التائب الذي هو (المُعَيَّرُ) يُصاب بالإحباط، إذا لم يجد من يعاونه على الاستقامة، والإقبال على الله، ولكم رأينا وسمعنا عن أُناس انتكسوا وتركوا الدعوة إلى الله بسبب مَن؟ بسبب المُعَيَّرين.
· المُعَيِّرُ مُتألٍ على الله -وما يدريه لعل الله قبل من المُعَيَّرِ توبته-.
أخرج مسلم في الصحيح، عن عَنْ جُنْدَبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ؛ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)) أَوْ كَمَا قَالَ.
والمُعَيِّرُ يقول بلسان حاله -وربما بقاله- أنا أشك في توبة هذا المذنب، أظنُّ أن الله لن يَقبل منه توبته! ويغُضُّ الطرف عن حاله -يعني: المُذنب المُعَيَّر- بعد التوبة.
· هل من الصحابة من عَيَّر أحدَا بذنب تاب منه؟
والجواب: لا، ومعلوم أن الفرقة الناجية هي: من كان على مل ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، قال تعالى في الحث على التزام نهج الأصحاب، والتحذير من مخالفته: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والمُخاطَبُ بــ (المؤمنين) ابتداءً هم: الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقد سدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذرائعَ والطرقَ الموصلة والمؤدية إلى هذا التعيير، ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: أن رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا؛ فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَا تَلْعَنُوهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).
· حكم التعيير والتحقير.
قال السعديُّ في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]: وهذا أيضًا، من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخورُ به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ((بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم)) أ هــ .
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ:قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي: قَصِيرَةً- فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً؛ لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ!))، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا -أي: مثَّلت له الوصف- فَقَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)) والحديث أخرجه أبو داود والترمذي وهو صحيح.
· جزاء المُعَيِّرِ من جنس عمله.
ذكر ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (53/227) قال: حدث المدائنيُّ قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدَّين؛ أنه اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرةً، فقال: الفأرة كانت في المعصرة -يعني: معصرة الزيت-، فصَبَّ الزيتَ كله.
وكان يقول: عيَّرْتُ رجلًا بشيء منذ ثلاثين سنة، أحسبني عوقبت به.
وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر، فابتلي به.
· لو انتكس المُعَيَّرُ؛ من يبوءُ بإثمه؟
لو انتكس المُعَيَّرُ؛ فإنَّ المُعَيِّرَ عليه من الإثم مثل إثم المنتكس؛ بل ربما أشد، والقاعدة في ذلك معروفة مشهورة: ((المتسبب كالفاعل المباشر))، فلو أن رجلًا أزَّ إنسانًا على القتل؛ فقتل؟ كان عليه نفس إثم القاتل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا؛ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا- لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلًا)) أخرجه مسلم في باب (بيان إثم من سنَّ القتل) والبخاري في باب (بَاب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }الْآيَةَ)
· تعييرك أيها المُعَيِّرُ: بيانٌ عن إساءةِ ظنِّك.
فالمُعَيِّرُ سيئُ الظنِّ، لأن حسنَ الظنِّ مُقدم على إساءة الظنِّ، ولو أحسن هذا المُعَيِّرُ الظنَّ بأخيه المُعَيَّرُ لما عيَّره، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات:11] وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ))
*************************
تأمل حالة عمرٍو -رضي الله عنه- كيف كان؟
وكيف صار؟ وهل عَيَّرَهُ أحدٌ بما كان؟
قال الإمام مسلم -رحمه الله- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي: أَبَا عَاصِمٍ-، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ:
حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلًا؛ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَذَا؟، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَذَا؟
قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ:
لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنِّي وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ؛ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ! لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي؛ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي!، قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ.
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ؛ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي؛ فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ؛ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي)). [مسلم:1-304]
فتأمل -بارك الله فيك- هذه الحالة الأولى التي مرَّ بها عمرٌو -رضي الله عنه-، ومع هذا حَسُنَ إسلامه، وصار من الأفاضل، وشهد المشاهد، وفتح الأمصار؛ هذا في الدنيا، وأمّا في الآخرة فهو مع المصطفين الأخيار، والصحابة الأبرار، ومن رضي عنهم العزيز الغفار.
ونصيحة قبل الختام لك أيها المُعَيِّر: قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94]، فلو أن الله أنعم عليك بالهداية، وحرمها غيرك، فهذا دليل لكرم الله عليك ومنته، فلا تتمن الانتكاسة والتعاسة والضلال لغيرك، فتُعطاهم!.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وكتبه: أبو معاذ محمود الصعيدي، من بورسعيد - مصر - في يوم الثلاثاء، الرابع من شهر رجب سنة 1434 هــ. الموافق 14-5- 2013 م.