علم الجرح والتعديل تعريفه .. تاريخه .. ثمراته
ويتضمن ردًّا موجزًا على رسالة
" إلى غلاة التجريح "
ويتضمن ردًّا موجزًا على رسالة
" إلى غلاة التجريح "
بسم الله ، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله :
أما بعد، فهذه نُبذة يسيرة عن علم "الجرح والتعديل" ، هذا العلم الذي خصَّ سبحانه هذه الأمة به دون سائر الأمم ، حفظًا للكتاب والسنة من التحريف لفظًا ومعنًى ، وهو علمٌ يبحث في أحوال الرجال – رواة الحديث وغيرهم من أهل العلم والدعوة -والطوائف والكتب ، والحكم عليها بما يليق من حالها جرحًا أو تعديلاً ، وجرح الرجال نوعان :
إما جرح في العدالة ، ويشمل هذا التبديع والتضليل والتفسيق، وإما جرح في الضبط والحفظ ، ويشمل هذا : سوء الحفظ ، والغفلة ، والخطأ ،والوهم ، والتخليط ... الخ، ويُطلق أيضًا على هذا العلم: الرد على المخالف، والتحذير من أهل البدع والأهواء، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة، ولذلك اعتنوا بذكره في كتب أصول الاعتقاد.
وأوَّّل من جرح الرجال نصحًا للأمة هو نبي الهدى صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو الذي سنَّ هذا المنهج الحكيم من الله لحماية هذا الدين من أهل البدع والأهواء ، ولهذا أمثلة منها : تحذير النبي من ذي الخويصرة التميمي ، فلما قال له ذو الخويصرة : " اتق الله يا محمّد ، سأله رجل قتله ن فمنعه فلما ولّى قال : " إنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمَ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أهْلَ الْإِسْلامِ ويَدَعُونَ أَهْلَ الأوثان لَئِنْ أَنَـا أَدْرَكْـتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عادٍ " وقال أيضًا عن الخوارج : " ألا إنَّهم كلابُ أَهْل النَّار "
وأخرج البخاري ، ومسلم من حديث عَائِشَةَ : " أنَّه اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ : " ائْذَنُوا لَهُ ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ " فَلمَّا دَخَلَ ألانَ لَهُ الْكَلاَمَ ، فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ : " أَيْ عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةٍ عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ أوْ وَدَعَهُ النَّاس ُ اتِّقاءَ فُحْشِهِ "
ولما قال حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَليُِّ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ ولا أَكَلَ ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ جرحه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ قائلاً إنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَان الْكُهَّان " مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ ، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .
ولما سألته فاطمة بنت قيس عن حال مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، وأَبِي جَهْمٍ لمـا خطباها ، فقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم :" أمَّا أبُو جَهْمٍ، فلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ، وأمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ ، أخرجه مسلم .
فهل يقول مسلم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اغتاب هؤلاء ؟ وهل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس حريصًا على توحيد صفوف الأمة حين جرح هؤلاء بهذه الألفاظ ؟ وقوله :" بئس أخو العشيرة " ، " إنما هذا من إخوان الكهان " بهذه الألفاظ الشديدة في الجرح ، هل هذا من الغلو في الجرح يا صاحب " رسالة غلاة التجريح " ؟!!
وسار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا السبيل القويم في حماية الدين من أهل الزيغ ، فحذَّر علي بن أبي طالب من الخوارج ، فأخرج مسلم عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنَ أبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : أنَّ الحَرُورِيَّةَ لَمـَّا خَرجَتْ وَهُوَ مَع عَليِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالُوا : لا حُكْمَ إلاَّ للهِ ، قَالَ عَليٌّ :كَلِمَةٌ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، إنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاساً إنِّي لأعرَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ الله إِلَيْهِ .
ولما ظهرت القدرية حذَّر منه ابن عمر ، فأخرج مسلم عَنْ يحْيَي بْنِ يَعْمَر أَنه قَالَ : أبَا عَبْدِ الرَّحْمَن ، إِنَّه قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّزُونَ الْعِلْمَ وذَكَر َ مِنْ شَأْنِهِمْ ، وَأنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا قَدَرَ ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ ، قَال ابن عمر : "فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ ، وَأنَّهم بُرَآءُ مِنِّي ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْد ُ اللَّه بْنُ عُمَرَ ، لَوْ أنَّ لأحدهم ، مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ ، حَتَّي يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ "
وقال ابن أبي أوفى لسعيد بن جهمان :" قتل الله الأزارقة كلها " ، والأزارقة فرقة من الخوارج ، وأخرج ابن أبي عاصم في السنة (934) عن عقبة بن وساج أنه سأل ابن عمرو عن أناس بالعراق يطعنون على أمرائهم ويشهدون عليهم بالضلالة فقال :" أولئك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "
ولما ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن ؟ قال : يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وقرأ : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [ آل عمران:7] ( أخرجه الآجري في الشريعة)
فكانت الخوارج والقدرية هما أول فرقتين فارقتا سبيل الصحابة، وكان هذا هو موقف الصحابة منهما بأن حذَّروا منهما بهذه الألفاظ الشديدة في الجرح ، بل استخدم الصحابة قوة السلطان في قمع أهل البدع ، فضرب عمر صبَيِغ الذي أراد اتباع المتشابه من آيات القرآن ، وحرَّق عليٌ الزنادقة الذين قالوا : أنت ربنا وخالقنا ورازقنا ( انظر الفتح 12/270)، وقاتل عليٌ الخوراج الذين وقعوا في بدعة الغلو في التكفير وقتل منهم الكثير ، فهل الصحابة من غلاة التجريح يا صاحِ؟!!
وبلاشك هذه الفرق فيها خطأ وصواب ، وحقٌّ وباطل ، فليست هي على الباطل المبين ، كما ذكر من حال الخوارج واجتهادهم في العبادة ، ورغم هذا كان هذا موقف النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من هذه الفرق ، وبِهذا يُرَد على صاحب "غلاة التجريح " احتجاجه بفتاوى مجملة منسوخة للجنة الدائمة سئلت فيها عن أحزاب هي امتداد لفرق : الخوارج والمعتزلة والصوفية والرافضة ،وهي :حزب الإخوان المسلمون ، وفرقة التكفير والهجرة ، وفرقة التبليغ والدعوة ...الخ فأجابت :" كل من هذه الفرق فيها حق وباطل وخطأ وصواب وبعضها أقرب إلى الحق والصواب وأكثر خيراً وأعم نفعا من بعض ، فعليك أن نتعاون مع كل منها على ما فيها من الحق ، وتنصح لها فيما تراه خطأ "، فنقول : وهل نصح النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاون مع الخوارج فيما معهم من الحق حيث كانوا أصحاب اجتهاد في العبادة ؟! وهل نصح ابن عمر يحي بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أن يتعاونا مع القدرية في قراءة القرآن وتفقر العلم ؟!
وهل ..وهل ؟! أم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نفَّروا أشد التنفير من هذه الفرق ، وأمروا بمجانبتها بالكليَّة ، خشية التأثر بمناهجها الفاسدة ، حيث إن الحق الذي معها ، هو مع أهل السنة ، فلسنا في حاجة إلى صوابها ، ولأن شرها غلب على صوابِها ، وفي الغالب من يتبع هذه الفرق من العامة يأخذ كل ما عندها من شر وخير ، لأنه لا يستطيع التمييز فلماذا نفتن الناس عن الدين الحق بهذا التمييع المشين الذي يوقع المغرر بهم في حبال هذه الفرق المخالفة للسنة ؟!!
وقد كتم صاحب "غلاة التجريح " الفتاوى المحكمة الناسخة لهذه الفتوى المجملة، فلما سئل العلامة ابن باز رحمه الله – رئيس اللجنة الدائمة – عن الإخوان والتبليغ قبل موته بسنتين: " هل الفرقتين تدخل في الفرق الهالكة؟أجاب:تدخل في الثنتين والسبعين، من خالف عقيدة أهل السنة دخل في الثنتين والسبعين" ، وقال العلامة الألباني : "ليس صواباً أن يقال إن الإخوان المسلمين هن من أهل السنة لأنهم يحاربون السنة"، وقال العلامة صالح اللحيدان :" الإخوان وجماعة التبليغ ليسوا من أهل السنة المناهج الصحيحة فإن جميع الجماعات والتسميات ليس لها أصل في سلف هذه الأمة "،وقال العلامة عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله نائب رئيس اللجنة الدائمة – :" عن فرقة التبليغ الواقع أنَّهم مبتدعة ومخرفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم وخروجهم ليس في سبيل الله ، لكنه في سبيل إلياس ، وهم لا يدعون إلى الكتاب والسنة ، ولكن يدعون إلى إلياس شيخهم ..." الخ فتاوى المحكمة التي ذركرتُها كاملة في "الكواشف الجلية" وفيه توثيق هذه الفتاوى
ولنا مقام آخر - إن شاء الله- أوسع من هذا نرد فيه ترهات وشبهات الجريح صاحب غلاة التجريح ، ونظهر فيه زيف الجواهر الحسان في بيان منهج حسَّان ، والله المستعان .
وسار التابعون بإحسان إلى وقتنا هذا على المنهج الرباني ، وهذه مصنَّفات الجرح والتعديل شاهدة على هذا ، منها " الجرح والتعديل "لابن أبي حاتم و"بحر الدم فيمن تكلَّم الإمام أحمد بمدح أو ذم" لابن عبد الهادي و" الضعفاء" للبخاري و" الكامل في الضعفاء " لابن عدي و" الضعفاء والمتروكين" للنسائي ، ونحوه للدارقطني ثم ابن الجوزي ..الخ وفيها تقرأ تجريح مئات من الرجال –رواة وغيرهم – وبيان مخالفتهم صغرت أم كبرت ، دون الاعتناء بذكر محاسنهم - لأن مقام تحذير ونصح للمسلمين ، وهذه نُبذ يسيرة من هذه الأقوال :
قال الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي " لا يغرك خشوعه ولينه...لا تغتر بتنكيس رأسه ،فإنه رجل سوء ( طبقات الحنابلة 1/234)"، ولما سئل أبو زرعة عن الحارث وكتبه " قال إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات
( سؤالات البردعي ص561) "، وقيل لابن عيينة : إنه أي منصور بن عمار – عابد ، قال: ما أراه إلا شيطانًا ( السير 9/93)، وقال البخاري في عبد المجيد بن أبي روَّاد : كان يرى الإرجاء عن أبيه ، وكان الحميدي يتكلَّم فيه
(الضعفاء 239) ،وقال في ترجمة يحي بن بِسطام: يذكر بالقدر(394)، وقد جرح البخاري في الضعفاء ما يقرب من أربعمائة رجلاً ، والنسائي جرح ما يزيد عن ستمائة وخمسين رجلاً في كتابه .
وقال إبراهيم بن طهمان : حدثنا من لا يهتم – غير واحد – أن جهماً رجع عن قوله ونزع عنه وتاب إلى الله منه فما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه ، ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقة هذا العظيم "
ولا نعلم أحداً أبداً من العلماء المعتبرين اعتبر التجريح الشديد لأهل الأهواء المخالفين لمنهج السلف غلوًّا ، بل كانوا يعتبرونه مَحمدة لصاحبه كما قال الحافظ في الإصابة (3/130): " وكان سمرة بن جندب رضي الله عنه شديداً على الخوارج ، فكانوا يطعنون عليه" ، وقال مالك :"كان ابن هرمز قليل الكلام ، وكان يشدُّ على أهل البدع ، وكان أعلم الناس بما اختلفوا فيه من ذلك ، وكذا كان عبد الرحمن القاسم" ( مناقب مالك للزواوي ص 152) ، وقال قتيبة بن سعيد :" كان عمر بن هارون شديدًا على المرجئة، وكان يذكر مساوئهم وبلاياهم " ( تاريخ دمشق 45/365)، وقال أبو الصلت الهروي في ترجمة إبراهيم بن طهمان :" كان شديدًا على الجهمية " ( السير 7/3 ، وقيل في ترجمة يوسف بن يحي البوطي :" إنه كان شديدًا على أهل البدع " ( تبين كذب المفتري ص 34 ،وقال ابن رجب في ترجمة البرهاري :" شيخ الطائفة في وقته ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع والمباينة لهم باليد واللسان "
(طبقات الحنابلة 2/1 ... الخ الأمثلة المبثوثة في كتب التراجم (راجع كتاب إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء لخالد الظفيري – جزاه الله خيراً - )
وقال شيخ الإسلام في نقض المنطق ( ص12):" الراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحي بن يحي يقول: الذّب عن السنة أفضل من الجهاد " .
واعلم – رحمك الله – أن هذا التجريح لأهل الأهواء مستثنى من الغيبة المحرمة باتفاق أهل السنة ، كما ثبت عن الحسن أنه قال:ليس لأهل البدعة غيبة ، وعن عفَّان :كنا عند إسماعيل بن عُلَيَّة جلوسًا فحدَّث رجل عن رجل ، فقلت : إن هذا ليس بثبت ، وقيل للإمام أحمد : إنه ليشتد على أن أقول : فلان ضعيف ، فلان كذَّاب ، فقال أحمد : إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السَّقيم ؟
وقد أجمع العلماء على وجوب التحذير من أهل البدع والأهواء وحذَّروا من مجالستهم ، كما قال الفضيل بن عياض :" وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة ، وهم ينهون عن أصحاب البدعة "، وقال أبو عثمان الصَّابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث ( ص123): " واتفقوا مع ذلك على القول يقهر أهل البدع ، وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عزوجل بمجانبتهم ومهاجرتهم " اهـ
وقال ابن بطة في الشرح والإبانة (ص282): " ومن السنة مُجانبة كلّ من اعتقد شيئًا مما ذكرناه -أي البدع – وهجرانه ، والمقت له ، وهجران من والاه ونصره وذبَّ عنه وصاحبه ، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السُّنَّة".
وحذَّر السلف من القراءة في كتب أهل البدع ، كما قال الفضيل بن زيادة : سألت أبا عبد الله – أي أحمد – عن الكرابيسي ، وما أظهره ، فكلح وجهه ثم قال :
" إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على هذه الكتب " ( المعرفة و التاريخ 3/494)، وقال أحمد أيضًا : " إياكم أن تكتبوا عن أحد من أصحاب الأهواء قليلاً ولا كثيراً ، عليكم بأصحاب الآثار والسُّنَن ( السير 11/321) ، وقال ابن أبي حاتم :" وسمعت أبي زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلظان في ذلك أشد التغليظ ، ويُنكران وضع الكتب برأي في غير آثار ، وينهان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين ، ويقولان لا يفلح صاحب كلام أبدًا ( شرح اعتقاد أهل السنة للاكائي 322)
واعلم -أرشدك الله- أن هذا العلم ليس قاصراً على رواة الحديث كما يُموه البعض ، واسمع إلى ما قاله ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير (3/464-مجموع الرسائل ):" ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث ، ولا التمييز بين من تقبل روايته ومن لاتقبل وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّل شيئًا منها على غير تأويله ، وتمسك بما لا يتمسك به ، ليُحذّر من الإقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا "
وكذلك الرد على المخالف لا يشمل أهل الأهواء فحسب بل يدخل فيه أيضًا المخالف من أهل السنة، لكنهم يفرقون في كيفية الرد بين المبتدع والسلفي، وبين العالم والمتعالم الجاهل، فقال ابن رجب في النصيحة (3/467):" وأما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن في الرد والجواب ، فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه ...وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردَّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردِّها عليهم هذا كله حكم الظاهر ...وسواء كان الذي بيَّن الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأنُكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتَيْن وغير ذلك ..." ، إلى أن قال :"وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين ، فأما أهل البدع والضلال ومن تشبه بالعلماء وليس منهم ، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الإقتداء بهم" .إهـ
وأهل البدع يشتركون من سمة رئيسة هي : الافتراق عن سبيل السلف في فهم الكتاب والسنة ، فهم يتبعون الهوى والرأي ويتبعون المتشابه ويعارضون السنة بالقرآن ، ومن ثَمَّ لا ينتسبون إلى السلف إما بلسان مقالهم أو بلسان حالهم ، فإما أن ينتسبوا صراحة إلى مسميات أخرى نحو الأشاعرة والمعتزلة والإخوان والتبليغ ...الخ ، أو أن يظهروا الانتساب إلى السلفية ادعاءً ، ويخالفون هذا الانتساب اعتقاداً وعملاً ، فيخالفون أصولاً عظيمة من الأصول السلفية ، وأخطرهم من ينسب مخالفته إلى المنهج السلفي ، ويقدمها على أنها من أصول السلف الصالح وفي واقع الأمر هي أصول الخوارج والمعتزلة والصوفية وغيرهم، ويدرك تدليسه وكذبه مَن له أدنى اهتمام بكتب العقيدة السلفية ، وهذا بخلاف العالم الرباني المجتهد – لا المتعالم القصَّاص أو الجاهل – الذي قد تزل قدمه في بدعة أو خطأ في الأصول دون تعمُّد أو اتباع للهوى.
ومن سماتهم أيضاً إطلاق الألفاظ المنفرة على أصحاب الطائفة المنصورة والفرقة الناجية : السلفيين –أهل الحديث والأثر- إذا حذَّروا من أهل البدع والفرق المبتدعة، فيلقبونهم بأنهم وهابية ، ألبانيون ، مداخلة ، فتَّانون ، مفرِّقون ... الخ، ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع لنا هذا التحذير من مُخالفي السنة ، وهو الذي أخبر بإفتراق الأمة ، وحذَّر من سبيل هذه الفرق ، وأمر بإتباع سبيل الجماعة الأم وهو ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
ومن ثَمَّ ندرك الثمرة العظيمة لهذا العلم الجليل – علم الجرح و التعديل – الذي ما وُضع إلا بيان حال كل مخالف لسبيل هذه الفرقة الناجية – سبيل الصحابة والسلف الصالح - ، والتحذير من سبيل الفرق والأحزاب الذين قال الله سبحانه عنهم : ? إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ? [ الأنعام:159]
وعليه فإن الواجب على المسلم إذا سمع عالمًا أو طالب علم يحذر من فلان الداعية المشهور أو من هذا الحزب أو ذاك فلا يأخذ في نفسه ويظن أن هذا من الغيبة أو أن هذا يفرق المسلمين ، بل العكس عليه أن يعتقد أن هذا من النصيحة في الدين وأن به يتحقَّق توحيد المسلمين على المنهج الحق ، وبه يحدث الفرقان بين الفرقة الناجية التي أمرا لنبي صلى الله عليه وسلم باتباع سبيلها ، وبين الفرق التي فارقت هذا السبيل القويم .
ومن أراد المزيد فليراجع كتب العلامة ربيع بن هادي – إمام الجرح والتعديل -: "منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف" ، "والمحجة البيضاء في حماية السنة الغراء " والنقد منهج شرعي " ، وكتاب" موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع"للشيخ إبراهيم الرحيلي .
ودعك من تهويل المرجفين الذين اتهموا أئمة السنة – ومنهم العلامة ربيع – بالغلو في الجرح فإن سلفهم في ذلك هو بكر بن حَمَّاد المغربي الذي قال متنقصًا أصحاب الحديث ومنهم ابن معين :
ولابن معين في الرجال مقالة// سيُسأل عنها والمليك شهيد
فإن يكُ حقًا قوله فهي غيبة // وإن يكُ زوراَ فالقصاص شديد
فأجابه أبو عبد الله الحُمَيدي :
ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت // معالمه في الآخرين تبيد
هم حفظوا الآثار من كل شبهة // وغيرهم عمَّا اقتنوه رقود
وهم هاجروا في جمعها وتبادروا // إلى كل أفق والمرام كؤود
وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم // فدام صحيح النَّقل وهو جديد
في أبيات طويلة أخرجها الخطيب في الكفاية (ص3
نسأل الله سبحانه أن يهدينا إلى سبيل الفرقة الناجية ، وأن يجنبنا سبل الفرق المحدثة ، وأن يوفقنا إلى تعظيم ما عظَّمه السلف الصالح من المعلوم والأصول ، ومنها الجرح و التعديل ، وأصل الرد على أهل البدع والأهواء ، ونبرأ إلى الله من التنقص من أئمة الحديث والسنة ، ومن تلقيبهم بالألقاب السيئة ، فإن هذا من الخيبة والخسران أن يُجرح العدول من أهل العلم ، ويُعدل المجروحون من الحزبيين والقُّصَّاص والمتعصِّبين للباطل والأهواء ، وعليه يُوسد الأمر إلى غير أهله ، وهذا من غربة الإسلام الحق ولاحول ولاقوة إلا بالله .
وكتب
أبو عبد الأعلى خالد محمد عثمان المصري
في ليلة الجمعة 17 من ذي القعدة 1427هـ
أبو عبد الأعلى خالد محمد عثمان المصري
في ليلة الجمعة 17 من ذي القعدة 1427هـ