بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فلا يخفى على أحد من طلبة العلم السلفيين – لاسيما في بلدي: ليبيا – ما تعانيه الدعوةُ السلفيةُ من تفرقٍ وتشتتٍ بين أبنائها، وهذا أمر جدُّ مؤلم، تتفطر له القلوب، وتنهمر لأجله العبرات.
والمتأمل المنصف يعرف أن قدرا كبيرا من هذا التفرق والتمزق؛ إنما هو بسبب أبناء هذه الدعوة المباركة أنفسهم!
وإنما مرَدُّ ذلك – في الغالب – إلى الجهل، وعدمِ الانضباط بالضوابط الشرعية، مع قلةِ الإنصاف؛ من بعض المنتسبين لهذه الدعوة المباركة.
والواجب على المسلمين كافة، وعلى أهل السنة خاصة؛ الحرصُ على أسباب المودة والائتلافِ، والحذرُ من أسباب التفرق والاختلافِ؛ فإن الاختلافَ والتنازع سبب أكيد للضعف والفشل؛ قال ربنا – عز وجل -: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
ولا شك أن الاجتماع الذي يصدق عليه أنه اجتماع، والذي يورث المحبة والتآلف، والذي يكون سببا في القوة والعزة؛ هو الاجتماع على الحق. ولذا فإننا نعيب بشدة على أهل الحزبيات والجماعات ما قامت عليه دعوتهم من محاولة للجمع بين الحق والباطل في خليط لا يقبله الشرع ولا العقل؛ قال ربنا – عز وجل -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}. بل إن هذا الاجتماع (الظاهري) الذي يدعو إليه أولئك المفتونون؛ هو في حقيقته تفرق وتشتت، بل هو كاجتماع اليهود الذين وصفهم ربنا – عز وجل – بقوله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى}.
ولا شك أن الاجتماع على الحق لا يكون إلا بالتحذير من الباطل وأهله، إذ أن الباطل قد يخفى بطلانه على من لا علم عنده بالحق، ولأجل هذا جاء التحذير الشديد من علماء أهل السنة على مر العصور من البدع وأهلها، والأمرُ بهجرهم والحذرِ منهم؛ وذلك لما يترتب على التساهل معهم من مفاسد عظيمة؛ أخطرها: فشو البدع والمحدثات.
ولكن المشاهد للساحة السلفية في كثير من البلاد – ومنها بلادنا – يرى أن بعض الشباب قد غلا في هذا الأصل العظيم، فصار يُـبَدِّع ويهجُر ويُحَذِّر بلا بينة ولا برهان، وبلا مراعاة للمصالح والمفاسد، فكان ما يفسدُ أكثرَ مما يصلح.
ولا يخفى على طالب علم أن التحذير من البدع وأهلها بابٌ عظيمٌ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ومراعاةُ المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر متقرر في كلام أهل العلم؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا؛ لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر؛ فإن كان المعروف أكثرَ أُمر به وإن استلزم ماهو دونه من المنكر، ولم يُنه عن منكر يستلزم تفويتَ معروفٍ أعظمَ منه؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وزوالِ فعل الحسنات). [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المكتبة القيمة، ص26].
ولا يخفى على سلفي ما طرأ على الساحة الدعوية بسبب فتنة أبي الحسن المأربي، وفتنة علي الحلبي – هداهما الله -؛ فإن طلبة العلم اختلفوا فيهما بين مُبَدِّع وغير مُبَدِّع؛ تبعا لاختلاف العلماء عند البعض، واتباعا للهوى عند البعض الآخر.
ولكن ظهر بجلاء الفرق بين اختلاف طلبة العلم – لاسيما الأغمار منهم – واختلاف العلماء؛ فاختلاف العلماء – كالشيخين الجليلين ربيع المدخلي وعبد المحسن العباد – لم يسبب تفرقا ولاتباغضا ولاتبديعا ولاتحذيرا ولاهجرا ، ولكن – وللأسف – اختلاف بعض طلبة العلم سبب التفرق والتباغض والتبديع والتحذير والهجر.
فصار كل من لم يبدع المأربي والحلبي – عند البعض – مبتدعا ضالا مضلا، يجب هجره والتحذير منه، ومن لم يبدع هذا المبتدع فهو مثله، ومن لم يبدع هذا الأخير فهو مثله؛ وهكذا الحال؛ في سلسلة عجيبة، وظاهرة غريبة؛ لا تمت لأخوة الإسلام – فضلا عن السنة – بصلة البتة. بل صار البعض ممن فقد التقوى ينسب زورا وبهتانا القول بسب الصحابة مثلا إلى كل من لم يبدع الحلبي، وذلك لأن الحلبي لا يبدع المأربي، والمأربي يسب الصحابة ويصفهم بالغثائية على حد قوله!
ويستدل البعض بكلمات لأئمة الجرح والتعديل وكأنها كلام المعصوم، ولو نظر المنصف في هذه الكلمات لوجدها قيلت في ظرف لا يماثل الظرف الحالي ولا يشابهه، وهذا من الجهل بتنزيل الأحكام على الوقائع، والجهلُ سببُ كل بلية.
واستفحل الأمر، واشتد الكرب؛ حتى صارت السلفية حديثا للعامة، بل للمبتدعة كالصوفية والأشاعرة؛ فصاروا يقولون – تهكما -: (هذا مدخلي)، و(هذا مأربي)، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان.
ولعل الأولى والأجدرَ بنا – طلبةَ العلم – أن نشتغل بالعلم والدعوة، ونشر التوحيد والسنة، ومن رأى من أخيه السلفي زلة أو خطأ فلينصحه وفق الضوابط الشرعية، مع مراعاة المسائل التي اختلف فيها علماء السنة، والتي لا تستلزم المخالفةُ فيها التبديعَ والتضليلَ.
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -: (والبدعة التي يُـعَدُّ بها الرجل من أهل الأهواء: ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتُها للكتاب والسنة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة). [الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، 4\194].
وقال الإمام الذهبي - رحمه الله -: (ما زال العلماء يختلفون، ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله ترجع الامور). [سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، 19\327].
وقال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: (وذلك أن هذه الفِرَقَ إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنىً كليّ في الدين، وقاعدةٍ من قواعد الشريعة؛ لا في جزئيٍّ من الجزئيات؛ إذ الجزئيُّ والفرعُ الشاذُّ لا ينشأ عنه مخالفةٌ يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية). [الاعتصام، تحقيق مشهور، 3\177].
وحتى لو افترضنا أن كل من لم يبدع المأربي والحلبي مبتدعٌ؛ فهل كل المبتدعة سواءٌ في الحكم والمعاملة؟ وهل من الحكمة هجرهم والتحذيرُ منهم؟ خصوصا في بلد - كبلدنا - يعج بالصوفية والأشاعرة والحزبيين وغيرهم من المبتدعة؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في معرض ذمه للأشاعرة ورده عليهم؛ قال: (وإنْ كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافَقةِ السنّةِ ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف؛ فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام الى السنة والجماعة والحديث، وهم يُعدُّون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم). [بيان تلبيس الجهمية، مطبعة الحكومة، 2\87].
فإذا كانت ثَمَّتَ حالاتٌ يَعُدُّ العلماءُ فيها الأشاعرةَ - رغم قبح مذهبهم - من أهل السنة والجماعة، وذلك - كما قال شيخ الإسلام - في البلاد التي يكون أهلُ البدع فيها شرّاً من الأشاعرة؛ فكيف بمن هو دون الأشاعرة بكثير؟ بل كيف بمن اختَلف علماءُ السنّة في تبديعه؟ وهو في بلاد - كبلادنا - غلب على علمائها مذهب الصوفية والأشاعرة؟ مع حرصه - فيما نعلم - على إظهار السنة، والدعوة إليها، والذب عنها، والتحذير ممن خالفها؟!
ولكن الحال كما قيل: الإنصاف عزيز.
وحتى لو سلمنا بتبديع كل من لم يبدع المأربي والحلبي؛ فهل يُحَذَّر منه العامةُ والخاصةُ، والعقلاءُ والسفهاءُ؛ هكذا بإطلاق وبلا قيد ولا شرط ولا نظر؟ هذا العامي الجاهل الذي لا يعرف معنى لا إله إلا الله، والذي لا يحسن الوضوء والصلاة؛ هل يجب أن يُحَذَّرَ من الجلوس إلى من لا يبدع المأربي والحلبي وأخذ العلم عنه؟ تذكر يا من تجيب على سؤالي أنك تُـوَقِّعُ عن رب العالمين؛ فلا تعجل.
قال الشاطبي – رحمه الله -: (ومن هذا يُـعلم أنه ليس كل ما يُـعلم مما هو حقٌّ يُـطلب نشرُه؛ وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علما بالأحكام؛ بل ذلك ينقسم؛ فمنه ما هو مطلوب النشر - وهو غالب علم الشريعة -، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص). إلى أن قال: (وضابطه أنك تَعْرض مسألتَك على الشريعة، فإن صحَّت فى ميزانها فانظر فى مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرُها إلى مفسدةٍ فاعْرِضها فى ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها؛ إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقولُ على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم؛ وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ فالسكوتُ عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية). [الموافقات، تحقيق دراز، 4\189-191].
ثم: هل الهجر – في حالتنا هذه – يحقق المصلحة ويدفع المفسدة؟ أم أن مفسدته أعظم من مصلحته؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وهذا الهجرُ يختلف باختلاف الهاجرين؛ فى قوَّتِهم وضعفِهم، وقلَّتِهم وكثرتِهم؛ فإن المقصودَ به زجرُ المهجورِ وتأديبُه، ورجوعُ العامّةِ عن مثل حاله، فإن كان المصلحةُ فى ذلك راجحةً بحيثُ يفضي هجرُه إلى ضعفِ الشرِّ وخفيتِه؛ كان مشروعاً، وإن كان لا المهجورُ ولا غيرُه يرتدع بذلك، بل يزيد الشرُّ، والهاجرُ ضعيفٌ، بحيث يكون مفسدةُ ذلك راجحةً على مصلحته؛ لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليفُ لبعض الناس أنفعَ من الهجر. والهجرُ لبعض الناس أنفعُ من التأليف؛ ولهذا كان النبىُّ يتألف قوما ويهجر آخرين). [مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد، 28\206].
هذه كلمات مختصرات، ونقول عن أئمة ثقات؛ لعلها تكون خارجة من القلب، ولعلها تصل إلى القلب. فتأمل – رحمك الله – هذه الكلمات بشيء من الإنصاف، وأخلص النية لله – عز وجل -، ووازن بين المصالح والمفاسد بعقلك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فوالله إنما هي نصيحة شفيق حريص عليك وعلى الدعوة السلفية التي أعزك الله بها. ونسأل الله – تعالى – أن يجمعنا على الحق، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يهدينا إلى الحق فيما اختُلف فيه بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تعليق