إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد: فإنّ من تمام نعمة الله على العباد، ورحمته بهم في المعاش والمعاد، أن أكمل لهم هذا الدين مصداقًا لقوله جلّ وعلا ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتيِ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[المائدة:3]. ولم يقبض النبي صلى الله عليه وسلَّم حتى ترك أمّته على البيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
ولقد كانت هذه الأمّة مرحومة في أوّل عهدها، جمعها الله على الهدى، وعصمها من الردى، وألّف بين قلوب أفرادها وحماها من الهوى، حيث انقادت إلى تعاليم الشرع المطهّر، واستقامت على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم، أولئك صحب النبي صلى الله عليه وسلَّم، العصابة الظاهرة، أهل القلوب الرحيمة الطاهرة، لم يكونوا يعرفون غير اتّباعه وتوقيره، واتّباع النور الذي أنزل عليه والخير الذي جاء به، مستسلمين لما جاء به من الحقّ، مذعنين لما أمر به من الهدى، لم يكن لهم قول مع قوله، ولا اعتراض على حكمه ولا تقديم بين يديه وذلك الظنّ بهم، فلقد كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أمّة واحدة كما وصفهم الله عزّ وجلّ بقولـه: ﴿إِنَّ هَذِِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَـا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:92].
فكم حاول المنافقون والمرجفون وضعفاء الحصانة العقدية إيقاد فتيل الفتنة، لتضطرم نار العداوة بين المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تشتيتًا لشملهم وتفريقًا لكلمتهم وخنقًا لدعوتهم فخابوا ولم يفلحوا، وأفسدوا ولم يصلحوا، قالوا ﴿لاَ تَنفِرُوا فِي الحَرِّ﴾ فردّ الله عليهم بقوله ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾[التوبة:7]، ولكم جرّب اليهود والمرتابون من شاكلتهم في غارات متلاحقة وهجمات مسعورة المساس بوحدة المسلمين والنيل من دينهم ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[آل عمران:72]. لكن الخطّة فشلت لأنّ الله كشفها وفضحها، وأبطل شرّها وأبان عوارها، ولقد حاولوا نزلة أخرى فأخذوا يذكرون الأنصار وما جرى بينهم من عداوات وحروب قبل الإسلام لإحياء ما خمد في نفوسهم من نعرات الجاهلية وقبائح خصال البشرية، فكشف الله أمرهم وخيّب آمالهم وردّ عليهم كيدهم بقوله ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾[آل عمران:100].
وجاء النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى الأنصار فوعظهم وذكّرهم بنعمة الإسلام، واجتماعهم بعد الفرقة، فتعانقوا وتصافحوا، وتغافروا وتسامحوا، وفشلت خطّة اليهود في محاولات متعاقبة، كلّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله.
وبقي المسلمون أمّة واحدة، ينعمون بوحدة الصفّ واجتماع الكلمة، محافظين على وصيّة الله لهم ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُـوا﴾[آل عمران:103].
فكان من بركات الاعتصام بحبل الله، والانقياد إلى شرعه أن حفظ الله لهم جماعتهم وأظهر سوادهم، فكثّرهم من قلّة ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾[الأنفال:26]، وأعزّهم من بعد ذلّة ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[آل عمران:123]، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴿أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[القصص:57].
وما زال يمدّهم بالنعم والعناية، ويحوطهم بالحفظ والرعاية إلى أن جعلهم خير أمّة أخرجت للناس، لوسطيتها واعتدالها واستقامتها، وأرشدهم إلى ما يديم عليهم هذه النعمة.
وحذّرهم من كلّ ما ينغّصها عليهم من شرّ ونقمة، وأخبرهم أنّ حفظ الدين منوط بوحدة الجماعة والائتلاف، وأنّ نشوء الفتن من كثرة التفرّق والاختلاف، وجعل ذلك من سننه الكونية والشرعية لمن أراد أن يذّكّر﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ [فاطر:43].
وإنّ الناظر في أحوال أمّتنا عبر تاريخها الطويل يجدها في هذا العقد من الزمان مكتوبة بنار الفتن والعداوات، متجرّعة لمرارة الفرقة والشتات، حيث تلاحقت بها الأزمات من كلّ جانب، وأصبحت هدفًا لكـلّ رام وضـارب. (ففي كل خليّة من خلايا الحياة بلية ليس لها راع تضرب فارهة في قناة المسلمين بأنواع من السلاح) فعند المستهترين وثنية وإلحاد، وتحلّل في الأخلاق، وارتماء في أحضان التغريب، وعند المحافظين غلوّ في الفهم وانحراف في المناهج، وتكثير للسبل، وإعجاب بالآراء وافتتان بالأهواء حتى لقد يستشعر الناظر بعين الحكمة أنّ ذلك من علامات الفناء والزول.
وكلّ هذا إنّما وقع بسبب التهوين من لزوم جماعة المسلمين والانتظام في سلكها والاجتماع على كلمتها، والتشجيع على مفارقتها وشقّ عصاها والافتيات عليها، وقد غذّى كلَّ ذلك الجهل بدين الله والغلوُّ في فهم نصوص الشرع بإقصاء العلماء وتألّق الجهلاء، ممّا أدّى إلى تردّي الأوضاع وأورث سوء الأحوال ممّا ليس بخاف على كلّ ذي عقل من الأحياء.
وليس من شكّ أنّ ائتلاف الأمّة وجمْعَ كلمتها على الحقّ هو مفتاح الفرج وعنوان استرداد المجد الضائع والعزّ الساطع إذ جعل المسلمين على طريقة واحدة هو أصل الإسلام وصمام الأمان.
ولهذا «فرض الشارع الحكيم على كلّ مؤمن بالله واليوم الآخر أن يلزم الجماعة فينتظم في سلكها ويستظلّ بظلّها، ويركن إلى أهلها، فما أحبّه لنفسه أحبّه لهم، وما كرِهه لها كرهه لهم، يسوؤه ما يسوؤهم، ويسرّه ما يسرّهم، ناصح لهم، محامٍ عنهم، سلمًا لأحبابهم، حربًا على أعدائهم هم جسد واحد وهو قطعة منه»(1).
«وما هذا الاهتمام من الشارع بأمر الجماعة إلاّ لبالغ أهميّتها، وكبير قدرها وعظيم نفعها، إذ هي رابطة المسلمين، قوّتهم من قوّتها، وضعفهم من ضعفها، فيها يعبد المسلم ربَّه آمنًا، ويدعو إليه تعالى مؤيَّدًا المستضعف في كنفها قويّ، والمظلوم في ظلّها منصور، والعاجز في محيطها معـان»(2).
وحيث جاء الأمر بلزوم جماعة المسلمين فالمراد بها الجماعة المنتظمة بنصب الحاكم كما قرّره ابن جرير حين قال: «والصواب أنّ المراد من الخبر بلزوم الجماعة، الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث عن بيعته خرج عن الجماعة» [فتح الباري:(47/13)]. فهذا التفسير من هذا الإمام الجهبذ يدلّ على أنّ الاجتماع والائتلاف، وحمايةَ بيضة الدين، وصونَ أعراض المسلمين إنّما يكون تحت لواء الجماعة الأمّ التي ليس لها اسم تعرف به إلاّ الإسلام والمسلمين ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾[الحجّ:78]، هذه الجماعة الأمّ التي تضمّ الحاكم والمحكومَ، والعالم والجاهلَ، والبرّ والفاجرَ، والتي تذوب فيها كلّ الجماعات والتكتّلات، وتسقط أمامها كلّ الولاءات والبيعات، فهي الجماعة الشرعية الوحيدة التي جاء الأمر بملازمتها والانضواء تحت رايتها، فلا طاعة ولا ولاءَ إلاّ لمن ولاّه الله أمر المسلمين وجمعهم تحت إمرته وقيدتها ولو ترك جائرًا ظالمًا، وهو واحد في الأمّة ولا يمكن أن يتعدّد بتعدّد الجماعات والأحزاب، كما أراد أن يفهمه بعض الناس جهلاً أو تجاهلاً، وهذا هو الفهم الذي استقرّ عند سلف الأمّة وخيارها، ينبئك به ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى سماك بن الوليد الحنفي أنّه لقي ابن عباس بالمدينة فقال: ما يقول في سلطان علينا يظلموننا ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم ؟ قال ابن عبـاس: «لا، أعطهم يا حنفي ! » ثمّ قال: يا حنفي: الجماعة الجماعة، إنّما هلكت الأمم الخالية بتفرّقـها، أمـا سمعت اللهَ عزّ وجلّ يقـول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [تفسير ابن أبي حاتم:(455/2)].
فليس هناك ما يُصلح دين الناس ودنياهم إلاّ الاجتماع والائتلافُ، وليس هناك ما يفسد عليهم ما ذكر إلاّ الافتراق والاختلاف، فإنّ الجماعة قوّة ومنَعَة، والفرقةَ فشلٌ وهَلَكة، ولن تستصلح قلوب العباد ولن يفشوا الأمن في البلاد إلاّ بخصـال ثلاث ذكرهـا النبي صلى الله عليه وسلَّم في حديثه «ثَلاثُ خِصَالٍ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا، إِخْلاَصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاَةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بِهِم مِنْ وَرَائِهِمْ» [رواه أحمد في المسند:(183/5)]. فهذه الثلاث كما قال ابن تيمية «تجمع أصول الدين وقواعدَه، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة». [مجموع الفتاوى:(18/1)].
ومن تأمّل هذا الكلام وعاين واقع المسلمين في أنحاء المعمورة يتبيّن له موضعُ الخلل ويستبين السبيل، ورحمة الله على محمد بنِ عبد الوهاب لمّا قال: «لم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلاّ بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها» [مجموع مؤلفات الشيخ:(336/1)].
أقول: ولن ينتظم للمسلمين أمر، ولن يرفع عنهم ذلّ ولا قهر، إلاّ إذا أخذوا بهذه الخصال، وأمسكوها بقبضة الرجال، قال أبو طالب المكّي بعد إيراد هذا الحديث المشتمل على هذه الخصال: «ومن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا فهو من أولياء الله عزّ وجلّ» [قوت القلوب:(273/2)].
فيا طالب ولاية الله، هذه معالمها فبادر إلى نيلها، ودع عنك ولاية الناس إلاّ أن تكون من أهلها، فإنّها مسؤولية وأمانة، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها.
فاللهمّ اجمع قلوبنا على الحقّ، واشددها على الاعتصام بحبلك، والانتظام في سلك الجماعة التي كتبت لها نجاةً وتوفيقًا.
(1) و (2) من مقدمة «الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم والتحذير من مفارقتهم» لعبد السلام بن برجس، وهي ماتعة في بابها
أمّا بعد: فإنّ من تمام نعمة الله على العباد، ورحمته بهم في المعاش والمعاد، أن أكمل لهم هذا الدين مصداقًا لقوله جلّ وعلا ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتيِ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[المائدة:3]. ولم يقبض النبي صلى الله عليه وسلَّم حتى ترك أمّته على البيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
ولقد كانت هذه الأمّة مرحومة في أوّل عهدها، جمعها الله على الهدى، وعصمها من الردى، وألّف بين قلوب أفرادها وحماها من الهوى، حيث انقادت إلى تعاليم الشرع المطهّر، واستقامت على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم، أولئك صحب النبي صلى الله عليه وسلَّم، العصابة الظاهرة، أهل القلوب الرحيمة الطاهرة، لم يكونوا يعرفون غير اتّباعه وتوقيره، واتّباع النور الذي أنزل عليه والخير الذي جاء به، مستسلمين لما جاء به من الحقّ، مذعنين لما أمر به من الهدى، لم يكن لهم قول مع قوله، ولا اعتراض على حكمه ولا تقديم بين يديه وذلك الظنّ بهم، فلقد كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أمّة واحدة كما وصفهم الله عزّ وجلّ بقولـه: ﴿إِنَّ هَذِِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَـا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:92].
فكم حاول المنافقون والمرجفون وضعفاء الحصانة العقدية إيقاد فتيل الفتنة، لتضطرم نار العداوة بين المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تشتيتًا لشملهم وتفريقًا لكلمتهم وخنقًا لدعوتهم فخابوا ولم يفلحوا، وأفسدوا ولم يصلحوا، قالوا ﴿لاَ تَنفِرُوا فِي الحَرِّ﴾ فردّ الله عليهم بقوله ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾[التوبة:7]، ولكم جرّب اليهود والمرتابون من شاكلتهم في غارات متلاحقة وهجمات مسعورة المساس بوحدة المسلمين والنيل من دينهم ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[آل عمران:72]. لكن الخطّة فشلت لأنّ الله كشفها وفضحها، وأبطل شرّها وأبان عوارها، ولقد حاولوا نزلة أخرى فأخذوا يذكرون الأنصار وما جرى بينهم من عداوات وحروب قبل الإسلام لإحياء ما خمد في نفوسهم من نعرات الجاهلية وقبائح خصال البشرية، فكشف الله أمرهم وخيّب آمالهم وردّ عليهم كيدهم بقوله ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾[آل عمران:100].
وجاء النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى الأنصار فوعظهم وذكّرهم بنعمة الإسلام، واجتماعهم بعد الفرقة، فتعانقوا وتصافحوا، وتغافروا وتسامحوا، وفشلت خطّة اليهود في محاولات متعاقبة، كلّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله.
وبقي المسلمون أمّة واحدة، ينعمون بوحدة الصفّ واجتماع الكلمة، محافظين على وصيّة الله لهم ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُـوا﴾[آل عمران:103].
فكان من بركات الاعتصام بحبل الله، والانقياد إلى شرعه أن حفظ الله لهم جماعتهم وأظهر سوادهم، فكثّرهم من قلّة ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾[الأنفال:26]، وأعزّهم من بعد ذلّة ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[آل عمران:123]، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴿أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[القصص:57].
وما زال يمدّهم بالنعم والعناية، ويحوطهم بالحفظ والرعاية إلى أن جعلهم خير أمّة أخرجت للناس، لوسطيتها واعتدالها واستقامتها، وأرشدهم إلى ما يديم عليهم هذه النعمة.
وحذّرهم من كلّ ما ينغّصها عليهم من شرّ ونقمة، وأخبرهم أنّ حفظ الدين منوط بوحدة الجماعة والائتلاف، وأنّ نشوء الفتن من كثرة التفرّق والاختلاف، وجعل ذلك من سننه الكونية والشرعية لمن أراد أن يذّكّر﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ [فاطر:43].
وإنّ الناظر في أحوال أمّتنا عبر تاريخها الطويل يجدها في هذا العقد من الزمان مكتوبة بنار الفتن والعداوات، متجرّعة لمرارة الفرقة والشتات، حيث تلاحقت بها الأزمات من كلّ جانب، وأصبحت هدفًا لكـلّ رام وضـارب. (ففي كل خليّة من خلايا الحياة بلية ليس لها راع تضرب فارهة في قناة المسلمين بأنواع من السلاح) فعند المستهترين وثنية وإلحاد، وتحلّل في الأخلاق، وارتماء في أحضان التغريب، وعند المحافظين غلوّ في الفهم وانحراف في المناهج، وتكثير للسبل، وإعجاب بالآراء وافتتان بالأهواء حتى لقد يستشعر الناظر بعين الحكمة أنّ ذلك من علامات الفناء والزول.
وكلّ هذا إنّما وقع بسبب التهوين من لزوم جماعة المسلمين والانتظام في سلكها والاجتماع على كلمتها، والتشجيع على مفارقتها وشقّ عصاها والافتيات عليها، وقد غذّى كلَّ ذلك الجهل بدين الله والغلوُّ في فهم نصوص الشرع بإقصاء العلماء وتألّق الجهلاء، ممّا أدّى إلى تردّي الأوضاع وأورث سوء الأحوال ممّا ليس بخاف على كلّ ذي عقل من الأحياء.
وليس من شكّ أنّ ائتلاف الأمّة وجمْعَ كلمتها على الحقّ هو مفتاح الفرج وعنوان استرداد المجد الضائع والعزّ الساطع إذ جعل المسلمين على طريقة واحدة هو أصل الإسلام وصمام الأمان.
ولهذا «فرض الشارع الحكيم على كلّ مؤمن بالله واليوم الآخر أن يلزم الجماعة فينتظم في سلكها ويستظلّ بظلّها، ويركن إلى أهلها، فما أحبّه لنفسه أحبّه لهم، وما كرِهه لها كرهه لهم، يسوؤه ما يسوؤهم، ويسرّه ما يسرّهم، ناصح لهم، محامٍ عنهم، سلمًا لأحبابهم، حربًا على أعدائهم هم جسد واحد وهو قطعة منه»(1).
«وما هذا الاهتمام من الشارع بأمر الجماعة إلاّ لبالغ أهميّتها، وكبير قدرها وعظيم نفعها، إذ هي رابطة المسلمين، قوّتهم من قوّتها، وضعفهم من ضعفها، فيها يعبد المسلم ربَّه آمنًا، ويدعو إليه تعالى مؤيَّدًا المستضعف في كنفها قويّ، والمظلوم في ظلّها منصور، والعاجز في محيطها معـان»(2).
وحيث جاء الأمر بلزوم جماعة المسلمين فالمراد بها الجماعة المنتظمة بنصب الحاكم كما قرّره ابن جرير حين قال: «والصواب أنّ المراد من الخبر بلزوم الجماعة، الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث عن بيعته خرج عن الجماعة» [فتح الباري:(47/13)]. فهذا التفسير من هذا الإمام الجهبذ يدلّ على أنّ الاجتماع والائتلاف، وحمايةَ بيضة الدين، وصونَ أعراض المسلمين إنّما يكون تحت لواء الجماعة الأمّ التي ليس لها اسم تعرف به إلاّ الإسلام والمسلمين ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾[الحجّ:78]، هذه الجماعة الأمّ التي تضمّ الحاكم والمحكومَ، والعالم والجاهلَ، والبرّ والفاجرَ، والتي تذوب فيها كلّ الجماعات والتكتّلات، وتسقط أمامها كلّ الولاءات والبيعات، فهي الجماعة الشرعية الوحيدة التي جاء الأمر بملازمتها والانضواء تحت رايتها، فلا طاعة ولا ولاءَ إلاّ لمن ولاّه الله أمر المسلمين وجمعهم تحت إمرته وقيدتها ولو ترك جائرًا ظالمًا، وهو واحد في الأمّة ولا يمكن أن يتعدّد بتعدّد الجماعات والأحزاب، كما أراد أن يفهمه بعض الناس جهلاً أو تجاهلاً، وهذا هو الفهم الذي استقرّ عند سلف الأمّة وخيارها، ينبئك به ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى سماك بن الوليد الحنفي أنّه لقي ابن عباس بالمدينة فقال: ما يقول في سلطان علينا يظلموننا ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم ؟ قال ابن عبـاس: «لا، أعطهم يا حنفي ! » ثمّ قال: يا حنفي: الجماعة الجماعة، إنّما هلكت الأمم الخالية بتفرّقـها، أمـا سمعت اللهَ عزّ وجلّ يقـول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [تفسير ابن أبي حاتم:(455/2)].
فليس هناك ما يُصلح دين الناس ودنياهم إلاّ الاجتماع والائتلافُ، وليس هناك ما يفسد عليهم ما ذكر إلاّ الافتراق والاختلاف، فإنّ الجماعة قوّة ومنَعَة، والفرقةَ فشلٌ وهَلَكة، ولن تستصلح قلوب العباد ولن يفشوا الأمن في البلاد إلاّ بخصـال ثلاث ذكرهـا النبي صلى الله عليه وسلَّم في حديثه «ثَلاثُ خِصَالٍ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا، إِخْلاَصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاَةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بِهِم مِنْ وَرَائِهِمْ» [رواه أحمد في المسند:(183/5)]. فهذه الثلاث كما قال ابن تيمية «تجمع أصول الدين وقواعدَه، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة». [مجموع الفتاوى:(18/1)].
ومن تأمّل هذا الكلام وعاين واقع المسلمين في أنحاء المعمورة يتبيّن له موضعُ الخلل ويستبين السبيل، ورحمة الله على محمد بنِ عبد الوهاب لمّا قال: «لم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلاّ بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها» [مجموع مؤلفات الشيخ:(336/1)].
أقول: ولن ينتظم للمسلمين أمر، ولن يرفع عنهم ذلّ ولا قهر، إلاّ إذا أخذوا بهذه الخصال، وأمسكوها بقبضة الرجال، قال أبو طالب المكّي بعد إيراد هذا الحديث المشتمل على هذه الخصال: «ومن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا فهو من أولياء الله عزّ وجلّ» [قوت القلوب:(273/2)].
فيا طالب ولاية الله، هذه معالمها فبادر إلى نيلها، ودع عنك ولاية الناس إلاّ أن تكون من أهلها، فإنّها مسؤولية وأمانة، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها.
فاللهمّ اجمع قلوبنا على الحقّ، واشددها على الاعتصام بحبلك، والانتظام في سلك الجماعة التي كتبت لها نجاةً وتوفيقًا.
الشيخ عز الدين رمضاني
---(1) و (2) من مقدمة «الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم والتحذير من مفارقتهم» لعبد السلام بن برجس، وهي ماتعة في بابها