الحمدُ لله الَّذي أنزلَ القُرآنَ وفَصَّلَهُ تَفصِيلاً، وبعثَ محمَّدًا (صلَّى الله عليه وسلَّم) بالحَقِّ والهُدَى فنطقَ بالسنَّة، وبيَّنَ ما أُجمِلَ، وشرَحَ ما استُشكِلَ، وكمَّلَ اللهُ لنَا بِهِ الدِّين، فلم يبقَ لمستدرِكٍ عليه شيءٌ يضيفُه، بل ابتلى به كلَّ من زاد في هذا الدِّين ممَّا ليس منه، فجعله غير متَّبعٍ لسنَّتِه، وكاذبًا في محبَّته، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثرَه، واتَّبع سنَّته إلى يوم الدِّين، وبعد:
فلا شكَّ أنَّ حُبَّ النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) من الإيمان، وقد بوَّب الإمامُ البخاري بابًا في «صحيحه»؛ فقال: (بابٌ: حُبُّ الرَّسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) مِن الإيمان)، وساق فيه حديث أنس (رضي الله عنه): «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِه»، وفي رواية عند مسلم: «لاَ يُؤْمِنُ عَبدٌ - وفي حديث عبدِ الوارِث: الرَّجُلُ - حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وجعل الإخلاص في محبَّته سببًا لدخول الجنَّة؛ ففي «الصَّحيحين» عن أنس (رضي الله عنه): أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) فقال: متَى السَّاعةُ يا رسولَ اللهِ؟! قالَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قال: ما أَعدَدتُ لها مِن كثيرِ صلاةٍ، ولا صومٍ، ولا صدقةٍ، ولكنِّي أحبُّ اللهَ ورسولَهُ. قال: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».
وضرب الصَّحابةُ أروعَ المعاني في حبِّ رسولِ الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وربَّما ظنَّ مَن لا يعرفُهم أنَّهم يبالِغُون، فهذا زيدُ بن الدَّثِنَّة عندما أخرجه كفَّارُ قريشٍ خارجَ الحَرم ليقتُلوه - كما روى البيهقي - قال له أبو سفيان بن حَربٍ: أنشدُكَ اللهَ يا زيدُ! أَتُحِبُّ أَنَّ محمَّدًا الآن عندنا مكانَكَ يضرَبُ عنقُه، وأنَّك في أهلِكَ؟ فقال زيدٌ: واللهِ ما أحبُّ أنَّ محمَّدًا الآن في مكانِه الَّذي هو فيه تُصيبُه شوكةٌ، وإنِّي جالسٌ في أهلِي، فقال أبو سفيانَ: ما رأيتُ منَ النَّاسِ أحدًا يُحِبُّ أحدًا كحُبِّ أصحاب محمَّدٍ محمَّدًا.
اعلَم - أيُّها المحتفِلُ برسُولِ الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) - أنَّ مَن أحبَّ شيئًا آثرَهُ وآثَرَ مُوَافقتَه، وإلاَّ لم يكُن صادِقًا في حُبِّهِ، وكَانَ مُدَّعِيًا.
فالصَّادِقُ في حُبِّ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) مَن تظهَرُ علامةُ ذلك عليهِ:
- وأوَّلها: الاقتداءُ به، واستعمالُ سُنَّتِه، واتِّبَاعُ أقوَالِه وأفعَالِه، وامتِثَالُ أَوَامرِه، واجتِنَابُ نَوَاهِيه، والتَّأَدُّبُ بآدَابِه في عُسرِه ويُسرِه ومَنشَطِه ومَكرَهِه، وشَاهِدُ هذا قولُه تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهَ﴾.
- وإيثارُ ما شرَعهُ وحضَّ عليهِ على هوى نفسِه وموافقَة شهوتِه؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
- وإسخاطُ العِباد في رضَا الله تعالى.
فَمَنِ اتَّصَفَ بهذه الصِّفة فهو كاملُ المحبَّة لله، كما قال عمر للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما أخرج البخاري من حديثِ عبد الله بن هِشام: يا رسولَ الله! لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي؛ فقال النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فقال لهُ عُمَرُ: فإنَّه الآن والله لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي، فقال النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «الآنَ يَا عُمَرُ».
ومَن خالفَها في بعضِ هذِه الأمُور؛ فهوَ ناقصُ المحبَّة ولا يخرُج عن اسمها، ودليلُه قولُه (صلَّى الله عليه وسلَّم) للَّذي حدَّهُ في الخمر فلعَنه بعضُهم وقال: ما أكثَرَ ما يُؤتَى به! فقالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «لاَ تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ» رواه البخاري من حديث عمر (رضي الله عنه).
- ومِن علاماتِ محبَّة النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) كثرَةُ ذِكره له؛ فمَن أحبَّ شيئًا أكثر من ذِكره.
- ومنها كثرَةُ شَوقِه إلى لقائِه؛ فكُلُّ حَبِيبٍ يحبُّ لقاءَ حبِيبِه، وفي حديثِ الأَشعَرِيِّينَ عند قدُومهِم المدِينَةَ أنَّهُم كانُوا يرتَجِزُونَ:
غدًا نلقَى الأحِبَّه *** محمَّدًا وصحبَه
- ومنها محبَّتُه لمن أحبَّ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ من آلِ بيتِه، وصحابتِه؛ من المهاجرين والأنصار، وعداوةُ من عاداهم، وبُغض من أبغضَهم وسبَّهم، وقد قال (صلَّى الله عليه وسلَّم) في الحسَن والحُسَين: «اَللَّهُمَّ! إِنِّي أُحِبُّهُمَا؛ فَأَحِبَّهُمَا»، وقال: «مَنْ أَحَبَّهُمَا؛ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا؛ فَقَدْ أَبْغَضَنِي»، وقال في فاطمة (رضي الله عنها): «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي؛ فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي»، وعن عائشَةَ أُمِّ المؤمنِينَ قالَت: أرادَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) أَن ينحِّي مُخَاطَ أسامَة. قالَتْ عائشَةُ: دَعنِي حتَّى أكونَ أنا الَّذي أفعَلُ، قال: «يَا عَائِشَةُ! أَحِبِّيهِ؛ فَإِنِّي أُحِبُّهُ»، وقال: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».
وهكذا كانَت سيرة السَّلف في حُبِّ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فأحَبُّوا ما يحِبُّ مِن المُباحاتِ، وشهواتِ النَّفس، وقد قال أَنسٌ (رضي الله عنه) حين رأى النَّبِيَّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) يتتبَّع الدُّبَّاءَ مِن حوالَيِ القَصعة: فما زِلتُ أحِبُّ الدُّبَّاءَ مِن يومِئذٍ.
- ومنها بُغض مَن أبغضَه اللهُ ورسولُه، ومُعاداةُ من عادَاه، ومجانبةُ من خالَف سنَّتَه، وابتدَع في دينِه، واستثقالُه كلَّ أمرٍ يخالف شريعَته، قال الله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وهؤلاء أصحابه (رضي الله عنهم) قد قتلوا أحِبَّاءَهم، وقاتَلوا آباءَهم، وأبناءَهم في مَرضاتِه تعالى.
- ومنها أن يحِبَّ القرآنَ الَّذي أتى به (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وهدَى به واهتَدى، وتخلَّق به حتَّى قالت عائشةُ (رضي الله عنها): كانَ خلُقه القرآنُ.
وحبُّه للقرآن وتلاوتُه، والعملُ به، وتفهُّمُه، ويحِبُّ سنَّتَه، ويقِف عند حدودِها.
- ومن علامات حبِّه للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ شفَقتُه على أمَّته، ونصحُه لهم، وسعيُه في مصالحهم، ورفع المضارِّ عنهم، كما كان (صلَّى الله عليه وسلَّم) بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا.
فحقيقة المحبَّة؛ اتِّباعٌ عَن طواعِيةٍ ومحبَّةٍ، وبعدٌ عن البدع والجدَل والخصومات، والمشكِلات والمشتبِهات، وكلِّ ما فيه مغبَّةٌ.
وهي انتصارٌ للحقِّ الَّذي نؤمِن به، ودعوةٌ إلى الله، وجهادٌ في سبيله، واعتقادُ نصرتِه، والذَّبُّ عن سنَّته، والانقيادُ لها، وهَيبَةُ مخالَفتِه، قال الله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾.
فمن كان بهذا الوصف الرَّائق، والحبِّ الصَّادق؛ فليَحتفِل بما وصل إليه بشُكر هذه النِّعمة، والإمعانِ في القُرب من الله تعالى، وعدمِ الاغتِرار؛ فإنَّ القلوب بيد الله يقلِّبُها كيف يشاء.
وأمَّا ما يفعلُه كثيرٌ من المسلمين من الاحتِفال بالمولد النَّبوي، مع تقصيرِهم الفاحش في حقِّ أشرَف الأنبياء والمرسَلين، والبعد عن الشَّرع القويم، والصِّراط المستقيم، فهو ممَّا لا يُعلم له أصلٌ في الدِّين، ولم يفعَلهُ ساداتُ المسلِمين؛ من الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسانٍ، بل هي بدعةٌ شِيعيَّةٌ باطنِيَّةٌ، لم توجد إلاَّ بعد قرونٍ من مَوتِه (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فالمُشتغِل بها مشتَغِلٌ ببِدعةٍ شنِيعةٍ منكَرةٍ، يتشبَّه فيها بالنَّصارى الحاقِدين، ومن لا خَلاق لهم في الدِّين.
أسألُ اللهَ أن يهدِي المسلِمين للحُبِّ الصَّادق للنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، واتِّباع سنَّتِه، وتحكيم شَرعه، وهو عنوانُ حُبِّ الله، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
هذا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كبيرًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمِين.
كتبه
عبد الخالق ماضي
موقع راية الإصلاح الجزائري
فلا شكَّ أنَّ حُبَّ النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) من الإيمان، وقد بوَّب الإمامُ البخاري بابًا في «صحيحه»؛ فقال: (بابٌ: حُبُّ الرَّسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) مِن الإيمان)، وساق فيه حديث أنس (رضي الله عنه): «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِه»، وفي رواية عند مسلم: «لاَ يُؤْمِنُ عَبدٌ - وفي حديث عبدِ الوارِث: الرَّجُلُ - حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وجعل الإخلاص في محبَّته سببًا لدخول الجنَّة؛ ففي «الصَّحيحين» عن أنس (رضي الله عنه): أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) فقال: متَى السَّاعةُ يا رسولَ اللهِ؟! قالَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قال: ما أَعدَدتُ لها مِن كثيرِ صلاةٍ، ولا صومٍ، ولا صدقةٍ، ولكنِّي أحبُّ اللهَ ورسولَهُ. قال: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».
وضرب الصَّحابةُ أروعَ المعاني في حبِّ رسولِ الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وربَّما ظنَّ مَن لا يعرفُهم أنَّهم يبالِغُون، فهذا زيدُ بن الدَّثِنَّة عندما أخرجه كفَّارُ قريشٍ خارجَ الحَرم ليقتُلوه - كما روى البيهقي - قال له أبو سفيان بن حَربٍ: أنشدُكَ اللهَ يا زيدُ! أَتُحِبُّ أَنَّ محمَّدًا الآن عندنا مكانَكَ يضرَبُ عنقُه، وأنَّك في أهلِكَ؟ فقال زيدٌ: واللهِ ما أحبُّ أنَّ محمَّدًا الآن في مكانِه الَّذي هو فيه تُصيبُه شوكةٌ، وإنِّي جالسٌ في أهلِي، فقال أبو سفيانَ: ما رأيتُ منَ النَّاسِ أحدًا يُحِبُّ أحدًا كحُبِّ أصحاب محمَّدٍ محمَّدًا.
اعلَم - أيُّها المحتفِلُ برسُولِ الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) - أنَّ مَن أحبَّ شيئًا آثرَهُ وآثَرَ مُوَافقتَه، وإلاَّ لم يكُن صادِقًا في حُبِّهِ، وكَانَ مُدَّعِيًا.
فالصَّادِقُ في حُبِّ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) مَن تظهَرُ علامةُ ذلك عليهِ:
- وأوَّلها: الاقتداءُ به، واستعمالُ سُنَّتِه، واتِّبَاعُ أقوَالِه وأفعَالِه، وامتِثَالُ أَوَامرِه، واجتِنَابُ نَوَاهِيه، والتَّأَدُّبُ بآدَابِه في عُسرِه ويُسرِه ومَنشَطِه ومَكرَهِه، وشَاهِدُ هذا قولُه تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهَ﴾.
- وإيثارُ ما شرَعهُ وحضَّ عليهِ على هوى نفسِه وموافقَة شهوتِه؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
- وإسخاطُ العِباد في رضَا الله تعالى.
فَمَنِ اتَّصَفَ بهذه الصِّفة فهو كاملُ المحبَّة لله، كما قال عمر للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما أخرج البخاري من حديثِ عبد الله بن هِشام: يا رسولَ الله! لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي؛ فقال النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فقال لهُ عُمَرُ: فإنَّه الآن والله لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي، فقال النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «الآنَ يَا عُمَرُ».
ومَن خالفَها في بعضِ هذِه الأمُور؛ فهوَ ناقصُ المحبَّة ولا يخرُج عن اسمها، ودليلُه قولُه (صلَّى الله عليه وسلَّم) للَّذي حدَّهُ في الخمر فلعَنه بعضُهم وقال: ما أكثَرَ ما يُؤتَى به! فقالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): «لاَ تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ» رواه البخاري من حديث عمر (رضي الله عنه).
- ومِن علاماتِ محبَّة النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) كثرَةُ ذِكره له؛ فمَن أحبَّ شيئًا أكثر من ذِكره.
- ومنها كثرَةُ شَوقِه إلى لقائِه؛ فكُلُّ حَبِيبٍ يحبُّ لقاءَ حبِيبِه، وفي حديثِ الأَشعَرِيِّينَ عند قدُومهِم المدِينَةَ أنَّهُم كانُوا يرتَجِزُونَ:
غدًا نلقَى الأحِبَّه *** محمَّدًا وصحبَه
- ومنها محبَّتُه لمن أحبَّ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ من آلِ بيتِه، وصحابتِه؛ من المهاجرين والأنصار، وعداوةُ من عاداهم، وبُغض من أبغضَهم وسبَّهم، وقد قال (صلَّى الله عليه وسلَّم) في الحسَن والحُسَين: «اَللَّهُمَّ! إِنِّي أُحِبُّهُمَا؛ فَأَحِبَّهُمَا»، وقال: «مَنْ أَحَبَّهُمَا؛ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا؛ فَقَدْ أَبْغَضَنِي»، وقال في فاطمة (رضي الله عنها): «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي؛ فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي»، وعن عائشَةَ أُمِّ المؤمنِينَ قالَت: أرادَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) أَن ينحِّي مُخَاطَ أسامَة. قالَتْ عائشَةُ: دَعنِي حتَّى أكونَ أنا الَّذي أفعَلُ، قال: «يَا عَائِشَةُ! أَحِبِّيهِ؛ فَإِنِّي أُحِبُّهُ»، وقال: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».
وهكذا كانَت سيرة السَّلف في حُبِّ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فأحَبُّوا ما يحِبُّ مِن المُباحاتِ، وشهواتِ النَّفس، وقد قال أَنسٌ (رضي الله عنه) حين رأى النَّبِيَّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) يتتبَّع الدُّبَّاءَ مِن حوالَيِ القَصعة: فما زِلتُ أحِبُّ الدُّبَّاءَ مِن يومِئذٍ.
- ومنها بُغض مَن أبغضَه اللهُ ورسولُه، ومُعاداةُ من عادَاه، ومجانبةُ من خالَف سنَّتَه، وابتدَع في دينِه، واستثقالُه كلَّ أمرٍ يخالف شريعَته، قال الله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وهؤلاء أصحابه (رضي الله عنهم) قد قتلوا أحِبَّاءَهم، وقاتَلوا آباءَهم، وأبناءَهم في مَرضاتِه تعالى.
- ومنها أن يحِبَّ القرآنَ الَّذي أتى به (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وهدَى به واهتَدى، وتخلَّق به حتَّى قالت عائشةُ (رضي الله عنها): كانَ خلُقه القرآنُ.
وحبُّه للقرآن وتلاوتُه، والعملُ به، وتفهُّمُه، ويحِبُّ سنَّتَه، ويقِف عند حدودِها.
- ومن علامات حبِّه للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ شفَقتُه على أمَّته، ونصحُه لهم، وسعيُه في مصالحهم، ورفع المضارِّ عنهم، كما كان (صلَّى الله عليه وسلَّم) بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا.
فحقيقة المحبَّة؛ اتِّباعٌ عَن طواعِيةٍ ومحبَّةٍ، وبعدٌ عن البدع والجدَل والخصومات، والمشكِلات والمشتبِهات، وكلِّ ما فيه مغبَّةٌ.
وهي انتصارٌ للحقِّ الَّذي نؤمِن به، ودعوةٌ إلى الله، وجهادٌ في سبيله، واعتقادُ نصرتِه، والذَّبُّ عن سنَّته، والانقيادُ لها، وهَيبَةُ مخالَفتِه، قال الله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾.
فمن كان بهذا الوصف الرَّائق، والحبِّ الصَّادق؛ فليَحتفِل بما وصل إليه بشُكر هذه النِّعمة، والإمعانِ في القُرب من الله تعالى، وعدمِ الاغتِرار؛ فإنَّ القلوب بيد الله يقلِّبُها كيف يشاء.
وأمَّا ما يفعلُه كثيرٌ من المسلمين من الاحتِفال بالمولد النَّبوي، مع تقصيرِهم الفاحش في حقِّ أشرَف الأنبياء والمرسَلين، والبعد عن الشَّرع القويم، والصِّراط المستقيم، فهو ممَّا لا يُعلم له أصلٌ في الدِّين، ولم يفعَلهُ ساداتُ المسلِمين؛ من الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسانٍ، بل هي بدعةٌ شِيعيَّةٌ باطنِيَّةٌ، لم توجد إلاَّ بعد قرونٍ من مَوتِه (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فالمُشتغِل بها مشتَغِلٌ ببِدعةٍ شنِيعةٍ منكَرةٍ، يتشبَّه فيها بالنَّصارى الحاقِدين، ومن لا خَلاق لهم في الدِّين.
أسألُ اللهَ أن يهدِي المسلِمين للحُبِّ الصَّادق للنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، واتِّباع سنَّتِه، وتحكيم شَرعه، وهو عنوانُ حُبِّ الله، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
هذا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كبيرًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمِين.
كتبه
عبد الخالق ماضي
موقع راية الإصلاح الجزائري