خاتمة: فيها نصيحة للدعاة
كم هي عظيمة مصيبة المسلمين اليوم وهم يلاقون ما يلاقون من الحاقدين عليهم المبغضين لدينهم؛ في كل يوم تسقط لهم راية، وتنحسر خريطتهم قرية بعد قرية، وتتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فتستنزف ثرواتهم، وتهدر كرامتهم، ويعتدى على دينهم جهارا نهارا، وهذه بلية سوداء، وداهية دهياء، لا ينجي منها إلا الاعتصام بالله الذي لا يغلبه شيء، والاعتصام به هو الرجوع إلى وحيه.
وبعدما علمنا شيئا من مقاصد هذه السورة المباركة، أتقدم بالنصح الصادق لمن أكرمهم الله فجعلهم دعاة إلى سبيله بأن يجعلوا هذه المقاصد نصب أعينهم وثمرات أعمالهم، وأن ترتكز عليها دعوتهم ، فيحيوا في الناس مقصد (الإخلاص والاتِّباع) حتى يكون من أهل التوحيد والسنة حقيقة، فلا يكن همكم أن تكثر لكم الأتباع، وتُشنَّف لكم الأسماع، وتشرئب لكم الأعناق،
وتضرب إليكم آباط النياق، ولكن وطِّنوا أنفسكم على إرضاء ربكم، وهذا هو الإخلاص، ولن تُرضُوا ربكم إلا باقتفاء أثر الرسول r في طريقة الإصلاح، وهذا هو الاتِّباع، وأن تحيوا فيهم مقصد ( إصلاح الباطن والظاهر)؛ فتستوي بواطنهم بظواهرهم حتى يكونوا من هل الصدق، وتحيوا فيهم مقصد ( الذكر والشكر) حتى يكونوا من أولياء الله الصالحين، وجماع ذلك( تقوى الله) التي ينبغي أن تشغلوا الساحة الدعوية بالحديث عنها بتفاصيلها التي جاء بيانها في هذا الكتاب، بدءا بحق الله الأعظم الذي هو التوحيد وتركيزا عليه وعلى ما يتبعه؛ فإن من نصر حق الله نصره الله، وأن رائد ذلك كله العلم، ولذلك قال ابن تيمية في« مجموع الفتاوى» (20/131):" الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَأْمُرُ بِالتَّقْوَى وَيَحُضُّ عَلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنْهَا(1) وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) عددتها فوجدتها ذكرت خمسا وثلاثين مرة ومائتي مرة، عدا المحتمل منها والمشتق منها لغير معناها.
إلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين(1)، وَهِيَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ (2)، وَأَوَّلُ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ (3)، وَأَهْلِ أَصْحَابِ الْعَاقِبَةِ (4) ؛ وَأَهْلِ الْمَقْعَدِ الصِّدْقِ (5)، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ودليله قول الله عز وجل :{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
(2) ودليله قول الله عز وجل :{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
(3) ودليله قول الله عز وجل :{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)} [الشعراء: 105، 106]، وقوله:{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)} [الشعراء: 123، 124]، وقوله:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)} [الشعراء: 141، 142]. وقوله :{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)} [الشعراء: 160، 161]، وقوله:{ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)} [الشعراء: 176، 177].
(4) ودليله قول الله عز وجل :{إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
(5) ودليله قول الله عز وجل :{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55].
وقد ذكر الكلبي في« التسهيل لعلوم التنزيل» (1/36) خمسة عشر فضلا من فضائل التقوى في القرآن، فليرجع إليه من شاء.
ومن كلمات السلف في التقوى ما نقله ابن القيم في كتابه « الفوائد » (ص 71)ن قال رحمه الله:" ودّع ابن عون رجلا فقال: عليك بتقوى الله, فإن المتقى ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس, وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا. وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا, وعلّمنا مما علّم الناس ومما لم يعلموا, فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية, والعدل في الغضب والرضا, والقصد في الفقر والغنى ".
ثم أعود فأقول للدعاة : وإن كنتم تأتون السلاطين فتحدثونهم عن الحكم بالشريعة فجزاكم الله خيرا وسدَّد ألسنتكم في ذلك إلى محاسن الآداب، ورزقكم الحكمة
وفصل الخطاب، لكن يجب أن تكونوا أول المتحاكمين إلى شريعة الله فيما تأتون وتذرون.
وكونوا مقتصدين في مثالب الحكام ولا تكونوا فيها من المسرفين فيسلطهم الله عليكم بأشد مما تحذرون، قال أبو إسحاق السبيعي رحمه الله :" ما سبَّ قوم أميرَهم إلا حرموا خيره " رواه أبو عمر الداني في " السنن الواردة في الفتن (146)، وقبل أن تجتهدوا في توعية الناس بمصابهم في حكامهم، اجتهدوا في توعيتهم بمصابهم في أنفسهم؛ فإنكم لم تؤتوا من قبلهم بقدر ما أتيتم من قبل أنفسكم؛ قال الله عز وجل لخير الخلق :﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79] ، وقال لخير الأتباع:﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165]، فشرور الأنفس وسيئات الأعمال هي أصل كل بلية لو كان الدعاة يعقلون، فلذلك كان سيد المصلحين لا يزيد في افتتاح خطبه على التعوذ منها، فيقول:« .... ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا » رواه أصحاب السنن وصححه الألباني فيها.
ولا تحرضوا الناس على مجاهدة عدوِّهم قبل تحريضهم على مجاهدة أنفسهم؛ فمن عجز عن نفسه التي بين جنبيه كيف يقدر عليها ؟! ولابن كثير رحمه الله كلام متين في " تفسيره" عند قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123]، قال فيه:" وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي: قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه.
وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سَفال وخسار. ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يُمانعوا لشغل الملوك بعضِهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا
على كثير من بلاد الإسلام، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد. فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم ".
وللقرطبي المفسر رحمه الله كلام عظيم في " الجامع لأحكام القرآن " عند قوله تعالى من سورة البقرة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] قال فيه (3/255):" وفي قولهم رضي الله عنهم : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه.
قلت : هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري : قال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هل
ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟!". فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون، والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة. قال الله تعالى : {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران : 200] وقال : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة : 23] وقال : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل : 128] وقال : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج : 40] وقال : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال : 45]. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره ، ولا من الدين إلا رسمه؛ لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا ، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم ".
فانظروا إلى دقة هذا الكلام: ما أصدقه على الواقع، وما أسعده بالنص! واعرفوا به أهل زمانكم، تدركوا من
خلاله سبب تخلف النصر، ويتيسر لكم فهم ما يذكره العلماء الراسخون عن حكم الجهاد في ديار مسلمة قد استولت الشبهات والشهوات على أهلها إلا فئة قليلة من الغرباء، نسأل الله أن يؤنس غربتها ويفرج كربتها.
وكونوا وقَّافين عند النصوص فبين أيديكم آيات الكتاب بالحق ناطقٌ، وبيان من السنة صادق، واستنباطُ عالم، وشهادة عوالم، فالزموه ولا تأخذكم به في الله لومة لائم، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2 / 109): " ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء ".
وكونوا مشفقين على أرواح إخوانكم المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فلا تعرضوها للتلف بفتوى دموية يرتجلها اللسان في ساعة فورة غضبية عمياء؛ فإن المسلم الغيور بقد ما يحزنه أن يرى هذا الواقع المر يحزنه أن يرى اليد الآثمة تتلقَّف إخوانه لتذبحهم بسبب عجلة من لا
ينظر في المآل كما ينظر إلى سوء الحال؛ فإن النظر في المآلات والعواقب يَعصم من كثير من الطيش والمعاطب، بل هو ميزان صحة الأعمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم :« إنما الأعمال بالخواتيم» متفق عليه.
فافهم هذا أيها المصلح؛ كي لا تكون أداة في يد العدو يستعملك له وأنت لا تشعر، ويستميلك إليه باستدراجك إلى حرب غير متكافئة لتُهديَ له أرواح إخوانك بلا ثمن ولا نكاية فيه، يلتهمهم ثم يستفزك ناظرا منك أن تقدم له مجموعة أخرى ممن ربَّيتَ على بعض الاستقامة، فينتقم منهم ويورثك حسرة وندامة، وهكذا دواليك، حتى لا يُبقي لك فرصة للإعداد إلا بَعثر لك ما حواليك، قال الشيخ صالح الفوزان في " الجهاد: أنواعه وأحكامه " (ص 92):" كم يقتل من المسلمين بسبب مغامرةِ جاهل أغضب الكفار -وهم أقوى منه – فانقضُّوا على المسلمين تقتيلا وتشريدا وخرابا، ولا حول
ولا قوة إلا بالله! ويسمون هذه المغامرة بالجهاد!! وهذا ليس هو الجهاد؛ لأنه لم تتوفر شروطه، ولم تتحقق أركانه، فهو ليس جهادا، وإنما هو عدوان لا يأمر الله عز وجل به".
واعلموا أنه كما يعد الإقدام في المعركة شجاعة ونصرا، فإن الإحجام - عند غلبة مفسدة الإقدام – يُعدُّ شجاعة ونصرا، فقد خلَّص الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام من فرعون من غير أن يقاتلاه، بل أهلكه الله وهما هاربان منه، فسمى الله خلاصهما انتصارا مع أنهما لم يواجهاه، ولا واجه أحد من رعيتهما، فهذا الذي يعتبره المتهورون ذلاًّ ومهانة سماه الله انتصارا، فقال :﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)﴾ [الصافات: 114 - 116]، فتأملوا كيف سماه نجاة ونصرا على الرغم من حرصهما على ترك المواجهة! بل أكد ذلك فوصفهم بالغلبة، فلماذا لا تجنبون - أيها الدعاة! - المسلمين اليوم عدوهم وقد عرفتم - بفقهكم للواقع!! - شراسته كما
قال ابن عثيمين رحمه الله في " تفسير سورة الصافات " (ص 267):" والتخلص من العدو يسمى نصرا وفتحا وغلبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة حين كانت الراية مع زيد بن حارثة ثم كانت مع جعفر بن أبي طالب، ثم كانت مع عبد الله بن رواحة، وكلهم قتلوا رضي الله عنهم، قال:« ثم أخذها خالد ففتح الله على يديه »، وخالد رضي الله عنه لم ينتصر على الروم ولم يغلبهم ولكن نجا منهم، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه النجاة فتحا، كما سمى الله تعالى هنا نجاة موسى وهارون وقومه من فرعون أنها نصر وغلبة ".
وذكر ابن النَّحَّاس في " مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق " (2/891) رواية فيها أن خالدا رضي الله عنهانحاز بالجيش عن القتال في مؤتة، ورجح أن ذلك عُدَّ نصرة للمسلمين، واعتبره من جهة حفظ من بقي من المسلمين.
هذا وقد صُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت الحرام، وسماه الله فتحا على الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلمجنب المؤمنين القتال، فقال:﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾
[الفتح: 1]، وجعله سببا للنصر، فقال:﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح: 3]، ولذلك كان البراء يقول:" تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ... " رواه البخاري (4150)، وكان الزهري يقول:" لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه "، انظر الفتح (7/441)، قالوا هذا مع أن ما كان في الصلح ظلم صريح للمسلمين؛ إذ لم يكتفِ المشركون بطردهم عن وطنهم، حتى صدوهم عن مجرد زيارة خفيفة له بأداء العمرة، مع ما فيه من منع مستضعفي مكة من الالتحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وإجبار المسلمين على تسليم الفارين إليهم لمشركي مكة، والله المستعان.
وما كان من نصر في مثل هذه الحالات العصيبة إنما يحصل بسبب صبر المؤمنين وحرصهم على الطاعة ولو كانت النفس تنزع إلى الانتقام، فإن الصب عند العجز من أقوى جند الله عز وجل، قال ابن القيم في " شفاء العليل "
(ص 64) :" وزاد عناد القوم وطغيانُهم وذلك من أكبر العون على نفوسهم، وزاد صبر المؤمنين واحتمالهم والتزامهم لحكم الله وطاعة رسوله، وذلك من أعظم أسباب نصرهم إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله ولم يعلمها الصحابة ولهذا سماه فتحا ".
فهذا من استنباط هذين العظيمين: البراء رضي الله عنه والزهري رحمه الله، وذاك الذي مضى في سورة الصافات من استنباط عظيم من علماء هذه الأمة: ابن عثيمين رحمه الله، لو كان المهمومون بالجهاد يهتمون بفقه الجهاد ويعرفون للعلماء قدرهم!.
أسأل الله أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
من كتاب من مقاصد سورة البقرة
كم هي عظيمة مصيبة المسلمين اليوم وهم يلاقون ما يلاقون من الحاقدين عليهم المبغضين لدينهم؛ في كل يوم تسقط لهم راية، وتنحسر خريطتهم قرية بعد قرية، وتتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فتستنزف ثرواتهم، وتهدر كرامتهم، ويعتدى على دينهم جهارا نهارا، وهذه بلية سوداء، وداهية دهياء، لا ينجي منها إلا الاعتصام بالله الذي لا يغلبه شيء، والاعتصام به هو الرجوع إلى وحيه.
وبعدما علمنا شيئا من مقاصد هذه السورة المباركة، أتقدم بالنصح الصادق لمن أكرمهم الله فجعلهم دعاة إلى سبيله بأن يجعلوا هذه المقاصد نصب أعينهم وثمرات أعمالهم، وأن ترتكز عليها دعوتهم ، فيحيوا في الناس مقصد (الإخلاص والاتِّباع) حتى يكون من أهل التوحيد والسنة حقيقة، فلا يكن همكم أن تكثر لكم الأتباع، وتُشنَّف لكم الأسماع، وتشرئب لكم الأعناق،
وتضرب إليكم آباط النياق، ولكن وطِّنوا أنفسكم على إرضاء ربكم، وهذا هو الإخلاص، ولن تُرضُوا ربكم إلا باقتفاء أثر الرسول r في طريقة الإصلاح، وهذا هو الاتِّباع، وأن تحيوا فيهم مقصد ( إصلاح الباطن والظاهر)؛ فتستوي بواطنهم بظواهرهم حتى يكونوا من هل الصدق، وتحيوا فيهم مقصد ( الذكر والشكر) حتى يكونوا من أولياء الله الصالحين، وجماع ذلك( تقوى الله) التي ينبغي أن تشغلوا الساحة الدعوية بالحديث عنها بتفاصيلها التي جاء بيانها في هذا الكتاب، بدءا بحق الله الأعظم الذي هو التوحيد وتركيزا عليه وعلى ما يتبعه؛ فإن من نصر حق الله نصره الله، وأن رائد ذلك كله العلم، ولذلك قال ابن تيمية في« مجموع الفتاوى» (20/131):" الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَأْمُرُ بِالتَّقْوَى وَيَحُضُّ عَلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنْهَا(1) وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) عددتها فوجدتها ذكرت خمسا وثلاثين مرة ومائتي مرة، عدا المحتمل منها والمشتق منها لغير معناها.
إلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين(1)، وَهِيَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ (2)، وَأَوَّلُ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ (3)، وَأَهْلِ أَصْحَابِ الْعَاقِبَةِ (4) ؛ وَأَهْلِ الْمَقْعَدِ الصِّدْقِ (5)، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ودليله قول الله عز وجل :{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
(2) ودليله قول الله عز وجل :{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
(3) ودليله قول الله عز وجل :{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)} [الشعراء: 105، 106]، وقوله:{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)} [الشعراء: 123، 124]، وقوله:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)} [الشعراء: 141، 142]. وقوله :{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)} [الشعراء: 160، 161]، وقوله:{ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)} [الشعراء: 176، 177].
(4) ودليله قول الله عز وجل :{إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
(5) ودليله قول الله عز وجل :{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55].
وقد ذكر الكلبي في« التسهيل لعلوم التنزيل» (1/36) خمسة عشر فضلا من فضائل التقوى في القرآن، فليرجع إليه من شاء.
ومن كلمات السلف في التقوى ما نقله ابن القيم في كتابه « الفوائد » (ص 71)ن قال رحمه الله:" ودّع ابن عون رجلا فقال: عليك بتقوى الله, فإن المتقى ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس, وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا. وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا, وعلّمنا مما علّم الناس ومما لم يعلموا, فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية, والعدل في الغضب والرضا, والقصد في الفقر والغنى ".
ثم أعود فأقول للدعاة : وإن كنتم تأتون السلاطين فتحدثونهم عن الحكم بالشريعة فجزاكم الله خيرا وسدَّد ألسنتكم في ذلك إلى محاسن الآداب، ورزقكم الحكمة
وفصل الخطاب، لكن يجب أن تكونوا أول المتحاكمين إلى شريعة الله فيما تأتون وتذرون.
وكونوا مقتصدين في مثالب الحكام ولا تكونوا فيها من المسرفين فيسلطهم الله عليكم بأشد مما تحذرون، قال أبو إسحاق السبيعي رحمه الله :" ما سبَّ قوم أميرَهم إلا حرموا خيره " رواه أبو عمر الداني في " السنن الواردة في الفتن (146)، وقبل أن تجتهدوا في توعية الناس بمصابهم في حكامهم، اجتهدوا في توعيتهم بمصابهم في أنفسهم؛ فإنكم لم تؤتوا من قبلهم بقدر ما أتيتم من قبل أنفسكم؛ قال الله عز وجل لخير الخلق :﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79] ، وقال لخير الأتباع:﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165]، فشرور الأنفس وسيئات الأعمال هي أصل كل بلية لو كان الدعاة يعقلون، فلذلك كان سيد المصلحين لا يزيد في افتتاح خطبه على التعوذ منها، فيقول:« .... ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا » رواه أصحاب السنن وصححه الألباني فيها.
ولا تحرضوا الناس على مجاهدة عدوِّهم قبل تحريضهم على مجاهدة أنفسهم؛ فمن عجز عن نفسه التي بين جنبيه كيف يقدر عليها ؟! ولابن كثير رحمه الله كلام متين في " تفسيره" عند قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123]، قال فيه:" وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي: قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه.
وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سَفال وخسار. ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يُمانعوا لشغل الملوك بعضِهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا
على كثير من بلاد الإسلام، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد. فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم ".
وللقرطبي المفسر رحمه الله كلام عظيم في " الجامع لأحكام القرآن " عند قوله تعالى من سورة البقرة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] قال فيه (3/255):" وفي قولهم رضي الله عنهم : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه.
قلت : هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري : قال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هل
ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟!". فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون، والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة. قال الله تعالى : {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران : 200] وقال : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة : 23] وقال : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل : 128] وقال : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج : 40] وقال : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال : 45]. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره ، ولا من الدين إلا رسمه؛ لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا ، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم ".
فانظروا إلى دقة هذا الكلام: ما أصدقه على الواقع، وما أسعده بالنص! واعرفوا به أهل زمانكم، تدركوا من
خلاله سبب تخلف النصر، ويتيسر لكم فهم ما يذكره العلماء الراسخون عن حكم الجهاد في ديار مسلمة قد استولت الشبهات والشهوات على أهلها إلا فئة قليلة من الغرباء، نسأل الله أن يؤنس غربتها ويفرج كربتها.
وكونوا وقَّافين عند النصوص فبين أيديكم آيات الكتاب بالحق ناطقٌ، وبيان من السنة صادق، واستنباطُ عالم، وشهادة عوالم، فالزموه ولا تأخذكم به في الله لومة لائم، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2 / 109): " ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء ".
وكونوا مشفقين على أرواح إخوانكم المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فلا تعرضوها للتلف بفتوى دموية يرتجلها اللسان في ساعة فورة غضبية عمياء؛ فإن المسلم الغيور بقد ما يحزنه أن يرى هذا الواقع المر يحزنه أن يرى اليد الآثمة تتلقَّف إخوانه لتذبحهم بسبب عجلة من لا
ينظر في المآل كما ينظر إلى سوء الحال؛ فإن النظر في المآلات والعواقب يَعصم من كثير من الطيش والمعاطب، بل هو ميزان صحة الأعمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم :« إنما الأعمال بالخواتيم» متفق عليه.
فافهم هذا أيها المصلح؛ كي لا تكون أداة في يد العدو يستعملك له وأنت لا تشعر، ويستميلك إليه باستدراجك إلى حرب غير متكافئة لتُهديَ له أرواح إخوانك بلا ثمن ولا نكاية فيه، يلتهمهم ثم يستفزك ناظرا منك أن تقدم له مجموعة أخرى ممن ربَّيتَ على بعض الاستقامة، فينتقم منهم ويورثك حسرة وندامة، وهكذا دواليك، حتى لا يُبقي لك فرصة للإعداد إلا بَعثر لك ما حواليك، قال الشيخ صالح الفوزان في " الجهاد: أنواعه وأحكامه " (ص 92):" كم يقتل من المسلمين بسبب مغامرةِ جاهل أغضب الكفار -وهم أقوى منه – فانقضُّوا على المسلمين تقتيلا وتشريدا وخرابا، ولا حول
ولا قوة إلا بالله! ويسمون هذه المغامرة بالجهاد!! وهذا ليس هو الجهاد؛ لأنه لم تتوفر شروطه، ولم تتحقق أركانه، فهو ليس جهادا، وإنما هو عدوان لا يأمر الله عز وجل به".
واعلموا أنه كما يعد الإقدام في المعركة شجاعة ونصرا، فإن الإحجام - عند غلبة مفسدة الإقدام – يُعدُّ شجاعة ونصرا، فقد خلَّص الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام من فرعون من غير أن يقاتلاه، بل أهلكه الله وهما هاربان منه، فسمى الله خلاصهما انتصارا مع أنهما لم يواجهاه، ولا واجه أحد من رعيتهما، فهذا الذي يعتبره المتهورون ذلاًّ ومهانة سماه الله انتصارا، فقال :﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)﴾ [الصافات: 114 - 116]، فتأملوا كيف سماه نجاة ونصرا على الرغم من حرصهما على ترك المواجهة! بل أكد ذلك فوصفهم بالغلبة، فلماذا لا تجنبون - أيها الدعاة! - المسلمين اليوم عدوهم وقد عرفتم - بفقهكم للواقع!! - شراسته كما
قال ابن عثيمين رحمه الله في " تفسير سورة الصافات " (ص 267):" والتخلص من العدو يسمى نصرا وفتحا وغلبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة حين كانت الراية مع زيد بن حارثة ثم كانت مع جعفر بن أبي طالب، ثم كانت مع عبد الله بن رواحة، وكلهم قتلوا رضي الله عنهم، قال:« ثم أخذها خالد ففتح الله على يديه »، وخالد رضي الله عنه لم ينتصر على الروم ولم يغلبهم ولكن نجا منهم، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه النجاة فتحا، كما سمى الله تعالى هنا نجاة موسى وهارون وقومه من فرعون أنها نصر وغلبة ".
وذكر ابن النَّحَّاس في " مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق " (2/891) رواية فيها أن خالدا رضي الله عنهانحاز بالجيش عن القتال في مؤتة، ورجح أن ذلك عُدَّ نصرة للمسلمين، واعتبره من جهة حفظ من بقي من المسلمين.
هذا وقد صُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت الحرام، وسماه الله فتحا على الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلمجنب المؤمنين القتال، فقال:﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾
[الفتح: 1]، وجعله سببا للنصر، فقال:﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح: 3]، ولذلك كان البراء يقول:" تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ... " رواه البخاري (4150)، وكان الزهري يقول:" لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه "، انظر الفتح (7/441)، قالوا هذا مع أن ما كان في الصلح ظلم صريح للمسلمين؛ إذ لم يكتفِ المشركون بطردهم عن وطنهم، حتى صدوهم عن مجرد زيارة خفيفة له بأداء العمرة، مع ما فيه من منع مستضعفي مكة من الالتحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وإجبار المسلمين على تسليم الفارين إليهم لمشركي مكة، والله المستعان.
وما كان من نصر في مثل هذه الحالات العصيبة إنما يحصل بسبب صبر المؤمنين وحرصهم على الطاعة ولو كانت النفس تنزع إلى الانتقام، فإن الصب عند العجز من أقوى جند الله عز وجل، قال ابن القيم في " شفاء العليل "
(ص 64) :" وزاد عناد القوم وطغيانُهم وذلك من أكبر العون على نفوسهم، وزاد صبر المؤمنين واحتمالهم والتزامهم لحكم الله وطاعة رسوله، وذلك من أعظم أسباب نصرهم إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله ولم يعلمها الصحابة ولهذا سماه فتحا ".
فهذا من استنباط هذين العظيمين: البراء رضي الله عنه والزهري رحمه الله، وذاك الذي مضى في سورة الصافات من استنباط عظيم من علماء هذه الأمة: ابن عثيمين رحمه الله، لو كان المهمومون بالجهاد يهتمون بفقه الجهاد ويعرفون للعلماء قدرهم!.
أسأل الله أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
من كتاب من مقاصد سورة البقرة
تعليق