سأنقل لإخواني في هذا المنتدى السلفي مباحث الفصل الثاني من الباب الثاني من الكتاب القيّم الموسوم بـ " أسس منهج السلف في الدعوة إلى الله" إعداد: فوّاز بن هليل بن رباح السّحيمِّي، والتي نال بها درجة الماجستير من كلية الدعوة بالمدينة النبوية والتابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود.
قدم له سماحة الشيخ العلامة: صالح بن فوزان الفوزان - فضيلة الشيخ: عُبيد بن عبدالله الجابري - فضيلة الشيخ: علي بن عبدالرحمن الحذيفي - فضيلة الشيخ: صالح بن عبدالله الحذيفي.
المبحث الأول: وسيلة الحكمة، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الثاني: وسيلة الموعظة، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الثالث: وسيلة المجادلة، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الرابع: وسيلة الجهاد، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الخامس: وسيلة التأليف، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث السادس: وسيلة الهجر، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث السابع: وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضوابطها
تُطلق الحكمةُ ويراد بها الفقه والعلم، ومنه قوله: "وآتيناه الحُكم صبِيًّا"(1).
والعرب تقول: "حكمت، وأحكمت، وحكمّت بمعنى منعت وردت، ومنه قيل للحاكم بين الناس: حاكم"(2).
وتُطلق ويُراد بها العدلُ، "ويقال: أحكم الأمر: أتقنَه، والحكيم: المتقن للأمور"(3).
ولا خلافَ بين هذه المعاني؛ فكلُّها ترد مورداً واحداً، وتدلُّ على ماهيّة واحدة؛ فإن العلم والفقه في الدين يمنع صاحبَه ويردّه عن مواقعة الأمور المخالفة للدين والمروءة؛ وكلا هذين الأمرين يدفعُ صاحبه لإتقان الأمر وإجادته؛ فلا تنافي بين هذه المعاني.
المعنى الاصطلاحي للحكمة، ومن تستخدم في حقه:
الأصل في هذا الموضوع: قوله -تعالى-: "ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (4)، وقوله -تعالى-: "يُؤتي الحِكمةَ من يشآء"(5).
وجاء في تفسير العلماء لهذه الكلمة قولهم: "يعني: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
وعن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: يعني بالحكمة: الإصابة في القول، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنها الكتاب والفهم، وقيل: الفهم، وقيل السنّة،
ـــــــــــــــــ
(1) مريم، آية: 12.
(2) "تهذيب اللغة": (ج110/4-111).
(3) "لسان العرب": (271/2).
(4) النحل، آية: 125.
(5) البقرة، آية: 269.
وقيل: العقل"(1).
وقال الطبري -رحمه الله-:
"قوله: "بِالحِكْمَةِ" يعني: بوحي الله الذي يوحيه إليك كتابه الذي تنزل عليك"(2).
فعلى هذا تكون الحكمة المرادة من الموضوع هي كما قال الإمام ابن تيميّة -رحمه الله-:أما الحكمة في القرآن: فهي معرفة الحقّ وقولُه والعملُ به"(3)، "فالقلوب التي لها فهم وقصد تُدعى بالحكمة"(4).
وفي كلام شيخ الإسلام بيانٌ لمعنى الحكمة ومن تُستخدم في حقّه، فمن يحتاج إلى بيان الحق يُدعى بالمقدّمات الصادقة لما فيه من إدراك الحقِّ واتِّباعه.
وفي معنى الحكمة يقول الشيخ العلاّمة: عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-:
"والمراد بها: الأدلّة المعتبرَة الواضحة الكاشفة الداحضة للباطل"، ويقول:" وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث"(5).
فالحكمة بيانُ سبيلِ الحق للجاهل به حتى يثبت عليه، ويتمثّلُه منهجاً قولاً وفعلاً، يؤكد ذلك الشيخ العلامة صالح الفوزان حين قال في شأن المدعو:
"أن يكون جاهلاً بالحقّ ولو بيِّن له لأخذ به فهذا يُدعى بالحكمة"(6).
فالناظر في كلام أهل العلم في هذا الباب يرى أنّ الحكمة تنصبّ على المعرفة بالحق والدعوة إليه وبيان وتوضيح ما أمر الله به، ولا يكونُ ذلك إلا لمن هو جاهلٌ به، فيدعى بالمعرفة والحكمة، حتى يقبلَها من هو جاهلٌ بها.
ـــــــــــــــــ
(1) "تفسير ابن كثير": (700/1).
(2) " تفسير الطبري": (569/4).
(3) "المجموع": (45/2).
(4) " المجموع ": (164/19).
(5) "فضل الدعوة": (22-23).
(6) "مجلة البحوث": (159/31)
ويُبين ابن القيّم -رحمه الله- صاحبَ الحكمة ومن يستحقّ أن توجّه إليه، فيقول: "فهو القلب الذي سلم لربِّه، وسلَّم لأمره، ولم يبق فيه منازعةٌ لأمره ولا معارضة لخيره"(1).
وخلاصة الأمر:
" أن الحكمة تجمع أساليب الدعوة جلّها من وعظ، وجدلٍ، وقوة، وحجّة، وإبطال دعوى الخصم، واستدلال، وغير ذلك؛ لأنّ معناها الشامل اسم لكل معلومٌ؛ ومِن هنا كانت صفةَ الأنبياء -عليهم السلام-؛ لأنّهم استخدموا جميع الأساليب الدعوية التي أمرَهم الله باستخدامها.
فعلى ذلك تكون الحكمة هي: معرفة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنّة وما يتعلّق بها من علوم شرعيّة؛ فتكون الدعوة بالحكمة بما ورد فيها من علوم، تغني الداعية المتبصّر عن أي شيء سواهما؛ لأنّ شريعة الإسلام لم تترك صغيراً ولا كبيراً إلا أوضحته كلّ الإيضاح"(2).
وهناك معنى آخر للحكمة مرتبطٌ بالمعنى اللغوي: ألا وهو ما ذكره الإمام ابن القيِّم –رحمه الله- حين قال: "فالحكمة إذاً فعلُ ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي"(3).
وهذا الكلامُ من ابن القيِّم -رحمه الله- هو عينُ الإتقان والإجادة الذي هو عينُ الحطمة، ومِن معانيها؛ إذ تطلق الحكمة على إتقان الأمر وإجادته.
وتقتضي الحكمةُ أن يُراعي الداعيةُ المقامَ وأحوال الناس: "فيستعمل الأساليب المناسبة للحال والمقام؛ فليس الناسُ سواءً في الفهم والعلم، وليسوا سواء في لين الجانب وغِلظه، وليسوا سواءً في التواضع للحق والاستكبار عنه؛ فليستعمل مع كل شخص ما يناسبُه، ويكون اقرب إلى قبوله وانقياده؛ فإنّ هذا من الدعوة إلى الله بالحكمة"(4).
ـــــــــــــــــ
(1) "مفتاح السعادة": (200/1).
(2) " منهج ابن القيّم في الدعوة" د/ أحمد الخلف: (ج2/ص300).
(3) "المدارج": (499/2).
(4) " الصحوة الإسلاميّة": (ص122).
فعلى الداعية: أن يعمل على إتقان أمره ودعوته بإعطاء كلِّ ذي حقّ حقَّه، وإعطاء كلّ أمر ما يُناسبُه؛ والأصلُ في تلك الطرق الحكيمة: كتابُ الله وسنّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الذي غضب حين جاءه الرجل فقال له: إنني لأتأخّر عن صلاة الفجر من أجل فلانٍ مما يطيلُ بنا؛ فغضب غضبا لم يُعهد عليه من قبل، ثم قال: " يا أيها الناس إنّ منكم منفِّرين"(1)؛ فالذي وقف هذا الموقف هو بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه معاوية بن الحكم السلمي عندما رماه الناسُ بأبصارهم وأنكروا عليه تشميته العاطس في الصلاة، قال معاوية: "بأبي هو وأمي ما رأيت معلِّما قبله قبلَه ولا بعدَه أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني"(2).
ومن الخطأ فهم الحِكمة على غير مفهومها الصحيح، وذلك بتوسيع دائرتها حتى اعتُبرت شدةُ أهل السنة على أهل البدع منافية للحِكمة، فلا بد أن تُفهم الحكمة فهماً بعيداً عن الإفراط والتفريط، إذ التوازن في ذلك الأمر مطلوبٌ؛ فكما أنّ اللين مطلوبٌ فكذلك قد "لا يُغيَّر المنكر إلا بنوعٍ من الخشونة فلا بأس باستخدامه، ولو كان مع المُسلمين؛ ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك، وليس فوق القتال خشونةً، فقال -سبحانه-: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلِحوا بينهُماج فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله "(3).
وقد يشتد المؤمن في إنكاره على أخيه أكثر من عدوِّه، ألم ترى كيف لان موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون، واشتدّ على أخيه هارون صلى الله عليه وسلم حتى كان منه ما قصه الله –تعالى- بقوله:"وأخذ برأس أخيه يجُرُّه إليه "(4)(5).
فانظر إلى هذه المواقف التي سبق ذكرُها عن بعض الأنبياء عليهم السلام، كيف تميّزت بين الشدّة واللين على حسب ما تقتضيه حكمة الداعية، فموقفٌ
ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، 244/4 ح466.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، 28/5 ح537.
(3) سورة الحجرات، آية: 9.
(4) سورة الأعراف، آية: 15.
(5) كتاب "ست درر من أصول أهل الأثر" عبدالمالك رمضاني: (ص122).
يلين فيه الداعية حين يرى اللين مُفيداً للمدعو، وموقفٌ يدعوه للشدّة حين يرى ذلك مفيداً فالحكمة تدعو صاحبَها أن يكون وسطا في تعامل؛ فلا يغلو غلواً مُنفراً، ولا يتهاون ويتساهل تساهلاً مفرطاً.
وهكذا سارت سيرة سلف الأمّة في هذا الباب، حيث جَروا على الوسطية وفرق بين الجاهل والمُعاند، فكلُّ هؤلاء يُعامَلون معاملةً تخصُّهم؛ وفرق عندهم بين من عُرف بالبدع وانتهاجها، وبين منْ أخطأ من أهل السنّة في ناحية معيّنة، فكلٌ من هذين يُبين وجهُ الخطأ في قوله، ولكن لا تُذّرُ الأمةُ إلا من الأول، بعكس من عرف بجلالة قدرِه، وعلمه، وفضله، واتباعه للسنّة؛ فإنه يوقف على خطئه؛ لأنّ الحق أحقُّ أن يتّبع، ولكن لا يعامَل معاملة الأوّل.
ولبيان التوازن عند علماء السلف ومن نحا نحوهم، إليك كلاما لابن تيميّة –رحمه الله- فيه شدةٌ شرعيةٌ في مكانها، وفيه لينٌ في مكانه، فقال -رحمه الله- في حقِّ دعاة أهل البدع:
"وأما قتل الداعية إلى البدع: فقد يُقتل لكفِّ ضرره عن الناس كما يُقتل المحارب وإن لم يكن في نفس الأمر كافراً "(1).
فإذا قرأت هذا الكلام وما فيه من شدّة شرعيّة لها أسبابها ومسوّغاتها فاسمع كلامه الآخر في جانب اللين والاعتذار حيث يقول: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعةٌ ولم يعلموا أنها بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوصٌ لم تبلغهم"(2).
فلينظر الداعيةُ إلى هذين النصّين عن شيخ الإسلام -رحمه الله- وما فيهما من اعتدالٍ، وإنصافٍ، وحكمةٍ، وإتقانٍ، للعمل والدعوة؛ فما خرجت هذه المواقف منه-رحمه الله- باطلاً تناقُضا، بل عين الحكمة والاعتدال والوقوف مع السنن والآيات؛ فما احتاجه طائفةٌ من المدعوّين قد لا يحتاجُه طائفةٌ
ـــــــــــــــــ
(1) "الفتاوى": (349/23-350).
(2) "الفتاوى": (191/19).
آخرون؛ فلكلٍ مقام مقال، قصداً لهداية النّاس للحق، وتقريبهم إليه. وعليه فإنه يجب على طالب العلم السلفي أن يدعو إلى الحق بالأساليب الشرعية بلا إفراط ولا تفريط ولا علوٍّ ولا إجحاف حتى تكون المصلحة متحققة في دعوته من نفع المدعوين وهدايتهم وإليك كلاماً عظيماً لشيخ الإسلام في هذا الشأن حيث يقول-رحمه الله-: "فقد يُذنب الرجل أو الطائفة ويسكتُ آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيًّا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم؛ فيحصل التفرق واختلاف والشر.....ومن تدبَّر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك"(1)ا.هـ
فإذا سلك الداعية مسلك سلفه الصالح في هذه الأبواب وغيرها نال خيراً لنفسه أوّلاً، واستقام على صراط ربِّه، وكان حريا بقبول دعوته وهداية الناس إليه، وكان جديراً بتبليغ دين ربِّه، وإقامة الحجّة على الناس، وبيان سبيل الخير لهم حتى يسلكوه، وسبيل الشر لهم حتى يجتنبوه.
ــــــــــــــــــــــ
(1) "الفتاوى":(142/28).
ملحوظة: راجعت مجموع الفتاوى (142/28) طبعة العبيكان (المجلد14/ص34 فوجدت سقطا للعبارة: "وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيًّا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم" وهذا السقط موجود أيضا في (طبعة الوفاء - ابن الجوزي).
قدم له سماحة الشيخ العلامة: صالح بن فوزان الفوزان - فضيلة الشيخ: عُبيد بن عبدالله الجابري - فضيلة الشيخ: علي بن عبدالرحمن الحذيفي - فضيلة الشيخ: صالح بن عبدالله الحذيفي.
الفصل الثاني
في الوسائل الشرعية للدعوة على ضوء الأسس السلفية، وبيان وجه المخالفة فيها
ويتكون من سبعة مباحث:في الوسائل الشرعية للدعوة على ضوء الأسس السلفية، وبيان وجه المخالفة فيها
المبحث الأول: وسيلة الحكمة، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الثاني: وسيلة الموعظة، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الثالث: وسيلة المجادلة، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الرابع: وسيلة الجهاد، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث الخامس: وسيلة التأليف، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث السادس: وسيلة الهجر، تقريرها، ومن تستخدم في حقه
المبحث السابع: وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضوابطها
أسس منهج السلف في الدعوة إلى الله
دار ابن القيم – دار ابن عفان: الطبعة الأولى 1423هـ
ص(137 – 142)
الفصل الثاني: في الوسائل الشرعية للدعوة على ضوء الأسس السلفية، وبيان وجه المخالفة فيها
المبحث الأول
أسلوب الحكمة
تقريره، ومن يُستخدم في حقه
المراد بها لغة واصطلاحا:دار ابن القيم – دار ابن عفان: الطبعة الأولى 1423هـ
ص(137 – 142)
الفصل الثاني: في الوسائل الشرعية للدعوة على ضوء الأسس السلفية، وبيان وجه المخالفة فيها
المبحث الأول
أسلوب الحكمة
تقريره، ومن يُستخدم في حقه
تُطلق الحكمةُ ويراد بها الفقه والعلم، ومنه قوله: "وآتيناه الحُكم صبِيًّا"(1).
والعرب تقول: "حكمت، وأحكمت، وحكمّت بمعنى منعت وردت، ومنه قيل للحاكم بين الناس: حاكم"(2).
وتُطلق ويُراد بها العدلُ، "ويقال: أحكم الأمر: أتقنَه، والحكيم: المتقن للأمور"(3).
ولا خلافَ بين هذه المعاني؛ فكلُّها ترد مورداً واحداً، وتدلُّ على ماهيّة واحدة؛ فإن العلم والفقه في الدين يمنع صاحبَه ويردّه عن مواقعة الأمور المخالفة للدين والمروءة؛ وكلا هذين الأمرين يدفعُ صاحبه لإتقان الأمر وإجادته؛ فلا تنافي بين هذه المعاني.
المعنى الاصطلاحي للحكمة، ومن تستخدم في حقه:
الأصل في هذا الموضوع: قوله -تعالى-: "ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (4)، وقوله -تعالى-: "يُؤتي الحِكمةَ من يشآء"(5).
وجاء في تفسير العلماء لهذه الكلمة قولهم: "يعني: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
وعن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: يعني بالحكمة: الإصابة في القول، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنها الكتاب والفهم، وقيل: الفهم، وقيل السنّة،
ـــــــــــــــــ
(1) مريم، آية: 12.
(2) "تهذيب اللغة": (ج110/4-111).
(3) "لسان العرب": (271/2).
(4) النحل، آية: 125.
(5) البقرة، آية: 269.
وقيل: العقل"(1).
وقال الطبري -رحمه الله-:
"قوله: "بِالحِكْمَةِ" يعني: بوحي الله الذي يوحيه إليك كتابه الذي تنزل عليك"(2).
فعلى هذا تكون الحكمة المرادة من الموضوع هي كما قال الإمام ابن تيميّة -رحمه الله-:أما الحكمة في القرآن: فهي معرفة الحقّ وقولُه والعملُ به"(3)، "فالقلوب التي لها فهم وقصد تُدعى بالحكمة"(4).
وفي كلام شيخ الإسلام بيانٌ لمعنى الحكمة ومن تُستخدم في حقّه، فمن يحتاج إلى بيان الحق يُدعى بالمقدّمات الصادقة لما فيه من إدراك الحقِّ واتِّباعه.
وفي معنى الحكمة يقول الشيخ العلاّمة: عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-:
"والمراد بها: الأدلّة المعتبرَة الواضحة الكاشفة الداحضة للباطل"، ويقول:" وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث"(5).
فالحكمة بيانُ سبيلِ الحق للجاهل به حتى يثبت عليه، ويتمثّلُه منهجاً قولاً وفعلاً، يؤكد ذلك الشيخ العلامة صالح الفوزان حين قال في شأن المدعو:
"أن يكون جاهلاً بالحقّ ولو بيِّن له لأخذ به فهذا يُدعى بالحكمة"(6).
فالناظر في كلام أهل العلم في هذا الباب يرى أنّ الحكمة تنصبّ على المعرفة بالحق والدعوة إليه وبيان وتوضيح ما أمر الله به، ولا يكونُ ذلك إلا لمن هو جاهلٌ به، فيدعى بالمعرفة والحكمة، حتى يقبلَها من هو جاهلٌ بها.
ـــــــــــــــــ
(1) "تفسير ابن كثير": (700/1).
(2) " تفسير الطبري": (569/4).
(3) "المجموع": (45/2).
(4) " المجموع ": (164/19).
(5) "فضل الدعوة": (22-23).
(6) "مجلة البحوث": (159/31)
ويُبين ابن القيّم -رحمه الله- صاحبَ الحكمة ومن يستحقّ أن توجّه إليه، فيقول: "فهو القلب الذي سلم لربِّه، وسلَّم لأمره، ولم يبق فيه منازعةٌ لأمره ولا معارضة لخيره"(1).
وخلاصة الأمر:
" أن الحكمة تجمع أساليب الدعوة جلّها من وعظ، وجدلٍ، وقوة، وحجّة، وإبطال دعوى الخصم، واستدلال، وغير ذلك؛ لأنّ معناها الشامل اسم لكل معلومٌ؛ ومِن هنا كانت صفةَ الأنبياء -عليهم السلام-؛ لأنّهم استخدموا جميع الأساليب الدعوية التي أمرَهم الله باستخدامها.
فعلى ذلك تكون الحكمة هي: معرفة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنّة وما يتعلّق بها من علوم شرعيّة؛ فتكون الدعوة بالحكمة بما ورد فيها من علوم، تغني الداعية المتبصّر عن أي شيء سواهما؛ لأنّ شريعة الإسلام لم تترك صغيراً ولا كبيراً إلا أوضحته كلّ الإيضاح"(2).
وهناك معنى آخر للحكمة مرتبطٌ بالمعنى اللغوي: ألا وهو ما ذكره الإمام ابن القيِّم –رحمه الله- حين قال: "فالحكمة إذاً فعلُ ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي"(3).
وهذا الكلامُ من ابن القيِّم -رحمه الله- هو عينُ الإتقان والإجادة الذي هو عينُ الحطمة، ومِن معانيها؛ إذ تطلق الحكمة على إتقان الأمر وإجادته.
وتقتضي الحكمةُ أن يُراعي الداعيةُ المقامَ وأحوال الناس: "فيستعمل الأساليب المناسبة للحال والمقام؛ فليس الناسُ سواءً في الفهم والعلم، وليسوا سواء في لين الجانب وغِلظه، وليسوا سواءً في التواضع للحق والاستكبار عنه؛ فليستعمل مع كل شخص ما يناسبُه، ويكون اقرب إلى قبوله وانقياده؛ فإنّ هذا من الدعوة إلى الله بالحكمة"(4).
ـــــــــــــــــ
(1) "مفتاح السعادة": (200/1).
(2) " منهج ابن القيّم في الدعوة" د/ أحمد الخلف: (ج2/ص300).
(3) "المدارج": (499/2).
(4) " الصحوة الإسلاميّة": (ص122).
فعلى الداعية: أن يعمل على إتقان أمره ودعوته بإعطاء كلِّ ذي حقّ حقَّه، وإعطاء كلّ أمر ما يُناسبُه؛ والأصلُ في تلك الطرق الحكيمة: كتابُ الله وسنّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الذي غضب حين جاءه الرجل فقال له: إنني لأتأخّر عن صلاة الفجر من أجل فلانٍ مما يطيلُ بنا؛ فغضب غضبا لم يُعهد عليه من قبل، ثم قال: " يا أيها الناس إنّ منكم منفِّرين"(1)؛ فالذي وقف هذا الموقف هو بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه معاوية بن الحكم السلمي عندما رماه الناسُ بأبصارهم وأنكروا عليه تشميته العاطس في الصلاة، قال معاوية: "بأبي هو وأمي ما رأيت معلِّما قبله قبلَه ولا بعدَه أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني"(2).
ومن الخطأ فهم الحِكمة على غير مفهومها الصحيح، وذلك بتوسيع دائرتها حتى اعتُبرت شدةُ أهل السنة على أهل البدع منافية للحِكمة، فلا بد أن تُفهم الحكمة فهماً بعيداً عن الإفراط والتفريط، إذ التوازن في ذلك الأمر مطلوبٌ؛ فكما أنّ اللين مطلوبٌ فكذلك قد "لا يُغيَّر المنكر إلا بنوعٍ من الخشونة فلا بأس باستخدامه، ولو كان مع المُسلمين؛ ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك، وليس فوق القتال خشونةً، فقال -سبحانه-: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلِحوا بينهُماج فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله "(3).
وقد يشتد المؤمن في إنكاره على أخيه أكثر من عدوِّه، ألم ترى كيف لان موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون، واشتدّ على أخيه هارون صلى الله عليه وسلم حتى كان منه ما قصه الله –تعالى- بقوله:"وأخذ برأس أخيه يجُرُّه إليه "(4)(5).
فانظر إلى هذه المواقف التي سبق ذكرُها عن بعض الأنبياء عليهم السلام، كيف تميّزت بين الشدّة واللين على حسب ما تقتضيه حكمة الداعية، فموقفٌ
ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، 244/4 ح466.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، 28/5 ح537.
(3) سورة الحجرات، آية: 9.
(4) سورة الأعراف، آية: 15.
(5) كتاب "ست درر من أصول أهل الأثر" عبدالمالك رمضاني: (ص122).
يلين فيه الداعية حين يرى اللين مُفيداً للمدعو، وموقفٌ يدعوه للشدّة حين يرى ذلك مفيداً فالحكمة تدعو صاحبَها أن يكون وسطا في تعامل؛ فلا يغلو غلواً مُنفراً، ولا يتهاون ويتساهل تساهلاً مفرطاً.
وهكذا سارت سيرة سلف الأمّة في هذا الباب، حيث جَروا على الوسطية وفرق بين الجاهل والمُعاند، فكلُّ هؤلاء يُعامَلون معاملةً تخصُّهم؛ وفرق عندهم بين من عُرف بالبدع وانتهاجها، وبين منْ أخطأ من أهل السنّة في ناحية معيّنة، فكلٌ من هذين يُبين وجهُ الخطأ في قوله، ولكن لا تُذّرُ الأمةُ إلا من الأول، بعكس من عرف بجلالة قدرِه، وعلمه، وفضله، واتباعه للسنّة؛ فإنه يوقف على خطئه؛ لأنّ الحق أحقُّ أن يتّبع، ولكن لا يعامَل معاملة الأوّل.
ولبيان التوازن عند علماء السلف ومن نحا نحوهم، إليك كلاما لابن تيميّة –رحمه الله- فيه شدةٌ شرعيةٌ في مكانها، وفيه لينٌ في مكانه، فقال -رحمه الله- في حقِّ دعاة أهل البدع:
"وأما قتل الداعية إلى البدع: فقد يُقتل لكفِّ ضرره عن الناس كما يُقتل المحارب وإن لم يكن في نفس الأمر كافراً "(1).
فإذا قرأت هذا الكلام وما فيه من شدّة شرعيّة لها أسبابها ومسوّغاتها فاسمع كلامه الآخر في جانب اللين والاعتذار حيث يقول: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعةٌ ولم يعلموا أنها بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوصٌ لم تبلغهم"(2).
فلينظر الداعيةُ إلى هذين النصّين عن شيخ الإسلام -رحمه الله- وما فيهما من اعتدالٍ، وإنصافٍ، وحكمةٍ، وإتقانٍ، للعمل والدعوة؛ فما خرجت هذه المواقف منه-رحمه الله- باطلاً تناقُضا، بل عين الحكمة والاعتدال والوقوف مع السنن والآيات؛ فما احتاجه طائفةٌ من المدعوّين قد لا يحتاجُه طائفةٌ
ـــــــــــــــــ
(1) "الفتاوى": (349/23-350).
(2) "الفتاوى": (191/19).
آخرون؛ فلكلٍ مقام مقال، قصداً لهداية النّاس للحق، وتقريبهم إليه. وعليه فإنه يجب على طالب العلم السلفي أن يدعو إلى الحق بالأساليب الشرعية بلا إفراط ولا تفريط ولا علوٍّ ولا إجحاف حتى تكون المصلحة متحققة في دعوته من نفع المدعوين وهدايتهم وإليك كلاماً عظيماً لشيخ الإسلام في هذا الشأن حيث يقول-رحمه الله-: "فقد يُذنب الرجل أو الطائفة ويسكتُ آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيًّا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم؛ فيحصل التفرق واختلاف والشر.....ومن تدبَّر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك"(1)ا.هـ
فإذا سلك الداعية مسلك سلفه الصالح في هذه الأبواب وغيرها نال خيراً لنفسه أوّلاً، واستقام على صراط ربِّه، وكان حريا بقبول دعوته وهداية الناس إليه، وكان جديراً بتبليغ دين ربِّه، وإقامة الحجّة على الناس، وبيان سبيل الخير لهم حتى يسلكوه، وسبيل الشر لهم حتى يجتنبوه.
ــــــــــــــــــــــ
(1) "الفتاوى":(142/28).
ملحوظة: راجعت مجموع الفتاوى (142/28) طبعة العبيكان (المجلد14/ص34 فوجدت سقطا للعبارة: "وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيًّا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم" وهذا السقط موجود أيضا في (طبعة الوفاء - ابن الجوزي).