في حكم استعمال عبارة «لا تُلْزِمْني» و«لم أقتنع» لردِّ الحقِّ
للشَّيخ الوالد د.أبي عبد المعزّ محمَّد علي فركوس - حفظه الله -
للشَّيخ الوالد د.أبي عبد المعزّ محمَّد علي فركوس - حفظه الله -
السؤال : نودُّ سؤالكم شيخَنا عمَّن يردُّ النَّصيحة الناصحين من بعض الدعاة أو أتباعهم- وخاصَّةً في أثناء مناقشتة في مسائل عمليةٍ – بعبارات مختلفةٍ مثل أن يقول :«لا تُلزمْني» ، أو «لا يَلزمْني» ، أو «أنا لست بمقلِّدٍ» ، أو «لم أقتنع» ، أو «هذه نصيحةٌ لا يراد بها وجه الله» ، علمًا أنه قد تكون النصيحة في مسائل ثابتةٍ بالدَّليل القطعيِّ من نصٍّ أو إجماعٍ .
الجواب :
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة السَّلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فهذه طرقٌ ماكرةٌ وأساليبُ ملتويةٌ ما أنزل الله بها من سلطانٍ ، حيث يستعملها المخالف تقصُّدًا للتخلُّص من الحقِّ الظاهر بالدليل الراجح أو الثابت دون معارضٍ وفرارًا من إقامة الحجَّة والبرهان عليه ، فعند أيِّ محاصرةٍ علميةٍ يلتوي بهذا الأسلوب ليجد لنفسه مخرجًا عن الحقِّ يستمرُّ به غيَّه وضلاله ، وهذا ما يحصل كثيرًا مع المستمسكين بالشبه المفلسين من الحجج من أصحاب المناهج العقدية الفاسدة ومن سار في فَلَكِهم من المبطلين والمتحزِّبين وأضرابهم من أصحاب المناهج الدعوية المنحرفة ، حيث يتوسَّعون في استعمال هذه الألفاظ الشيطانية ليتنصَّلوا من الحقِّ عن علمٍ أو جهلٍ ، فمِن عباراتهم – أيضًا - : «احترم وجهةَ نظرك ، لكن لا تُلزمْني بها» ، أو عبارة : «هذا القول أَلْزِمْه طائفتَك ولا تقنعني به» ، أو « هذه المسألة فيها خلافٌ والأمر فيها واسعٌ» ، أو «هذا منهجكم وليس منهجنا» ، أو «هذا مذهبٌ شاذٌّ ليس عليه أمرُ أمَّتنا» ، ونحو ذلك من العبارات المتَّخذة ذريعةً – في المحاورة والمناقشة خاصَّةً – للهروب والانحراف عن سواء السبيل ، ومع الأسف الشديد فقد تسَّربت هذه الطرق الفاسدة – في دفع الحقِّ وصدِّ النَّاس عنه – إلى بعض السَّلفيين الَّذين يرفعون شعار «الرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة وعلى فهم سلف الأمَّة» بألسنتهم ، لكن يعزُّ وجوده في سلوكهم وتصرُّفاتهم وأفعالهم وقد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصفُّ:2-3]
والمعلوم أنَّ الإلزام والاقتناع أمران يتعلَّقان بالنُّصوص الشَّرعيَّة والأدلَّة ، وليس للعبد فيما ظهر له الدليل قويًّا راجحًا وأقيمت عليه الحجَّة البيِّنه أن يختار غيرَ طاعة الله فيه والإذعان إليه والانقياد له ، فالعبودية لله تكمن في هذه المعاني لقوله تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:5] .
ذلك لأنَّ اتِّباع الهوى والهروبَ عن الاستقامة اختيارٌ فاسدٌ مُنافٍ للعبودية الحقَّة لله تعالى والطاعة المطلقة له سبحانه ولرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36] ، كما يجب إلزام المكلَّف بالإجماع والاقتناعُ به والانقياد إليه إذا ثبت بنقلٍ موثوقٍ صحيحٍ لقوله تعالى :{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97] .
وعليه فليس للمخالف – كائنًا من كان – أن يتمسَّك باختلاف العلماء ، لأنَّ اختلافهم ليس بحجَّةٍ ، وقد نقل ابن عبد البرِّ – رحمه الله – الإجماعَ على أنَّ الإختلاف ليس بحجَّةٍ فقال : «الاختلاف ليس بحجَّةٍ عند أحدٍ علمتُه من فقهاء الأمَّة إلاَّ من لا بصر له ولا معرفةَ عنده ولا حجَّةَ في قوله» (1) ، وقد علَّل ذلك بقوله : «ولا يجوز أن يرَاعي الاختلافَ عند طلب الحجَّة لأنَّ الاختلاف ليس منه شيءٌ لازمٌ دون دليلٍ ، وإنما الحجَّة اللازمة الإجماعُ لا الاختلاف ، لأنَّ الإجماع يجب الانقياد له لقول الله : {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } [النساء:115] الآية ، والاختلاف يجب طلبُ الدليل عنده من الكتاب والسُّنَّة قال الله عزَّوجلَّ : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء:59] الآية ، يريد : الكتاب والسُّنة (2)»
فلابدَّ – حالتئذٍ في كلِّ مسألةٍ خلافيةٍ – من التمسُّك بالدَّليل الراجح وتقديمه على المرجوح إذا تعذَّر الجمع أو النسخ كما هو مقرًّرٌ في طُرق درء التعارض ، «إذ الأَضْعَفُ لاَ يَكُونُ مَانِعًا مِنَ العَمَلِ بِالأَقْوَى ، والمرْجُوحُ لاَ يَدْفَعُ التَّمَسُّكَ بِالرَّاجِحِ» (3)
وعليه فلا يستقيم أمرُ الدين بعبادة الله بالتَّشهِّي والتمنِّي وتتبُّع الرُّخَص بين أقوال المفتين بالرأي المجرَّد عن الدليل وقد نقل ابن عبد البرِّ والباحيُّ – رحمهما الله – الإجماعَ على عدم جواز تتبُّع الرُّخَص والعمل في دين الله بالتشهِّي (4) لأنه عبادةٌ للهوى ومخالفَةٌ لأحد شرطي العبادة وهي المتابعة للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، قال الله تعالى : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، قال ابن القيِّم – رحمه الله - : «وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهِّي والتخيُّر وموافقة الغرض فيطلبَ القولَ الَّذي يوافق غرضَه وغرض من يحابيه : فيعمل به ويفتي به ويحكم به ، ويحكمَ على عدوِّه ويفتيه بضدِّه ، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر» (5) .
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين وسلَّم تسليمًا .
الجزائر:03 من المحرَّم 1434هــ
الموافق لــ : 17 نوفمبر 2012م
الحواشي :
(1) : "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البرِّ (2/992)
(2) : "التمهيد" لابن عبد البرِّ (1/143)
(3) : "إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (3/172)
(4) : انظر : "إعلام الموقِّعين" لابن القيَّم (4/211) ، "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (4/57) ، "فواتح الرحموت" للأنصاري (2/406)
(5) : "إعلام الموقِّعين" لابن القيَّم (4/211)
تعليق