الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيَا أيّها الناس، اتَّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عِبادَ الله، صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قالَ: * إنّ اللهَ يَرضَى لكُم ثَلاثًا: أن تَعبدوه ولا تشرِكوا بِه شَيئًا، وأن تعتَصِموا بحبلِ الله جمِيعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحُوا مَن ولاّه الله أمرَكم* [1]. إنها وَصايَا عظيمةٌ يَرضَاها الله لنا، إذًا فهو يأمُرنا بها وبمُلازَمتِها والاستِمرارِ على ذَلك.
يرضَى لنَا ربُّنا أن نعبدَه ولا نشركَ به شيئًا، ولا يرضَى لنَا الكفرَ، فالعِبادةُ حَقٌّ لربِّنا جلّ وعَلا، وهو المستحِقّ لعبادَتِنا دونَ سِواه، خَلَقَنا لنَعبدَه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خلَقَنا لهذِه الغايةِ العظيمةِ، وبعَثَ لنا رَسولَه صلى الله عليه وسلم ليبيّنَ لنا حَقيقةَ هذه العِبادةِ، هذهِ العبادةُ حقٌّ لربّنَا، فلِربِّنا الدُّعاءُ، فنخلِص دعاءَنا لله، لا ندعو مع الله غيرَه، ونذبَح له، لا نذبَح لغيره، وتتعلّق قلوبنا بربِّنا حبًّا وخوفًا ورجاءً، ونعلم أنّه المستحِقّ للعِبادةِ، فلا تصلحُ العبادةُ لسِواه كائنًا مَن كان، ولا يرضَى لنا أن نُشركَ به ونَكفرَه، فإنّ عبادتَنا لغيرِه شركٌ عظيم، شركٌ به جل وعلا، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].
ويَرضَى لنا تَعالى أن نَعتصِمَ بحبلِه جميعًا ولا نَتَفرَّق، يَرضَى لنا أن نَعتَصمَ بحبلِه جميعًا، وحَبلُه كتابُه وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نعتصمُ بهِما عِلمًا وعملاً، وأن نجتَمعَ على ذلك، وأن لا نتفرَّق، أن نعتصمَ بحبل الله، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
ويرضَى لنا أن نُناصِحَ من ولاّه الله أمرَنا، فإنّ التناصُحَ بين المسلِمِين طريقُ الخَيرِ والصّلاح، ووسيلةٌ لتَحقِيقِ المنافعِ ودَفعِ المفاسِدِ، وسبيلٌ لجَمع القلوبِ واتِّحادِ الكلِمَة وارتباطِ الجميعِ برابطِ الخيرِ والتّقى. والله تعالى يأمُرُنا أن نكونَ متعاوِنين على البرّ والتَّقوى، وينهانا عَن التعاونِ على الإثم والعدوان: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
النّاصِحُ لولاةِ أمرِه مَن يحبُّ لهم الخيرَ، ويحبِّب إليهم الخيرَ، ويسعَى جاهِدًا في تحقِيقِ المصالح ودَرءِ المفاسد، والسّعي فيما يُوحِّد الأمّةَ ويجمَع كلِمتَها على الخيرِ والهدى؛ ولأجلِ هذا جعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الدِّينَ في النّصيحةِ، فقالَ: * الدّينُ النصيحة* ، قالوا: لمن يَا رسولَ الله؟ قال: * لله ولكتابِهِ ولرسولِه ولأئمّةِ المسلِمينَ وعامَّتهم* [2].
فالنّاصحُ لولاةِ أمرِ المسلمينَ من يحِبّ الخير ويسعَى في تحقيقِ الخير بكلّ وسيلةٍ ممكنةٍ نافعةٍ، الهدفُ منها تحقيقُ المصالح ودَرءُ المفاسِد، الهدَفُ منها جمع القلوبِ، الهدفُ منها السّعيُ في الخيرِ العامّ للأمّةِ في حاضِرها ومستقبَلها. الناصِحُ ليسَ همُّه تتبّعَ الزّلاّتِ والسّقَطات، ولكن همُّه الإصلاحُ والتوفيقُ. النّاصحُ للأمّة ليسَ همّه الشماتةَ والفَرحَ بكلّ نَقص، وإنما همُّه السّعيُ فيما يُصلِح ويحقّق الخَيرَ للأمّة في حاضِرِها ومستقبَلِها.
أيّها المسلمونَ، إنَّ النّاصِحَ لولاّةِ الأمر مَن تراه دائمًا يسعَى في الإصلاحِ، ويوضِح للأمّة خطورةَ التمرّدِ على الأمّة والخروج على قيادَتها، وأنّ هذا يسبّب البلاءَ للأمّة في الحاضر والمستقبَل، فما سُفِكَت الدّماء وما انتهِكَت الأعراض وما دمِّرت الممتَلَكات وما عاثَ في الأمّة في دمائها إلاّ بأسبابِ التفرّقِ والاختلافِ.
إنَّ اجتماعَ الأمّةِ عِزٌّ لها وقوّةٌ لها، وإنّ أيَّ تفرّقٍ فيها فهو سبَب لضعفِها وهوانها، إذًا فالمسلِمُ دائمًا يسعَى فيما يحقِّق جمعَ الكلِمَة ولمِّ الشّعثِ وإصلاح أوضاعِ الأمّة بالطريقِ المشروع النّافعِ، بالكلِمَات الهادِفةِ والنّصيحةِ الصادقة التي تنمّ عن محبّةٍ في القلبِ وحِرصٍ على الخير.
أمّةَ الإسلامِ، إنّ هناكَ التِباسًا في الأمرِ عَلَى بعض مَن قلَّت بصيرتُه وضَعُف إيمانه وقَلَّ إدراكه وتمييزُه للصّالح مِن الضّار وللخَيرِ مِن الشرّ، إنّ فئةً مِن الناسِ اتَّخذوا للإصلاحِ ـ فيما يزعمون ـ وسائلَ حرَّمها الشرعُ ونهى عنها.
أخِي المسلم، هَل من وسائِلِ الإصلاحِ سفكُ دماءِ الأبرياء؟! وهل مِن وسائل الإصلاح تهديدُ أمنِ الأمّة؟! وهل مِن وسائلِ الإصلاح قتلُ رجالِ أمنِ الأمّة؟! وهَل من وسائلِ الإصلاحِ تَرويعُ الآمنين؟! وهل مِن وسائلِ الإصلاح إحداثُ الفَوضَى بين مجتمَعاتِ المسلمين؟!
إنَّ من عادَ إلى عقلِه رأَى أن تِلك الوسائلَ وسائلُ إفسادٍ لا إصلاح، ووسائل شرٍّ لا خيرَ فيها، ووسائل تدميرٍ للأمّة لا إصلاحٍ لها.
ليتّقِ المسلم ربَّه فيما يأتي ويذَر، وليحذَر من دُعاةِ السّوء ودُعاةِ البغيِ والعُدوان الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا، مَطايا لشياطين الإنسِ والجنِّ فيما يسيئون به للأمّة ويفسِدون عليها نعمةَ الله وفضلَه عليها.
أيّها الشبابُ المسلم، لنتّقِ الله في أَنفسِنا، ولنَحذَر مكائدَ أعدائِنا، ولنَحذَر مِن دعاءِ السّوء والفسَاد ودُعاةِ الفتنةِ والتّضليل ودعاةِ الشرّ والبلاءِ الذين ربما اندَسّوا بين صُفوفِ بعضِ أبنائنا، فزيَّنوا لهم البَاطلَ، وحسَّنوا لهم الشرَّ، ودَعَوهم إلى الفتنةِ والبَلاء، يظنُّ هؤلاء الأغمارُ أنّ هذا سبيلُ إصلاحٍ وهدًى، ومعاذَ الله أن تَكونَ الجرائم وسائلَ للإصلاحِ، وسائلُ الإصلاحِ معروفةٌ، وطرُق الخيرِ والتعاوُن واضِحَة، لكن النّوَايا السيّئة تبرِز حقائقَ ما انطوَت عليه ضمائرُ هؤلاء، مِن قصدِ الإفساد وسَفكِ الدّماء وتدمير الممتلَكات وترويعِ الآمِنين، كلُّ ذلك من استحواذِ الشّيطان عليهم أن زيَّنَ لهم الباطلَ فظنّوه حقًّا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
شَرِيعةُ الإسلامِ جاءَت لتحُثَّ المجتمعَ المسلمَ على التّعاوُنِ والارتباط، وتحذِّرهم مِنَ الفتَن مَهمَا كان نوعُها، وتلزِم طاعَةَ ولاةِ الأمرِ فيما فيه طاعةٌ للهِ، وتجعَل ذلك دينًا يَدين العبدُ به لربّه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
أمّةَ الإسلامِ، إنّ أعداءَ الإسلامِ يغيظهم أن يَرَوا المجتمَعَ المسلِمَ في أمنٍ واستقرارٍ وانتظامٍ في حَياتِه واستقرارٍ في أوضاعِه، فيدسّون إلى أولئك الأغرارِ ويوحُون إليهم الباطلَ على يَدِ مَن يَظنّ أولئك أنّ هؤلاء ناصِحون، والله يعلَم إنهم لكاذبون. يريدونَ بالأمّةِ الشرَّ والفَسادَ، يريدون لها الفوضَى، يريدون لها أن تكونَ غارقةً في دمائِها، يريدون أن يسلبوا نعمةَ الله عليها، يريدون أن يبَدِّلوا أمنَها خوفًا ورغَدَها جُوعًا واستقرارها فوضى، ويأبى الله ذلك والمؤمنُونَ.
أيّها المسلم، إنَّ المؤمنَ الغَيورَ على دينِهِ لا يرضَى بهذِه التّرّهات، وموقفُه مِنها موقِفُ المنكِرِ لها الذي يشجبُها ويعلَم أنها تصرّفاتٌ باطلةٌ، تصرّفات غير لائِقَة، تصرّفات مِن سُفهاءَ وضُعفاء العقولِ وقِلّة إيمان، أوحاها إليهم شياطينُ الإنس والجن ممّن ضلَّ سعيهم في هذه الحياةِ الدنيا، ويقول الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112، 113]. فشياطينُ الإنسِ أولئك الّذين ضَلَّ سَعيُهم في هَذه الدّنيا، شياطينُ يريدونَ إفسادَ الأمّةِ؛ لأنهم إخوانُ اليهود الذين يقول الله فيهِم: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
فاحذَر ـ أخي الشابّ ـ أن تنخدِعَ بهم أو تغترَّ بهم أو تثِقَ بهم أو تَرى أنَّ عِندهم نُصحًا، فوالله ما نصَحوك، وما قالوا لك الحقيقةَ، وإنما أرادوا بكَ الشرَّ وبأمّتِك.
شَبابَ الإسلام، لنتّقِ الله في أنفسِنا، ولنحذَر من أن نُصغيَ لأيِّ دِعايةٍ لا نعرِف حقيقتَها، ولا نقبَل من كلِّ من جاءَنا برأيٍ بمجرَّد أن حَسَّن ذلك الرأيَ لنا، لا بدَّ أن نعرفَ هذا القائلَ، وندرسَ حياتَه، ونعلَمَ ماذا يريد وماذا وراءَ السُّطور؛ لنكتشِفَ الأمرَ على حقيقَتِه، أمّا أن نستسلِمَ لدُعاةِ الضّلال والسوءِ الذين لا يريدونَ بمجتمَعِنا المسلمِ خيرًا، وإنما يريدون بهِ البلاءَ.
هذه الفتنُ والمصائِب لأناسٍ استرخَصوا أنفسَهم في الباطلِ، فلَقوا المصيرَ السيّئ والعياذ بالله، وتحمَّلَ أوزارَهم مَن أشارَ لهم ومَن أعانهم على باطلهم، أو مَن تعاطَف معهم، أو مَن أحسنَ الظنَّ بهم، فكلّ أولئَك شُركَاءُ في الإثمِ والعُدوانِ؛ لأنهم تعاوَنوا على العدوانِ، تعاونوا على أمّةِ الإسلامِ، وبَغَوا لها الغوائلَ، والله جلّ وعلا حافِظُها بتوفيقِه وعونِهِ.
أيّها الآباءُ الكِرام، إنّ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. فعَلَى الآباء جميعًا تقوَى الله، وعلَيهم الأخذُ علَى أيدِي سُفَهائِهم، وأن لا يمكِّنوهم من هذهِ الآراء الشاذّة، وأن يأخُذوا على أيديهم ويتدارَكوا الأمرَ قبلَ أن يستفحِلَ.
إنَّ الآباءَ إذا انتبَهوا لأبنائهم وأين ذهبوا ومع من ذَهبوا وأين اجتمَعوا ومع مَن اجتمعوا وأين سافَروا مع مَن سافروا، حتى يأخذَ فِكرةً طيّبة عَن أبنائِه ومَن يلتقِي بهم؛ لأنّنا إذا أخَذنَا بهذا الطريق بتوفيقٍ من الله استَطعنَا أن نقطعَ خطَّ الرّجعةِ على الأعداء الذين يستغلّون ضعفَ عقولِ بعضِ الصّغار، يستغلّون ضعفَ عقولهم وقلّةَ بصيرتهم، وربما حسّنوا لهم البَاطلَ، وقالوا لهم: هذا سبيلُ الجنّةِ، سبيلُ الجنة في تصوُّرِهم أن تقتلَ مسلِمًا بريئًا أو معاهَدًا بَريئًا، تقتلَه ظلمًا وعدوانًا، هذا سبيلُ الجنّةِ في نظرِ أولئك، ولا شكَّ أنه سبيلُ النار لا سبيل الجنّة. إنَّ سبيلَ الجنّةِ والهدَى تقوَى الله وطاعةُ الله والنّصيحة للمسلمين وتوضيحُ الحقِّ لهم وتحذيرُهم من سُبلِ الرّدَى، أمّا قتل الأبرياء وتدميرُ الممتلَكَات ونهبُ الأموالِ وترويع الآمنين فإنّه سبيلُ الشيطان لا سبيل خيرٍ وهدى.
فيا أيّها الآباء الكرام، اتَّقوا الله في أبنائكم. ويا أيّها المعلِّمون، اتقوا الله في تلاميذِكم، وجِّهوهم إلى الخير، حذِّروهم مِن سبل الرّدَى، متى ما شمَمتم من أحدٍ نزعةً شرّيرة فحاوِلوا العلاجَ ما دامَ الأمرُ ممكِنًا، حاولوا علاجَ أفكَارِهم وتصحيحَ اتِّجاهِهِم وسلوكِهم، حتى لا يقَعوا ضحيّةً لتأثير الأعداء. إنَّ المعلِّمَ الصادِق من ينشُر الحقَّ ويدعو إليه، ويبيِّن لشبابِنا خطورةَ هذه الدّعايات المضلِّلةِ وخطورةَ هذه الآراءِ المنحَرِفة؛ لنصلِح من أبنائنا ما فسَد ونوجّههم إلى الخير.
وإنَّ خطباءَ المساجِد والدّعاةَ إلى الخير ووسائلَ الإعلام عمومًا واجبُ الجميعِ التكاتفُ وتبيين الحقِّ وإيضاحُ الهدَى والتحذير من سُبُل الرّدى بالأساليب الشّرعيّة والطّرُق الشرعيّة التي نضمَن بتوفيقٍ من الله أن نقضيَ على هذا الغلوّ الشّديد، غلوّ بالزيادة أو غلوّ بالتطرّف والبعدِ عن الهدى، لا بدَّ أن نسعَى في أن تكونَ أفكار شبابِنا أفكارًا متَّزِنة، أفكارًا وسطيّةً، أفكارًا بعيدَةً عن التأثّرِ بدعايات أهلِ الضّلال الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا وهم لا يصلِحون.
أينَ الإصلاحُ من قومٍ اتَّخذوا الجرائمَ وسيلةً لما يدّعون أنه إصلاح؟! ويعلَم الله إنهم لكاذبون، وسائلُ الإصلاح معروفة، طرُق التوجيهِ والتّناصح واضحةٌ، أمّا القتل وسفكُ الدّماء والتّغرير بهؤلاء الجهَلَة والزّجُّ بهم في هوّة سحيقة، فهذا عينُ الغِشّ لهم وعينُ الخِيانةِ لهم، لو كان هذا في قَلبِه إيمان لما رَضِيَ لهذا الشابّ أن يزجَّ بنفسِه في أمورٍ لا خَيرَ فيها، وليست لها عواقبُ حسنة، بل عواقبها سيّئة. إنه لا يرضاها لأبنائِه، فكيف يرضَاهَا لأبناء الآخرِين؟! إنه لا يرضَاها لنفسه، فكيف يَرضاها للآخرين؟!
فلنتّق الله جميعًا، ولنتعاوَن على البرِّ والتقوَى، ولنعلَم أنّ دينَنا وأمننا ورَخاءَنا أمانةٌ في أعناقِنا، ليؤدِّ كلٌّ واجبَه، وليحذر كلٌّ منّا أن تزِلّ قدمُه بأمورٍ لا خيرَ فيها. فلنتَّقِ الله جميعًا، ولنأخُذ عِبرةً مِن أوضاعِ الآخرين الذين يعيشونَ في دوّامةٍ مِنَ الفِتن، تقضّ الأحداثُ مضاجِعَهم صباحًا ومساء، كم حَصَدت هذه الفتنُ مِن أرواح، كم أرمَلت من نساءٍ وأيتَمَت من أطفال ودمَّرت من أموالٍ وأفقرت من غِنَى وأذلَّت من عِزّ، عياذًا بالله من سوءِ الفِتن ما ظهَر منها وما بطن.
فلنعتصِم بحبلِ الله، ولنجتمِع على الخيرِ، ولنأخذ على أيدِي سُفهائنا، ولنأطرهم على الحقِّ أطرًا، ولنحذِّرهم من دعاةِ الضلال وأربابِ الفِتنِ الّذين لا يرحمونَ الأمّة ولا يحسِنون إليها، يغيظهم ما يرَونَ عندَنا من استقرارٍ واستِبابِ أمنٍ ونعمةٍ عظيمةٍ من الله في هذا البلَدِ المبارك الذي يؤُمّه ملايين المسلمين لفريضةِ الحجّ والعمرةِ، ويرونَ ما فيهِ مِن نعمةٍ وخير واستقرارٍ وطمأنينةٍ ووحدةِ أفكار وآراء، فلنحذَر ممن يريدون بنا الشرَّ والبلاء.
وفقني الله وإيّاكم لكلِّ خيرٍ، وأعانَني وإيّاكم لعلى كلِّ خير، وجنَّبَ بلادَنا وبلاد المسلمين عامة كلَّ بلاء وفتنة، إنه على كلِّ شيء قدير.
أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة 1715 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه: * وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم* ، وهي زيادة عند أحمد2/267، والبخاري في الأدب المفرد 442، وصححها ابن حبان 3388، والألباني في صحيح الأدب المفرد 343.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان 55 عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.
--------------------------------------------------------------------------------
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلَ وعلا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
إِخوتي الأعِزّة، في هذِه الأيّام وأحداثُ الزّلزال المدمِّر وتلك الفيضاناتُ الهائلة التي خلَّفَت ما يزيد على مائة وعشرين ألفَ قتيل، ومفقودين الله أعلَم بهم، وخلَّفت أَيضًا ملايين مِنَ البشر في العراءِ لا مسكَنَ ولا مَطعَم، وخلَّفت مصائبَ عظيمة الله أعلم بها.
إخوتي، إنّ هذه عبرٌ وعِظات لنا، وتذكِّر العبادَ دائمًا كمالَ قدرة الله، وأنَّ الله على كل شيء قدير، وعندما يقرأ المسلم كتابَ الله ويتلُو عقوبةَ الله لمن عاقَب ممّن صدَّ عن سبيلِه ممّن اغترّوا بأنفسهم وانخدَعوا بقوَّتهم، كيف كانت قوّتهم ضعيفةً لا شيء، اضمحلَّت أمام قُدرة الذي هو على كلِّ شيء قدير، قال الله عن قومِ هودٍ أنهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، قال الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:15، 16].
يا أيّها المسلِم، إنَّ كثيرًا اغترّوا بعلمهم، واغترّوا بقدراتهم، وظنّوا أنهم سيطروا على الأرض وملَكوا زمامَ الأمور، وأنهم وأنهم.. فجاءهم ما حيّر عقولهم وأوقفهم على عجزِهم وضعفِهم وقِلّة إمكانياتهم، إنها القدرة الربانيّة، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. في بضع ثوان انقلبت الموازين، واختفَت كثير من الأراضي، وطغى الماء وارتفع ارتفاعًا شاهِقًا، حار البشرُ أمامه، فلا قُدرةَ تواجه ذلك ولا استطاعة. قدرةٌ ربانيّة حارَت أمامَها قوى البَشَر كلّها، إنّ هناك غرورًا في العِلم، غرورا وإعجابًا بأولئك، وأنهم يمكن أن يدرِكوا ما سيَقَع، ويمكِن أن يتخلَّصوا، ويمكن ويمكن... فجاءت القدرةُ الإلهية، والله على كل شيء قدير، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
باتوا في سرورٍ وما شَعروا إلاّ والأخطار تحيطُ بهم من كلِّ جانب، وهذا المدُّ البحريّ الذي ارتفع إلى عدّة أمتار حتى طغى على كلِّ شيءٍ، فسبحان القادِر على كلِّ شيء.
إذا تأمّلَ العبد هذه الدّنيا وتذكَّر قولَ الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، وتأمّلَ قوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
أيّها المسلم، إنها عِظَةٌ لمن اعتَبر، هذه الأرضُ التي ذلَّلها الله لنَا، وجعلها لنا مِهادًا، نعيش على ظهرِها، ونواري أمواتَنا في بطنها، أودَع فيها من الإمكانياتِ ما يحتاج البشرُ إليه، وسهَّل السيرَ عليها، إذا أرادَ حرَّكها بما يقلِب موازينَ البشر وتحارُ البشر أمامَ تلك القوّة العظيمة، فسبحان القادرِ على كلّ شيء.
هؤلاء بلَغوا من العلم ما بلَغوا، وانخدَعوا بعلومِهم، وظنّوا أنّ ما هم عليه من عِلمٍ سيقيهم تلك الكوارث والأحداث، لكنّها أمورٌ تضعُف وتتلاشَى أمام قدرة الله جلّ وعلا، فمهما أُعطِيَ الإنسان من علمٍ ومهما أعطي من إمكانيات ومهما ومهما، فكلّ هذه الأسبابِ إذا أراد الله أمره فإنّ أمرَ الله لا يردُّه أحَد، ولا يقِف أمامَه أحَد، بل أمر الله ماضٍ، والعباد حيارَى أمام هذه القدرةِ العظيمة الربانية.
فيا إخواني، لنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنحافظ على دينِ الله، ولنشكر الله بقلوبِنا وألسنَتِنا وجوارحنا، ولنحذَر من الله فإنَّ الله جلّ وعلا سريع العقاب، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
نسأل الله أن يجعلَنا من المتَّعظين المعتبِرين، وأن يرحَمَ أمواتَ المسلِمين، ويوفّقنا جميعًا لما يحبّه ويَرضاه من الأقوال والأعمالِ، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
أيّها المسلم، إنّ الإحسانَ في هذه الأحداث العظيمةِ في هذه الكوارثِ العظيمة إحسانٌ يرجَى لصاحبه أن يضاعِفَ الله له المثوبةَ، فإنّ في كلّ كبدٍ رطبة أجرًا، فهذه الكوارثُ العظيمة التي عمّت ما عمّت من البلاد إنّ الإحسانَ والتبرعَ والمساهمة في سبيلِ الخير عملٌ صالح، فكم ممن يعيشون في العراءِ وكم وكم.. إنّ مسارَعةَ الأمّة الإسلامية ومساهمةَ المسلمين في الإنقاذ والإسعافِ لهو عملٌ صالح، فإنّ المسلمين إذا سبَقوا غيرَهم استطاعوا بهذِه الأعمال الطيّبةِ أن يجعلوها دعايةً لدينهم الصحيحِ الذي هو الحقّ والهدى، فالمبادَرَةُ في هذا السبيل مما يحبّه الله ويرضاه، نسألُ الله لنا ولكم السلامَةَ والعافيةَ في الدّين والبدَن والأهلِ والمالِ، إنّه على كلّ شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هَديُ محمّدصلى الله عليه وسلم ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالةٌ، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله عَلَى الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عَن خلفائِهِ الرّاشِدين...
أمّا بعد: فيَا أيّها الناس، اتَّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عِبادَ الله، صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قالَ: * إنّ اللهَ يَرضَى لكُم ثَلاثًا: أن تَعبدوه ولا تشرِكوا بِه شَيئًا، وأن تعتَصِموا بحبلِ الله جمِيعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحُوا مَن ولاّه الله أمرَكم* [1]. إنها وَصايَا عظيمةٌ يَرضَاها الله لنا، إذًا فهو يأمُرنا بها وبمُلازَمتِها والاستِمرارِ على ذَلك.
يرضَى لنَا ربُّنا أن نعبدَه ولا نشركَ به شيئًا، ولا يرضَى لنَا الكفرَ، فالعِبادةُ حَقٌّ لربِّنا جلّ وعَلا، وهو المستحِقّ لعبادَتِنا دونَ سِواه، خَلَقَنا لنَعبدَه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خلَقَنا لهذِه الغايةِ العظيمةِ، وبعَثَ لنا رَسولَه صلى الله عليه وسلم ليبيّنَ لنا حَقيقةَ هذه العِبادةِ، هذهِ العبادةُ حقٌّ لربّنَا، فلِربِّنا الدُّعاءُ، فنخلِص دعاءَنا لله، لا ندعو مع الله غيرَه، ونذبَح له، لا نذبَح لغيره، وتتعلّق قلوبنا بربِّنا حبًّا وخوفًا ورجاءً، ونعلم أنّه المستحِقّ للعِبادةِ، فلا تصلحُ العبادةُ لسِواه كائنًا مَن كان، ولا يرضَى لنا أن نُشركَ به ونَكفرَه، فإنّ عبادتَنا لغيرِه شركٌ عظيم، شركٌ به جل وعلا، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].
ويَرضَى لنا تَعالى أن نَعتصِمَ بحبلِه جميعًا ولا نَتَفرَّق، يَرضَى لنا أن نَعتَصمَ بحبلِه جميعًا، وحَبلُه كتابُه وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نعتصمُ بهِما عِلمًا وعملاً، وأن نجتَمعَ على ذلك، وأن لا نتفرَّق، أن نعتصمَ بحبل الله، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
ويرضَى لنا أن نُناصِحَ من ولاّه الله أمرَنا، فإنّ التناصُحَ بين المسلِمِين طريقُ الخَيرِ والصّلاح، ووسيلةٌ لتَحقِيقِ المنافعِ ودَفعِ المفاسِدِ، وسبيلٌ لجَمع القلوبِ واتِّحادِ الكلِمَة وارتباطِ الجميعِ برابطِ الخيرِ والتّقى. والله تعالى يأمُرُنا أن نكونَ متعاوِنين على البرّ والتَّقوى، وينهانا عَن التعاونِ على الإثم والعدوان: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
النّاصِحُ لولاةِ أمرِه مَن يحبُّ لهم الخيرَ، ويحبِّب إليهم الخيرَ، ويسعَى جاهِدًا في تحقِيقِ المصالح ودَرءِ المفاسد، والسّعي فيما يُوحِّد الأمّةَ ويجمَع كلِمتَها على الخيرِ والهدى؛ ولأجلِ هذا جعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الدِّينَ في النّصيحةِ، فقالَ: * الدّينُ النصيحة* ، قالوا: لمن يَا رسولَ الله؟ قال: * لله ولكتابِهِ ولرسولِه ولأئمّةِ المسلِمينَ وعامَّتهم* [2].
فالنّاصحُ لولاةِ أمرِ المسلمينَ من يحِبّ الخير ويسعَى في تحقيقِ الخير بكلّ وسيلةٍ ممكنةٍ نافعةٍ، الهدفُ منها تحقيقُ المصالح ودَرءُ المفاسِد، الهدَفُ منها جمع القلوبِ، الهدفُ منها السّعيُ في الخيرِ العامّ للأمّةِ في حاضِرها ومستقبَلها. الناصِحُ ليسَ همُّه تتبّعَ الزّلاّتِ والسّقَطات، ولكن همُّه الإصلاحُ والتوفيقُ. النّاصحُ للأمّة ليسَ همّه الشماتةَ والفَرحَ بكلّ نَقص، وإنما همُّه السّعيُ فيما يُصلِح ويحقّق الخَيرَ للأمّة في حاضِرِها ومستقبَلِها.
أيّها المسلمونَ، إنَّ النّاصِحَ لولاّةِ الأمر مَن تراه دائمًا يسعَى في الإصلاحِ، ويوضِح للأمّة خطورةَ التمرّدِ على الأمّة والخروج على قيادَتها، وأنّ هذا يسبّب البلاءَ للأمّة في الحاضر والمستقبَل، فما سُفِكَت الدّماء وما انتهِكَت الأعراض وما دمِّرت الممتَلَكات وما عاثَ في الأمّة في دمائها إلاّ بأسبابِ التفرّقِ والاختلافِ.
إنَّ اجتماعَ الأمّةِ عِزٌّ لها وقوّةٌ لها، وإنّ أيَّ تفرّقٍ فيها فهو سبَب لضعفِها وهوانها، إذًا فالمسلِمُ دائمًا يسعَى فيما يحقِّق جمعَ الكلِمَة ولمِّ الشّعثِ وإصلاح أوضاعِ الأمّة بالطريقِ المشروع النّافعِ، بالكلِمَات الهادِفةِ والنّصيحةِ الصادقة التي تنمّ عن محبّةٍ في القلبِ وحِرصٍ على الخير.
أمّةَ الإسلامِ، إنّ هناكَ التِباسًا في الأمرِ عَلَى بعض مَن قلَّت بصيرتُه وضَعُف إيمانه وقَلَّ إدراكه وتمييزُه للصّالح مِن الضّار وللخَيرِ مِن الشرّ، إنّ فئةً مِن الناسِ اتَّخذوا للإصلاحِ ـ فيما يزعمون ـ وسائلَ حرَّمها الشرعُ ونهى عنها.
أخِي المسلم، هَل من وسائِلِ الإصلاحِ سفكُ دماءِ الأبرياء؟! وهل مِن وسائل الإصلاح تهديدُ أمنِ الأمّة؟! وهل مِن وسائلِ الإصلاح قتلُ رجالِ أمنِ الأمّة؟! وهَل من وسائلِ الإصلاحِ تَرويعُ الآمنين؟! وهل مِن وسائلِ الإصلاح إحداثُ الفَوضَى بين مجتمَعاتِ المسلمين؟!
إنَّ من عادَ إلى عقلِه رأَى أن تِلك الوسائلَ وسائلُ إفسادٍ لا إصلاح، ووسائل شرٍّ لا خيرَ فيها، ووسائل تدميرٍ للأمّة لا إصلاحٍ لها.
ليتّقِ المسلم ربَّه فيما يأتي ويذَر، وليحذَر من دُعاةِ السّوء ودُعاةِ البغيِ والعُدوان الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا، مَطايا لشياطين الإنسِ والجنِّ فيما يسيئون به للأمّة ويفسِدون عليها نعمةَ الله وفضلَه عليها.
أيّها الشبابُ المسلم، لنتّقِ الله في أَنفسِنا، ولنَحذَر مكائدَ أعدائِنا، ولنَحذَر مِن دعاءِ السّوء والفسَاد ودُعاةِ الفتنةِ والتّضليل ودعاةِ الشرّ والبلاءِ الذين ربما اندَسّوا بين صُفوفِ بعضِ أبنائنا، فزيَّنوا لهم البَاطلَ، وحسَّنوا لهم الشرَّ، ودَعَوهم إلى الفتنةِ والبَلاء، يظنُّ هؤلاء الأغمارُ أنّ هذا سبيلُ إصلاحٍ وهدًى، ومعاذَ الله أن تَكونَ الجرائم وسائلَ للإصلاحِ، وسائلُ الإصلاحِ معروفةٌ، وطرُق الخيرِ والتعاوُن واضِحَة، لكن النّوَايا السيّئة تبرِز حقائقَ ما انطوَت عليه ضمائرُ هؤلاء، مِن قصدِ الإفساد وسَفكِ الدّماء وتدمير الممتلَكات وترويعِ الآمِنين، كلُّ ذلك من استحواذِ الشّيطان عليهم أن زيَّنَ لهم الباطلَ فظنّوه حقًّا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
شَرِيعةُ الإسلامِ جاءَت لتحُثَّ المجتمعَ المسلمَ على التّعاوُنِ والارتباط، وتحذِّرهم مِنَ الفتَن مَهمَا كان نوعُها، وتلزِم طاعَةَ ولاةِ الأمرِ فيما فيه طاعةٌ للهِ، وتجعَل ذلك دينًا يَدين العبدُ به لربّه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
أمّةَ الإسلامِ، إنّ أعداءَ الإسلامِ يغيظهم أن يَرَوا المجتمَعَ المسلِمَ في أمنٍ واستقرارٍ وانتظامٍ في حَياتِه واستقرارٍ في أوضاعِه، فيدسّون إلى أولئك الأغرارِ ويوحُون إليهم الباطلَ على يَدِ مَن يَظنّ أولئك أنّ هؤلاء ناصِحون، والله يعلَم إنهم لكاذبون. يريدونَ بالأمّةِ الشرَّ والفَسادَ، يريدون لها الفوضَى، يريدون لها أن تكونَ غارقةً في دمائِها، يريدون أن يسلبوا نعمةَ الله عليها، يريدون أن يبَدِّلوا أمنَها خوفًا ورغَدَها جُوعًا واستقرارها فوضى، ويأبى الله ذلك والمؤمنُونَ.
أيّها المسلم، إنَّ المؤمنَ الغَيورَ على دينِهِ لا يرضَى بهذِه التّرّهات، وموقفُه مِنها موقِفُ المنكِرِ لها الذي يشجبُها ويعلَم أنها تصرّفاتٌ باطلةٌ، تصرّفات غير لائِقَة، تصرّفات مِن سُفهاءَ وضُعفاء العقولِ وقِلّة إيمان، أوحاها إليهم شياطينُ الإنس والجن ممّن ضلَّ سعيهم في هذه الحياةِ الدنيا، ويقول الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112، 113]. فشياطينُ الإنسِ أولئك الّذين ضَلَّ سَعيُهم في هَذه الدّنيا، شياطينُ يريدونَ إفسادَ الأمّةِ؛ لأنهم إخوانُ اليهود الذين يقول الله فيهِم: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
فاحذَر ـ أخي الشابّ ـ أن تنخدِعَ بهم أو تغترَّ بهم أو تثِقَ بهم أو تَرى أنَّ عِندهم نُصحًا، فوالله ما نصَحوك، وما قالوا لك الحقيقةَ، وإنما أرادوا بكَ الشرَّ وبأمّتِك.
شَبابَ الإسلام، لنتّقِ الله في أنفسِنا، ولنحذَر من أن نُصغيَ لأيِّ دِعايةٍ لا نعرِف حقيقتَها، ولا نقبَل من كلِّ من جاءَنا برأيٍ بمجرَّد أن حَسَّن ذلك الرأيَ لنا، لا بدَّ أن نعرفَ هذا القائلَ، وندرسَ حياتَه، ونعلَمَ ماذا يريد وماذا وراءَ السُّطور؛ لنكتشِفَ الأمرَ على حقيقَتِه، أمّا أن نستسلِمَ لدُعاةِ الضّلال والسوءِ الذين لا يريدونَ بمجتمَعِنا المسلمِ خيرًا، وإنما يريدون بهِ البلاءَ.
هذه الفتنُ والمصائِب لأناسٍ استرخَصوا أنفسَهم في الباطلِ، فلَقوا المصيرَ السيّئ والعياذ بالله، وتحمَّلَ أوزارَهم مَن أشارَ لهم ومَن أعانهم على باطلهم، أو مَن تعاطَف معهم، أو مَن أحسنَ الظنَّ بهم، فكلّ أولئَك شُركَاءُ في الإثمِ والعُدوانِ؛ لأنهم تعاوَنوا على العدوانِ، تعاونوا على أمّةِ الإسلامِ، وبَغَوا لها الغوائلَ، والله جلّ وعلا حافِظُها بتوفيقِه وعونِهِ.
أيّها الآباءُ الكِرام، إنّ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. فعَلَى الآباء جميعًا تقوَى الله، وعلَيهم الأخذُ علَى أيدِي سُفَهائِهم، وأن لا يمكِّنوهم من هذهِ الآراء الشاذّة، وأن يأخُذوا على أيديهم ويتدارَكوا الأمرَ قبلَ أن يستفحِلَ.
إنَّ الآباءَ إذا انتبَهوا لأبنائهم وأين ذهبوا ومع من ذَهبوا وأين اجتمَعوا ومع مَن اجتمعوا وأين سافَروا مع مَن سافروا، حتى يأخذَ فِكرةً طيّبة عَن أبنائِه ومَن يلتقِي بهم؛ لأنّنا إذا أخَذنَا بهذا الطريق بتوفيقٍ من الله استَطعنَا أن نقطعَ خطَّ الرّجعةِ على الأعداء الذين يستغلّون ضعفَ عقولِ بعضِ الصّغار، يستغلّون ضعفَ عقولهم وقلّةَ بصيرتهم، وربما حسّنوا لهم البَاطلَ، وقالوا لهم: هذا سبيلُ الجنّةِ، سبيلُ الجنة في تصوُّرِهم أن تقتلَ مسلِمًا بريئًا أو معاهَدًا بَريئًا، تقتلَه ظلمًا وعدوانًا، هذا سبيلُ الجنّةِ في نظرِ أولئك، ولا شكَّ أنه سبيلُ النار لا سبيل الجنّة. إنَّ سبيلَ الجنّةِ والهدَى تقوَى الله وطاعةُ الله والنّصيحة للمسلمين وتوضيحُ الحقِّ لهم وتحذيرُهم من سُبلِ الرّدَى، أمّا قتل الأبرياء وتدميرُ الممتلَكَات ونهبُ الأموالِ وترويع الآمنين فإنّه سبيلُ الشيطان لا سبيل خيرٍ وهدى.
فيا أيّها الآباء الكرام، اتَّقوا الله في أبنائكم. ويا أيّها المعلِّمون، اتقوا الله في تلاميذِكم، وجِّهوهم إلى الخير، حذِّروهم مِن سبل الرّدَى، متى ما شمَمتم من أحدٍ نزعةً شرّيرة فحاوِلوا العلاجَ ما دامَ الأمرُ ممكِنًا، حاولوا علاجَ أفكَارِهم وتصحيحَ اتِّجاهِهِم وسلوكِهم، حتى لا يقَعوا ضحيّةً لتأثير الأعداء. إنَّ المعلِّمَ الصادِق من ينشُر الحقَّ ويدعو إليه، ويبيِّن لشبابِنا خطورةَ هذه الدّعايات المضلِّلةِ وخطورةَ هذه الآراءِ المنحَرِفة؛ لنصلِح من أبنائنا ما فسَد ونوجّههم إلى الخير.
وإنَّ خطباءَ المساجِد والدّعاةَ إلى الخير ووسائلَ الإعلام عمومًا واجبُ الجميعِ التكاتفُ وتبيين الحقِّ وإيضاحُ الهدَى والتحذير من سُبُل الرّدى بالأساليب الشّرعيّة والطّرُق الشرعيّة التي نضمَن بتوفيقٍ من الله أن نقضيَ على هذا الغلوّ الشّديد، غلوّ بالزيادة أو غلوّ بالتطرّف والبعدِ عن الهدى، لا بدَّ أن نسعَى في أن تكونَ أفكار شبابِنا أفكارًا متَّزِنة، أفكارًا وسطيّةً، أفكارًا بعيدَةً عن التأثّرِ بدعايات أهلِ الضّلال الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا وهم لا يصلِحون.
أينَ الإصلاحُ من قومٍ اتَّخذوا الجرائمَ وسيلةً لما يدّعون أنه إصلاح؟! ويعلَم الله إنهم لكاذبون، وسائلُ الإصلاح معروفة، طرُق التوجيهِ والتّناصح واضحةٌ، أمّا القتل وسفكُ الدّماء والتّغرير بهؤلاء الجهَلَة والزّجُّ بهم في هوّة سحيقة، فهذا عينُ الغِشّ لهم وعينُ الخِيانةِ لهم، لو كان هذا في قَلبِه إيمان لما رَضِيَ لهذا الشابّ أن يزجَّ بنفسِه في أمورٍ لا خَيرَ فيها، وليست لها عواقبُ حسنة، بل عواقبها سيّئة. إنه لا يرضاها لأبنائِه، فكيف يرضَاهَا لأبناء الآخرِين؟! إنه لا يرضَاها لنفسه، فكيف يَرضاها للآخرين؟!
فلنتّق الله جميعًا، ولنتعاوَن على البرِّ والتقوَى، ولنعلَم أنّ دينَنا وأمننا ورَخاءَنا أمانةٌ في أعناقِنا، ليؤدِّ كلٌّ واجبَه، وليحذر كلٌّ منّا أن تزِلّ قدمُه بأمورٍ لا خيرَ فيها. فلنتَّقِ الله جميعًا، ولنأخُذ عِبرةً مِن أوضاعِ الآخرين الذين يعيشونَ في دوّامةٍ مِنَ الفِتن، تقضّ الأحداثُ مضاجِعَهم صباحًا ومساء، كم حَصَدت هذه الفتنُ مِن أرواح، كم أرمَلت من نساءٍ وأيتَمَت من أطفال ودمَّرت من أموالٍ وأفقرت من غِنَى وأذلَّت من عِزّ، عياذًا بالله من سوءِ الفِتن ما ظهَر منها وما بطن.
فلنعتصِم بحبلِ الله، ولنجتمِع على الخيرِ، ولنأخذ على أيدِي سُفهائنا، ولنأطرهم على الحقِّ أطرًا، ولنحذِّرهم من دعاةِ الضلال وأربابِ الفِتنِ الّذين لا يرحمونَ الأمّة ولا يحسِنون إليها، يغيظهم ما يرَونَ عندَنا من استقرارٍ واستِبابِ أمنٍ ونعمةٍ عظيمةٍ من الله في هذا البلَدِ المبارك الذي يؤُمّه ملايين المسلمين لفريضةِ الحجّ والعمرةِ، ويرونَ ما فيهِ مِن نعمةٍ وخير واستقرارٍ وطمأنينةٍ ووحدةِ أفكار وآراء، فلنحذَر ممن يريدون بنا الشرَّ والبلاء.
وفقني الله وإيّاكم لكلِّ خيرٍ، وأعانَني وإيّاكم لعلى كلِّ خير، وجنَّبَ بلادَنا وبلاد المسلمين عامة كلَّ بلاء وفتنة، إنه على كلِّ شيء قدير.
أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة 1715 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه: * وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم* ، وهي زيادة عند أحمد2/267، والبخاري في الأدب المفرد 442، وصححها ابن حبان 3388، والألباني في صحيح الأدب المفرد 343.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان 55 عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.
--------------------------------------------------------------------------------
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلَ وعلا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
إِخوتي الأعِزّة، في هذِه الأيّام وأحداثُ الزّلزال المدمِّر وتلك الفيضاناتُ الهائلة التي خلَّفَت ما يزيد على مائة وعشرين ألفَ قتيل، ومفقودين الله أعلَم بهم، وخلَّفت أَيضًا ملايين مِنَ البشر في العراءِ لا مسكَنَ ولا مَطعَم، وخلَّفت مصائبَ عظيمة الله أعلم بها.
إخوتي، إنّ هذه عبرٌ وعِظات لنا، وتذكِّر العبادَ دائمًا كمالَ قدرة الله، وأنَّ الله على كل شيء قدير، وعندما يقرأ المسلم كتابَ الله ويتلُو عقوبةَ الله لمن عاقَب ممّن صدَّ عن سبيلِه ممّن اغترّوا بأنفسهم وانخدَعوا بقوَّتهم، كيف كانت قوّتهم ضعيفةً لا شيء، اضمحلَّت أمام قُدرة الذي هو على كلِّ شيء قدير، قال الله عن قومِ هودٍ أنهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، قال الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:15، 16].
يا أيّها المسلِم، إنَّ كثيرًا اغترّوا بعلمهم، واغترّوا بقدراتهم، وظنّوا أنهم سيطروا على الأرض وملَكوا زمامَ الأمور، وأنهم وأنهم.. فجاءهم ما حيّر عقولهم وأوقفهم على عجزِهم وضعفِهم وقِلّة إمكانياتهم، إنها القدرة الربانيّة، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. في بضع ثوان انقلبت الموازين، واختفَت كثير من الأراضي، وطغى الماء وارتفع ارتفاعًا شاهِقًا، حار البشرُ أمامه، فلا قُدرةَ تواجه ذلك ولا استطاعة. قدرةٌ ربانيّة حارَت أمامَها قوى البَشَر كلّها، إنّ هناك غرورًا في العِلم، غرورا وإعجابًا بأولئك، وأنهم يمكن أن يدرِكوا ما سيَقَع، ويمكِن أن يتخلَّصوا، ويمكن ويمكن... فجاءت القدرةُ الإلهية، والله على كل شيء قدير، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
باتوا في سرورٍ وما شَعروا إلاّ والأخطار تحيطُ بهم من كلِّ جانب، وهذا المدُّ البحريّ الذي ارتفع إلى عدّة أمتار حتى طغى على كلِّ شيءٍ، فسبحان القادِر على كلِّ شيء.
إذا تأمّلَ العبد هذه الدّنيا وتذكَّر قولَ الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، وتأمّلَ قوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
أيّها المسلم، إنها عِظَةٌ لمن اعتَبر، هذه الأرضُ التي ذلَّلها الله لنَا، وجعلها لنا مِهادًا، نعيش على ظهرِها، ونواري أمواتَنا في بطنها، أودَع فيها من الإمكانياتِ ما يحتاج البشرُ إليه، وسهَّل السيرَ عليها، إذا أرادَ حرَّكها بما يقلِب موازينَ البشر وتحارُ البشر أمامَ تلك القوّة العظيمة، فسبحان القادرِ على كلّ شيء.
هؤلاء بلَغوا من العلم ما بلَغوا، وانخدَعوا بعلومِهم، وظنّوا أنّ ما هم عليه من عِلمٍ سيقيهم تلك الكوارث والأحداث، لكنّها أمورٌ تضعُف وتتلاشَى أمام قدرة الله جلّ وعلا، فمهما أُعطِيَ الإنسان من علمٍ ومهما أعطي من إمكانيات ومهما ومهما، فكلّ هذه الأسبابِ إذا أراد الله أمره فإنّ أمرَ الله لا يردُّه أحَد، ولا يقِف أمامَه أحَد، بل أمر الله ماضٍ، والعباد حيارَى أمام هذه القدرةِ العظيمة الربانية.
فيا إخواني، لنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنحافظ على دينِ الله، ولنشكر الله بقلوبِنا وألسنَتِنا وجوارحنا، ولنحذَر من الله فإنَّ الله جلّ وعلا سريع العقاب، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
نسأل الله أن يجعلَنا من المتَّعظين المعتبِرين، وأن يرحَمَ أمواتَ المسلِمين، ويوفّقنا جميعًا لما يحبّه ويَرضاه من الأقوال والأعمالِ، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
أيّها المسلم، إنّ الإحسانَ في هذه الأحداث العظيمةِ في هذه الكوارثِ العظيمة إحسانٌ يرجَى لصاحبه أن يضاعِفَ الله له المثوبةَ، فإنّ في كلّ كبدٍ رطبة أجرًا، فهذه الكوارثُ العظيمة التي عمّت ما عمّت من البلاد إنّ الإحسانَ والتبرعَ والمساهمة في سبيلِ الخير عملٌ صالح، فكم ممن يعيشون في العراءِ وكم وكم.. إنّ مسارَعةَ الأمّة الإسلامية ومساهمةَ المسلمين في الإنقاذ والإسعافِ لهو عملٌ صالح، فإنّ المسلمين إذا سبَقوا غيرَهم استطاعوا بهذِه الأعمال الطيّبةِ أن يجعلوها دعايةً لدينهم الصحيحِ الذي هو الحقّ والهدى، فالمبادَرَةُ في هذا السبيل مما يحبّه الله ويرضاه، نسألُ الله لنا ولكم السلامَةَ والعافيةَ في الدّين والبدَن والأهلِ والمالِ، إنّه على كلّ شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هَديُ محمّدصلى الله عليه وسلم ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالةٌ، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله عَلَى الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عَن خلفائِهِ الرّاشِدين...