بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة لمن ينصح الحكام – السني أو المبتدع - وينكر عليهم على المنابر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالمتقرر عن أئمة السنة وعلماء الملة أن نصيحة الحكام والإنكار عليهم يكون سرا، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة وفرضه ربنا سبحانه وتعالى علينا وأوجبه رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يقرره بعض أهل العلم في النصيحة للحاكم الكافر فضلا على أن يكون مسلما مبتدعا فضلا على أن يكون سنيا.
قال الله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}.
قال العلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه الله في ((قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني)): ((ثمَّ إنَّ النَّصيحةَ لوُلاة الأمور وغيرِهم تكون سرًّا وبرفقٍ ولينٍ، ويدلُّ لذلك قولُ الله عزَّ وجلَّ لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى})) اهـ.
وعن عياض بن غنم أنه قال لهشام بن حكيم رضي الله عنهما: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه)).
أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) وأحمد، في ((المسند)) والحاكم في ((المستدرك)).
وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): ((رواه أحمد ورجاله ثقات))، والحديث صححه الألباني في ((ظلال الجنة في تخريج السنة)).
قال العلامة السندي رحمه الله في ((حاشيته على مسند الإمام أحمد)): ((في قوله: ((من أراد أن ينصح لسلطان))، أي: نصيحة السلطان ينبغي أن تكون في السِّر، لا بين الخلق)) اهـ.
وهذه طريقة الصحابة في النصح.
عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قيل لأسامة: ألا تدخل على عثمان فتكلِّمَه؟
فقال: أتُرَوْن أَنِّي لا أُكلِّمُه إلاَّ أُسمعُكم؟ والله! لقد كلَّمْتُه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتحَ أمراً لا أُحبُّ أن أكون أوَّلَ مَن فتحَه.
أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)): ((قوله قد كلمته ما دون أن أفتح بابا أي كلمته فيما أشرتم إليه لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها)) اهـ.
وقال الإمام الدين الألباني في تعليقه على ((مختصر صحيح مسلم)) (رقم: 335 ) : ((يعنى المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ ؛ لأن في الإنكار جهاراً ما يُخشى عاقبته ؛ كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً ؛ إذ نشأ عنه قتله)) اهـ.
وطريقة المحققين من أهل السنة في تقرير هذه المسألة وهو السر في النصيحة لولاة الأمر.
قال الإمام ابن باز رحمه الله في ((مجموع فتاوى)) : ((ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل: فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، فذلك واجب؛ لعموم الأدلة.
ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكما ولا غير حاكم)) اهـ.
وقال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في ((رسالة حقوق الرعي والرعية)): ((الله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان وان لا تُتخذ من أخطاء السلطان سبيلًا لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمر، فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة)) اهـ.
وقال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله في ((شرح الأربعين النووية)): ((والنصيحة لأئمة المسلمين أن يُعْطَوا حقهم الذي أعطاهم الله جل وعلا إياه، ...
ثم قال:
أيضًا من النصيحة لهم أن تبذل النصح لهم، بمعنى النصح الذي يعلمه الناس، بأن تنبههم على ما يخطئون فيه، وما يتجاوزون فيه الشريعة لمن وصل له، وهذه المرتبة كما قال ابن دقيق العيد في شرحه وغيره هذه فرض كفاية تسقط بفعل البعض من أهل العلم ونحوهم، فحق ولي الأمر المسلم أن يُنْصَح، بمعنى أن يُؤْتَى إليه، وأن يُبَيَّن له الحق، وأن يُبَصَّر به، وأنْ يوضح له ما أمر الله جل وعلا به، وما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأنْ يُعان على الطاعة، ويسدد فيها، ويُبَيَّن له ما قد يقع فيه من عصيان أو مخالفة للأمر)) اهـ.
وهذه هي طريقة السلف الصالح في النصيحة للسلطان أن تكون سرا بينك وبين الحاكم ولا فرق بين ولي الأمر السني أو البدعي.
سئل العلامة زيد بن هادي المدخلي رحمه الله حفظه الله في ((العقد المنضد الجديد)): ((هل تجب طاعة ولي الأمر إذا كان يناصر المبتدعة, وهل الكلام فيه يعتبر غيبة ؟
فأجاب:
طاعة ولي الأمر قيدها الرسول صلى الله عليه وسلم في المعروف، وأما الكلام فيه بما هو فيه فهذا من طريقة أهل البدع لا من طريقة أهل السنة والجماعة، لأن التشهير بولي الأمر بما فيه وعقد الجلسات لمثل هذا الصنيع لا ينتج عنها صلاح ولا إصلاح، و إنما ينتج عنها الشر المستطير و الاختلاف بين الناس والبغض للولاة، فتضطرب الأمور وتحل النقم محل النعم، فالحذر الحذر من ذلك فإنه تصرف سيء لا يجوز أبدا ولكن الدعاء لهم والنصيحة لمن يقدر على أداء النصيحة و بذلها هو الذي ينفع ويفيد، ومن لم يقدر على إيصال النصيحة بنفسه فليتصل بمن يقدر أن يوصل النصيحة السرية بالمعروف هذا هو الذي ينبغي أن يكون .
و أما الخوض في شأن حكام المسلمين و سياستهم فهو من الخطأ المحض الذي يجب تركه، لأنه من صفات أهل البدع لا من صفات أهل السنة و الجماعة .
فأما أهل السنة والجماعة فإنهم يدعون للحكام المسلمين و إن جاروا و فسقوا، ولا يدعون عليهم، و يظهرون محاسنهم و لا يظهرون مساوئهم و هذا معلوم قاله علماء السلف ويقول به أتباعهم اليوم، وما ذلك إلا لأنه يترتب على إظهار المساوئ وعقد المجالس لغيبتهم من السوء و المكروه و الفرقة و الفوضى ما يعلمه الكثير من طلاب العلم، وعلى كل حال فإن النصوص في هذا الشأن حاسمة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اسمع و أطع و إن ضرب ظهرك وأخذ مالك)).
فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على ما قد يجري من الحكام المسلمين على رعاياهم وحذر من الخروج لما فيه من الشر على الخاص و العام.
هذه طريقة السلف ومنهجهم ومنهج أتباعهم، أما عقد الجلسات في الخوض في أعراض الحكام أو العلماء أو غيرهم من فئات الناس، ولو وقعوا فيما وقعوا فيه فهذا لا يجوز، ولا يلزم مما ذكر عدم التحذير من أهل البدع و الداعين إليها و الناشرين لها والكلام فيهم بما يبعد الناس عنهم و يحذر الناس منهم، فرق بين هذا وهذا فإن التحذير من أهل البدع و الداعين إليها من ضروب الجهاد في سبيل الله، ومن باب النفع العام للمسلمين و ليس من باب الغيبة والبهتان المذمومين فليعلم)) اهـ .
وقال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في ((حكم المظاهرات في الاسلام)) : ((فموقف الإمام أحمد هذا مستمد من منهاج النبوة في حماية الأمة من الفتن التي تؤدي إلى سفك الدماء ونهب الأموال وإهدارها وقطع السبل إلى شرور أخرى.
ومن هذه الفتن التي حذَّر منها الإمام أحمد وغيره المظاهرات والمسيرات الوافدة من بلدان الكفر والفتن.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يحدثنا عن تلك الفتنة وصبر أهل السنة عليها.
قال –رحمه الله- في ((مجموع الفتاوى)) (6/214-215) : ((وأحمد إنما اشتهر أنه إمام أهل السنة، والصابر على المحنة؛ لما ظهرت محن "الجهمية" الذين ينفون صفات الله تعالى، ويقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، وإن القرآن ليس هو كلام الله؛ بل هو مخلوق من المخلوقات، وإنه تعالى ليس فوق السماوات، وان محمداً لم يعرج إلى الله، وأضلوا بعض ولاة الأمر؛ فامتحنوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن الناس من أجابهم رغبة، ومن الناس من أجابهم رهبة، ومنهم من اختفى فلم يظهر لهم.
وصار من لم يجبهم قطعوا رزقه وعزلوه عن ولايته، وان كان أسيرا لم يفكوه ولم يقبلوا شهادته، وربما قتلوه أو حبسوه.
"والمحنة" مشهورة معروفة، كانت في إمارة المأمون، والمعتصم، والواثق، ثم رفعها المتوكل؛ فثبت الله الإمام أحمد، فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله تعالى، وناظرهم في العلم فقطعهم، وعذبوه فصبر على عذابهم، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، [سورة السجدة : 24].
فمن أعطي الصبر واليقين جعله الله إماما في الدين)).
أقول:
معلوم أن السلف، ومنهم الإمام أحمد كانوا يُكفِّرون بتعطيل صفات الله وبالقول بخلق القرآن وبإنكار رؤية الله في الآخرة، ولم يكتف الجهمية بهذه الفتنة، بل أضافوا إليها تكفير من يخالفهم وامتحانهم بما ذكره شيخ الإسلام، ومع كل هذا فلم يقوموا بمظاهرات ولا خروج، وإنما قاموا بالصبر المشروع دفعاً لمفسدة كبرى عن المسلمين تهدر فيها أرواحهم وأموالهم إلى غير ذلك من المفاسد)) اهـ.
هذه طريقة سلفنا الصالح في النصيحة لولاة الأمر والحكام على الدول الإسلامية سوء كانوا كفارا أو مبتدعة فضلا أن يكون أهل سنة.
أما هز أعواد المنابر واللعب على عواطف الهمج الرعاع والتهييج على الحكام البررة والفجرة فهذا مسلك الخوارج ومن سار على نهجهم وتبع طريقتهم.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
✍️ كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأحد 22 ربيع الأول سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 8 نوفمبر سنة 2020 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأحد 22 ربيع الأول سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 8 نوفمبر سنة 2020 ف