الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فإن من أعظم الأبواب التي يغلط فيها الناس باب القياس ، ويكون ذلك لعدم ملاحظتهم للفارق الذي يبطل القياس ، أو الجامع الذي يؤكده ومن ذلك القياس في أبواب الجرح والتعديل ، ومن ذلك ما يصنعه بعضهم من ضرب الأمثلة لأهل السنة عند جرح بعض من لا يرغب بجرحهم
فمن ذلك قول بعضهم أن شريحاً القاضي أنكر صفة العجب
قال عبد الرزاق في تفسيره 2511 - عَنِ الثَّوْرِيِّ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , قَالَ: قَرَأَهَا شُرَيْحٌ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قَالَ شُرَيْحٌ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ إِنَّمَا يَعْجَبُ مَنْ لَا يَعْلَمُ» قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ»
أقول : الجواب على هذا أن شريحاً قراءته بنصب الباء وهي قراءة معروفة ، وكونه يجهل القراءة أمر لا يبعد
قال البيهقي في الأسماء والصفات 992 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، نا الْفَرَّاءُ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قَرَأَهَا النَّاسُ بِنَصْبِ التَّاءِ وَرَفْعِهَا، وَالرَّفْعُ أَحَبُّ إِلَيَّ؛ لِأَنَّهَا قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
والاختلاف في أمر القراءة أمرٌ اشتهر في ذلك العصر بما أشد من الخلاف في الضمة والفتحة ، مما اضطر الخليفة الراشد عثمان بن عفان إلى جمع الناس على رسم واحد لتجنب الخلاف
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 396) :" أخبرنا إسماعيل بن إسماعيل في كتابه: أخبرنا أحمد بن تميم اللبلي ببعلبك، أخبرنا أبو روح بهراة، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليجي، أخبرنا أحمد بن محمد الخفاف، حدثنا أبو العباس السراج إملاء قال: من لم يقر بأن الله تعالى يعجب، ويضحك (3)، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: " من يسألني فأعطيه " (4) فهو زنديق كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
قلت: لا يكفر إلا إن علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند"
ففرق بين صحت عنده الأدلة ومن لم تصح
وإذا نظرنا إلى الأدلة الأخرى في الباب ( يعني إثبات صفة العجب ) وجدناها أحاديث نبوية قد تخفى على شريح القاضي ، كما خفي على عدد من فقهاء الكوفة صحابةً وتابعين بعض الأحكام
قال النسائي في الكبرى 5439 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَتَبْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ نَسْأَلُهُ عَنِ الرَّضَاعِ، فَكَتَبَ أَنَّ شُرَيْحًا، حَدَّثَنَا أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا يَقُولَانِ: يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيَّ حَدَّثَنَا أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «لَا تُحَرِّمُ الْخَطْفَةُ، وَالْخَطْفَتَانِ»
فهذا الجبلان من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خفي عليهما حديث عائشة ( لا تحرم المصة والمصتان ) ، فكانا معذورين فيما أفتيا ، ولا عذر لأحدٍ بعدهما بأن يفتي بهذه الفتيا بعد ثبوت الدليل بأن المصة والمصتين لا تحرمان
وكذا خفي على الشعبي والحسن البصري حكم الاحداد حتى تعجب أحمد من ذلك
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (15/ 186) :" قَالَ أَحْمَد : مَا كَانَ بِالْعِرَاقِ أَشَدّ تَبَحُّرًا مِنْ هَذَيْنِ - يَعْنِي الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ - قَالَ : وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ا ه ، وَمُخَالَفَتهمَا لَا تَقْدَح فِي الِاحْتِجَاج وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ اِدَّعَى الْإِجْمَاع"
ومع ذلك من قال بهذا القول اليوم يكون مبتدعاً ضالاً لمخالفته للنصوص النبوية الثابتة في الباب
وكذلك خفي على إبراهيم النخعي والشعبي أحاديث إباحة زيارة القبور فكانا ينهيان عنها مطلقاً
قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص77:" وقال الشعبي لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني قال ابراهيم النخعي كانوا يكرهون زيارة القبور وعن ابن سيرين مثله"
وليس لأهل الكوفة اختصاص بهذا
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/ 425) :" وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنه رسول الله وإن كان غيرهم يشك فيها أو ينفيها كالاحاديث المتواترة عندهم فى شفاعته وحوضه وخروج أهل الكبائر من النار والاحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقدر والعلو والرؤية وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته كما تواترت عندهم عنه وان كان غيرهم لا يعلم ذلك كما تواتر عند الخاصة من أهل العلم عنه الحكم بالشفعة وتحليف المدعى عليه ورجم الزانى المحصن واعتبار النصاب فى السرقة وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع"
أقول : والقول بعدم اعتبار النصاب في السرقة مروي عن بعض التابعين في البصرة
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/ 92) :
واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبدالله بن المبارك قال : كنا بالكوفة فناظروني في ذلكيعني النبيذ المختلف فيه فقلت لهم : تعالوا فليحتج المحتج منكم عن من يشاءمن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في بالرخصة فإن لم يتبين الرد عليه عنذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاؤوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدةفلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه فيشدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجر إلا حذر قالابن المبارك : فقلت للمحتج عنه في الرخصة : يا أحمق عد إن ابن مسعود لو كانها هنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه و سلموأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تجر أو تخشى فقال قائلهم يا أباعبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهمعدوا عند الاحتجاج تسمية الرجال قرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسىأن يكون منه زلة أفللأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوسوجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا : كانوا خيارا قلت : فما قولكم فيالدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا : حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوهحلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم قال ابن المبارك : ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال : رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يابني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقاللي : أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشركله وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد منأعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهمفيها السنة وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغإتباعهم فيها كما قال سبحانه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللهوالرسول }
قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ منقوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان التيمي إن أخذتبرخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيهخلافا وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في هذا المعنى ماينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمر وابن عوف المزني عن أبيه عن جدهقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إني لأخاف على أمتي منبعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم منزلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ]
وقال زياد بن حدير : قال عمر : ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وأئمة مضلون.اهـ
قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص386 :
فهذا ونحوه هو الذي أشار إليه الأئمة كالشافعي في قوله خلفت ببغداد شيئا أحدثتهالزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فيكون ذو النون هو أحدالذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة وشيوخ السلف ويكون هو أحد المتأولينفي ذلك وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه مثلسفيان الثوري وشريك ابن عبد الله وأبي حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من أهل العلم وكقول علماء مكة وشيوخها فيمااستحلوه من المتعة والصرف كقول عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما وكقولطائفة من شيوخ المدينة وعلمائها فيما استحلوه من الحشوش وكقول طائفة منشيوخ الشاميين وعلمائها فيما كانوا استحلوه من القتال في الفتنة لعلي بنأبي طالب وأصحابه وكقول طوائف من أتباع الذين قاتلوا مع علي من أهل الحجازوالعراق وغيرهم في الفتنة إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة وكان في كلشق طائفة من أهل العلم والدين
فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينا لان المنازعين لهم هم أهل العلم والدين
وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنونبالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتابالله وسنة رسوله.اهـ
وقال أيضاً في الاستقامة ص282 :
ومن احتج بفعل مثل عبد الله في الدين في مثل هذا لزمه أن يحتج بفعل معاوية فيقتاله لعلى وبفعل ابن الزبير في قتاله في الفرقة وأمثال ذلك مما لايصلحلأهل العلم والدين أن يدخلوه في أدلة الدين والشرع لا سيما النساك والزهادوأهل الحقائق لا يصلح لهم أن يتركوا سبيل المشهورين بالنسك والزهد بينالصحابة ويتبعوا سبيل غيرهم
وما أحسن ما قال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق منكان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يميناوشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.اهـ
وقال الترمذي في جامعه 906 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّدَ نَعْلَيْنِ، وَأَشْعَرَ الهَدْيَ فِي الشِّقِّ الأَيْمَنِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّمَ» وَفِي البَابِ عَنْ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.: «حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وَأَبُو حَسَّانَ الأَعْرَجُ: اسْمُهُ مُسْلِمٌ «وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ» ، «يَرَوْنَ الإِشْعَارَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ» سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: «لَا تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي هَذَا، فَإِنَّ الإِشْعَارَ سُنَّةٌ، وَقَوْلُهُمْ بِدْعَةٌ» . وَسَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ: " كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ: أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ؟ قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الإِشْعَارُ مُثْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ، ثُمَّ لَا تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَنْ قَوْلِكَ هَذَا "
نعم لا يصح أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد ، وإن عذرنا هذا الشخص ، ولكننا لا نعذر من يتعصب لقوله ويخالف الدليل
قال شيخ الإسلام في رفع الملام ص14 :" ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضا يدفعها وأن نعتقد وجوب العمل على الأمة ووجوب تبليغها . وهذا مما لا يختلف العلماء فيه"
أقول : ومن ردها كان مبتدعاً ، ومن قاس المتعصب الذي يردها على الإمام الذي لم تبلغه أو بلغته من طريق ضعيف ، فقد قاس قياساً فاسداً في الجرح والتعديل
وأبلغ من ذلك كله ما روي عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف
قال الحافظ في الفتح (14/ 181) :" قَالَ اِبْن الصَّبَّاغ فِي الْكَلَام عَلَى مَانِعِي الزَّكَاة : وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْر عَلَى مَنْع الزَّكَاة وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرُوا لِأَنَّ الْإِجْمَاع لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِرّ . قَالَ : وَنَحْنُ الْآن نُكَفِّر مَنْ جَحَدَهَا . قَالَ : وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ اِبْن مَسْعُود فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُت عِنْده الْقَطْع بِذَلِكَ ، ثُمَّ حَصَلَ الِاتِّفَاق بَعْد ذَلِكَ"
ولا يجوز لمتهوك أن ينكر الأحاديث الصحيحة أو آيات من القرآن احتجاجاً بمثل هذا ، بعد أن صحت الأحاديث وتواترت القراءة ، ولو فتحنا هذا الباب لما جرح أحد ولتسلط الزنادقة على دين الإسلام
أفرأيت ما يصنع التمييع بالناس
وهنا مثالٌ فيه عبرة ، لمن ترك الأدلة الثابتة في النهي عن الخروج على الولاة ، وترك اعتبار المفاسد المترتبة على ذلك ، وعارض هذا كله بفعل سعيد بن جبير ! ، وقد بينت في مقال سابق وجه استحلالهم الخروج على الحجاج وأنهم كانوا يكفرونه ، وخرجوا لإقامة دين الله لا من أجل الديمقراطية ، ومع ذلك ترتب على خروجهم من المفاسد الشيء العظيم حتى ندم من بقي منهم ، ثم يأتي من يحتج بفعلهم ويعارض بها الأحاديث الصحيحة التي لا يصح أن تعارض بقول أبي بكر وعمر فضلاً عن تابعي
ونقول لهؤلاء ما دمتم قلدتم سعيدا في الدماء فقلدوه في الفروج
قال عبد الرزاق في المصنف 14020 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ قَالَ: كَانَتْ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ عِرَاقِيَّةٌ تَنَسَّكُ جَمِيلَةٌ لَهَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبِيرٍ يُكْثِرُ الدُّخُولَ عَلَيْهَا، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَدْخُلُ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ قَالَ: «إِنَّا قَدْ نَكَحْنَاهَا ذَلِكَ النِّكَاحَ لِلْمُتْعَةِ» قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَنَّ سَعِيدًا، قَالَ لَهُ: «هِيَ أَحَلُّ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ لِلْمُتْعَةِ»
واستحلال سعيد وغيره من أهل مكة للمتعة ، محمول على عدم بلوغهم النص كقولهم في ربا الفضل ، واليوم بعد ثبوت الأدلة وانتشارها لم يكن لأحدٍ الرخصة في الأخذ بقولهم
قال ابن عبد البر في التمهيد (10/115) :" وقد كان العلماء قديما وحديثا يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم في النبيذ الشديد ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء"
وهذا محل إجماع
قال شيخ الإسلام في بيان الدليل على إبطال التحليل ص86 :" فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً"
وممن أوجز في هذه المسألة وأفاد ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه"الصادع" (ص45: (وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس قال: بلغ عمر بن الخطاب أن جابر بن سمرة باع خمرا، فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حُرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها.
وسمرة مأجور في اجتهاده، ولو أن امرءاً مسلما باع اليوم خمرا والحجة قد قامت عليه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعها؛ لكان عاصيا.
فهذا ومثله كثير جدا، فرق بين ما أرادوا خلطه من حكم الصحابة ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين المأجورين غير المصرين ولا المقلدين، مع حكم المقلدين المصرين بعد قيام الحجة عليهم، فهذه هي الضلالة لا تلك)
واعلم أن ليس كل جهلٍ يعذر فيه المرء ، بل الجهل الناشيء عن الإعراض يستحق صاحبه الذم
قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص10 :" ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فانه كاذب آثم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة فهذا الذي يجهل وأن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فهذا جعل له أجرا مع خطأه لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام"
وإذا عرف الحق ثم خالفه فهو متعمد لمخالفة الحق ، فالشيخ يتكلم عن الجاهل المتصدر كما هو ظاهر الحديث الذي احتج به (رجل قضى للناس على جهل فهو في النار )
ولنعكس المسألة على أولئك القائسين قياساً فاسداً ، ونقول قد جاء عن بعض السلف جرح من ليس أهلاً للجرح ، فإذا سميتمونا غلاةً فسموهم غلاةً كذلك ما دام أنكم متوسعون في باب القياس فهذا أبو حاتم وأبو زرعة هجرا البخاري لما بلغهما أنه قال باللفظ ، علماً بأن البخاري لا يصح عنه ذلك ، ولكني أريد إلزام القوم على طريقتهم
وقال أبو زرعة كما في سؤالات البرذعي ص51 :" كان أبو حنيفة جهميا وكان محمد بن الحسن جهميا وكان أبو يوسف جهميا بين التجهم"
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/81) :" يُعْجِبُنِي كَثِيْراً كَلاَمَ أَبِي زُرْعَةَ فِي الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ، يَبِيْنُ عَلَيْهِ الوَرَعُ وَالمَخْبَرَةُ"
فلم ينسبه إلى التشدد حتى ، فيلزمكم على مذهبهم في القياس عدم الإنكار على من يجرحكم ويتكلم فيكم أو يتكلم فيمن لا ترغبون في الكلام فيه ، بل إذا طغى بكم القياس ربما سكتم عمن يتكلم في الألباني !
فإن قلتم : هذا قياس فاسد وأبو زرعة وأبو حاتم قبلا خبر ثقةٍ فهم خطأً فكانا معذورين ، ولكن لا يعذر من وقف على كلام البخاري نفسه في المسألة ، وكذا الأمر في شأن أهل الرأي ، وما زال أهل السنة يمتحنون بأئمتهم
قلنا لكم : ها قد أقررتم بأن هناك من القياس في الجرح والتعديل ما هو فاسد الاعتبار ، فيه فروق ربما لم يلاحظها من لم يمعن النظر فتريثوا قليلاً بل كثيراً قبل التوسع بتلك الإلزامات الفاشلة
وإمام المدافعين عن أهل البدع بالقياس الفاسد الكرابيسي
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي ص 893 :" قال المروذي: مضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة ويظهر نصرة أبي عبد الله، فقلت له: إن كتاب المدلسين يريدون أن يعرضوه على أبي عبد الله، فأظهر أنك قد ندمت حتى أخبر أبا عبد الله.
فقال لي: " عن أبا عبد الله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه.
وقال: قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيت عليهم وقلت بل أزيد فيه.
ولج في ذلك وأبى أن يرجع عنه، فجئ بالكتاب إلى أبي عبد الله وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في الكتاب الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح، وكان في الكتاب: " إن قلتم إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج فهذا ابن الزبير قد خرج.
فلما قرئ على أبي عبد الله قال: هذا قد جمع للمخالفين مالم يحسنوا أن يحتجوا به، حذروا عن هذا ونهى عنه"
والعجيب أن بعض هؤلاء القائسين قياساً فاسداً ، إذا تعلق الأمر بالقطبيين الذين يشتهي جرحهم صار يذكر الحسن بن صالح بن حي وأنه مع زهده وورعه وعلمه هجره السلف وبدعوه ، وصار يذكر داود بن علي الأصبهاني وتبديع أحمد له ، وهذا قياس سليم مستوفي الشروط بل هو قياس أولوي ، ولا حاجة إلى القياس هنا فقد دلت الأدلة على هجران أهل البدع والتحذير لذا امتلأت كتب العقيدة بالتنبيه على هذا
وإذا الأمر بجماعة التبليغ صار يتكلم عن عدم جواز التعلق بتزكية من زكاهم ، وأن الجرح المفسر مقدم على التعديل المجمل
وإذا تعلق الأمر ببعض أحبابه صار يذكر شريحاً القاضي وإنكاره لصفة العجب !، وصار يقول :" لا نجعل خلافنا في غيرنا خلافاً بيننا "
وكذا فليكن التلاعب
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/60) :" وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ : لَا يَحِلُّ وَاَللَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِمَنْ تَرْفُضُ وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي حَالٍ "
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد :
فإن من أعظم الأبواب التي يغلط فيها الناس باب القياس ، ويكون ذلك لعدم ملاحظتهم للفارق الذي يبطل القياس ، أو الجامع الذي يؤكده ومن ذلك القياس في أبواب الجرح والتعديل ، ومن ذلك ما يصنعه بعضهم من ضرب الأمثلة لأهل السنة عند جرح بعض من لا يرغب بجرحهم
فمن ذلك قول بعضهم أن شريحاً القاضي أنكر صفة العجب
قال عبد الرزاق في تفسيره 2511 - عَنِ الثَّوْرِيِّ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , قَالَ: قَرَأَهَا شُرَيْحٌ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قَالَ شُرَيْحٌ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ إِنَّمَا يَعْجَبُ مَنْ لَا يَعْلَمُ» قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ»
أقول : الجواب على هذا أن شريحاً قراءته بنصب الباء وهي قراءة معروفة ، وكونه يجهل القراءة أمر لا يبعد
قال البيهقي في الأسماء والصفات 992 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، نا الْفَرَّاءُ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قَرَأَهَا النَّاسُ بِنَصْبِ التَّاءِ وَرَفْعِهَا، وَالرَّفْعُ أَحَبُّ إِلَيَّ؛ لِأَنَّهَا قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
والاختلاف في أمر القراءة أمرٌ اشتهر في ذلك العصر بما أشد من الخلاف في الضمة والفتحة ، مما اضطر الخليفة الراشد عثمان بن عفان إلى جمع الناس على رسم واحد لتجنب الخلاف
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 396) :" أخبرنا إسماعيل بن إسماعيل في كتابه: أخبرنا أحمد بن تميم اللبلي ببعلبك، أخبرنا أبو روح بهراة، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليجي، أخبرنا أحمد بن محمد الخفاف، حدثنا أبو العباس السراج إملاء قال: من لم يقر بأن الله تعالى يعجب، ويضحك (3)، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: " من يسألني فأعطيه " (4) فهو زنديق كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
قلت: لا يكفر إلا إن علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند"
ففرق بين صحت عنده الأدلة ومن لم تصح
وإذا نظرنا إلى الأدلة الأخرى في الباب ( يعني إثبات صفة العجب ) وجدناها أحاديث نبوية قد تخفى على شريح القاضي ، كما خفي على عدد من فقهاء الكوفة صحابةً وتابعين بعض الأحكام
قال النسائي في الكبرى 5439 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَتَبْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ نَسْأَلُهُ عَنِ الرَّضَاعِ، فَكَتَبَ أَنَّ شُرَيْحًا، حَدَّثَنَا أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا يَقُولَانِ: يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيَّ حَدَّثَنَا أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «لَا تُحَرِّمُ الْخَطْفَةُ، وَالْخَطْفَتَانِ»
فهذا الجبلان من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خفي عليهما حديث عائشة ( لا تحرم المصة والمصتان ) ، فكانا معذورين فيما أفتيا ، ولا عذر لأحدٍ بعدهما بأن يفتي بهذه الفتيا بعد ثبوت الدليل بأن المصة والمصتين لا تحرمان
وكذا خفي على الشعبي والحسن البصري حكم الاحداد حتى تعجب أحمد من ذلك
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (15/ 186) :" قَالَ أَحْمَد : مَا كَانَ بِالْعِرَاقِ أَشَدّ تَبَحُّرًا مِنْ هَذَيْنِ - يَعْنِي الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ - قَالَ : وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ا ه ، وَمُخَالَفَتهمَا لَا تَقْدَح فِي الِاحْتِجَاج وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ اِدَّعَى الْإِجْمَاع"
ومع ذلك من قال بهذا القول اليوم يكون مبتدعاً ضالاً لمخالفته للنصوص النبوية الثابتة في الباب
وكذلك خفي على إبراهيم النخعي والشعبي أحاديث إباحة زيارة القبور فكانا ينهيان عنها مطلقاً
قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص77:" وقال الشعبي لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني قال ابراهيم النخعي كانوا يكرهون زيارة القبور وعن ابن سيرين مثله"
وليس لأهل الكوفة اختصاص بهذا
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/ 425) :" وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنه رسول الله وإن كان غيرهم يشك فيها أو ينفيها كالاحاديث المتواترة عندهم فى شفاعته وحوضه وخروج أهل الكبائر من النار والاحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقدر والعلو والرؤية وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته كما تواترت عندهم عنه وان كان غيرهم لا يعلم ذلك كما تواتر عند الخاصة من أهل العلم عنه الحكم بالشفعة وتحليف المدعى عليه ورجم الزانى المحصن واعتبار النصاب فى السرقة وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع"
أقول : والقول بعدم اعتبار النصاب في السرقة مروي عن بعض التابعين في البصرة
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/ 92) :
واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبدالله بن المبارك قال : كنا بالكوفة فناظروني في ذلكيعني النبيذ المختلف فيه فقلت لهم : تعالوا فليحتج المحتج منكم عن من يشاءمن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في بالرخصة فإن لم يتبين الرد عليه عنذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاؤوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدةفلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه فيشدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجر إلا حذر قالابن المبارك : فقلت للمحتج عنه في الرخصة : يا أحمق عد إن ابن مسعود لو كانها هنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه و سلموأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تجر أو تخشى فقال قائلهم يا أباعبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهمعدوا عند الاحتجاج تسمية الرجال قرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسىأن يكون منه زلة أفللأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوسوجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا : كانوا خيارا قلت : فما قولكم فيالدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا : حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوهحلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم قال ابن المبارك : ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال : رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يابني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقاللي : أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشركله وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد منأعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهمفيها السنة وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغإتباعهم فيها كما قال سبحانه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللهوالرسول }
قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ منقوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان التيمي إن أخذتبرخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيهخلافا وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في هذا المعنى ماينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمر وابن عوف المزني عن أبيه عن جدهقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إني لأخاف على أمتي منبعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم منزلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ]
وقال زياد بن حدير : قال عمر : ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وأئمة مضلون.اهـ
قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص386 :
فهذا ونحوه هو الذي أشار إليه الأئمة كالشافعي في قوله خلفت ببغداد شيئا أحدثتهالزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فيكون ذو النون هو أحدالذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة وشيوخ السلف ويكون هو أحد المتأولينفي ذلك وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه مثلسفيان الثوري وشريك ابن عبد الله وأبي حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من أهل العلم وكقول علماء مكة وشيوخها فيمااستحلوه من المتعة والصرف كقول عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما وكقولطائفة من شيوخ المدينة وعلمائها فيما استحلوه من الحشوش وكقول طائفة منشيوخ الشاميين وعلمائها فيما كانوا استحلوه من القتال في الفتنة لعلي بنأبي طالب وأصحابه وكقول طوائف من أتباع الذين قاتلوا مع علي من أهل الحجازوالعراق وغيرهم في الفتنة إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة وكان في كلشق طائفة من أهل العلم والدين
فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينا لان المنازعين لهم هم أهل العلم والدين
وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنونبالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتابالله وسنة رسوله.اهـ
وقال أيضاً في الاستقامة ص282 :
ومن احتج بفعل مثل عبد الله في الدين في مثل هذا لزمه أن يحتج بفعل معاوية فيقتاله لعلى وبفعل ابن الزبير في قتاله في الفرقة وأمثال ذلك مما لايصلحلأهل العلم والدين أن يدخلوه في أدلة الدين والشرع لا سيما النساك والزهادوأهل الحقائق لا يصلح لهم أن يتركوا سبيل المشهورين بالنسك والزهد بينالصحابة ويتبعوا سبيل غيرهم
وما أحسن ما قال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق منكان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يميناوشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.اهـ
وقال الترمذي في جامعه 906 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّدَ نَعْلَيْنِ، وَأَشْعَرَ الهَدْيَ فِي الشِّقِّ الأَيْمَنِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّمَ» وَفِي البَابِ عَنْ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.: «حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وَأَبُو حَسَّانَ الأَعْرَجُ: اسْمُهُ مُسْلِمٌ «وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ» ، «يَرَوْنَ الإِشْعَارَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ» سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: «لَا تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي هَذَا، فَإِنَّ الإِشْعَارَ سُنَّةٌ، وَقَوْلُهُمْ بِدْعَةٌ» . وَسَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ: " كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ: أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ؟ قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الإِشْعَارُ مُثْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ، ثُمَّ لَا تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَنْ قَوْلِكَ هَذَا "
نعم لا يصح أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد ، وإن عذرنا هذا الشخص ، ولكننا لا نعذر من يتعصب لقوله ويخالف الدليل
قال شيخ الإسلام في رفع الملام ص14 :" ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضا يدفعها وأن نعتقد وجوب العمل على الأمة ووجوب تبليغها . وهذا مما لا يختلف العلماء فيه"
أقول : ومن ردها كان مبتدعاً ، ومن قاس المتعصب الذي يردها على الإمام الذي لم تبلغه أو بلغته من طريق ضعيف ، فقد قاس قياساً فاسداً في الجرح والتعديل
وأبلغ من ذلك كله ما روي عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف
قال الحافظ في الفتح (14/ 181) :" قَالَ اِبْن الصَّبَّاغ فِي الْكَلَام عَلَى مَانِعِي الزَّكَاة : وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْر عَلَى مَنْع الزَّكَاة وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرُوا لِأَنَّ الْإِجْمَاع لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِرّ . قَالَ : وَنَحْنُ الْآن نُكَفِّر مَنْ جَحَدَهَا . قَالَ : وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ اِبْن مَسْعُود فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُت عِنْده الْقَطْع بِذَلِكَ ، ثُمَّ حَصَلَ الِاتِّفَاق بَعْد ذَلِكَ"
ولا يجوز لمتهوك أن ينكر الأحاديث الصحيحة أو آيات من القرآن احتجاجاً بمثل هذا ، بعد أن صحت الأحاديث وتواترت القراءة ، ولو فتحنا هذا الباب لما جرح أحد ولتسلط الزنادقة على دين الإسلام
أفرأيت ما يصنع التمييع بالناس
وهنا مثالٌ فيه عبرة ، لمن ترك الأدلة الثابتة في النهي عن الخروج على الولاة ، وترك اعتبار المفاسد المترتبة على ذلك ، وعارض هذا كله بفعل سعيد بن جبير ! ، وقد بينت في مقال سابق وجه استحلالهم الخروج على الحجاج وأنهم كانوا يكفرونه ، وخرجوا لإقامة دين الله لا من أجل الديمقراطية ، ومع ذلك ترتب على خروجهم من المفاسد الشيء العظيم حتى ندم من بقي منهم ، ثم يأتي من يحتج بفعلهم ويعارض بها الأحاديث الصحيحة التي لا يصح أن تعارض بقول أبي بكر وعمر فضلاً عن تابعي
ونقول لهؤلاء ما دمتم قلدتم سعيدا في الدماء فقلدوه في الفروج
قال عبد الرزاق في المصنف 14020 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ قَالَ: كَانَتْ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ عِرَاقِيَّةٌ تَنَسَّكُ جَمِيلَةٌ لَهَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبِيرٍ يُكْثِرُ الدُّخُولَ عَلَيْهَا، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَدْخُلُ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ قَالَ: «إِنَّا قَدْ نَكَحْنَاهَا ذَلِكَ النِّكَاحَ لِلْمُتْعَةِ» قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَنَّ سَعِيدًا، قَالَ لَهُ: «هِيَ أَحَلُّ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ لِلْمُتْعَةِ»
واستحلال سعيد وغيره من أهل مكة للمتعة ، محمول على عدم بلوغهم النص كقولهم في ربا الفضل ، واليوم بعد ثبوت الأدلة وانتشارها لم يكن لأحدٍ الرخصة في الأخذ بقولهم
قال ابن عبد البر في التمهيد (10/115) :" وقد كان العلماء قديما وحديثا يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم في النبيذ الشديد ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء"
وهذا محل إجماع
قال شيخ الإسلام في بيان الدليل على إبطال التحليل ص86 :" فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً"
وممن أوجز في هذه المسألة وأفاد ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه"الصادع" (ص45: (وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس قال: بلغ عمر بن الخطاب أن جابر بن سمرة باع خمرا، فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حُرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها.
وسمرة مأجور في اجتهاده، ولو أن امرءاً مسلما باع اليوم خمرا والحجة قد قامت عليه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعها؛ لكان عاصيا.
فهذا ومثله كثير جدا، فرق بين ما أرادوا خلطه من حكم الصحابة ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين المأجورين غير المصرين ولا المقلدين، مع حكم المقلدين المصرين بعد قيام الحجة عليهم، فهذه هي الضلالة لا تلك)
واعلم أن ليس كل جهلٍ يعذر فيه المرء ، بل الجهل الناشيء عن الإعراض يستحق صاحبه الذم
قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص10 :" ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فانه كاذب آثم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة فهذا الذي يجهل وأن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فهذا جعل له أجرا مع خطأه لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام"
وإذا عرف الحق ثم خالفه فهو متعمد لمخالفة الحق ، فالشيخ يتكلم عن الجاهل المتصدر كما هو ظاهر الحديث الذي احتج به (رجل قضى للناس على جهل فهو في النار )
ولنعكس المسألة على أولئك القائسين قياساً فاسداً ، ونقول قد جاء عن بعض السلف جرح من ليس أهلاً للجرح ، فإذا سميتمونا غلاةً فسموهم غلاةً كذلك ما دام أنكم متوسعون في باب القياس فهذا أبو حاتم وأبو زرعة هجرا البخاري لما بلغهما أنه قال باللفظ ، علماً بأن البخاري لا يصح عنه ذلك ، ولكني أريد إلزام القوم على طريقتهم
وقال أبو زرعة كما في سؤالات البرذعي ص51 :" كان أبو حنيفة جهميا وكان محمد بن الحسن جهميا وكان أبو يوسف جهميا بين التجهم"
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/81) :" يُعْجِبُنِي كَثِيْراً كَلاَمَ أَبِي زُرْعَةَ فِي الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ، يَبِيْنُ عَلَيْهِ الوَرَعُ وَالمَخْبَرَةُ"
فلم ينسبه إلى التشدد حتى ، فيلزمكم على مذهبهم في القياس عدم الإنكار على من يجرحكم ويتكلم فيكم أو يتكلم فيمن لا ترغبون في الكلام فيه ، بل إذا طغى بكم القياس ربما سكتم عمن يتكلم في الألباني !
فإن قلتم : هذا قياس فاسد وأبو زرعة وأبو حاتم قبلا خبر ثقةٍ فهم خطأً فكانا معذورين ، ولكن لا يعذر من وقف على كلام البخاري نفسه في المسألة ، وكذا الأمر في شأن أهل الرأي ، وما زال أهل السنة يمتحنون بأئمتهم
قلنا لكم : ها قد أقررتم بأن هناك من القياس في الجرح والتعديل ما هو فاسد الاعتبار ، فيه فروق ربما لم يلاحظها من لم يمعن النظر فتريثوا قليلاً بل كثيراً قبل التوسع بتلك الإلزامات الفاشلة
وإمام المدافعين عن أهل البدع بالقياس الفاسد الكرابيسي
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي ص 893 :" قال المروذي: مضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة ويظهر نصرة أبي عبد الله، فقلت له: إن كتاب المدلسين يريدون أن يعرضوه على أبي عبد الله، فأظهر أنك قد ندمت حتى أخبر أبا عبد الله.
فقال لي: " عن أبا عبد الله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه.
وقال: قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيت عليهم وقلت بل أزيد فيه.
ولج في ذلك وأبى أن يرجع عنه، فجئ بالكتاب إلى أبي عبد الله وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في الكتاب الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح، وكان في الكتاب: " إن قلتم إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج فهذا ابن الزبير قد خرج.
فلما قرئ على أبي عبد الله قال: هذا قد جمع للمخالفين مالم يحسنوا أن يحتجوا به، حذروا عن هذا ونهى عنه"
والعجيب أن بعض هؤلاء القائسين قياساً فاسداً ، إذا تعلق الأمر بالقطبيين الذين يشتهي جرحهم صار يذكر الحسن بن صالح بن حي وأنه مع زهده وورعه وعلمه هجره السلف وبدعوه ، وصار يذكر داود بن علي الأصبهاني وتبديع أحمد له ، وهذا قياس سليم مستوفي الشروط بل هو قياس أولوي ، ولا حاجة إلى القياس هنا فقد دلت الأدلة على هجران أهل البدع والتحذير لذا امتلأت كتب العقيدة بالتنبيه على هذا
وإذا الأمر بجماعة التبليغ صار يتكلم عن عدم جواز التعلق بتزكية من زكاهم ، وأن الجرح المفسر مقدم على التعديل المجمل
وإذا تعلق الأمر ببعض أحبابه صار يذكر شريحاً القاضي وإنكاره لصفة العجب !، وصار يقول :" لا نجعل خلافنا في غيرنا خلافاً بيننا "
وكذا فليكن التلاعب
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/60) :" وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ : لَا يَحِلُّ وَاَللَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِمَنْ تَرْفُضُ وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي حَالٍ "
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم