قال الإمام الشافعي في الرسالة ( 1/42-53 بتحقيق أحمد شاكر ، ط . دار الكتب العلمية) : ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا ، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ، ولكنه لا يذهب منه شئ على عامتها ، حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه . والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه : لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شئ . فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن ، وإذا فرق علم كل واحد منهم : ذهب عليه الشئ منها ، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره . وهم في العلم طبقات : منهم الجامع لأكثره ، وإن ذهب عليه بعضه ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره .
وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلا على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم ، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه ، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله ، بأبي هو وأمي ، فيتفرد جملة العلماء بجمعها وهم درجات فيما وعوا منها
وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها : لا يذهب منه شئ عليها ، ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من قبله عنها ، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها . وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه ، فإذا صار إليه صار من أهله . وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء .
فإن قال قائل : فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب . فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم ، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه ، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه . ولا ننكر إذا كان اللفظ قيل تعلما أو نطق به موضوعا : أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب ، كما يتفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها ، مع تنائي ديارها واختلاف لسانها ، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها .
فإن قال قائل : ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره ؟
فالحجة فيه كتاب الله . قال الله : ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ﴾
فإن قال قائل : فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة ، وإن محمدا بعث إلى الناس كافة : فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة ، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه ، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم : فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟ فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض : فلا بد أن يكون بعضهم تبعا لبعض وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع . وأولى الناس بالفضل باللسان من لسانه لسان النبي . ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد ، بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه . وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه : قال الله : ﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ﴾ . وقال : ﴿ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ﴾ . وقال : ﴿ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ . وقال: ﴿ حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ﴾ . وقال : ﴿ قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾ .
قال الشافعي : فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها ، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه -جل ثناؤه - كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه : فقال تبارك وتعالى : ﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ . وقال : ﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته ءأعجمي وعربي ﴾ .
قال الشافعي : وعرفنا نعمه بما خصنا به من مكانه فقال : ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ﴾ . وقال : ﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ . وكان ممن عرف الله نبيه من إنعامه أن قال : ﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ فخص قومه بالذكر معه بكتابه . وقال : ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ وقال : ﴿ لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ . وأم القرى مكة وهي بلده وبلد قومه ، فجعلهم في كتابه خاصة ، وأدخلهم مع المنذرين عامة ، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم خاصة .
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ويتلو به كتاب الله ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير ، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك . وما ازداد من العلم باللسان الذي جعل الله لسان من ختم به نبوته ، وأنزل به آخر كتبه : كان خيرا له . كما عليه يتعلم الصلاة والذكر فيها ، ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ، ويتوجه لما وجه له . ويكون تبعا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعا .
وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره ؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب ، وكثرة وجوهه ، وجماع معانيه وتفرقها . ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها .
فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين . والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه ، وإدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سفه نفسه ، وترك موضع حظه . وكان يجمع مع النصيحة لهم قياما بإيضاح حق . وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله . وطاعة الله جامعة للخير .
أخبرنا سفيان عن زياد بن علاقة قال : سمعت جرير بن عبد الله يقول : « بايعت النبي على النصح لكل مسلم » .
أخبرنا ابن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أن النبي قال : « إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة : لله ، ولكتابه ، ولنبيه ، ولأئمة المسلمين وعامتهم » .
قال الشافعي : فإنما خاطب الله بكتابه العرببلسانها ، على ما تعرف من معانيها ، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها . وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغني بأول هذا منه عن آخره ، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه . وعاما ظاهرا يراد به الخاص . وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره . فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره . وتبتدئ الشئ من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره . وتبتدئ الشئ يبين آخر لفظها منه عن أوله . وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ ، كما تعرف الإشارة ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها ؛ لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها . وتسمي الشئ الواحد بالأسماء الكثيرة ، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة . وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها - معرفة واضحة عندها ، ومستنكرا عند غيرها ، ممن جهل هذا من لسانها ، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة ، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه . ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته : كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة ، والله أعلم ، وكان بخطئه غير معذور ، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه . اهـ
وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلا على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم ، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه ، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله ، بأبي هو وأمي ، فيتفرد جملة العلماء بجمعها وهم درجات فيما وعوا منها
وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها : لا يذهب منه شئ عليها ، ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من قبله عنها ، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها . وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه ، فإذا صار إليه صار من أهله . وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء .
فإن قال قائل : فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب . فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم ، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه ، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه . ولا ننكر إذا كان اللفظ قيل تعلما أو نطق به موضوعا : أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب ، كما يتفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها ، مع تنائي ديارها واختلاف لسانها ، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها .
فإن قال قائل : ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره ؟
فالحجة فيه كتاب الله . قال الله : ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ﴾
فإن قال قائل : فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة ، وإن محمدا بعث إلى الناس كافة : فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة ، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه ، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم : فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟ فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض : فلا بد أن يكون بعضهم تبعا لبعض وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع . وأولى الناس بالفضل باللسان من لسانه لسان النبي . ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد ، بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه . وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه : قال الله : ﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ﴾ . وقال : ﴿ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ﴾ . وقال : ﴿ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ . وقال: ﴿ حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ﴾ . وقال : ﴿ قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ﴾ .
قال الشافعي : فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها ، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه -جل ثناؤه - كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه : فقال تبارك وتعالى : ﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ . وقال : ﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته ءأعجمي وعربي ﴾ .
قال الشافعي : وعرفنا نعمه بما خصنا به من مكانه فقال : ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ﴾ . وقال : ﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ . وكان ممن عرف الله نبيه من إنعامه أن قال : ﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ فخص قومه بالذكر معه بكتابه . وقال : ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ وقال : ﴿ لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ . وأم القرى مكة وهي بلده وبلد قومه ، فجعلهم في كتابه خاصة ، وأدخلهم مع المنذرين عامة ، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم خاصة .
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ويتلو به كتاب الله ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير ، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك . وما ازداد من العلم باللسان الذي جعل الله لسان من ختم به نبوته ، وأنزل به آخر كتبه : كان خيرا له . كما عليه يتعلم الصلاة والذكر فيها ، ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ، ويتوجه لما وجه له . ويكون تبعا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعا .
وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره ؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب ، وكثرة وجوهه ، وجماع معانيه وتفرقها . ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها .
فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين . والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه ، وإدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سفه نفسه ، وترك موضع حظه . وكان يجمع مع النصيحة لهم قياما بإيضاح حق . وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله . وطاعة الله جامعة للخير .
أخبرنا سفيان عن زياد بن علاقة قال : سمعت جرير بن عبد الله يقول : « بايعت النبي على النصح لكل مسلم » .
أخبرنا ابن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أن النبي قال : « إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة : لله ، ولكتابه ، ولنبيه ، ولأئمة المسلمين وعامتهم » .
قال الشافعي : فإنما خاطب الله بكتابه العرببلسانها ، على ما تعرف من معانيها ، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها . وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغني بأول هذا منه عن آخره ، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه . وعاما ظاهرا يراد به الخاص . وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره . فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره . وتبتدئ الشئ من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره . وتبتدئ الشئ يبين آخر لفظها منه عن أوله . وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ ، كما تعرف الإشارة ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها ؛ لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها . وتسمي الشئ الواحد بالأسماء الكثيرة ، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة . وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها - معرفة واضحة عندها ، ومستنكرا عند غيرها ، ممن جهل هذا من لسانها ، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة ، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه . ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته : كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة ، والله أعلم ، وكان بخطئه غير معذور ، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه . اهـ
تعليق