رد: [حصري] نصيحة لجماعة التبليغ
حكم وسائل الدعوة
الناس فِي وسائل الدعوة على طرفَي نقيض:
الطرف الأول: صرح بأن وسائل الدعوة توقيفية مطلقًا ، فكل ما لَمْ يتخذه رسول الله e وسيلة من وسائل الدعوة وإن كان غير مُمكن له فهو من جملة البدع ، حَتَّى إن بعضهم حرم الأشرطة وإلقاء الدروس والوعظ عبر مكبرات الصوت.
أما الطرف الثانِي: صرح بأن كل وسيلة يُمكننا اتِّخاذها وفعلها فيجوز لنا اتِّخاذها ، بل ويستحب وإن كان رسول الله ﷺ أو أصحابه أمكنهم اتِّخاذها وفعلها ولَم يفعلوا.
ولا شك أن هؤلاء توسعوا توسعًا غير مُرْضٍ كما أن الطرف الأول ضيقوا تضييقًا غير مُرْضٍ بل الوسط فِي هذا وهو الصراط المستقيم -إن شاء الله- وبه يَحصل فصل الخطاب: ما قرره أبو العباس بن تيمية إذ قال: "والضابط فِي هذا-والله أعلم- أن يقال: إن الناس لا يُحدثون شيئًا إلاَّ لأنَّهم يرونه مصلحة ، إذ لو اعتقدوه مفسدة لَمْ يُحدثوه ، فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين ، فما رآه الناس مصلحة نظر فِي السبب الْمُحوج إليه ، فإن كان السبب الْمُحوج أمرًا حدث بعد النَّبِي ﷺ من غير تفريط منا فهنا قد يَجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله ﷺ لكن تركه النبِي ﷺ لِمعارض زال بِموته.
وأما ما لَمْ يَحدث سبب يحوج إليه ، أو كان السبب الْمُحوج إليه بعض ذنوب العباد ، فهنا لا يَجوز الإحداث ، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله ﷺ موجودًا لو كان مصلحة ولَم يفعل يعلم أنه ليس بِمصلحة ، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق فقد يكون مصلحة.
ثُمَّ هنا للفقهاء طريقان:
أحدهما: أن ذلك يفعل ما لَمْ ينه عنه ، وهذا قول القائلين بالْمصالِح الْمرسلة.
والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لَمْ يؤمر به ، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالْمصالِح المرسلة وهؤلاء ضربان:
منهم من لا يثبت الحكم ، إن لَمْ يدخل فِي لفظ كلام الشارع ، أو فعله ، أو إقراره ، وهم نفاة القياس.
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بِمعناه وهم القياسيون.
فأما ما كان المقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحة ، وهو مع هذا لَمْ يشرعه ، فوضعه تغيير لدين الله ، وإنَّما دخل فيه من نُسِب إلَى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد ، أو من زل منهم باجتهاد ، كما روي عن النَّبِي ﷺ وغير واحد من الصحابة: "إن أخوف ما أخاف ما عليكم زلة عالِم وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون".
فمثال هذا القسم الأذان فِي العيدين ، فإن هذا لَما أحدثه بعض الأمراء ، أنكره المسلمون لأنه بدعة ، فلو لَمْ يكن كونه بدعة دليلاً على كراهيته ، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ، ودعاء للخلق إلَى عبادة الله ، فيدخل فِي العمومات ، كقوله: ﴿يا أيّها الّذِين آمنوا اذْكروا اللّه ذِكْرًا كثِيرًا﴾[ الأحزاب:41]. وقوله تعالى: ﴿ومنْ أحْسن قوْلًا مِمّنْ دعا إِلى اللّهِ وعمِل صالِحًا وقال إِنّنِي مِن الْمسْلِمِين﴾[ فصلت:33] ثُمَّ قال: ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس: تقديْم الخطبة على الصلاة فِي العيدين ، فإنه لَما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون ، لأنه بدعة واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سَماع الخطبة ، وكانوا على عهد رسول الله e لا ينفضون حتَّى يسمعوا أو أكثرهم ، فيقال له: سبب هذا تفريطك ، فإن النَّبِي ﷺ كان يَخطبهم خطبة يقصد بِها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم ، وأنت قصدك إقامة رياستك ، وإن قصدت صلاح دينهم ، فلا تعلمهم ما ينفعهم ، فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى ، بل الطريق فِي ذلك أن تتوب إلَى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر ، وإن لَمْ يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم ، وهذان الْمَعنيان من فهمهما انْحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة" اهـ.([1]).
لاحظ -أخا الإيْمان- أن ابن تيمية ذكر أن ذنوب العباد ليست سببًا مبررًا لإحداث الْمَصلحة "الوسيلة الدعوية" بل في هذه الحالة يُؤمر الناس بترك الذنوب والمعاصي .
توجيهات وإرشادات
إليك- أيها الداعية المبارك- هذه الإرشادات والتوجيهات:
1- ليس معنَى كون جماعة التبليغ مُخالفين للمنهج الشرعي أننا لا ندعو بالأسلوب الحسن والأخلاق العالية مع التودد والرحمة وإذلال النفس للمسلمين أجمعين ، لاسيما المدعوين -فِي حدود الشرع- كما قال الرب جلا وعلا : ﴿يا أيّها الّذِين آمنوا منْ يرْتدّ مِنْكمْ عنْ دِينِهِ فسوْف يأْتِي اللّه بِقوْمٍ يحِبّهمْ ويحِبّونه أذِلّةٍ على الْمؤْمِنِين أعِزّةٍ على الْكافِرِين﴾[ المائدة:54]. وليس مَعْنَى كونِهم مُخالفين للمنهج الشرعي أننا لا ندعو العصاة والفساق من المسلمين بل والكافرين ، وليس أيضًا مَعْنَى كونِهم مُخالفين للمنهج الشرعي أننا لا نسافر للدعوة إلَى الله ، كلاَّ ، بل نسافر لكن إذا كنا طلاب علم أو فِي صحبة طلاب علم ، إذ هذه الأمور كلها هي دعوة رسول الله والسلف من بعده قبل أن تُخلق جماعة التبليغ وتوجد على وجه البسيطة ، فكل ما هو حسن عندهم مرضي لله موجود فِي دعوة رسول الله ﷺ وأتباعه .
لذا دعا العلماء الناصحون من هم منتسبون لِجماعة التبليغ أن يبادروا بترك هذه الجماعة ولينتموا إلَى من عقيدتُهم ومنهجهم على طريقة السلف الْمَاضين والعلماء الراسخين ، مع استمرار حرصهم على دعوة الناس جميعًا لكن بالضوابط الشرعية مع تعلم العقيدة والحرص عليها .
2- لا يصح لنا ألبتة أن نعتنِي بِجانب من جوانب الدين مع ترك الجوانب الأخرى المتحتمة علينا دينًا ، فلا يصح للمسلم أن يعكف عمره كله على طلب العلم دون الدعوة إلَى الله بتعليمه فِي حلقات العلم ونشره بين عوام المسلمين ، والرد على المخالفين الضالين باللسان والبنان ، قال تعالى: ﴿وإِذْ أخذ اللّه مِيثاق الّذِين أوتوا الْكِتاب لتبيِّننّه لِلنّاسِ ولا تكْتمونه﴾[ آل عمران:187] . وقال جل جلاله : ﴿إِنّ الّذِين يكْتمون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ والْهدىٰ مِنْ بعْدِ ما بيّنّاه لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ ۙ أولٰئِك يلْعنهم اللّه ويلْعنهم اللّاعِنون ﯖ إِلّا الّذِين تابوا وأصْلحوا وبيّنوا فأولٰئِك أتوب عليْهِمْ ۚ وأنا التّوّاب الرّحِيم ﴾[ البقرة:159 - 160 ]. وإن زينة الأيام والشامة بين الأنام: هم علماؤنا الأبرار ، أهل الفتوى والرسوخ فِي العلم ، الذين جمعوا بين كل خير من علم وتعليم وعمل، قد بذلوا أعمارهم وطاقاتِهم قربة لله فِي إجابة السائلين، وإرشاد المسترشدين عبر الْهَاتف والإذاعة والعمل وهم على ذلك سنون.
وكم مصيبة تَحل بالمسلمين يُجليها الله بفتوى أحدهم، أو طائفة منهم، فما أكثر فتاواهم الْهَادية للأمة أفرادًا وجماعات !!
وإياك -أيها الموفق-: أن تداهن أهل البدع لأجل مصلحة دنيوية كتكثير سواد الْمُحبين والأتباع ونَحو ذلك ، بل لتكن البغية رضا الله وحده دون أحد سواه ، وتذكَّر حياة القبور ، وتطاير الصحف يوم النشور.
ولتعلم أن أهل البدع لن يرضوا عنك إلا إذا اتبعتهم أو سكت عن بدعتهم.
قال الشوكاني -رحمه الله-: "وفِي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لِحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لأهل البدع ، المتمذهبين بِمذاهب السوء التاركين للعمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لِمحض الرأي عليهما ، فإن غالب هؤلاء -وإن أظهر قبولاً وأبان من أخلاقه لينًا- لا يرضيه إلا إتباع بدعته والدخول فِي مداخله ، والوقوع فِي حبائله ، فإن فعل العالِم ذلك بعد أن عَلَّمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما فِي كتابه وسنة رسوله ، لا ما هم عليه من تلك البدع الَّتِي هي ضلالة مَحضة وجهالة بينة ، ورأي منهار ، وتقليد على شفا جرف هارٍ، فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير ، ومن كان كذلك فهو مَخذول لا مَحالة ، وهالك بلا شك ولا شبهة" اهــ[2].
وأيضًا لا يصح للمسلم أن يَجعل عمره كله فِي الدعوة إلَى الله دون تعلُّم العلم الشرعي الواجب عليه عينًا ، ودون مراجعة أهل العلم ، والرجوع إلَى قولِهم ليبينوا له حكم الله فِي عبادته خاصة وفِي دعوته للناس عامة .
3- من الخطأ البين أن بعض الدعاة إلَى الله يبتكر وسائل دعوية أو يأخذها من غيره سواء كانوا من الداخل أو الخارج ، ثُمَّ يستخدمها فِي دعوته ، فإذا أنكرت عليه ذهب بعد ذلك إلَى العلماء طارقًا أبوابَهم باحثًا له من بينهم من يفتِي بِجوازها- هذا إن كان متجردًا ومبتغيًا رضا الله ، وإلا فإن بعضهم يأبى ويستقل برأيه ، نسأل الله السلامة ، وكان المتحتم فِي حقه ألا يتخذ هذه الوسيلة إلا بعد استفتائهم ، لأنَّهم هم العالِمون بالله وبكتابه وسنة رسوله ، ولأن الله قال: ﴿ فاسْألوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كنْتمْ لا تعْلمون﴾[ الأنبياء:7]
4- يا دعاة الخير ومَحبة هداية الناس ، هذه سبيل رسول اللهﷺ وأصحابه أمامكم فاسلكوها توصلكم إلَى مرضاة ربكم ، قال تعالى: ﴿ فاسْألوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كنْتمْ لا تعْلمون﴾. وقال: ﴿وأنّ هٰذا صِراطِي مسْتقِيمًا فاتّبِعوه ۖ ولا تتّبِعوا السّبل فتفرّق بِكمْ عنْ سبِيلِهِ ۚ ذٰلِكمْ وصّاكمْ بِهِ لعلّكمْ تتّقون﴾[ الأنعام:153]
وإن من أبرز معالِم دعوة رسول الله ﷺ وأصحابه: تقرير التوحيد وتوكيده ، والتحذير من الشرك ووسائله ، ومُحاربة البدع والمبتدعة ، لأنَّهم يهدمون الدين وينقضون عراه عروة عروة باسم الدين ، فلا يفطن الناس إليهم ، بل يتبعونَهم ، والشرك والبدعة قرينان ، والمشرك والمبتدع مُجتمعون على بغض أهل الْحق .
قال ابن القيم "إغاثة اللهفان" (1/62-76): فلا تَجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يعظمه بذلك ، كما أنك لا تَجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول ﷺ وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة ، فإنه يزعم أنَّها خير من الْسُّنَّة وأولى بالصواب ، أو يزعم أنَّها هي الْسُّنَّة ، إن كان جاهلاً مقلدًا ، وإن كان مستبصرًا فِي بدعته فهو مشاق لله ورسوله ، فالمتنقصون المنقصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه : هم أهل الشرك والبدعة ...
ثُمَّ قال: ولِهذا كانت البدعة قرينة الشرك فِي كتاب الله تعالى ، قال تعالى: ﴿قلْ إِنّما حرّم ربِّي الْفواحِش ما ظهر مِنْها وما بطن والْإِثْم والْبغْي بِغيْرِ الْحقِّ وأنْ تشْرِكوا بِاللّهِ ما لمْ ينزِّلْ بِهِ سلْطانًا وأنْ تقولوا على اللّهِ ما لا تعْلمون﴾[ الأعراف:33] .فالإثْم والبغي قرينان ، والشرك والبدعة قرينان ...
ثُمَّ قال: وهكذا المشرك إنَّما ينقم على الموحد تَجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك .
وهكذا المبتدع : إنَّما ينقم على السنِّي تَجريده متابعة الرسول ﷺ ، وأنه لَمْ يَشُبها بآراء الرجال ، ولا بشيء مِمَّا خالفها ، فصبر الموحد المتبع للرسول ﷺ على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع ، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .
إذا لَمْ يكن بد من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه اهـ.
ولا يفهم جهول بَلْه فهوم أن الإمام ابن القيم -رحمه الله- بِهذه يكفِّر أهل البدع .
فمتَى يفيق من تغرر بِهذه الجماعة فيقدمون الكتاب والسنة الصحيحة بفهم السلف الصالِح على عواطفهم الَّتِي يستميلهم بِها التبليغيون ، ألَم يأن لَهم البراءة من هذه الجماعة وأهلها إلَى الكتاب والسنة بفهم سلفنا الصالِح وعلمائنا السائرين على طريقتهم؟!
وظني أن هذا القدر المذكور يكفي لتفهمهم ومعرفة خطورتهم وأبعادها المترامية دينيا وخلقيا .
([1]) اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/59 علمًا أن الشيخ مُحَمَّد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- هو المرشد إلَى هذه القاعدة النفيسة من كلام ابن تيمية فِي التفريق بين الوسائل الدعوية المشروعة والوسائل الدعوية الممنوعة. كما فِي بعض مسجلاته الصوتية.
[2] فتح القدير عند تفسير قوله تعالى: ﴿ولنْ ترْضىٰ عنْك الْيهود ولا النّصارىٰ حتّىٰ تتّبِع مِلّتهمْ ﴾[ البقرة:120] .
حكم وسائل الدعوة
الناس فِي وسائل الدعوة على طرفَي نقيض:
الطرف الأول: صرح بأن وسائل الدعوة توقيفية مطلقًا ، فكل ما لَمْ يتخذه رسول الله e وسيلة من وسائل الدعوة وإن كان غير مُمكن له فهو من جملة البدع ، حَتَّى إن بعضهم حرم الأشرطة وإلقاء الدروس والوعظ عبر مكبرات الصوت.
أما الطرف الثانِي: صرح بأن كل وسيلة يُمكننا اتِّخاذها وفعلها فيجوز لنا اتِّخاذها ، بل ويستحب وإن كان رسول الله ﷺ أو أصحابه أمكنهم اتِّخاذها وفعلها ولَم يفعلوا.
ولا شك أن هؤلاء توسعوا توسعًا غير مُرْضٍ كما أن الطرف الأول ضيقوا تضييقًا غير مُرْضٍ بل الوسط فِي هذا وهو الصراط المستقيم -إن شاء الله- وبه يَحصل فصل الخطاب: ما قرره أبو العباس بن تيمية إذ قال: "والضابط فِي هذا-والله أعلم- أن يقال: إن الناس لا يُحدثون شيئًا إلاَّ لأنَّهم يرونه مصلحة ، إذ لو اعتقدوه مفسدة لَمْ يُحدثوه ، فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين ، فما رآه الناس مصلحة نظر فِي السبب الْمُحوج إليه ، فإن كان السبب الْمُحوج أمرًا حدث بعد النَّبِي ﷺ من غير تفريط منا فهنا قد يَجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله ﷺ لكن تركه النبِي ﷺ لِمعارض زال بِموته.
وأما ما لَمْ يَحدث سبب يحوج إليه ، أو كان السبب الْمُحوج إليه بعض ذنوب العباد ، فهنا لا يَجوز الإحداث ، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله ﷺ موجودًا لو كان مصلحة ولَم يفعل يعلم أنه ليس بِمصلحة ، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق فقد يكون مصلحة.
ثُمَّ هنا للفقهاء طريقان:
أحدهما: أن ذلك يفعل ما لَمْ ينه عنه ، وهذا قول القائلين بالْمصالِح الْمرسلة.
والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لَمْ يؤمر به ، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالْمصالِح المرسلة وهؤلاء ضربان:
منهم من لا يثبت الحكم ، إن لَمْ يدخل فِي لفظ كلام الشارع ، أو فعله ، أو إقراره ، وهم نفاة القياس.
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بِمعناه وهم القياسيون.
فأما ما كان المقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحة ، وهو مع هذا لَمْ يشرعه ، فوضعه تغيير لدين الله ، وإنَّما دخل فيه من نُسِب إلَى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد ، أو من زل منهم باجتهاد ، كما روي عن النَّبِي ﷺ وغير واحد من الصحابة: "إن أخوف ما أخاف ما عليكم زلة عالِم وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون".
فمثال هذا القسم الأذان فِي العيدين ، فإن هذا لَما أحدثه بعض الأمراء ، أنكره المسلمون لأنه بدعة ، فلو لَمْ يكن كونه بدعة دليلاً على كراهيته ، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ، ودعاء للخلق إلَى عبادة الله ، فيدخل فِي العمومات ، كقوله: ﴿يا أيّها الّذِين آمنوا اذْكروا اللّه ذِكْرًا كثِيرًا﴾[ الأحزاب:41]. وقوله تعالى: ﴿ومنْ أحْسن قوْلًا مِمّنْ دعا إِلى اللّهِ وعمِل صالِحًا وقال إِنّنِي مِن الْمسْلِمِين﴾[ فصلت:33] ثُمَّ قال: ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس: تقديْم الخطبة على الصلاة فِي العيدين ، فإنه لَما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون ، لأنه بدعة واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سَماع الخطبة ، وكانوا على عهد رسول الله e لا ينفضون حتَّى يسمعوا أو أكثرهم ، فيقال له: سبب هذا تفريطك ، فإن النَّبِي ﷺ كان يَخطبهم خطبة يقصد بِها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم ، وأنت قصدك إقامة رياستك ، وإن قصدت صلاح دينهم ، فلا تعلمهم ما ينفعهم ، فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى ، بل الطريق فِي ذلك أن تتوب إلَى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر ، وإن لَمْ يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم ، وهذان الْمَعنيان من فهمهما انْحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة" اهـ.([1]).
لاحظ -أخا الإيْمان- أن ابن تيمية ذكر أن ذنوب العباد ليست سببًا مبررًا لإحداث الْمَصلحة "الوسيلة الدعوية" بل في هذه الحالة يُؤمر الناس بترك الذنوب والمعاصي .
توجيهات وإرشادات
إليك- أيها الداعية المبارك- هذه الإرشادات والتوجيهات:
1- ليس معنَى كون جماعة التبليغ مُخالفين للمنهج الشرعي أننا لا ندعو بالأسلوب الحسن والأخلاق العالية مع التودد والرحمة وإذلال النفس للمسلمين أجمعين ، لاسيما المدعوين -فِي حدود الشرع- كما قال الرب جلا وعلا : ﴿يا أيّها الّذِين آمنوا منْ يرْتدّ مِنْكمْ عنْ دِينِهِ فسوْف يأْتِي اللّه بِقوْمٍ يحِبّهمْ ويحِبّونه أذِلّةٍ على الْمؤْمِنِين أعِزّةٍ على الْكافِرِين﴾[ المائدة:54]. وليس مَعْنَى كونِهم مُخالفين للمنهج الشرعي أننا لا ندعو العصاة والفساق من المسلمين بل والكافرين ، وليس أيضًا مَعْنَى كونِهم مُخالفين للمنهج الشرعي أننا لا نسافر للدعوة إلَى الله ، كلاَّ ، بل نسافر لكن إذا كنا طلاب علم أو فِي صحبة طلاب علم ، إذ هذه الأمور كلها هي دعوة رسول الله والسلف من بعده قبل أن تُخلق جماعة التبليغ وتوجد على وجه البسيطة ، فكل ما هو حسن عندهم مرضي لله موجود فِي دعوة رسول الله ﷺ وأتباعه .
لذا دعا العلماء الناصحون من هم منتسبون لِجماعة التبليغ أن يبادروا بترك هذه الجماعة ولينتموا إلَى من عقيدتُهم ومنهجهم على طريقة السلف الْمَاضين والعلماء الراسخين ، مع استمرار حرصهم على دعوة الناس جميعًا لكن بالضوابط الشرعية مع تعلم العقيدة والحرص عليها .
2- لا يصح لنا ألبتة أن نعتنِي بِجانب من جوانب الدين مع ترك الجوانب الأخرى المتحتمة علينا دينًا ، فلا يصح للمسلم أن يعكف عمره كله على طلب العلم دون الدعوة إلَى الله بتعليمه فِي حلقات العلم ونشره بين عوام المسلمين ، والرد على المخالفين الضالين باللسان والبنان ، قال تعالى: ﴿وإِذْ أخذ اللّه مِيثاق الّذِين أوتوا الْكِتاب لتبيِّننّه لِلنّاسِ ولا تكْتمونه﴾[ آل عمران:187] . وقال جل جلاله : ﴿إِنّ الّذِين يكْتمون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ والْهدىٰ مِنْ بعْدِ ما بيّنّاه لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ ۙ أولٰئِك يلْعنهم اللّه ويلْعنهم اللّاعِنون ﯖ إِلّا الّذِين تابوا وأصْلحوا وبيّنوا فأولٰئِك أتوب عليْهِمْ ۚ وأنا التّوّاب الرّحِيم ﴾[ البقرة:159 - 160 ]. وإن زينة الأيام والشامة بين الأنام: هم علماؤنا الأبرار ، أهل الفتوى والرسوخ فِي العلم ، الذين جمعوا بين كل خير من علم وتعليم وعمل، قد بذلوا أعمارهم وطاقاتِهم قربة لله فِي إجابة السائلين، وإرشاد المسترشدين عبر الْهَاتف والإذاعة والعمل وهم على ذلك سنون.
وكم مصيبة تَحل بالمسلمين يُجليها الله بفتوى أحدهم، أو طائفة منهم، فما أكثر فتاواهم الْهَادية للأمة أفرادًا وجماعات !!
وإياك -أيها الموفق-: أن تداهن أهل البدع لأجل مصلحة دنيوية كتكثير سواد الْمُحبين والأتباع ونَحو ذلك ، بل لتكن البغية رضا الله وحده دون أحد سواه ، وتذكَّر حياة القبور ، وتطاير الصحف يوم النشور.
ولتعلم أن أهل البدع لن يرضوا عنك إلا إذا اتبعتهم أو سكت عن بدعتهم.
قال الشوكاني -رحمه الله-: "وفِي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لِحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لأهل البدع ، المتمذهبين بِمذاهب السوء التاركين للعمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لِمحض الرأي عليهما ، فإن غالب هؤلاء -وإن أظهر قبولاً وأبان من أخلاقه لينًا- لا يرضيه إلا إتباع بدعته والدخول فِي مداخله ، والوقوع فِي حبائله ، فإن فعل العالِم ذلك بعد أن عَلَّمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما فِي كتابه وسنة رسوله ، لا ما هم عليه من تلك البدع الَّتِي هي ضلالة مَحضة وجهالة بينة ، ورأي منهار ، وتقليد على شفا جرف هارٍ، فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير ، ومن كان كذلك فهو مَخذول لا مَحالة ، وهالك بلا شك ولا شبهة" اهــ[2].
وأيضًا لا يصح للمسلم أن يَجعل عمره كله فِي الدعوة إلَى الله دون تعلُّم العلم الشرعي الواجب عليه عينًا ، ودون مراجعة أهل العلم ، والرجوع إلَى قولِهم ليبينوا له حكم الله فِي عبادته خاصة وفِي دعوته للناس عامة .
3- من الخطأ البين أن بعض الدعاة إلَى الله يبتكر وسائل دعوية أو يأخذها من غيره سواء كانوا من الداخل أو الخارج ، ثُمَّ يستخدمها فِي دعوته ، فإذا أنكرت عليه ذهب بعد ذلك إلَى العلماء طارقًا أبوابَهم باحثًا له من بينهم من يفتِي بِجوازها- هذا إن كان متجردًا ومبتغيًا رضا الله ، وإلا فإن بعضهم يأبى ويستقل برأيه ، نسأل الله السلامة ، وكان المتحتم فِي حقه ألا يتخذ هذه الوسيلة إلا بعد استفتائهم ، لأنَّهم هم العالِمون بالله وبكتابه وسنة رسوله ، ولأن الله قال: ﴿ فاسْألوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كنْتمْ لا تعْلمون﴾[ الأنبياء:7]
4- يا دعاة الخير ومَحبة هداية الناس ، هذه سبيل رسول اللهﷺ وأصحابه أمامكم فاسلكوها توصلكم إلَى مرضاة ربكم ، قال تعالى: ﴿ فاسْألوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كنْتمْ لا تعْلمون﴾. وقال: ﴿وأنّ هٰذا صِراطِي مسْتقِيمًا فاتّبِعوه ۖ ولا تتّبِعوا السّبل فتفرّق بِكمْ عنْ سبِيلِهِ ۚ ذٰلِكمْ وصّاكمْ بِهِ لعلّكمْ تتّقون﴾[ الأنعام:153]
وإن من أبرز معالِم دعوة رسول الله ﷺ وأصحابه: تقرير التوحيد وتوكيده ، والتحذير من الشرك ووسائله ، ومُحاربة البدع والمبتدعة ، لأنَّهم يهدمون الدين وينقضون عراه عروة عروة باسم الدين ، فلا يفطن الناس إليهم ، بل يتبعونَهم ، والشرك والبدعة قرينان ، والمشرك والمبتدع مُجتمعون على بغض أهل الْحق .
قال ابن القيم "إغاثة اللهفان" (1/62-76): فلا تَجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يعظمه بذلك ، كما أنك لا تَجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول ﷺ وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة ، فإنه يزعم أنَّها خير من الْسُّنَّة وأولى بالصواب ، أو يزعم أنَّها هي الْسُّنَّة ، إن كان جاهلاً مقلدًا ، وإن كان مستبصرًا فِي بدعته فهو مشاق لله ورسوله ، فالمتنقصون المنقصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه : هم أهل الشرك والبدعة ...
ثُمَّ قال: ولِهذا كانت البدعة قرينة الشرك فِي كتاب الله تعالى ، قال تعالى: ﴿قلْ إِنّما حرّم ربِّي الْفواحِش ما ظهر مِنْها وما بطن والْإِثْم والْبغْي بِغيْرِ الْحقِّ وأنْ تشْرِكوا بِاللّهِ ما لمْ ينزِّلْ بِهِ سلْطانًا وأنْ تقولوا على اللّهِ ما لا تعْلمون﴾[ الأعراف:33] .فالإثْم والبغي قرينان ، والشرك والبدعة قرينان ...
ثُمَّ قال: وهكذا المشرك إنَّما ينقم على الموحد تَجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك .
وهكذا المبتدع : إنَّما ينقم على السنِّي تَجريده متابعة الرسول ﷺ ، وأنه لَمْ يَشُبها بآراء الرجال ، ولا بشيء مِمَّا خالفها ، فصبر الموحد المتبع للرسول ﷺ على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع ، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .
إذا لَمْ يكن بد من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه اهـ.
ولا يفهم جهول بَلْه فهوم أن الإمام ابن القيم -رحمه الله- بِهذه يكفِّر أهل البدع .
فمتَى يفيق من تغرر بِهذه الجماعة فيقدمون الكتاب والسنة الصحيحة بفهم السلف الصالِح على عواطفهم الَّتِي يستميلهم بِها التبليغيون ، ألَم يأن لَهم البراءة من هذه الجماعة وأهلها إلَى الكتاب والسنة بفهم سلفنا الصالِح وعلمائنا السائرين على طريقتهم؟!
وظني أن هذا القدر المذكور يكفي لتفهمهم ومعرفة خطورتهم وأبعادها المترامية دينيا وخلقيا .
([1]) اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/59 علمًا أن الشيخ مُحَمَّد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- هو المرشد إلَى هذه القاعدة النفيسة من كلام ابن تيمية فِي التفريق بين الوسائل الدعوية المشروعة والوسائل الدعوية الممنوعة. كما فِي بعض مسجلاته الصوتية.
[2] فتح القدير عند تفسير قوله تعالى: ﴿ولنْ ترْضىٰ عنْك الْيهود ولا النّصارىٰ حتّىٰ تتّبِع مِلّتهمْ ﴾[ البقرة:120] .
تعليق