بسم الله الرحمٰن الرحيم، الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ إمامِ الهُداةِ المهتدين خاتمِ رُسُلِ الله، أمّا بعد: هٰهنا حُجَّةٌ علىٰ مَن يتعصّب لرأيِ شيخٍ لِمُجَرَّدِ أنه شيخُه! ولا يُدَقِّق هل وافق أمرَ اللهِ -جَلَّ جَلالُهُ- أم لا؟ وإذا بُيّنت له الأدلةُ مِن كُتب السَّلَفِ تُجَلّي له الجادّة، وتوقظ فيه رَشادَه؛ لم يجد إنهاءً لنُصح الناصحين إلَّا قوله: "لو كان هٰذا المنهجَ الحقَّ؛ لَسَلكه شيخي" (!!)، قال اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[الأنبياء: 73]
وقال جَلَّ جَلالُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[السَّجدة: 24]، قال الحافظ القصّاب رَحِمَهُ اللهُ تعالىٰ:
"دليلٌ علىٰ أنَّ الأئمةَ يُتَّبَعون على الهِداية بِأمرِ الله، لا بآرائهم، وأنَّ فضْلَ إمامتهم لا يُثبت حُجَّةً علىٰ غيرِهم إذا لم يَهْدوهم بأمْرِ اللهِ، وأمْرِ كتابه. والله أعلم.
وهٰذا وإنْ كان في أئمةِ بني إسرائيل، فليس بين أئمتنا وأئمتهم فَرْقٌ؛ لأنّ الله - جَلَّ جَلالُهُ- لم يَجْعَلْ لِأحدٍ مِن خَلْقِه أنْ يَقُول مِن تِلقاء نفْسِه شيئًا، وإذا لم يَجْعَلْ له أن يَقُول؛ فلم يَجْعَلْ لِأحدٍ أن يَقتديَ به إلّا فيما هَداه بأمْرِه، فمَن كان مُميِّزًا؛ فالتقليدُ محرّمٌ عليه[1]، ومَن أَعْوَزَه تبصُّرُ الْحُجّة؛ فهو كالأعمىٰ يَتْبَع البصير؛ أَنْجاه أم أَهْلكه، وليس عليه غيرُه.
ألا تَرىٰ أنّ الله -جَلَّ جَلالُهُ- لم يُلزمِ الخلقَ الاقتداءَ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والائتمارَ له، والتأسّيَ به- إلَّا بعد ما شَهِد له بأنه لا يَنطق عنِ الهَوىٰ[2]، ولا يبدِّل مِن تلقاء نفْسِه[3]، ويَحكم بين الناس بما أراه اللهُ[4]، ثم حينئذٍ قال:
﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾[النُّور: 54]؛ لأنه يَهديهم بوحيِ اللهِ ورسالته، وما وفّقه له مِن عِصْمته، وليس هٰذا لأحدٍ بعده وإن كان فاضلًا جليلًا" اﻫ مِن "النكت" (3/ 640).
وقال الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في "رسالته إلىٰ أحد إخوانه" ص19: "وكما أنه سبحانه عَلَّق الإمامةَ في الدِّين بالصَّبرِ واليَقين؛ فالآية متضمنةٌ لِأَصْلَين آخرَين:
أحدهما: الدعوة إلى اللهِ وهداية خَلْقِهِ.
الثاني: هِدايتهم بما أَمَرَ به علىٰ لسان رسوله، لا بمقتضىٰ عقولِهم، وآرائهم، وسياساتِهم، وأذواقِهم، وتقليد أسلافِهم بغيرِ برهانٍ مِن الله؛ لأنه قال: ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾" اﻫ.
وقال العلامة السعدي رَحِمَهُ اللهُ: "وقوله: ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ أي: يَهدون الناسَ بِدِيننا، لا يَأْمُرون بِأهواءِ أنفسِهم، بل بأمرِ اللهِ ودِينه، واتّباعِ مرضاته، ولا يكون العبدُ إمامًا حتىٰ يدعوَ إلىٰ أمرِ الله" اﻫ من "تيسير الكريم الرحمٰن" ص 527.
هٰذا؛ ومن المعلوم أنه أتىٰ في مقابل هٰؤلاء الأئمةِ الهُداةِ المهديين: أئمةُ ضلالة! ومِن أدلة ذٰلك قولُه تعالىٰ: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ﴾[القصص: 41]، فكِلا الفريقين (أئمة)! لٰكن.. فريقٌ في جَنَّةِ جُنَّةِ أَمْرِ اللهِ، وفريق بالهوىٰ في مهاوي السَّعير! نسأل الله العافية.
قال الإمام محمد بن عبد الوهّاب -رَحِمَهُ اللهُ- في بيانه لمسائل الآية السابقة (القصص):
"الثانية: أنّ معرفةَ هٰذا مما يوجب الحرصَ على النظرِ في الأئمةِ إذا كان منهم مَن جَعَله اللهُ يَدعو إلى النار، ومنهم مَن قال فيه: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(الأنبياء: 73)" اﻫ من "مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهّاب" (2/ 219 ، ط دار القاسم).
فالموفَّق مَن حَرَصَ على النظرِ في الأئمة -فمنهم ومنهم!-، واتّبعَ المهْدِيين على الهِداية بأمرِ اللهِ، وكان دليلًا إليهم دون غيرِهم.
والدُّعاءُ: «وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» يَجمع النِّعمتَين!
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَصَلَّىٰ صَلَاةً خفَّفها، فَمَرَّ بِنَا، فَقِيلَ لَهُ:
يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! خَفَّفْتَ الصَّلَاةَ! قَالَ:
أَفَخَفِيفَةً رَأَيْتُمُوهَا؟ قُلْنَا:
نَعَمْ. قَالَ:
أَمَا إِنِّي قَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ مَضَىٰ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ (قَالَ عَطَاءٌ: اتَّبَعَهُ يَعْنِي: أَبِي- وَلٰكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: اتَّبَعْتُهُ) فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ؟ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ:
«اللَّهُمَّ! بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ؛ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.
اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ فِي الغضب والرِّضا.
وأسألك القَصْدَ في الفَقر والغِنىٰ.
وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَبِيدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ.
وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ.
وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَىٰ وَجْهِكَ.
وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَىٰ لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
اللَّهُمَّ! زَيِّنَّا بِزِيْنَةِ الْإِيمانِ، واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِيْنَ». رواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان -واللفظُ له؛ وصحَّحه أبي رَحِمَهُ اللهُ، يُنظر "أصل صفة صلاة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (3/ 100، "صحيح موارد الظمآن" (417).
الخميس 8 جمادى الآخرة 1434ﻫ
[1] - فلا يُصار إليه إلا لضرورة.
[2] - قال تَعَالَىٰ: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾[النَّجْم:3-4].
[3] - قال سُبْحَانهُ: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَــٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[يونس: 15].
[4] - قال جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾[النساء: 105].
تعليق