الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اهتدى بهداه أما بعد :
فهذا مقتطف نسخته من كتاب صدر حديثا ضمن مجموعة مؤلفات العلامة أبي زيد عبد الرحمان بن محمد النتيفي الجعفري البيضاوي المغربي رحمه الله(1) و هو بعنوان : (( القول الفائز في نفي التهليل وراء الجنائز)) :
----قال العلامة أبو عبد الله الرهوني(2) في مؤلف له في مسألة ما يشرع في الجنائز:
سئل الإمام العلامة الهمام شيخ الشيوخ المشهود له بالثبات و الرسوخ أبو فرج بن لب سؤالاً نصه:
سئل عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها, من جهرهم بالتهليل, و التصلية على البشير النذير, و نحو ذلك على صوت واحد, أمام الجنائز, كيف الحكم في الشرع ؟
فأجاب : السنة في اتباع الجنائز الصمت, و التفكر, و الاعتبار, أخرج ابن المبارك ((أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا تبع جنازة أكثر من الصمت و أكثر حديث النفس)), قال : و كانوا يورن أنه يحدث نفسه بأمر الميت, و ما يرد عليه و ما هو المسؤول عنه.
و ذكر أن مطرفا كان يلقى الرجل من إخوانه في الجنازة, و عسى أن يكون غائبا, فما يزيد غير التسليم, و يعرض عنه, اشتغالا بما هو فيه.
فهكذا كان السلف الصالح, و اتباعهم سنه, و مخالفتهم بدعة, و ذكر الله, و الصلاة على رسوله, عمل صالح, مرغب فيه في الجملة, لكن للشرع توقيت و تحديد في وظائف الأعمال, و تخصيص يختلف باختلاف الأحوال, و الصلاة و إن كانت مناجاة الرب, و في ذلك قرة عين العبد تدخل في أوقات تحت ترجمة الكراهة و المنع : ((إن الله يحكم ما يريد )).
---- و مما جاء به محمد المهدي الوزاني في سياق انتقاده لهذا الكلام :
نقل عن سيدي عبد القادر الفاسي ما يدل على أن ذكر الله مطلوب و لو بتكرار لفظ الله.
و إنما قال -أي الرهوني أو ابن لب- أنه لم ينقل عن السلف, بأن كثيرا من الأشياء لم تنقل عن السلف, و هي إما مستحبة, أو واجبة, أو جائزة, و البدعة التي تجتنب إنما هي التي تقتضي قواعد الشريعة كراهتها, أو حرمتها, فلا ينبغي إنكار ذلك, إلى آخر ما قال.
ثم قال: و غاية ما في توليف الرهوني أن الذكر مع الجنازة بدعة, و لا يلزم من ذلك كونه محرما, أو مكروها, إذ البدعة منقسم إلى الأحكام الخمسة.
ثم ذكر ما لعز الدين بن عبد السلام في ذلك و من تبعه.(انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام).
ثم نقل عن السيوطي أنه قال: إذا تأملت ما أوردناه من الأحاديث, علمت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر, بل فيها ما يدل على استحبابه, إما صريحا و إما التزاما.
ثم أجاب عن حمله البدعة اللغوية, إذ هي المقسومة للأحكام الخمسة, دون الشرعية التي لا تخرج من محرَّم أو مكروه, بأنه تبع في ذلك الرهوني, حيث ذكر أن منها: قراءة البردة, و لا شك أنها لم تكن في عهد السلف الصالح, و هو تعريف للبدعة اللغوية.
---- رد الشيخ العلامة أبي زيد عبد الرحمان النتيفي على الوزَّاني :
قال بعد أن انتقد شيئا من كلام الوزاني:
و قد سمعت من يستدل للذكر بالاسم المفرد بحديث الأشعث الأغبر الذي يقول : ((يا رب يا رب و مطعمه حرام)), يقيس لفظ الله على لفظ الرب, و هو مردود بوجوه:
الأول :ما يقال: هذا حكاية لقول الأشعث الأغبر, لا أمر من الشارع بذلك, و إلا لزم أن يكون ما وُصف به من الأفعال و الصفات مطلوبا أيضا, و هو جهل محض.
و لا يقال : فرق بين قوله هذا, و بين فعله.
لأنا نقول: قوله ذلك مصحوب بهذا أو الخبائث كفعله, سلمنا الفرق, و لكن لا نسلم القياس, لأن قول الأشعث دعاء, و المقيس عليه ذكر, سلمنا أن الدعاء ذكر, و لكن لا نسلم أن لفظ الله يقاس على لفظ الرب, سلمناه, و لكن لا نسلم أن ذكر الاسم المفرد مكررًا جهرُا بلفظ واحد, و لجماعة أو فرد, في أوقات معلومات تتكرَّر, مع اعتقاد تَقَرُّب بهذا لله, يقاس على دعاء الأشعث و غيره, لإهمال رسول الله و أصحابه هذا القياس, و لو كان خيرا ما سبقناهم إليه, فمواظبتهم على ضده دليل على مطلوبية الضد, و عدم مطلوبيته هو, و يجيء ما تقدم حرفا بحرف, و هو وجوه زائدة على الوجه الأول, و به يظهر لك رد الفاسي إنكار عز الدين لذلك, و ما بناه المعترض عليه من مطلوبية التهليل المذكور, و أن غاية ما فيه حكمهم بأنه بدعة.
و قد علمت أن البدعة تكون مستحبة, و واجبة إلى آخره.
لأن البدعة المستحبة, و الواجبة, لا تكون في الدينيات, بل تكون في العاديات, و الوسائل.
و البدعة في الدينيات, إما مكروهة, أو محرمة لا غير.
و بتأمله يظهر لك التفصيل بعد المقدمة التي أشرنا إليها من قبل, و سنوضح إن شاء الله ما نقله عن السيوطي هنا.
كما أن قوله: إنه في تقسيمه البدعة إلى الأحكام الخمسة سالكا الطريق اللغوية تبعتُ في ذلك الرّهوني....إلى آخره.
يقال عليه :
أولا : البدعة اللغوية أوسع من تقسيمه و تقسيم غيره, إذ البديع : المحدِث, المخترِع, و البدعة و المبدَع و المبتدَع : المحدثات, فتشمل الأقوال, و الأفعال, و الأحوال, و الذوات, لما سوى الله, سواء كان إحداثها في الماضي, أو في الحال, أو في المستقبل, و هو لسان العرب, و به جاء القرآن, قال الله تعالى : ((بديع السماوات و الأرض))
و في الحديث : ((يا بديع السماوات و الأرض)).
و البدعة العرفية في عرف المسلمين العام : ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم, و هذه المنقسمة إلى الأحكام الخمسة, و أما الأُولى فإنها تشمل ما لا يدخل في تلك الأحكام, من صنائع و غيرها لما تقدم, و هذه العرفية تشمل الوسائل و المقاصد, و الشرعيات, و العاديات.
و في العرف الخاص, و هو عرف الشرع : (( ما أحدث فيما يتقرب به إلى الله تعالى, مما لم يفعله رسول الله, و لا قرره, و لا أمر به, و لا ظهر لأصحابه أنه من ذلك )).
و عليه فاللائق لتعبير هذا السيد و من تبعه, أن يكون بالعرفية العامة لا باللغوية.
و ثانيا : دعواه متابعة الرَّهوني في اللغوية لا يسلم له, إذ استدلاله على المتابعة في ذلك بذكر الرهوني, كقراءة البردة على الميت بوصف القراءة الخاص المعلوم من جملة البدع لا يدل على ما ادعاه, فإن قراءة البردة على الميت إنما يقصد بها قارئها الشفاعة للميت, و طلب الثواب له, و يجعلون ذلك من المطلوبات الشرعية في هذا الوقت, و يعتقدون أن لها ثوابا عظيما عند الله, و منهم من يُقَدِّرُهُ, و إنما يجعل الثواب و يقدره, و يبين الشفيع, و يعين اللائق بالوقت من غيره الشارعُ, و لا شيء من ذلك هنا, بل الشارع عيَّن لهذا الوقت الاعتبار, و الصمت, و الذكر السري, و ما يحتاج إليه الميت من تشييع, و حمل, و صلاة, ثم قضاء دين, و إخراج وصية.
فالمعين لشيء يدفع ما يعينه الشّرع, و لو على سبيل الندب في الجانبين, مبتدع بدعة شرعية, لا لغوية, و لا عرفية, و حينئذ فهي بمثابة تهليل وراء الجنائز الموضوع للنزاع, و به يظهر لك المتابعة المدعاة.
و لا يقال: غاية ما في البردة, و التهليل : الثناء على الله و رسوله و ذكره, و هما مطلوبان شرعا, مثاب عليهما.
لأنا نقول : البدعة في وقوعها بالأوصاف المذكورة, و في الوقت الذي عينه الشارع بفعله غيرهما, كما لا يقال : و يلزمكم هذا في قراءة الأحزاب, و القرآن, على الصفة التي يقرأ بها على الميت و في القبر.
لأنا نقول : على مذهب مالك و من تبعه بكراهة ما ذكر فلازم, و القول هو القول في موضوع النزاع, و كذا فيما شابهه.
و على مذهب من يستحب ذلك فجوابه ما عند الرهوني, من أن ذلك نص على استحبابه كثير من أهل العلم, و جلب بعض نصوصهم و استدل لسُنِّيته بما رواه الإمام أحمد و النسائي, و الحاكم, و ابن حبان, عن يعلى بن شداد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( اقرءوا على موتاكم يس)), إلى آخر ما قال.
و إن كان لا صراحة فيه بالكيفية المعلومة, من اجتماع القراء على صوت واحد جهرا.
كما لا يقال : يلزمكم هذا أيضا في نقط المصحف, و شكله, و جمعه, و إحداث المحاريب, و أشباهها.
لأنا نقول : فرق بين ما هو وسيلة للقربى, و بين نفس القربة, فالوسيلة لها ما مر بها عند الاحتياج إليها, بنصوص الكتاب و السنة, كقوله تعالى : (( و افعلوا الخير)) و ((و اعملوا صالحا)) و ((تعاونوا على البر و التقوى)).
من غير تقييد بزمان, و لاشك أن الناس لم يجتمعوا إلى جمع المصحف و نحوه إلا عند الموجب, و من خوف الزيادة في القرآن, أو النقص منه, أو التحريف, أو جهل اللغة مثلا, و شمول مثل هذه النصوص للقرب مسلم, و لكن بشرط التحديد الشرعي, فلا يجوز تعديه زمانا, و لا مكانا, و لا وصفا, و لا عرفا, و لا جمعا, فتأمل ذلك.
---------------------------------------------------
(1) هو عالم سلفي مغربي ت 1385هـ 1966م, أثنى عليه علماء عصره و له مؤلفات عديدة في نصر السنة و قمع البدعة.
(2) هو محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف أبو عبد الله الرهوني, الفقيه المالكي, نشأ و تعلم بفاس, صاحب الحاشية على شرح الزرقاني على مختصر الخليل ت 1230هـ.
فهذا مقتطف نسخته من كتاب صدر حديثا ضمن مجموعة مؤلفات العلامة أبي زيد عبد الرحمان بن محمد النتيفي الجعفري البيضاوي المغربي رحمه الله(1) و هو بعنوان : (( القول الفائز في نفي التهليل وراء الجنائز)) :
----قال العلامة أبو عبد الله الرهوني(2) في مؤلف له في مسألة ما يشرع في الجنائز:
سئل الإمام العلامة الهمام شيخ الشيوخ المشهود له بالثبات و الرسوخ أبو فرج بن لب سؤالاً نصه:
سئل عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها, من جهرهم بالتهليل, و التصلية على البشير النذير, و نحو ذلك على صوت واحد, أمام الجنائز, كيف الحكم في الشرع ؟
فأجاب : السنة في اتباع الجنائز الصمت, و التفكر, و الاعتبار, أخرج ابن المبارك ((أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا تبع جنازة أكثر من الصمت و أكثر حديث النفس)), قال : و كانوا يورن أنه يحدث نفسه بأمر الميت, و ما يرد عليه و ما هو المسؤول عنه.
و ذكر أن مطرفا كان يلقى الرجل من إخوانه في الجنازة, و عسى أن يكون غائبا, فما يزيد غير التسليم, و يعرض عنه, اشتغالا بما هو فيه.
فهكذا كان السلف الصالح, و اتباعهم سنه, و مخالفتهم بدعة, و ذكر الله, و الصلاة على رسوله, عمل صالح, مرغب فيه في الجملة, لكن للشرع توقيت و تحديد في وظائف الأعمال, و تخصيص يختلف باختلاف الأحوال, و الصلاة و إن كانت مناجاة الرب, و في ذلك قرة عين العبد تدخل في أوقات تحت ترجمة الكراهة و المنع : ((إن الله يحكم ما يريد )).
---- و مما جاء به محمد المهدي الوزاني في سياق انتقاده لهذا الكلام :
نقل عن سيدي عبد القادر الفاسي ما يدل على أن ذكر الله مطلوب و لو بتكرار لفظ الله.
و إنما قال -أي الرهوني أو ابن لب- أنه لم ينقل عن السلف, بأن كثيرا من الأشياء لم تنقل عن السلف, و هي إما مستحبة, أو واجبة, أو جائزة, و البدعة التي تجتنب إنما هي التي تقتضي قواعد الشريعة كراهتها, أو حرمتها, فلا ينبغي إنكار ذلك, إلى آخر ما قال.
ثم قال: و غاية ما في توليف الرهوني أن الذكر مع الجنازة بدعة, و لا يلزم من ذلك كونه محرما, أو مكروها, إذ البدعة منقسم إلى الأحكام الخمسة.
ثم ذكر ما لعز الدين بن عبد السلام في ذلك و من تبعه.(انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام).
ثم نقل عن السيوطي أنه قال: إذا تأملت ما أوردناه من الأحاديث, علمت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر, بل فيها ما يدل على استحبابه, إما صريحا و إما التزاما.
ثم أجاب عن حمله البدعة اللغوية, إذ هي المقسومة للأحكام الخمسة, دون الشرعية التي لا تخرج من محرَّم أو مكروه, بأنه تبع في ذلك الرهوني, حيث ذكر أن منها: قراءة البردة, و لا شك أنها لم تكن في عهد السلف الصالح, و هو تعريف للبدعة اللغوية.
---- رد الشيخ العلامة أبي زيد عبد الرحمان النتيفي على الوزَّاني :
قال بعد أن انتقد شيئا من كلام الوزاني:
و قد سمعت من يستدل للذكر بالاسم المفرد بحديث الأشعث الأغبر الذي يقول : ((يا رب يا رب و مطعمه حرام)), يقيس لفظ الله على لفظ الرب, و هو مردود بوجوه:
الأول :ما يقال: هذا حكاية لقول الأشعث الأغبر, لا أمر من الشارع بذلك, و إلا لزم أن يكون ما وُصف به من الأفعال و الصفات مطلوبا أيضا, و هو جهل محض.
و لا يقال : فرق بين قوله هذا, و بين فعله.
لأنا نقول: قوله ذلك مصحوب بهذا أو الخبائث كفعله, سلمنا الفرق, و لكن لا نسلم القياس, لأن قول الأشعث دعاء, و المقيس عليه ذكر, سلمنا أن الدعاء ذكر, و لكن لا نسلم أن لفظ الله يقاس على لفظ الرب, سلمناه, و لكن لا نسلم أن ذكر الاسم المفرد مكررًا جهرُا بلفظ واحد, و لجماعة أو فرد, في أوقات معلومات تتكرَّر, مع اعتقاد تَقَرُّب بهذا لله, يقاس على دعاء الأشعث و غيره, لإهمال رسول الله و أصحابه هذا القياس, و لو كان خيرا ما سبقناهم إليه, فمواظبتهم على ضده دليل على مطلوبية الضد, و عدم مطلوبيته هو, و يجيء ما تقدم حرفا بحرف, و هو وجوه زائدة على الوجه الأول, و به يظهر لك رد الفاسي إنكار عز الدين لذلك, و ما بناه المعترض عليه من مطلوبية التهليل المذكور, و أن غاية ما فيه حكمهم بأنه بدعة.
و قد علمت أن البدعة تكون مستحبة, و واجبة إلى آخره.
لأن البدعة المستحبة, و الواجبة, لا تكون في الدينيات, بل تكون في العاديات, و الوسائل.
و البدعة في الدينيات, إما مكروهة, أو محرمة لا غير.
و بتأمله يظهر لك التفصيل بعد المقدمة التي أشرنا إليها من قبل, و سنوضح إن شاء الله ما نقله عن السيوطي هنا.
كما أن قوله: إنه في تقسيمه البدعة إلى الأحكام الخمسة سالكا الطريق اللغوية تبعتُ في ذلك الرّهوني....إلى آخره.
يقال عليه :
أولا : البدعة اللغوية أوسع من تقسيمه و تقسيم غيره, إذ البديع : المحدِث, المخترِع, و البدعة و المبدَع و المبتدَع : المحدثات, فتشمل الأقوال, و الأفعال, و الأحوال, و الذوات, لما سوى الله, سواء كان إحداثها في الماضي, أو في الحال, أو في المستقبل, و هو لسان العرب, و به جاء القرآن, قال الله تعالى : ((بديع السماوات و الأرض))
و في الحديث : ((يا بديع السماوات و الأرض)).
و البدعة العرفية في عرف المسلمين العام : ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم, و هذه المنقسمة إلى الأحكام الخمسة, و أما الأُولى فإنها تشمل ما لا يدخل في تلك الأحكام, من صنائع و غيرها لما تقدم, و هذه العرفية تشمل الوسائل و المقاصد, و الشرعيات, و العاديات.
و في العرف الخاص, و هو عرف الشرع : (( ما أحدث فيما يتقرب به إلى الله تعالى, مما لم يفعله رسول الله, و لا قرره, و لا أمر به, و لا ظهر لأصحابه أنه من ذلك )).
و عليه فاللائق لتعبير هذا السيد و من تبعه, أن يكون بالعرفية العامة لا باللغوية.
و ثانيا : دعواه متابعة الرَّهوني في اللغوية لا يسلم له, إذ استدلاله على المتابعة في ذلك بذكر الرهوني, كقراءة البردة على الميت بوصف القراءة الخاص المعلوم من جملة البدع لا يدل على ما ادعاه, فإن قراءة البردة على الميت إنما يقصد بها قارئها الشفاعة للميت, و طلب الثواب له, و يجعلون ذلك من المطلوبات الشرعية في هذا الوقت, و يعتقدون أن لها ثوابا عظيما عند الله, و منهم من يُقَدِّرُهُ, و إنما يجعل الثواب و يقدره, و يبين الشفيع, و يعين اللائق بالوقت من غيره الشارعُ, و لا شيء من ذلك هنا, بل الشارع عيَّن لهذا الوقت الاعتبار, و الصمت, و الذكر السري, و ما يحتاج إليه الميت من تشييع, و حمل, و صلاة, ثم قضاء دين, و إخراج وصية.
فالمعين لشيء يدفع ما يعينه الشّرع, و لو على سبيل الندب في الجانبين, مبتدع بدعة شرعية, لا لغوية, و لا عرفية, و حينئذ فهي بمثابة تهليل وراء الجنائز الموضوع للنزاع, و به يظهر لك المتابعة المدعاة.
و لا يقال: غاية ما في البردة, و التهليل : الثناء على الله و رسوله و ذكره, و هما مطلوبان شرعا, مثاب عليهما.
لأنا نقول : البدعة في وقوعها بالأوصاف المذكورة, و في الوقت الذي عينه الشارع بفعله غيرهما, كما لا يقال : و يلزمكم هذا في قراءة الأحزاب, و القرآن, على الصفة التي يقرأ بها على الميت و في القبر.
لأنا نقول : على مذهب مالك و من تبعه بكراهة ما ذكر فلازم, و القول هو القول في موضوع النزاع, و كذا فيما شابهه.
و على مذهب من يستحب ذلك فجوابه ما عند الرهوني, من أن ذلك نص على استحبابه كثير من أهل العلم, و جلب بعض نصوصهم و استدل لسُنِّيته بما رواه الإمام أحمد و النسائي, و الحاكم, و ابن حبان, عن يعلى بن شداد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( اقرءوا على موتاكم يس)), إلى آخر ما قال.
و إن كان لا صراحة فيه بالكيفية المعلومة, من اجتماع القراء على صوت واحد جهرا.
كما لا يقال : يلزمكم هذا أيضا في نقط المصحف, و شكله, و جمعه, و إحداث المحاريب, و أشباهها.
لأنا نقول : فرق بين ما هو وسيلة للقربى, و بين نفس القربة, فالوسيلة لها ما مر بها عند الاحتياج إليها, بنصوص الكتاب و السنة, كقوله تعالى : (( و افعلوا الخير)) و ((و اعملوا صالحا)) و ((تعاونوا على البر و التقوى)).
من غير تقييد بزمان, و لاشك أن الناس لم يجتمعوا إلى جمع المصحف و نحوه إلا عند الموجب, و من خوف الزيادة في القرآن, أو النقص منه, أو التحريف, أو جهل اللغة مثلا, و شمول مثل هذه النصوص للقرب مسلم, و لكن بشرط التحديد الشرعي, فلا يجوز تعديه زمانا, و لا مكانا, و لا وصفا, و لا عرفا, و لا جمعا, فتأمل ذلك.
---------------------------------------------------
(1) هو عالم سلفي مغربي ت 1385هـ 1966م, أثنى عليه علماء عصره و له مؤلفات عديدة في نصر السنة و قمع البدعة.
(2) هو محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف أبو عبد الله الرهوني, الفقيه المالكي, نشأ و تعلم بفاس, صاحب الحاشية على شرح الزرقاني على مختصر الخليل ت 1230هـ.