بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ لله والصلاةُ والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هداه... وبعدُ:
عناصر الخطبة:
1. إنّ الخيانة هى من أحط الأخلاق وأسلفها.
2. الآيات التى ذُكر فيها لفظ الخيانة أو أحد مشتقاتها فى القرآن الكريم.
3. الأحاديث التى ذُكر فيها لفظ الخيانة أو أحد مشتقاتها.
4. أقوال بعض السلف وأهل العلم فى الخيانة.
5. من الفجور فى الخصومة هى الخيانة والسوءة الاخلاقية ... ونحن نحترم من خالفنا حتى يصل إلى السوءة الأخلاقية عندئذ نعتبره كأن لم يكن، ولولا أن اسم الشيخ قد تم ذكره وتعيينه صراحة ما رد الشيخ على مَن خالفه وعليه وجب الرد لا لنصرة الشيخ نفسه ولكن نصرةً للدين لتعريف الناس حقيقة ما يقول هذا المتكلم لمعرفة موطن النزاع، وهو: تبديل الدين وتغيير معالم الملة!!
6. تأصيل علمى دقيق لقضية خلق القرآن وماحدث للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وما موقفه .. لأنّ الأمر لم يكن فى قضية خلق القرآن وحسب!! بل إنّ الأمر عقيدة ودين وما كان خلف تلك القضية من ثوابت أخرى كان من الممكن أن تتبدل وأن تتغير ... وهو ما يحدث اليوم ... تغييرًا للملة والشريعة..
7. من مظاهر تغيير العقيدة فى هذه الأيام أن هناك مَن يقول: إن الديمقراطية من الإسلام ويطالب بالسكوت على ذلك ولا يريد أن يتكلم العلماء ليبينوا للناس هذا التبديل فى دعائم الإسلام وهذا هو موطن النزاع.
8. بيان أن الشيخ لا يرد ولا يلتفت إلى السب أو الشتم أو الغمز أو اللمز وأن هذا كله لايعنيه وأن كل هذا تحت قدميه ولكن ما يعنيه هو صيانة الشريعة .. وعلى كل حال لقد تطاول على الشيخ كثيرًا من السفهاء ولا بأس أن يزداد عدد السفهاء سفيهًا أو سفيهين.
9. يؤيد الله -عز وجل- لأمة الإسلام في كل حقبة من الزمن مَن يقودها إلى الحق، فرغم شدة المحنة، وألم العذاب، كان القرار الجريء من الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بالثبات على الحق في محنة خلق القرآن، هذه المحنة التي عصفت بالأمة في تلك الحقبة من تاريخنا.
10. ذكر ما حدث فى مجلس المعتصم وقاضيه أحمد بن أبي دؤاد الذى قال بخلق القرآن للمأمون ثم للمعتصم وثبات الامام أحمد بن حنبل على ما هو عليه وقوله أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصبر ابن حنبل حتى انتهت المحنة ولهذا لُقِّبَ بالإمام ولم يقل يومًا أو لحظة أن القرآن مخلوق بل قال: إن القرآن كلام الله وثبت على ذلك ولم يتلون فى الدين أو يغير فى الثوابت.
11. ضرب الشيخ مثلاً لمن خالفه .. فى قصةٍ حكاها له .. فأخذ بعض الأشخاص على الشبكة العنكبوتية هذه القصة وأتوا بكلام الشيخ ووضعوه على صور لأشخاص وعينوهم .. هل يُلام الشيخ على فعل ذلك؟!!
وهل يكون مخالفه مُنصفًا إذا قال ذلك؟! وهل يحق له أن يشنِّع على الشيخ بدون وجه حق؟! هذه والله حيلة خسيسة.
12. لا نملك إلا أن نقول ... يا أخي اتلهى جاك البلا ... فى بطنك المتدلدلة... روح اترمى فى مزبلة ... واكفى الماجور على الخبر.
13. لقد أعزّ الله الإسلام بأبي بكر يوم الردة وبأحمد يوم المحنة وفى قصة الشيخ أبو عبد الرحمن بن محمد بن إسحق الأسدي ومناظرته أحمد بن أبي دؤاد فى مجلس الواثق والتى كانت سببًا فى هداية الواثق وبكاؤه فى هذه القصة تأكيدًا أن من واجبنا اليوم صيانة الشريعة رغم كل التحديات.
14. رسالة ونصيحة إلى أهل السنة والجماعة فى مشارق الارض ومغاربها لا تبتأسوا واصبروا ... وتذكروا دعوة سعد بن أبي وقاص للرجل الذى طعن فيه عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وما كانت نتيجة هذه الدعوة .. وأبشروا بنصر المولى عزوجل).اهـ [نقلاً عن صفحة "مجموعة دروس فضيلة الشيخ محمد سعيد الرسلان" على الفيس بوك بتصرفٍ يسيرٍ].
لتحميل التفريغ بصيغة PDF - جاهز للطباعة والنشر - 19 ورقة
اضغط هنا للتحميل.
لتحميل التفريغ بصيغة DOC - للنسخ واللصق والتعديل
اضغط هنا للتحميل.
صورة من ملف التفريغ:
القراءة المباشرة:
إن الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أمّا بعدُ؛ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-، وشرّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أمّا بعدُ:
فإنّ الخيانةَ من أَحَطِّ الأخلاق وأسفلِها، وهي قبيحةٌ في كل شيء، وبعضها شرٌّ من بعض، وهي ثمرة الكُفر أو النفاق، قال -تعالى-: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 102].
وقال -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38].
وقال -تعالى-: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58].
وقال -تعالى-: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 71].
وقال -تعالى-: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105-107].
وقال -تعالى-: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يُوسف: 52].
والخيانة: هي التفريط في الأمانة؛ فهي تفريط فيما يُؤتمن الإنسان عليه، والخيانة في الأمانات وأعلاها الدين، والوَدِيعَةِ، والعين المرهونة، والمستأجرة، أو غير ذلك من الكبائر، وهي من علامات النفاق.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- فيما أخرجه الشيخان، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كَذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان).
وفي الصحيحين -واللفظ لمسلمٍ- عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: (أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصْلَةٌ منهم كانت فيه خَصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمنَ خان، وإذا حدّث كَذَب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فجر).
وأخرج أبو داود بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البِطانة).
وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن عِمران بن حُصَين -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (خيركم قَرْنِي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال عِمران: لا أدري أَذَكَرَ النبي -صلى الله عليه وسلّم- بَعْدُ قرنين أو ثلاثة.
قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (إنّ بعدكم قومًا يخونون ولا يُؤتمنون، ويشهدون ولا يُستشهدون، وينذرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمَن).
وأخرج أحمد، وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: (سيأتي على الناس سنواتٌ خدّاعات: يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُخوّن فيها الأمين، ويُؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرُّوَيبضة). قال: قِيلَ: يا رسول الله، وما الرُّوَيبضة؟! قال: (السفيه يتكلم في أمر العامة).
قال ابن قدامة: وحدثني يحيى بن سعيد الأنصاري عن المَقْبُرِيِّ قال: (وتشيع فيها الفاحشة). يعني: في السنوات الخدّاعات، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- ما فيها من اختلال الأحوال، وانعكاس الأمور، وتبدّل القيم، وانمحاق المُثُل: يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُخوّن فيها الأمين، ويُؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرُّوَيبضة، وهو السفيه يتكلم في أمر العامة.
قال غَيْلان بن سلمة الثقفي:
وإني -بحمد الله- لا ثوبَ غادرٍ
لبستُ ولا من غَدْرَةٍ أتقنَّعُ.
وقال الشاعر:
أَخْلِقْ بمَن رضي الخيانةَ شيمةً
ألا يُرى إِلا صريعَ حوادثِ
ما زالت الأرزاءُ تُلْحِقُ بؤسها
أبدًا بغادرِ ذِمّةٍ أو ناكثِ
وقال أبو تمام:
رأيتُ الحُرَّ يجتنبُ المَخازي
ويحميه عن الغَدر الوفاءُ
وقال الأعورُ الشِّنِّيُّ:
لا تأمننّ امرءًا خان امرءًا أبدًا
إنّ من الناس ذا وجهين خَوَّانًا.
وقال الشاعر:
هو الذئبُ أو للذئبُ أوفى أمانةً
وما منهما إلا أَذَلُّ خئونُ.
وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسنادٍ صحيح عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (إنّ روح القدس نفث في رُوعي أنّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ أجلها، وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّ أحدكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإنّ الله -تعالى- لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته).
فإنّ الله -تعالى- لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته، فمَن سلكَ سبيل طاعته أناله الله مراده، ومَن سلكَ سبيل مرضاته حصَّل له مقصوده، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار.
واستخدام الوسائل الخسيسة، والحيل الدنيئة، والألاعيب الصبيانية لا تكون -أبدًا- سببًا للتمكين والنصرة، وشرعُ الله -تبارك وتعالى- لا يُطبَّق بمخالفته، وشرع الله -جل وعلا- لا يُطبَّق بالخروج عنه؛ فهذا لا يكون!!
والفجور في الخصومة قد يكون بتجاوز الحد: في اللفظ تارة، وفي الاستدلال تارات -وهو أسوأهما- وقد يكون بالخيانة، وإذا كان ذلك كذلك فهو أحطُّ شيء، وأسلُفه، وأَخَسُّه!!
والتردي الأخلاق، والسوءة الأخلاقية إذا أبداها امرؤٌ أعرضنا عنه كإعراض السباع عن الجيف!! وما يزال الرجل علي كريمًا، وعندي مرفوع القَدْر -وإنْ خالفني، وإنْ جار وظلم واعتدى- حتى يُبدي سوءته الأخلاقية، حينئذٍ ينمحق فلا وجود له!! وإنما هو هَباءٌ!!.. لا، بل هو عَدَم!! بل هو لا شيء!!
إلا التردي في السوءة الأخلاقية؛ لأن المرء لا يُمكن أن يحصِّل خيرًا يصل إلى شاطئه وهو يخوض إليه في بركة من النَّتَنِ والوَحْل والطين!!
كيف يصل إلى غايته نظيفَ الثوب والبدن فضلاً عن نظافة القلب والروح، وهو يخوض في الأوحال، وهو يتردى في القاذورات، وهو يتنزل إلى السفالات؟!!
وما ظنك برجل حَطَّ عليك، ونزل دارك، فأطلق فيكَ لسانَه، وعقد لذلك المجالس؟!! ولولا أنّ اسمكَ ذُكر صراحةً بحيث يعتقد مَن يسمع بعدُ إلى نهايات جلسات غِيبته وفجوره.. لولا أنّ مَن يسمع بعدُ يعتقد أنه يقصدك بكلامه، ما التفتَّ إليها، وما عَوّلتَ عليها، وما اعتبرت له وجودًا في الحياة!! لم يُخلق!! وإذا لم يُخلق، ولم يكن مخلوقًا؛ فماذا يضير العَالَم؟!! لعله كان يكون أحسن حالاً.
رجلٌ ينزل ديارك ثم يناوشك ظلمًا وجورًا وطغيانًا!! لو ظل الكلامُ مبهمًا فما أكثر الذين يُهَرِّفُون: ينبحون، ينعقون، ينهقون!! في كل قناةٍ، ومنتدى، وموقعٍ، وجريدةٍ، ومجلةٍ، ونادٍ، ووادٍ!!
أو كلما طَنَّ الذبابُ طردته=إنّ الذبابَ -إذًا- علي كريمُ!!
لكن تُعَيَّب.. لابد أن تنتصرَ، لا لنفسك -فلا حظ لها ولله الحمد والمنة- ولكن للدين؛ لأن القوم لا يعلمون موطن الخصومة، ولا موضع النزاع إلى يوم الناس هذا.
حماقةٌ سابغة بذيلها، ضافية بثوبها، ولا أحدَ يفهم شيئًا!! ولا أحد يبصر أمامه، ينظرون إليك ولا يبصرونك، يخبط في كل واد، جاءك مُثْخَنًا بجراحات معاركه الفاشلة، وغزواته ذات الهزائم النكراء، تكلّمه فيما مَسَّكَ فيه لا تتجاوزه، وهو معكوس الفهم يخبط في كل واد، نكلمك فيما تتكلم فيه قاصدًا، لا علاقة لنا بما وراءك، هذا قد أعفانا غيرنا عن تناوله، وعُدت مُثْخَنًا بجراحات معارك الفاشلة، فعففنا عن ذلك، ولم نلتفت إليه، وإنما نراجعك فيما تتكلم فيه، معكوس الفهم!! بَلِيدُه!!
وما هو موطن النزاع؟! أهو هذه الترهات التي يُنعقُ بها في كل واد؟! ويُزعق بها في كل ناد؟! أهو هذه المشاجرات كمشاجرات النساء في الأَزِقَّة والحواري؟!!
فلننظر: كان المسلمون على قانون السلف من أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غيرُ مخلوق حتى نبغت المعتزلة والجهمية، فقالوا في صفات الله -سبحانه- ما قالوا، وقيل: بخلق القرآن.
ولكنْ مقالةٌ تحت سِتْر مادامت دولة الرشيد، وكان الرشيد -رحمه الله- عندما بلغه أن بِشْرَ بن غِيَاث يقول: القرآن مخلوق، فقال: لله علي إن أظفرني به لأقتلنه، فكان بِشْرٌ متواريًا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بِشْرٌ ودعا إلى الضلالة.
قال الذهبي: ثم إن المأمون نظر في الكلام، أي في علم الكلام، في علوم الأوائل التي تُرجمت لما استُجلبت كتبها في عهده، فنظر فيها وأُولع بها، وباحث المعتزلة، وبقي يقدِّم رجلاً ويؤخِّر أخرى في دعاء الناس -أي في دعوتهم- إلى القول بخلق القرآن إلى أن قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها.
ومسألة خلق القرآن ليست محصورةً في القول بخلق القرآن، وإنما هذه علامة على ما وراء ذلك من المعتقد: من نفي صفات الله -جل وعلا- بل غالت الجهمية، فنفت عن الله أسماءه -جل وعلا- فلم يُثْبِتُوا لله -رب العالمين- لا اسمًا ولا صفة!!
فكانت الساحة التي دارت فيها المعركة ما يتعلق بخلق القرآن، وأما خلفية ذلك فما وراء القول بخلق القرآن من المعتقد: معتقد الجهمية والمعتزلة من نفي صفات الرب الجليل -جل وعلا- والقولِ بالقدر.
قال صالح بن أحمد -رحمهما الله تعالى-: حُمل أبي -يعني: الإمام أحمد- ومحمد بن نوحٍ مُقيدين فسرنا معهما إلى الأنبار، وكان المأمون قد كتب إلى عامله ببغداد أنه إذا جاءك كتابي هذا؛ فأرسل إليّ ذلك الجاهل: أحمد بن حنبل، فامتثل الرجل وأرسل أحمد ومحمد بن نوح..
قال صالح: فسرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكرٍ الأحولُ أبي، فقال: يا أبا عبدالله إنْ عُرضت على السيف تُجيب؟! قال: لا.
ثم سُيرا فسمعتُ أبي يقول: صرنا إلى الرَّحْبَة -وهي بين الرَّقَّةِ وبغداد- ورحلنا منها وذلك في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟
فقيل له: هذا. فقال للجمال: على رِسْلِكَ! ثم قال: يا هذا! -يقول لأحمد- ما عليكَ أن تُقتل ها هنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
قال: فسألتُ عنه، فقيل لي: هذا رجلٌ من العرب من ربيعة يعمل الشَّعَر، وفي رواية حنبل: يعمل الصوف في البادية، يُقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير.
يقول أحمد -رحمه الله-: ما سمعتُ كلمةً منذ وقعتُ في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلّمني بها في رَحْبَةِ طَوْق، قال: يا أحمد، إنْ يقتلك الحقُّ مُتَّ شهيدًا، وإنْ عشتَ عشتَ حميدًا. قال: فَقَوِيَ قلبي.
لأجل ماذا؟! لقد أجاب علي بن المديني!! -تقيةً- وهو الجبل الراسخُ الذي قال فيه البخاري: ما احتقرتُ نفسي في مجلس أحدٍ ما احتقرتها في مجلس علي بن المديني.
ولكنه أجاب -تقيةً- وكذا أجاب يحيى بن معين!! وهو مَن هو كأنما خلقه الله لهذا الشأن، جِهْبِذٌ من جهابذة النقاد، ومن الرواة الأثبات، جبلٌ، عَلم، ولكنه أجاب بخلق القرآن -تقيةً-.
وآلَ أحمد على نفسه ألا يكلم أحدًا أجاب في المحنة قط! آخذًا بالرخصة؛ لأنه لم يعتدها رخصة!! فإنّ عليًا لما دخل عليه وهو مريضٌ حوّل وجهه إلى الحائط ولم يلتفت إليه، ولم يرد عليه سلامًا حتى خرج.
وكان أحمد (هكذا سمعتها، ولعلها: أحدُهم) يعتذر بأنه مضطر كما وقع لعمار، فلما خرج ولم يُكلمه، قال: يعتذرون بما وقع لعمار، وإنما عُرض على عمارٍ ما عُرض من الموت الأحمر!! فأجاب، وهؤلاء قيل لهم: قولوا، فقالوا!!
فلم يكلمهم حتى مات!! لأجل ماذا؟! لأجل حفظ العقيدة، وتثبيت دعائم المِلّة..
الأمر أكبر بكثيرٍ جدًا مما يذهب إليه الذهنُ الفَطِير، الكليلُ، الحَسِير، الذي لا ينظر في أعماق الأمور، إنما يتوقف عند السطوح وظواهر الأشياء!! ولا يلتفت إلى مآلات الأجيال القادمة!!
فإنّ أبا زرعة لما حُبس أحمد -رحمه الله تعالى- ودخل عليه، فقال: علام تقتل نفسك؟!! أجاب فلانٌ وفلانٌ! فأجب -تقيةً- ثم إذا ما انقشعت الغُمّة، وزالت المحنة، قرِّر عقيدة السلف من الصحابة ومَن تبعهم إلى عهدك، وهي ما جاء به رسول الله.
فقال له: اخرج، فانظر ثم ائتني، فخرج، فنظر، فعاد، قال: ما وجدتَ؟ قال: وجدتُ ألوفًا مؤلفة!! وفي رواية: وجدتُ مائة ألف من طلاب العلم معهم المحابرُ والأقلام والأوراق، كلهم يقول: ماذا قال أحمد؟!! قال: أقتلُ نفسي ولا أُضل هؤلاء؟!!
تبديل الملة!! تغيير دعائم الشريعة!!
ولو نظرتَ إلى الأمر مُسَطَّحًا، وما في أن يقول قائلٌ: القرآن مخلوق -تقيةً- ثم ينتهي الأمر!!
هذا تبديلٌ للعقيدة!! تغيير للشريعة!! تمامًا كما يقول قائل: وماذا في أن نقول: (الديمقراطية) من الإسلام!! .. (مَشِّهَا) (مَشِّهَا) ثم بعد قفْ عندها.
هذا موطن النزاع أن الدين يُغَيَّر!! وأنّ المعالم تُبَدَّل!! وأنّ الشكايات تُرفع إلى مَن هم في سُدَّة الحُكم ومواطن التنفيذ: أغيثونا!! أدركونا!! فلانٌ من الخطباء أو من المعلمين يقول: إنّ أهل الكتاب كفّار!!!
تبديل المواطن العقدية!! .. هذه هي القضية، وأما تلك الطنطنات الفارغة التي يدور بها القوم في منتدياتهم، وفي قنواتهم، وفي أحوالهم .. هذه لا تعني في شيء!! وما على المرء بأس لو شتمه جميعُ الناس، وصِينت الديانة.
فأما الشتمُ، وأما السبُّ، وأما اللمزُ، وأما الهمزُ، وأما الغمزُ، فهذا تحت مواطئ قدميّ!! مع صيانة الشريعة.
وأنا امرؤٌ مُبتلاً بالسفهاء منذ نشأتُ!! ولا يضيرني -أبدًا بفضل الله ورحمته- أن يزداد عدد السفهاء واحدًا أو اثنين!! أيُّ شيءٍ في هذا؟!!
قتل تسعة وتسعين نفسًا، فلما سأل العابد: هل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله! كَمَّلَ به المائة! أيُّ شيء؟!!
ثبتَ محمد بن نوح -رحمه الله- مع أحمد ثباتًا عظيمًا، يقول أحمد -رحمه الله-: ما رأيتُ أحدًا على حداثة سنِّه وقَدْر علمه، أقومَ بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون قد خُتمَ له بخيرٍ..
قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، اللهَ.. اللهَ إنكَ لستَ كمثلي، إنكَ رجلٌ يُقتدى بكَ، قد مَدَّ الخَلقُ أعناقهم إليكَ لما يكون منكَ، فاتقِ الله واثبت لأمر الله أو نحو هذا، فمات وصليتُ عليه ودفنته.
قال أحمد: ومكث أحمد في السجن نحوًا من ثلاثين شهرًا!! ثم دُعي بين يدي المعتصم، قال صالح بن أحمد: فجعل أحمد بن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمُغضَب.
قال أبي: وكان هذا يتكلم فأردُّ عليه، ويتكلم هذا فأردُّ عليه، فإذا انقطع الرجلُ منهم، اعترض ابن أبي دؤاد، فيقول: يا أمير المؤمنين هو -يعني: الإمام أحمد- هو والله ضالٌ مبتدع!!
رأسُ البدعة في زمانه يُقسم بالله -لا يتلبث!!- أنّ أحمد بن حنبل -وهو رأس السُّنة في زمانه- ضالٌ مبتدع!!!
فيقول: كلّموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأردُّ عليه، ويكلمني هذا فأردُّ عليه، فإذا انقطعوا يقول لي المعتصمُ: ويحكَ يا أحمد!! ما تقول؟!
فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله، أو سنة رسول الله حتى أقولَ به، ويُقبِلُ ابن أبي دؤادٍ على أحمد يُكلّمه، فلا يلتفت أحمد إليه!! حتى يقول المعتصم: يا أحمد، ألا تُكلّم أبا عبد الله؟! -يقصد ابن أبي دؤاد- فيقول أحمد: لستُ أعرفه من أهل العِلم فأكلمه!!
مَن هذا؟! لستُ أعرفه من أهل العِلم حتى أكلمه!! هذا مُعَثَّر!! مُخَبِّط!! يُضِلُّ أهل السنة، ويحرِف المؤمنين عن الصراط المستقيم، كيف أكلّم مثل هذا؟!!
يقول ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين إنْ أجابك لهو أحبُّ إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار، فَيَعُد من ذلك ما شاء الله أن يَعُد.
فيقول المعتصم: والله لإن أجابني لأطلقنّ عنه بيدي، ولأركبنّ إليه بجندي، ولأطأنّ عَقِبَه -يعني: لأتزوجنّ من بيته- ثم قال: يا أحمد، والله إني عليكَ لشفيق، وإني لأُشْفِقُ عليكَ كشفقتي على ابني (هارون)، ما تقول؟!
قال: فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وأمر المعتصم بضرب الإمام، فَقُدِّمَ فضُرب تسعة عشر سَوطًا!!
قال أحمد: فلما ضُربت تسعة عشر سَوطًا، قام إليّ -يعني: المعتصم- وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق.
قال: فجعل عُجَيْفٌ -السياف- ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟!!
وجعل بعضهم يقول: ويلك!! الخليفة على رأسك قائمٌ!!
وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمُه في عنقي!! اقتله!!
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنتَ صائم، وأنتَ في الشمس قائم -وأما هذا الإمام المضروب، وقد بلغ من السِّن ما بلغ، ووقع عليه من مَسِّ حَرِّ عذاب السياط ما وقع، فهذا لا يُلتفت إليه!!-
أنتَ في الشمس قائمٌ !! يا أمير المؤمنين.. فقال المعتصم لي: ويحكَ يا أحمد، ما تقول؟! فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقولُ به.
فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدَّم وأَوْجِعْ!! قطعَ اللهُ يدكَ!! ثم قام الثانية، فجعل يقول: ويحكَ يا أحمد! أجبني، فجعلوا يُقبلون عليّ ويقولون: يا أحمد إمامُك على رأسكَ قائمٌ، وجعل عبدالرحمن يقول: مَن صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟!! -لمَ لا تقول كما قالوا؟!! لمَ لا تدخل الموجة؟! لمَ لا تسير في القطيع؟! لمَ تنتحِ ناحيةً؟! مُشْرِفًا على قمم الذُّرَا السَّامِقَات.
وجعل المعتصم يقول: ويحك! أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فَرَج أُطْلِقُ عنكَ بيديّ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أقول به، فيرجع، وقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شُد قطعَ الله يدكَ! -يقولها المعتصم للجلاد-.
وقال أحمد: فذهب عقلي!! من شدة الألم، فأفقتُ بعد ذلك، فإذا الأقيادُ قد أُطلقت عني، فقال لي رجلٌ ممن حضر: إنّا كببناكَ على وجهكَ!! وطرحنا على ظهركَ (بَارِيَّةً) -وهو حصيرٌ منسوجٌ يُجلس عليه- ودسناكَ بالأقدام!! قال أحمد: فما شعرتُ بذلك.
حدَّث عبد الله بن محمد بن الفضل الأسديُّ، قال: لما حُمل أحمد ليُضرب جاءوا إلى بِشر بن الحارث، فقالوا: قد حُمل أحمد بن حنبل وحُملت السياط، وقد وجب عليك أن تتكلم، فقال: أتريدون مني مقام الأنبياء؟!! ليس ذا عندي، حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه.
قال صالح بن أحمد: صار أبي إلى المنزل، ووُجّه إليه من السَّحَرِ مَن يُبصر الضربَ والجراحات ليعالجه منها، فنظر إليها، فقال لنا: والله لقد رأيتُ مَن ضُربَ ألفَ سَوطٍ ما رأيتُ ضربًا أشدَّ من هذا، لقد جُرَّ عليه من خلفه ومن قُدَّامه، ثم أدخل (مِيلاً) -وهو ما يُسبر به عُمق الجرح في بعض تلك الجراحات- وقال: لم يَنْقَب، فجعل يأتيه ويعالجه.
وكان قد أصاب وجهه غيرُ ضربة، ثم مكث يُعالجه إلى ما شاء الله، ثم قال: إنّ ها هنا شيئًا أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة، فجعل يُعلِّق اللحمَ -لحمَ الإمام- بها ويقطعه بالسكين، وهو -أي أحمد- صابرٌ يحمد الله، فبرأ، ولم يزل يتوجع من مواضع فيه، وكان أثر الضرب بيّنًا في ظهره إلى أن تُوفيّ -رحمه الله-.
هذه أطرافٌ من المحنة كما رواها الذهبيّ وغيرُه، فيها: ظلال الرغبة والخوف، وكأنها كَوْنٌ كاملٌ، وعَالَمٌ شاملٌ، فيه الليل والنهار يتقابلان ولا يتعاقبان.
فيها الليلُ بظلمته، ورهبته، وسَتْرِهِ على الخيانة والغَدر، فذلك مَثَلُ أعداء أحمد، وفيها الصبحُ بإشراقه، ووداعَته، ورقة حاشيته، وجمال إطلالته، وذلك مَثَلُ الإمام أحمد.
لقد ثبت أحمد حتى استحقَّ الإمامة، فأصبحت عَلمًا عليه، فإذا ذُكر لقبُ الإمام انصرفَ اللفظُ إليه.
وما كان أحمد إمامًا بإذلاله لعلمه أمام الجبروت والسَّطوة!! وإنما بإعزاز علمه، وإعزاز المحل الذي أحلَّه الله فيه، فرحمةُ الله -تعالى- وبركاته على الإمام أحمد.
قال الذهبي: قال ابن عَقِيل: من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهّال أنهم يقولون: أحمدُ ليس بفقيه!! لكنه مُحدِّث.
قال: وهذا غايةُ الجهل!! لأنّ له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم وربما زاد على كبارهم.
قال الذهبي: أحسبهم يظنونه كان مُحدِّثًا و(بَسْ) -و(بَسْ): أي حَسْب، وهي كلمةٌ فارسية دخلت اللغة العربية- بل يتخيلونه من بابَة مُحدثي زماننا -زمن الذهبي- ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، وفي الزهد والورع رتبة الفضيل، وإبراهيم بن أدهم، وفي الحفظ رتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني.
ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟!! اهـ
صانوا العِلم الذي أتاهم الله إياه، فصانهم الله -رب العالمين- به.
يَقُولونَ لِيْ فِيْكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّما
رَأَوا رَجلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ مُهَانَ عِنْدَهمْ
وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لي يَسْتَفِزُّنِي
ولا كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
وَإِنِّي إذا ما فَاتَنِي الأَمْرُ لَمْ أَبِتْ
أُقَلِّبُ كَفِّي إِثْرَهُ مُتَنَدِّمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كانَ كُلَّمَا
بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
إذا قِيلَ: هذا مَنْهَلٌ، قُلْتُ قَدْ أَرَى
وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
ولم أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي
لأَخْدِمَ مَن لاقَيْتُ لكنْ لأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً
إِذِنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أَحْزَمَا
ولو أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهَمْ
ولو عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
ولكنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
موطن النزاع ما هو؟! ما هو موضع الخصومة؟!
تبديل الشريعة!! تغيير دعائم الملة!! تحريف العقيدة!! إدخالُ الشركيات، والخزعبلات، والخرافات، والبدع، والأهواء!! فيما جاء به سيد الأنبياء -صلى الله عليه وآله وسلّم-.. هذا موطن النزاع، وهذا ما يُقاتل دونه.
دون أي شيءٍ كان يُقاتل أحمد؟!! مكشوفَ الصدر والظهر!! وما له إلا ما جعل الله من جُنَّة تَقِيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه، فثبّته الله وحفظه.
فكان ماذا؟! كان أن انحسرت أمواج المحنة، وذهب الزَّبَدُ جُفاءً، وبقي في الأرض ما ينفع الناس.
دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن، وعُذِّبَ الأئمة الأعلام في عهد المعتصم!!، وقُتل بعضُهم في عهد الواثق!!
دون أي شيءٍ يقاتلون؟! أحمد بن حنبل، أحمد بن نصر الخُزاعيّ، أبو نُعَيم، البويطي، في أَضْرَابٍ لهم من الأئمة الأعلام.. دون أي شيءٍ يقاتلون؟!!
دون هذه العبارة؟!! القرآن مخلوق!!
لو قالوها سَلِمُوا!! -ظاهرًا- وأُجْرِي عليهم الإنعامُ سابِغًا، وأُعليت مراتبهم، وذُكروا في المحامل والمجامع وعلى رؤوس الأشهاد!! لكنهم قاتلوا دونها.. القرآنُ كلامُ الله غَيْرُ مخلوق.. صفته، وصفاته كذاته.
دونها قاتلوا: عُذِّبوا!! ودِيسوا بالأقدام!! وحُدِّدت إقاماتهم!! ومُنعت رواتبهم مما كان يُجرى عليهم من بيت المال!! ومُنعوا من الخطابة والتحديث والتعليم حتى من تعليم القرآن في المكاتب!! وعلا المبتدعةُ رؤوسَ المنابر!!
والمنابرُ في ذلك الزمان كـ (قنوات الضلال) في هذا الزمان!! فكان ماذا؟! جاء المتوكلُ.. رفعَ اللهُ به المحنة، وعاد الأمرُ إلى أصله.
ما هو موطن النزاع؟!!
تغييرُ دين الله!!
ما هو موطن الخلاف؟!!
هو تبديل الشريعة!!
وليس هذا الذي تسمعه، ولا بتلك الوسائل الصبيانية، والألاعيب الشيطانية التي يأتي بها أقوامٌ لا يرقبون في مؤمنٍ إِلاً ولا ذِمّةً..
قاتلْ بشرف وأنتَ على الرأسِ؛ حتى تَفِيء، وأما الانحدارُ الأخلاقيّ، وأما السوءةُ الخُلقية تمحَقُكَ مَحْقًا.
أنتم تعلمون، والدنيا كلها تعلم، والإنس والجن يعلمون أنّ الشبكة العنكبوتية مملوءةٌ بما يُرَّكب من صورٍ على كلامٍ وعلى أشخاصٍ، عالَمٌ لا يدري أحدٌ مداه، ولا يعلمه سوى الله.
وما من أحدٍ يُسأل عن شيءٍ كذلك إلا إذا ثبتَ أنه له؛ فإذا جِيء بأشخاصٍ رُكِّبوا على أجساد، وجِيءَ بكلامٍ فمَن المُلام؟! مَن المَلُوم؟!! مَن المَلِيم؟!!!
وضربنا لهم مثلاً، فقلتُ لهم: قلتُ: جاءني البارحةَ ثلاثةُ نَفر:
فأما الأولُ: فبطيء الفهم بَلِيدُه كأنه حمار!! وأما الآخرُ: فَوَبِيلُ الطبع، خَسِيسُه كأنه خِنزير!! وأما الثالثُ: فخبيثُ المَرْآة، كريه المنظر كأنه ابنُ عِرس!!
عَيَّنَّا أحدًا؟!! لمزنا بذلك إنسانًا؟!!
فجاء رجلٌ، فأتى بصورة رأس مُقدِّم برامج فجعله على جسد حمار، وجاء بصورة رأس شيخه فجعلها على بدن خنزير، وجاء بصورة رأس ضيفه فجعلها على جسم ابنِ عِرْس، ثم جاء بالكلام الآنِفِ: جاءني بالأمس ثلاثةُ نَفَر، كذا وكذا وكذا، وعرض ذلك.. تلومني؟!! وتكون منصفًا إنْ لمتني؟!! فضلاً عن أن تُشَنِّع عند العوام الذين لا يفهمون!!
هذه حِيلةٌ خَسيسة!! لا نقبل هذا، سقط هؤلاء في مَزْبَلَة!! وقل لهم: ( يا أخي اتْلِهِي!! دَاكْ البَلَى في بَطْنَك المِدَّلْدِلَة!!، رُوح اتْرِمِي في مَزْبَلِة!! واكْفِ المَاجُور على الخبر)، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله رب العالمين، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
ما مَرَّ من ذكر المحنة التي عرضت للأمة، فقال فيها وعنها الأئمة: لقد أعَزَّ اللهُ -تبارك وتعالى- ونصر هذا الدين بأبي بكرٍ يوم الرِّدة، وبأحمد يوم المحنة.
هذه المحنة بُنيت على خرافات، على تجاوزاتٍ عقلية، وخروجٍ عن مقتضى النظر الصحيح، وتأمل في هذه القصة:
أُدْخِلَ الشيخُ أبو عبدالرحمن بن محمد بن إسحاق الأسدي على الخليفة الواثق، وهو مُقيد بالسلاسل، وكان الواثقُ شديدًا جدًا على أهل السنة: قتل أحمد بن نصر بيده!! وكان يُرسل إلى قائد الجيوش عند مبادلة الأسرى مع الروم آمرًا إياه أن يختبرَ أسرى المسلمين الذين يُبادَلون بأسرى الروم أن يختبرهم وأن يسألهم: هل القرآنُ مخلوق أو غير مخلوق؟! وأمر أن مَن قال: القرآنُ مخلوق.. بادِلْ به، ومَن قال: القرآنُ كلامُ الله، فأرجعه إلى الروم!!
حتى إنه لما سأل أحمد بن نصر قبل أن يقتله، وهو على النِّطْعِ بين يديه عن رؤية الرب -تبارك وتعالى- في الجنة، ويوم القيامة، وسأله عن أمورٍ من أمور الاعتقاد عند أهل السنة تلقوها عن أصحاب الرسول عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل عن رب العزة.. فلما أجابه، قتله!! وقال: هذا يعبد ربًا غير الذي نعبده!!
موطن النزاع ما هو؟!!
هو في تبديل الشريعة، وتغيير دعائم الملة، وإدخال الشركيات، والكفريات، والمستوردات من شرائع الغرب الفاجر الكافر، والشرقِ الفاجر المُلحد على شريعة سيد ولد آدم -صلى الله عليه وآله وسلم-..
أُدْخِلَ الشيخُ على الواثق، وهو مُقيدٌ بالسلاسل، وكان شيخًا شاميًا، أمرَ قاضي القضاة أحمدُ بن أبي دؤاد باعتقالِه؛ لأنه كان يقول بقول الإمام أحمد بن حنبل في إثبات صفة الكلام لله -تعالى-.
فَسَلَّمَ لما أُدْخِلَ على الواثق غيرَ هائبٍ، ودعا للواثق فأوجز، قال له الواثق: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقال الشيخُ الأسدي: يا أمير المؤمنين هذا لا يقوى على المناظرة، فغضب الواثق لإهانته قاضي القضاة، وقال: أبو عبدالله بن أبي دؤاد يضيق أو يقل أو يضعف عن مناظرتك أنت؟!!
فقال: هَوِّنْ عليكَ يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه، فقال الواثقُ: قد أذنتُ لك.
ثم التفت الشيخُ إلى أحمد بن أبي دؤاد، وقال له: خَبِّرني يا ابن أبي دؤاد أمقالتك تلك -يقصد الشيخُ بدعته في القول بخلق القرآن- أبدعتك تلك واجبةٌ في أصول الدين، فلا يكون الدين كاملاً إلا بما قلتَ؟!
قال ابن أبي دؤاد: نعم.
قال الشيخ أبو عبدالرحمن: هل ستر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا مما أمر الله به المسلمين في أمر دينهم؟!
قال ابن أبي دؤاد: لا.
قال الشيخُ: هل دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مقالتك هذه؟!
فسكت ابن أبي دؤاد.. قال الشيخ أبو عبدالرحمن للخليفة الواثق: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة.
ثم قال: يا ابن أبي دؤاد، أخبرني عن الله -تعالى- حين أنزل ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، فقلتَ أنتَ: الدين لا يكون تامًا إلا بمقالتك في خلق القرآن، فهل كان الله -تعالى- الصادقَ في إكمال دينه، أو أنتَ الصادقُ في نقصانه؟!!
فسكتَ ابن أبي دؤاد.
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن لأمير المؤمنين الواثق: يا أمير المؤمنين، ثِنْتَان.
ثم قال: يا أحمد، مقالتُك هذه عَلِمَها رسولُ الله أم جهلها؟!
قال: عَلِمَها.
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن: أفدعا الناسَ إليها؟!
فسكتَ ابن أبي دؤاد.
قال يا أمير المؤمنين: ثلاث.
ثم قال: خَبِّرني يا أحمد لما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالتك التي دعوتَ الناسَ إليها، هل وسعه أنْ أمسكَ عنها أم لا؟!
قال أحمد: عَلِمَها وسكت عنها!!
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن: أفوسعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن علمها وأمسكَ عنها -كما زعمتَ- ولم يُطالب بها أمته؟!!
قال: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الخليفة فقال: يا أمير المؤمنين إنْ لم يسعه ما وسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السكوتَ عنه، فلا وَسَّعَ اللهُ على مَن لم يسعه ما وَسِعَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- أن يسكت عنها.
فقال الواثقُ: نعم، لا وَسَّعَ الله على مَن لم يسعه ما وَسِعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبكى وأمر بِحَلِّ قيوده، فجاذبَ الشيخُ الحدّادَ على القيود يودُّ لو يحتفظُ بها، فقال الواثقُ: ولمَ؟!
قال: نويتُ أن تُجعلَ قيودي بين جلدي وكفني؛ لأخاصم بها هذا الظالمَ يوم القيامة.. وبكى الشيخُ أبو عبدالرحمن، وبكى الواثقُ، وبكى الحاضرون.
قال الواثق: اجعلني في حِلّ.
قال: والله لقد جعلتك في حِلٍّ وَسَعَة من أول يومٍ إكرامًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ كنتَ رجلاً من أهله.
قال الواثقُ: تُقيم معي؟!
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن: ردّك إياي إلى الموضع الذي أخذني منه هذا الظالمُ أَجْدَى عليك وأنفع لك، ثم قامَ وخرجَ.
أتدري لمَ؟! لأنه خلّف البنات خلفه يضرعن إلى الله -تبارك وتعالى- داعياتٍ على مَن ظلم أباهن.
إنّ الحقّ هو غايةُ كل مسلم صادق، والصراعُ بين الحق والباطل قديم منذ خلق الله -رب العالمين- آدمَ وزوجَه، وأمرَ اللهُ -رب العالمين- الشيطانَ أن يسجدَ لآدمَ فأبى وعصا وكان من الكافرين..
العداوةُ دائرةٌ، والخصومةُ قائمةٌ، والصراعُ بين الحق والباطل لا يَفْتُرُ أبدًا ولا طَرْفَةَ عينٍ!! ومَن وفقه الله -رب العالمين- لمعرفة الحق، فهي مِنّةٌ من الله مَمنونة، ونعمةٌ من الله مُسْدَاة، فعليه أن يضرعَ إلى الله أن يُمَسِّكَه ما مَسَّكَه إياه ربُّه، وأن يُثَبِّته عليه، وأن يقبضه عليه، وأن يحشره في زُمْرَة مَن جاء به -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
ولا تبالِ ما دمتَ على الجادة بنعيق الغربان على الخرائب؛ فذلكَ أمرٌ لابد منه، فاثبت -ثبتني الله وإياك على الهُدى والحق والرشاد-.
واعلم أنه إنْ قتلكَ الحقُّ مُتَّ شهيدًا، وإنْ عِشْتَ عِشْتَ حميدًا ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].
تمسَّكْ بالحق، واثْبُت عليه، واسألْ ربك الذي أنعم عليك به أن يُثَبِّتَكَ عليه حتى يقبضك عليه، وأن يحشرك في زُمْرَةِ أهله.
وأما ما يدور حولك، فاجعله دَبْرَ أُذنك أو تحت مَواطئ قدميكَ، وانظر إلى ما أمام أمام، ولا تُبالِ بالناس؛ لأنّ نبيك -صلى الله عليه وآله وسلم- قد أخبرك أنكَ ستلقى حُثالةً أو حُفالةً من الناس مَرَجَت عهودُهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبّك بين أصابعه-، خذ ما تعرف -وقد هُديتَ- ودع ما تُنكر -وقد جنّبك- وعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر عامتك.
ما مقصودُ الدعوة عند كل داعٍ في كل سبيل على كل مذهب من أهل القبلة؟ ما مقصود الدعوة؟!
مقصودها: إقامةُ الدين.
كيف يُقام الدين مع مخالفته؟!! كيف تُقام المِلةُ مع مجانبتها؟!! كيف تُحقَّقُ الشريعةُ مع تبديلها؟!!
هذا أمرٌ عجيب!! ولكن كما أخبر المصطفى المختارُ أنه سيأتي على الناس زمانٌ تُسلب عقولُ أهله حتى ما يبقى لهم إلا ذَرْو!! كأنه الخيطُ الفاصل والحدُّ الشَّفِيفُ بين الإنسانية والحيوانية.. والله -تبارك وتعالى- المستعان وعليه التكلان.
ولا تبتئس -أيها السُّنيُّ على منهاج النبوة- ثبتني الله وإياك، ثبتكم الله يا أهل الحق على منهاج النبوة في مشارق الأرض ومغاربها.
لا تبتئسوا؛ فإنّ سعدَ بن مالكٍ -هو ابن أبي وقاص- ما زال أهل الكوفة يلمزونه حتى رفعوا إلى عمر -رضوان الله عليه- أنه لا يُحسنُ يصلي!!! وهو خالُ رسول الله!! الذي فدّاه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأبويه!! ارمِ فداكَ أبي وأمي!!
لا يُحسنُ يصلي؟!!
وأرسل عمر إلى الكوفة مَن يسأل عنه، فما ترك -مَن أرسله عمر- مسجدًا ولا مجلسًا إلا سأل عنه، والناس يُثنون حتى قام رجلٌ فطعن في سعدٍ -رضوان الله عليه-، فقال سعد: اللهم إن كان هذا قد قام فقال ما قال ابتغاء وجهك، والتماس مرضاتك، فاغفر لي وله، واعفُ عني وعنه، ووفقني وإياه لكل خير -هذا طالبُ حقٍ وإنْ أخطأ، هذا مُلْتَمِسُ هدايةٍ وإنْ ضلّ عن الصراط- وإنْ كان قد قال ما قال رِئاءً وسمعة، لا ابتغاءَ وجهكَ، ولا التماسَ مرضاتك، فأطلْ عُمرَه، وعَرِّضه للفتن.
فأطال اللهُ عُمرَ الرجل حتى كان لا يستطيع أن يرفعَ جَفْنَهُ عن حَدَقَتِهِ إلا بإصبعه يُبصرُ ما أمامه إنْ أبصرَ، وهو في هذه السِّن المرتفعة يتعرض للجواري على أفواه الطرقات!! يُعاكسهن -وعرِّضه للفتن-.
فاللهم إنْ كان مَن يقول، يقول ما يقول ابتغاءَ وجهك، والتماس مرضاتك، فاغفر لنا وله، واعفُ عنا وعنه، ووفقنا وإياه لكل خير.
وإنْ كان مَن يقول، يقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، لا التماسَ مرضاتك، ولا ابتغاء وجهك، فَأَرِنَا فيه آية، واقصمْ ظهرَه، وأعمِ بصرَه، وعَرِّضه للفتن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفرَّغه/
أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد المصريّ
29 من ربيع الأول 1433 هـ، الموافق 21/2/2012 م.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ لله والصلاةُ والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هداه... وبعدُ:
عناصر الخطبة:
1. إنّ الخيانة هى من أحط الأخلاق وأسلفها.
2. الآيات التى ذُكر فيها لفظ الخيانة أو أحد مشتقاتها فى القرآن الكريم.
3. الأحاديث التى ذُكر فيها لفظ الخيانة أو أحد مشتقاتها.
4. أقوال بعض السلف وأهل العلم فى الخيانة.
5. من الفجور فى الخصومة هى الخيانة والسوءة الاخلاقية ... ونحن نحترم من خالفنا حتى يصل إلى السوءة الأخلاقية عندئذ نعتبره كأن لم يكن، ولولا أن اسم الشيخ قد تم ذكره وتعيينه صراحة ما رد الشيخ على مَن خالفه وعليه وجب الرد لا لنصرة الشيخ نفسه ولكن نصرةً للدين لتعريف الناس حقيقة ما يقول هذا المتكلم لمعرفة موطن النزاع، وهو: تبديل الدين وتغيير معالم الملة!!
6. تأصيل علمى دقيق لقضية خلق القرآن وماحدث للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وما موقفه .. لأنّ الأمر لم يكن فى قضية خلق القرآن وحسب!! بل إنّ الأمر عقيدة ودين وما كان خلف تلك القضية من ثوابت أخرى كان من الممكن أن تتبدل وأن تتغير ... وهو ما يحدث اليوم ... تغييرًا للملة والشريعة..
7. من مظاهر تغيير العقيدة فى هذه الأيام أن هناك مَن يقول: إن الديمقراطية من الإسلام ويطالب بالسكوت على ذلك ولا يريد أن يتكلم العلماء ليبينوا للناس هذا التبديل فى دعائم الإسلام وهذا هو موطن النزاع.
8. بيان أن الشيخ لا يرد ولا يلتفت إلى السب أو الشتم أو الغمز أو اللمز وأن هذا كله لايعنيه وأن كل هذا تحت قدميه ولكن ما يعنيه هو صيانة الشريعة .. وعلى كل حال لقد تطاول على الشيخ كثيرًا من السفهاء ولا بأس أن يزداد عدد السفهاء سفيهًا أو سفيهين.
9. يؤيد الله -عز وجل- لأمة الإسلام في كل حقبة من الزمن مَن يقودها إلى الحق، فرغم شدة المحنة، وألم العذاب، كان القرار الجريء من الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بالثبات على الحق في محنة خلق القرآن، هذه المحنة التي عصفت بالأمة في تلك الحقبة من تاريخنا.
10. ذكر ما حدث فى مجلس المعتصم وقاضيه أحمد بن أبي دؤاد الذى قال بخلق القرآن للمأمون ثم للمعتصم وثبات الامام أحمد بن حنبل على ما هو عليه وقوله أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصبر ابن حنبل حتى انتهت المحنة ولهذا لُقِّبَ بالإمام ولم يقل يومًا أو لحظة أن القرآن مخلوق بل قال: إن القرآن كلام الله وثبت على ذلك ولم يتلون فى الدين أو يغير فى الثوابت.
11. ضرب الشيخ مثلاً لمن خالفه .. فى قصةٍ حكاها له .. فأخذ بعض الأشخاص على الشبكة العنكبوتية هذه القصة وأتوا بكلام الشيخ ووضعوه على صور لأشخاص وعينوهم .. هل يُلام الشيخ على فعل ذلك؟!!
وهل يكون مخالفه مُنصفًا إذا قال ذلك؟! وهل يحق له أن يشنِّع على الشيخ بدون وجه حق؟! هذه والله حيلة خسيسة.
12. لا نملك إلا أن نقول ... يا أخي اتلهى جاك البلا ... فى بطنك المتدلدلة... روح اترمى فى مزبلة ... واكفى الماجور على الخبر.
13. لقد أعزّ الله الإسلام بأبي بكر يوم الردة وبأحمد يوم المحنة وفى قصة الشيخ أبو عبد الرحمن بن محمد بن إسحق الأسدي ومناظرته أحمد بن أبي دؤاد فى مجلس الواثق والتى كانت سببًا فى هداية الواثق وبكاؤه فى هذه القصة تأكيدًا أن من واجبنا اليوم صيانة الشريعة رغم كل التحديات.
14. رسالة ونصيحة إلى أهل السنة والجماعة فى مشارق الارض ومغاربها لا تبتأسوا واصبروا ... وتذكروا دعوة سعد بن أبي وقاص للرجل الذى طعن فيه عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وما كانت نتيجة هذه الدعوة .. وأبشروا بنصر المولى عزوجل).اهـ [نقلاً عن صفحة "مجموعة دروس فضيلة الشيخ محمد سعيد الرسلان" على الفيس بوك بتصرفٍ يسيرٍ].
لتحميل التفريغ بصيغة PDF - جاهز للطباعة والنشر - 19 ورقة
اضغط هنا للتحميل.
لتحميل التفريغ بصيغة DOC - للنسخ واللصق والتعديل
اضغط هنا للتحميل.
صورة من ملف التفريغ:
القراءة المباشرة:
إن الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أمّا بعدُ؛ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-، وشرّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أمّا بعدُ:
فإنّ الخيانةَ من أَحَطِّ الأخلاق وأسفلِها، وهي قبيحةٌ في كل شيء، وبعضها شرٌّ من بعض، وهي ثمرة الكُفر أو النفاق، قال -تعالى-: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 102].
وقال -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38].
وقال -تعالى-: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58].
وقال -تعالى-: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 71].
وقال -تعالى-: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105-107].
وقال -تعالى-: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يُوسف: 52].
والخيانة: هي التفريط في الأمانة؛ فهي تفريط فيما يُؤتمن الإنسان عليه، والخيانة في الأمانات وأعلاها الدين، والوَدِيعَةِ، والعين المرهونة، والمستأجرة، أو غير ذلك من الكبائر، وهي من علامات النفاق.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- فيما أخرجه الشيخان، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كَذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان).
وفي الصحيحين -واللفظ لمسلمٍ- عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: (أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصْلَةٌ منهم كانت فيه خَصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمنَ خان، وإذا حدّث كَذَب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فجر).
وأخرج أبو داود بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البِطانة).
وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن عِمران بن حُصَين -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (خيركم قَرْنِي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال عِمران: لا أدري أَذَكَرَ النبي -صلى الله عليه وسلّم- بَعْدُ قرنين أو ثلاثة.
قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (إنّ بعدكم قومًا يخونون ولا يُؤتمنون، ويشهدون ولا يُستشهدون، وينذرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمَن).
وأخرج أحمد، وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: (سيأتي على الناس سنواتٌ خدّاعات: يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُخوّن فيها الأمين، ويُؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرُّوَيبضة). قال: قِيلَ: يا رسول الله، وما الرُّوَيبضة؟! قال: (السفيه يتكلم في أمر العامة).
قال ابن قدامة: وحدثني يحيى بن سعيد الأنصاري عن المَقْبُرِيِّ قال: (وتشيع فيها الفاحشة). يعني: في السنوات الخدّاعات، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- ما فيها من اختلال الأحوال، وانعكاس الأمور، وتبدّل القيم، وانمحاق المُثُل: يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُخوّن فيها الأمين، ويُؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرُّوَيبضة، وهو السفيه يتكلم في أمر العامة.
قال غَيْلان بن سلمة الثقفي:
وإني -بحمد الله- لا ثوبَ غادرٍ
لبستُ ولا من غَدْرَةٍ أتقنَّعُ.
وقال الشاعر:
أَخْلِقْ بمَن رضي الخيانةَ شيمةً
ألا يُرى إِلا صريعَ حوادثِ
ما زالت الأرزاءُ تُلْحِقُ بؤسها
أبدًا بغادرِ ذِمّةٍ أو ناكثِ
وقال أبو تمام:
رأيتُ الحُرَّ يجتنبُ المَخازي
ويحميه عن الغَدر الوفاءُ
وقال الأعورُ الشِّنِّيُّ:
لا تأمننّ امرءًا خان امرءًا أبدًا
إنّ من الناس ذا وجهين خَوَّانًا.
وقال الشاعر:
هو الذئبُ أو للذئبُ أوفى أمانةً
وما منهما إلا أَذَلُّ خئونُ.
وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسنادٍ صحيح عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم-: (إنّ روح القدس نفث في رُوعي أنّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ أجلها، وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّ أحدكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإنّ الله -تعالى- لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته).
فإنّ الله -تعالى- لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته، فمَن سلكَ سبيل طاعته أناله الله مراده، ومَن سلكَ سبيل مرضاته حصَّل له مقصوده، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار.
واستخدام الوسائل الخسيسة، والحيل الدنيئة، والألاعيب الصبيانية لا تكون -أبدًا- سببًا للتمكين والنصرة، وشرعُ الله -تبارك وتعالى- لا يُطبَّق بمخالفته، وشرع الله -جل وعلا- لا يُطبَّق بالخروج عنه؛ فهذا لا يكون!!
والفجور في الخصومة قد يكون بتجاوز الحد: في اللفظ تارة، وفي الاستدلال تارات -وهو أسوأهما- وقد يكون بالخيانة، وإذا كان ذلك كذلك فهو أحطُّ شيء، وأسلُفه، وأَخَسُّه!!
والتردي الأخلاق، والسوءة الأخلاقية إذا أبداها امرؤٌ أعرضنا عنه كإعراض السباع عن الجيف!! وما يزال الرجل علي كريمًا، وعندي مرفوع القَدْر -وإنْ خالفني، وإنْ جار وظلم واعتدى- حتى يُبدي سوءته الأخلاقية، حينئذٍ ينمحق فلا وجود له!! وإنما هو هَباءٌ!!.. لا، بل هو عَدَم!! بل هو لا شيء!!
إلا التردي في السوءة الأخلاقية؛ لأن المرء لا يُمكن أن يحصِّل خيرًا يصل إلى شاطئه وهو يخوض إليه في بركة من النَّتَنِ والوَحْل والطين!!
كيف يصل إلى غايته نظيفَ الثوب والبدن فضلاً عن نظافة القلب والروح، وهو يخوض في الأوحال، وهو يتردى في القاذورات، وهو يتنزل إلى السفالات؟!!
وما ظنك برجل حَطَّ عليك، ونزل دارك، فأطلق فيكَ لسانَه، وعقد لذلك المجالس؟!! ولولا أنّ اسمكَ ذُكر صراحةً بحيث يعتقد مَن يسمع بعدُ إلى نهايات جلسات غِيبته وفجوره.. لولا أنّ مَن يسمع بعدُ يعتقد أنه يقصدك بكلامه، ما التفتَّ إليها، وما عَوّلتَ عليها، وما اعتبرت له وجودًا في الحياة!! لم يُخلق!! وإذا لم يُخلق، ولم يكن مخلوقًا؛ فماذا يضير العَالَم؟!! لعله كان يكون أحسن حالاً.
رجلٌ ينزل ديارك ثم يناوشك ظلمًا وجورًا وطغيانًا!! لو ظل الكلامُ مبهمًا فما أكثر الذين يُهَرِّفُون: ينبحون، ينعقون، ينهقون!! في كل قناةٍ، ومنتدى، وموقعٍ، وجريدةٍ، ومجلةٍ، ونادٍ، ووادٍ!!
أو كلما طَنَّ الذبابُ طردته=إنّ الذبابَ -إذًا- علي كريمُ!!
لكن تُعَيَّب.. لابد أن تنتصرَ، لا لنفسك -فلا حظ لها ولله الحمد والمنة- ولكن للدين؛ لأن القوم لا يعلمون موطن الخصومة، ولا موضع النزاع إلى يوم الناس هذا.
حماقةٌ سابغة بذيلها، ضافية بثوبها، ولا أحدَ يفهم شيئًا!! ولا أحد يبصر أمامه، ينظرون إليك ولا يبصرونك، يخبط في كل واد، جاءك مُثْخَنًا بجراحات معاركه الفاشلة، وغزواته ذات الهزائم النكراء، تكلّمه فيما مَسَّكَ فيه لا تتجاوزه، وهو معكوس الفهم يخبط في كل واد، نكلمك فيما تتكلم فيه قاصدًا، لا علاقة لنا بما وراءك، هذا قد أعفانا غيرنا عن تناوله، وعُدت مُثْخَنًا بجراحات معارك الفاشلة، فعففنا عن ذلك، ولم نلتفت إليه، وإنما نراجعك فيما تتكلم فيه، معكوس الفهم!! بَلِيدُه!!
وما هو موطن النزاع؟! أهو هذه الترهات التي يُنعقُ بها في كل واد؟! ويُزعق بها في كل ناد؟! أهو هذه المشاجرات كمشاجرات النساء في الأَزِقَّة والحواري؟!!
فلننظر: كان المسلمون على قانون السلف من أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غيرُ مخلوق حتى نبغت المعتزلة والجهمية، فقالوا في صفات الله -سبحانه- ما قالوا، وقيل: بخلق القرآن.
ولكنْ مقالةٌ تحت سِتْر مادامت دولة الرشيد، وكان الرشيد -رحمه الله- عندما بلغه أن بِشْرَ بن غِيَاث يقول: القرآن مخلوق، فقال: لله علي إن أظفرني به لأقتلنه، فكان بِشْرٌ متواريًا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بِشْرٌ ودعا إلى الضلالة.
قال الذهبي: ثم إن المأمون نظر في الكلام، أي في علم الكلام، في علوم الأوائل التي تُرجمت لما استُجلبت كتبها في عهده، فنظر فيها وأُولع بها، وباحث المعتزلة، وبقي يقدِّم رجلاً ويؤخِّر أخرى في دعاء الناس -أي في دعوتهم- إلى القول بخلق القرآن إلى أن قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها.
ومسألة خلق القرآن ليست محصورةً في القول بخلق القرآن، وإنما هذه علامة على ما وراء ذلك من المعتقد: من نفي صفات الله -جل وعلا- بل غالت الجهمية، فنفت عن الله أسماءه -جل وعلا- فلم يُثْبِتُوا لله -رب العالمين- لا اسمًا ولا صفة!!
فكانت الساحة التي دارت فيها المعركة ما يتعلق بخلق القرآن، وأما خلفية ذلك فما وراء القول بخلق القرآن من المعتقد: معتقد الجهمية والمعتزلة من نفي صفات الرب الجليل -جل وعلا- والقولِ بالقدر.
قال صالح بن أحمد -رحمهما الله تعالى-: حُمل أبي -يعني: الإمام أحمد- ومحمد بن نوحٍ مُقيدين فسرنا معهما إلى الأنبار، وكان المأمون قد كتب إلى عامله ببغداد أنه إذا جاءك كتابي هذا؛ فأرسل إليّ ذلك الجاهل: أحمد بن حنبل، فامتثل الرجل وأرسل أحمد ومحمد بن نوح..
قال صالح: فسرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكرٍ الأحولُ أبي، فقال: يا أبا عبدالله إنْ عُرضت على السيف تُجيب؟! قال: لا.
ثم سُيرا فسمعتُ أبي يقول: صرنا إلى الرَّحْبَة -وهي بين الرَّقَّةِ وبغداد- ورحلنا منها وذلك في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟
فقيل له: هذا. فقال للجمال: على رِسْلِكَ! ثم قال: يا هذا! -يقول لأحمد- ما عليكَ أن تُقتل ها هنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
قال: فسألتُ عنه، فقيل لي: هذا رجلٌ من العرب من ربيعة يعمل الشَّعَر، وفي رواية حنبل: يعمل الصوف في البادية، يُقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير.
يقول أحمد -رحمه الله-: ما سمعتُ كلمةً منذ وقعتُ في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلّمني بها في رَحْبَةِ طَوْق، قال: يا أحمد، إنْ يقتلك الحقُّ مُتَّ شهيدًا، وإنْ عشتَ عشتَ حميدًا. قال: فَقَوِيَ قلبي.
لأجل ماذا؟! لقد أجاب علي بن المديني!! -تقيةً- وهو الجبل الراسخُ الذي قال فيه البخاري: ما احتقرتُ نفسي في مجلس أحدٍ ما احتقرتها في مجلس علي بن المديني.
ولكنه أجاب -تقيةً- وكذا أجاب يحيى بن معين!! وهو مَن هو كأنما خلقه الله لهذا الشأن، جِهْبِذٌ من جهابذة النقاد، ومن الرواة الأثبات، جبلٌ، عَلم، ولكنه أجاب بخلق القرآن -تقيةً-.
وآلَ أحمد على نفسه ألا يكلم أحدًا أجاب في المحنة قط! آخذًا بالرخصة؛ لأنه لم يعتدها رخصة!! فإنّ عليًا لما دخل عليه وهو مريضٌ حوّل وجهه إلى الحائط ولم يلتفت إليه، ولم يرد عليه سلامًا حتى خرج.
وكان أحمد (هكذا سمعتها، ولعلها: أحدُهم) يعتذر بأنه مضطر كما وقع لعمار، فلما خرج ولم يُكلمه، قال: يعتذرون بما وقع لعمار، وإنما عُرض على عمارٍ ما عُرض من الموت الأحمر!! فأجاب، وهؤلاء قيل لهم: قولوا، فقالوا!!
فلم يكلمهم حتى مات!! لأجل ماذا؟! لأجل حفظ العقيدة، وتثبيت دعائم المِلّة..
الأمر أكبر بكثيرٍ جدًا مما يذهب إليه الذهنُ الفَطِير، الكليلُ، الحَسِير، الذي لا ينظر في أعماق الأمور، إنما يتوقف عند السطوح وظواهر الأشياء!! ولا يلتفت إلى مآلات الأجيال القادمة!!
فإنّ أبا زرعة لما حُبس أحمد -رحمه الله تعالى- ودخل عليه، فقال: علام تقتل نفسك؟!! أجاب فلانٌ وفلانٌ! فأجب -تقيةً- ثم إذا ما انقشعت الغُمّة، وزالت المحنة، قرِّر عقيدة السلف من الصحابة ومَن تبعهم إلى عهدك، وهي ما جاء به رسول الله.
فقال له: اخرج، فانظر ثم ائتني، فخرج، فنظر، فعاد، قال: ما وجدتَ؟ قال: وجدتُ ألوفًا مؤلفة!! وفي رواية: وجدتُ مائة ألف من طلاب العلم معهم المحابرُ والأقلام والأوراق، كلهم يقول: ماذا قال أحمد؟!! قال: أقتلُ نفسي ولا أُضل هؤلاء؟!!
تبديل الملة!! تغيير دعائم الشريعة!!
ولو نظرتَ إلى الأمر مُسَطَّحًا، وما في أن يقول قائلٌ: القرآن مخلوق -تقيةً- ثم ينتهي الأمر!!
هذا تبديلٌ للعقيدة!! تغيير للشريعة!! تمامًا كما يقول قائل: وماذا في أن نقول: (الديمقراطية) من الإسلام!! .. (مَشِّهَا) (مَشِّهَا) ثم بعد قفْ عندها.
هذا موطن النزاع أن الدين يُغَيَّر!! وأنّ المعالم تُبَدَّل!! وأنّ الشكايات تُرفع إلى مَن هم في سُدَّة الحُكم ومواطن التنفيذ: أغيثونا!! أدركونا!! فلانٌ من الخطباء أو من المعلمين يقول: إنّ أهل الكتاب كفّار!!!
تبديل المواطن العقدية!! .. هذه هي القضية، وأما تلك الطنطنات الفارغة التي يدور بها القوم في منتدياتهم، وفي قنواتهم، وفي أحوالهم .. هذه لا تعني في شيء!! وما على المرء بأس لو شتمه جميعُ الناس، وصِينت الديانة.
فأما الشتمُ، وأما السبُّ، وأما اللمزُ، وأما الهمزُ، وأما الغمزُ، فهذا تحت مواطئ قدميّ!! مع صيانة الشريعة.
وأنا امرؤٌ مُبتلاً بالسفهاء منذ نشأتُ!! ولا يضيرني -أبدًا بفضل الله ورحمته- أن يزداد عدد السفهاء واحدًا أو اثنين!! أيُّ شيءٍ في هذا؟!!
قتل تسعة وتسعين نفسًا، فلما سأل العابد: هل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله! كَمَّلَ به المائة! أيُّ شيء؟!!
ثبتَ محمد بن نوح -رحمه الله- مع أحمد ثباتًا عظيمًا، يقول أحمد -رحمه الله-: ما رأيتُ أحدًا على حداثة سنِّه وقَدْر علمه، أقومَ بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون قد خُتمَ له بخيرٍ..
قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، اللهَ.. اللهَ إنكَ لستَ كمثلي، إنكَ رجلٌ يُقتدى بكَ، قد مَدَّ الخَلقُ أعناقهم إليكَ لما يكون منكَ، فاتقِ الله واثبت لأمر الله أو نحو هذا، فمات وصليتُ عليه ودفنته.
قال أحمد: ومكث أحمد في السجن نحوًا من ثلاثين شهرًا!! ثم دُعي بين يدي المعتصم، قال صالح بن أحمد: فجعل أحمد بن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمُغضَب.
قال أبي: وكان هذا يتكلم فأردُّ عليه، ويتكلم هذا فأردُّ عليه، فإذا انقطع الرجلُ منهم، اعترض ابن أبي دؤاد، فيقول: يا أمير المؤمنين هو -يعني: الإمام أحمد- هو والله ضالٌ مبتدع!!
رأسُ البدعة في زمانه يُقسم بالله -لا يتلبث!!- أنّ أحمد بن حنبل -وهو رأس السُّنة في زمانه- ضالٌ مبتدع!!!
فيقول: كلّموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأردُّ عليه، ويكلمني هذا فأردُّ عليه، فإذا انقطعوا يقول لي المعتصمُ: ويحكَ يا أحمد!! ما تقول؟!
فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله، أو سنة رسول الله حتى أقولَ به، ويُقبِلُ ابن أبي دؤادٍ على أحمد يُكلّمه، فلا يلتفت أحمد إليه!! حتى يقول المعتصم: يا أحمد، ألا تُكلّم أبا عبد الله؟! -يقصد ابن أبي دؤاد- فيقول أحمد: لستُ أعرفه من أهل العِلم فأكلمه!!
مَن هذا؟! لستُ أعرفه من أهل العِلم حتى أكلمه!! هذا مُعَثَّر!! مُخَبِّط!! يُضِلُّ أهل السنة، ويحرِف المؤمنين عن الصراط المستقيم، كيف أكلّم مثل هذا؟!!
يقول ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين إنْ أجابك لهو أحبُّ إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار، فَيَعُد من ذلك ما شاء الله أن يَعُد.
فيقول المعتصم: والله لإن أجابني لأطلقنّ عنه بيدي، ولأركبنّ إليه بجندي، ولأطأنّ عَقِبَه -يعني: لأتزوجنّ من بيته- ثم قال: يا أحمد، والله إني عليكَ لشفيق، وإني لأُشْفِقُ عليكَ كشفقتي على ابني (هارون)، ما تقول؟!
قال: فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وأمر المعتصم بضرب الإمام، فَقُدِّمَ فضُرب تسعة عشر سَوطًا!!
قال أحمد: فلما ضُربت تسعة عشر سَوطًا، قام إليّ -يعني: المعتصم- وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق.
قال: فجعل عُجَيْفٌ -السياف- ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟!!
وجعل بعضهم يقول: ويلك!! الخليفة على رأسك قائمٌ!!
وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمُه في عنقي!! اقتله!!
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنتَ صائم، وأنتَ في الشمس قائم -وأما هذا الإمام المضروب، وقد بلغ من السِّن ما بلغ، ووقع عليه من مَسِّ حَرِّ عذاب السياط ما وقع، فهذا لا يُلتفت إليه!!-
أنتَ في الشمس قائمٌ !! يا أمير المؤمنين.. فقال المعتصم لي: ويحكَ يا أحمد، ما تقول؟! فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقولُ به.
فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدَّم وأَوْجِعْ!! قطعَ اللهُ يدكَ!! ثم قام الثانية، فجعل يقول: ويحكَ يا أحمد! أجبني، فجعلوا يُقبلون عليّ ويقولون: يا أحمد إمامُك على رأسكَ قائمٌ، وجعل عبدالرحمن يقول: مَن صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟!! -لمَ لا تقول كما قالوا؟!! لمَ لا تدخل الموجة؟! لمَ لا تسير في القطيع؟! لمَ تنتحِ ناحيةً؟! مُشْرِفًا على قمم الذُّرَا السَّامِقَات.
وجعل المعتصم يقول: ويحك! أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فَرَج أُطْلِقُ عنكَ بيديّ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أقول به، فيرجع، وقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شُد قطعَ الله يدكَ! -يقولها المعتصم للجلاد-.
وقال أحمد: فذهب عقلي!! من شدة الألم، فأفقتُ بعد ذلك، فإذا الأقيادُ قد أُطلقت عني، فقال لي رجلٌ ممن حضر: إنّا كببناكَ على وجهكَ!! وطرحنا على ظهركَ (بَارِيَّةً) -وهو حصيرٌ منسوجٌ يُجلس عليه- ودسناكَ بالأقدام!! قال أحمد: فما شعرتُ بذلك.
حدَّث عبد الله بن محمد بن الفضل الأسديُّ، قال: لما حُمل أحمد ليُضرب جاءوا إلى بِشر بن الحارث، فقالوا: قد حُمل أحمد بن حنبل وحُملت السياط، وقد وجب عليك أن تتكلم، فقال: أتريدون مني مقام الأنبياء؟!! ليس ذا عندي، حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه.
قال صالح بن أحمد: صار أبي إلى المنزل، ووُجّه إليه من السَّحَرِ مَن يُبصر الضربَ والجراحات ليعالجه منها، فنظر إليها، فقال لنا: والله لقد رأيتُ مَن ضُربَ ألفَ سَوطٍ ما رأيتُ ضربًا أشدَّ من هذا، لقد جُرَّ عليه من خلفه ومن قُدَّامه، ثم أدخل (مِيلاً) -وهو ما يُسبر به عُمق الجرح في بعض تلك الجراحات- وقال: لم يَنْقَب، فجعل يأتيه ويعالجه.
وكان قد أصاب وجهه غيرُ ضربة، ثم مكث يُعالجه إلى ما شاء الله، ثم قال: إنّ ها هنا شيئًا أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة، فجعل يُعلِّق اللحمَ -لحمَ الإمام- بها ويقطعه بالسكين، وهو -أي أحمد- صابرٌ يحمد الله، فبرأ، ولم يزل يتوجع من مواضع فيه، وكان أثر الضرب بيّنًا في ظهره إلى أن تُوفيّ -رحمه الله-.
هذه أطرافٌ من المحنة كما رواها الذهبيّ وغيرُه، فيها: ظلال الرغبة والخوف، وكأنها كَوْنٌ كاملٌ، وعَالَمٌ شاملٌ، فيه الليل والنهار يتقابلان ولا يتعاقبان.
فيها الليلُ بظلمته، ورهبته، وسَتْرِهِ على الخيانة والغَدر، فذلك مَثَلُ أعداء أحمد، وفيها الصبحُ بإشراقه، ووداعَته، ورقة حاشيته، وجمال إطلالته، وذلك مَثَلُ الإمام أحمد.
لقد ثبت أحمد حتى استحقَّ الإمامة، فأصبحت عَلمًا عليه، فإذا ذُكر لقبُ الإمام انصرفَ اللفظُ إليه.
وما كان أحمد إمامًا بإذلاله لعلمه أمام الجبروت والسَّطوة!! وإنما بإعزاز علمه، وإعزاز المحل الذي أحلَّه الله فيه، فرحمةُ الله -تعالى- وبركاته على الإمام أحمد.
قال الذهبي: قال ابن عَقِيل: من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهّال أنهم يقولون: أحمدُ ليس بفقيه!! لكنه مُحدِّث.
قال: وهذا غايةُ الجهل!! لأنّ له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم وربما زاد على كبارهم.
قال الذهبي: أحسبهم يظنونه كان مُحدِّثًا و(بَسْ) -و(بَسْ): أي حَسْب، وهي كلمةٌ فارسية دخلت اللغة العربية- بل يتخيلونه من بابَة مُحدثي زماننا -زمن الذهبي- ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، وفي الزهد والورع رتبة الفضيل، وإبراهيم بن أدهم، وفي الحفظ رتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني.
ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟!! اهـ
صانوا العِلم الذي أتاهم الله إياه، فصانهم الله -رب العالمين- به.
يَقُولونَ لِيْ فِيْكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّما
رَأَوا رَجلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ مُهَانَ عِنْدَهمْ
وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لي يَسْتَفِزُّنِي
ولا كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
وَإِنِّي إذا ما فَاتَنِي الأَمْرُ لَمْ أَبِتْ
أُقَلِّبُ كَفِّي إِثْرَهُ مُتَنَدِّمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كانَ كُلَّمَا
بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
إذا قِيلَ: هذا مَنْهَلٌ، قُلْتُ قَدْ أَرَى
وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
ولم أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي
لأَخْدِمَ مَن لاقَيْتُ لكنْ لأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً
إِذِنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أَحْزَمَا
ولو أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهَمْ
ولو عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
ولكنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
موطن النزاع ما هو؟! ما هو موضع الخصومة؟!
تبديل الشريعة!! تغيير دعائم الملة!! تحريف العقيدة!! إدخالُ الشركيات، والخزعبلات، والخرافات، والبدع، والأهواء!! فيما جاء به سيد الأنبياء -صلى الله عليه وآله وسلّم-.. هذا موطن النزاع، وهذا ما يُقاتل دونه.
دون أي شيءٍ كان يُقاتل أحمد؟!! مكشوفَ الصدر والظهر!! وما له إلا ما جعل الله من جُنَّة تَقِيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه، فثبّته الله وحفظه.
فكان ماذا؟! كان أن انحسرت أمواج المحنة، وذهب الزَّبَدُ جُفاءً، وبقي في الأرض ما ينفع الناس.
دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن، وعُذِّبَ الأئمة الأعلام في عهد المعتصم!!، وقُتل بعضُهم في عهد الواثق!!
دون أي شيءٍ يقاتلون؟! أحمد بن حنبل، أحمد بن نصر الخُزاعيّ، أبو نُعَيم، البويطي، في أَضْرَابٍ لهم من الأئمة الأعلام.. دون أي شيءٍ يقاتلون؟!!
دون هذه العبارة؟!! القرآن مخلوق!!
لو قالوها سَلِمُوا!! -ظاهرًا- وأُجْرِي عليهم الإنعامُ سابِغًا، وأُعليت مراتبهم، وذُكروا في المحامل والمجامع وعلى رؤوس الأشهاد!! لكنهم قاتلوا دونها.. القرآنُ كلامُ الله غَيْرُ مخلوق.. صفته، وصفاته كذاته.
دونها قاتلوا: عُذِّبوا!! ودِيسوا بالأقدام!! وحُدِّدت إقاماتهم!! ومُنعت رواتبهم مما كان يُجرى عليهم من بيت المال!! ومُنعوا من الخطابة والتحديث والتعليم حتى من تعليم القرآن في المكاتب!! وعلا المبتدعةُ رؤوسَ المنابر!!
والمنابرُ في ذلك الزمان كـ (قنوات الضلال) في هذا الزمان!! فكان ماذا؟! جاء المتوكلُ.. رفعَ اللهُ به المحنة، وعاد الأمرُ إلى أصله.
ما هو موطن النزاع؟!!
تغييرُ دين الله!!
ما هو موطن الخلاف؟!!
هو تبديل الشريعة!!
وليس هذا الذي تسمعه، ولا بتلك الوسائل الصبيانية، والألاعيب الشيطانية التي يأتي بها أقوامٌ لا يرقبون في مؤمنٍ إِلاً ولا ذِمّةً..
قاتلْ بشرف وأنتَ على الرأسِ؛ حتى تَفِيء، وأما الانحدارُ الأخلاقيّ، وأما السوءةُ الخُلقية تمحَقُكَ مَحْقًا.
أنتم تعلمون، والدنيا كلها تعلم، والإنس والجن يعلمون أنّ الشبكة العنكبوتية مملوءةٌ بما يُرَّكب من صورٍ على كلامٍ وعلى أشخاصٍ، عالَمٌ لا يدري أحدٌ مداه، ولا يعلمه سوى الله.
وما من أحدٍ يُسأل عن شيءٍ كذلك إلا إذا ثبتَ أنه له؛ فإذا جِيء بأشخاصٍ رُكِّبوا على أجساد، وجِيءَ بكلامٍ فمَن المُلام؟! مَن المَلُوم؟!! مَن المَلِيم؟!!!
وضربنا لهم مثلاً، فقلتُ لهم: قلتُ: جاءني البارحةَ ثلاثةُ نَفر:
فأما الأولُ: فبطيء الفهم بَلِيدُه كأنه حمار!! وأما الآخرُ: فَوَبِيلُ الطبع، خَسِيسُه كأنه خِنزير!! وأما الثالثُ: فخبيثُ المَرْآة، كريه المنظر كأنه ابنُ عِرس!!
عَيَّنَّا أحدًا؟!! لمزنا بذلك إنسانًا؟!!
فجاء رجلٌ، فأتى بصورة رأس مُقدِّم برامج فجعله على جسد حمار، وجاء بصورة رأس شيخه فجعلها على بدن خنزير، وجاء بصورة رأس ضيفه فجعلها على جسم ابنِ عِرْس، ثم جاء بالكلام الآنِفِ: جاءني بالأمس ثلاثةُ نَفَر، كذا وكذا وكذا، وعرض ذلك.. تلومني؟!! وتكون منصفًا إنْ لمتني؟!! فضلاً عن أن تُشَنِّع عند العوام الذين لا يفهمون!!
هذه حِيلةٌ خَسيسة!! لا نقبل هذا، سقط هؤلاء في مَزْبَلَة!! وقل لهم: ( يا أخي اتْلِهِي!! دَاكْ البَلَى في بَطْنَك المِدَّلْدِلَة!!، رُوح اتْرِمِي في مَزْبَلِة!! واكْفِ المَاجُور على الخبر)، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله رب العالمين، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
ما مَرَّ من ذكر المحنة التي عرضت للأمة، فقال فيها وعنها الأئمة: لقد أعَزَّ اللهُ -تبارك وتعالى- ونصر هذا الدين بأبي بكرٍ يوم الرِّدة، وبأحمد يوم المحنة.
هذه المحنة بُنيت على خرافات، على تجاوزاتٍ عقلية، وخروجٍ عن مقتضى النظر الصحيح، وتأمل في هذه القصة:
أُدْخِلَ الشيخُ أبو عبدالرحمن بن محمد بن إسحاق الأسدي على الخليفة الواثق، وهو مُقيد بالسلاسل، وكان الواثقُ شديدًا جدًا على أهل السنة: قتل أحمد بن نصر بيده!! وكان يُرسل إلى قائد الجيوش عند مبادلة الأسرى مع الروم آمرًا إياه أن يختبرَ أسرى المسلمين الذين يُبادَلون بأسرى الروم أن يختبرهم وأن يسألهم: هل القرآنُ مخلوق أو غير مخلوق؟! وأمر أن مَن قال: القرآنُ مخلوق.. بادِلْ به، ومَن قال: القرآنُ كلامُ الله، فأرجعه إلى الروم!!
حتى إنه لما سأل أحمد بن نصر قبل أن يقتله، وهو على النِّطْعِ بين يديه عن رؤية الرب -تبارك وتعالى- في الجنة، ويوم القيامة، وسأله عن أمورٍ من أمور الاعتقاد عند أهل السنة تلقوها عن أصحاب الرسول عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل عن رب العزة.. فلما أجابه، قتله!! وقال: هذا يعبد ربًا غير الذي نعبده!!
موطن النزاع ما هو؟!!
هو في تبديل الشريعة، وتغيير دعائم الملة، وإدخال الشركيات، والكفريات، والمستوردات من شرائع الغرب الفاجر الكافر، والشرقِ الفاجر المُلحد على شريعة سيد ولد آدم -صلى الله عليه وآله وسلم-..
أُدْخِلَ الشيخُ على الواثق، وهو مُقيدٌ بالسلاسل، وكان شيخًا شاميًا، أمرَ قاضي القضاة أحمدُ بن أبي دؤاد باعتقالِه؛ لأنه كان يقول بقول الإمام أحمد بن حنبل في إثبات صفة الكلام لله -تعالى-.
فَسَلَّمَ لما أُدْخِلَ على الواثق غيرَ هائبٍ، ودعا للواثق فأوجز، قال له الواثق: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقال الشيخُ الأسدي: يا أمير المؤمنين هذا لا يقوى على المناظرة، فغضب الواثق لإهانته قاضي القضاة، وقال: أبو عبدالله بن أبي دؤاد يضيق أو يقل أو يضعف عن مناظرتك أنت؟!!
فقال: هَوِّنْ عليكَ يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه، فقال الواثقُ: قد أذنتُ لك.
ثم التفت الشيخُ إلى أحمد بن أبي دؤاد، وقال له: خَبِّرني يا ابن أبي دؤاد أمقالتك تلك -يقصد الشيخُ بدعته في القول بخلق القرآن- أبدعتك تلك واجبةٌ في أصول الدين، فلا يكون الدين كاملاً إلا بما قلتَ؟!
قال ابن أبي دؤاد: نعم.
قال الشيخ أبو عبدالرحمن: هل ستر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا مما أمر الله به المسلمين في أمر دينهم؟!
قال ابن أبي دؤاد: لا.
قال الشيخُ: هل دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مقالتك هذه؟!
فسكت ابن أبي دؤاد.. قال الشيخ أبو عبدالرحمن للخليفة الواثق: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة.
ثم قال: يا ابن أبي دؤاد، أخبرني عن الله -تعالى- حين أنزل ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، فقلتَ أنتَ: الدين لا يكون تامًا إلا بمقالتك في خلق القرآن، فهل كان الله -تعالى- الصادقَ في إكمال دينه، أو أنتَ الصادقُ في نقصانه؟!!
فسكتَ ابن أبي دؤاد.
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن لأمير المؤمنين الواثق: يا أمير المؤمنين، ثِنْتَان.
ثم قال: يا أحمد، مقالتُك هذه عَلِمَها رسولُ الله أم جهلها؟!
قال: عَلِمَها.
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن: أفدعا الناسَ إليها؟!
فسكتَ ابن أبي دؤاد.
قال يا أمير المؤمنين: ثلاث.
ثم قال: خَبِّرني يا أحمد لما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالتك التي دعوتَ الناسَ إليها، هل وسعه أنْ أمسكَ عنها أم لا؟!
قال أحمد: عَلِمَها وسكت عنها!!
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن: أفوسعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن علمها وأمسكَ عنها -كما زعمتَ- ولم يُطالب بها أمته؟!!
قال: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الخليفة فقال: يا أمير المؤمنين إنْ لم يسعه ما وسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السكوتَ عنه، فلا وَسَّعَ اللهُ على مَن لم يسعه ما وَسِعَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- أن يسكت عنها.
فقال الواثقُ: نعم، لا وَسَّعَ الله على مَن لم يسعه ما وَسِعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبكى وأمر بِحَلِّ قيوده، فجاذبَ الشيخُ الحدّادَ على القيود يودُّ لو يحتفظُ بها، فقال الواثقُ: ولمَ؟!
قال: نويتُ أن تُجعلَ قيودي بين جلدي وكفني؛ لأخاصم بها هذا الظالمَ يوم القيامة.. وبكى الشيخُ أبو عبدالرحمن، وبكى الواثقُ، وبكى الحاضرون.
قال الواثق: اجعلني في حِلّ.
قال: والله لقد جعلتك في حِلٍّ وَسَعَة من أول يومٍ إكرامًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ كنتَ رجلاً من أهله.
قال الواثقُ: تُقيم معي؟!
قال الشيخُ أبو عبدالرحمن: ردّك إياي إلى الموضع الذي أخذني منه هذا الظالمُ أَجْدَى عليك وأنفع لك، ثم قامَ وخرجَ.
أتدري لمَ؟! لأنه خلّف البنات خلفه يضرعن إلى الله -تبارك وتعالى- داعياتٍ على مَن ظلم أباهن.
إنّ الحقّ هو غايةُ كل مسلم صادق، والصراعُ بين الحق والباطل قديم منذ خلق الله -رب العالمين- آدمَ وزوجَه، وأمرَ اللهُ -رب العالمين- الشيطانَ أن يسجدَ لآدمَ فأبى وعصا وكان من الكافرين..
العداوةُ دائرةٌ، والخصومةُ قائمةٌ، والصراعُ بين الحق والباطل لا يَفْتُرُ أبدًا ولا طَرْفَةَ عينٍ!! ومَن وفقه الله -رب العالمين- لمعرفة الحق، فهي مِنّةٌ من الله مَمنونة، ونعمةٌ من الله مُسْدَاة، فعليه أن يضرعَ إلى الله أن يُمَسِّكَه ما مَسَّكَه إياه ربُّه، وأن يُثَبِّته عليه، وأن يقبضه عليه، وأن يحشره في زُمْرَة مَن جاء به -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
ولا تبالِ ما دمتَ على الجادة بنعيق الغربان على الخرائب؛ فذلكَ أمرٌ لابد منه، فاثبت -ثبتني الله وإياك على الهُدى والحق والرشاد-.
واعلم أنه إنْ قتلكَ الحقُّ مُتَّ شهيدًا، وإنْ عِشْتَ عِشْتَ حميدًا ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].
تمسَّكْ بالحق، واثْبُت عليه، واسألْ ربك الذي أنعم عليك به أن يُثَبِّتَكَ عليه حتى يقبضك عليه، وأن يحشرك في زُمْرَةِ أهله.
وأما ما يدور حولك، فاجعله دَبْرَ أُذنك أو تحت مَواطئ قدميكَ، وانظر إلى ما أمام أمام، ولا تُبالِ بالناس؛ لأنّ نبيك -صلى الله عليه وآله وسلم- قد أخبرك أنكَ ستلقى حُثالةً أو حُفالةً من الناس مَرَجَت عهودُهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبّك بين أصابعه-، خذ ما تعرف -وقد هُديتَ- ودع ما تُنكر -وقد جنّبك- وعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر عامتك.
ما مقصودُ الدعوة عند كل داعٍ في كل سبيل على كل مذهب من أهل القبلة؟ ما مقصود الدعوة؟!
مقصودها: إقامةُ الدين.
كيف يُقام الدين مع مخالفته؟!! كيف تُقام المِلةُ مع مجانبتها؟!! كيف تُحقَّقُ الشريعةُ مع تبديلها؟!!
هذا أمرٌ عجيب!! ولكن كما أخبر المصطفى المختارُ أنه سيأتي على الناس زمانٌ تُسلب عقولُ أهله حتى ما يبقى لهم إلا ذَرْو!! كأنه الخيطُ الفاصل والحدُّ الشَّفِيفُ بين الإنسانية والحيوانية.. والله -تبارك وتعالى- المستعان وعليه التكلان.
ولا تبتئس -أيها السُّنيُّ على منهاج النبوة- ثبتني الله وإياك، ثبتكم الله يا أهل الحق على منهاج النبوة في مشارق الأرض ومغاربها.
لا تبتئسوا؛ فإنّ سعدَ بن مالكٍ -هو ابن أبي وقاص- ما زال أهل الكوفة يلمزونه حتى رفعوا إلى عمر -رضوان الله عليه- أنه لا يُحسنُ يصلي!!! وهو خالُ رسول الله!! الذي فدّاه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأبويه!! ارمِ فداكَ أبي وأمي!!
لا يُحسنُ يصلي؟!!
وأرسل عمر إلى الكوفة مَن يسأل عنه، فما ترك -مَن أرسله عمر- مسجدًا ولا مجلسًا إلا سأل عنه، والناس يُثنون حتى قام رجلٌ فطعن في سعدٍ -رضوان الله عليه-، فقال سعد: اللهم إن كان هذا قد قام فقال ما قال ابتغاء وجهك، والتماس مرضاتك، فاغفر لي وله، واعفُ عني وعنه، ووفقني وإياه لكل خير -هذا طالبُ حقٍ وإنْ أخطأ، هذا مُلْتَمِسُ هدايةٍ وإنْ ضلّ عن الصراط- وإنْ كان قد قال ما قال رِئاءً وسمعة، لا ابتغاءَ وجهكَ، ولا التماسَ مرضاتك، فأطلْ عُمرَه، وعَرِّضه للفتن.
فأطال اللهُ عُمرَ الرجل حتى كان لا يستطيع أن يرفعَ جَفْنَهُ عن حَدَقَتِهِ إلا بإصبعه يُبصرُ ما أمامه إنْ أبصرَ، وهو في هذه السِّن المرتفعة يتعرض للجواري على أفواه الطرقات!! يُعاكسهن -وعرِّضه للفتن-.
فاللهم إنْ كان مَن يقول، يقول ما يقول ابتغاءَ وجهك، والتماس مرضاتك، فاغفر لنا وله، واعفُ عنا وعنه، ووفقنا وإياه لكل خير.
وإنْ كان مَن يقول، يقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، لا التماسَ مرضاتك، ولا ابتغاء وجهك، فَأَرِنَا فيه آية، واقصمْ ظهرَه، وأعمِ بصرَه، وعَرِّضه للفتن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفرَّغه/
أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد المصريّ
29 من ربيع الأول 1433 هـ، الموافق 21/2/2012 م.