بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
وبِه نَسْتَعِينُ وعلَيْه نتَوكَّلُ
إِنَّ الحمدَ لله نَحْمدُهُ ، ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّـئَاتِ أَعْمالِنا ، مَنْ يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَه ، وأَشْهدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَه ، وأَشْهدُ أَنَّ محمَّدًا عبدُه ورسُولُهُ صَلَّى اللهُ علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ ، أَمَّا بَعْدُ :
فإِنَّ أَصْدَقَ الحدِيثِ كِتابُ الله ، وخَيْرَ الهدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحدَثاتُها ، وكُلَّ مُحدَثَـةٍ بِدْعةٌ وكُلَّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ ، وكُلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ ، أَمَّا بَعْدُ :
فَمِنَ الحقَائقِ المقرَّرةِ عندَ المحدَثِـينَ مِنْ عُلماءِ اللُّغاتِ أَنَّ كثرةَ الاسْتِعْمالِ تُـبْلي الأَلْفاظَ ، وتَجْعلُ الأَلْفاظَ عُرْضَةً لِقَصِّ أَطرافِها تَمامًا كما تَـبْلَى العُملاتُ المعْدِنيَّـةُ والورَقِيَّـةُ الَّتي تَتبَادلُها أَيْـدِي البشَرِ ؛ فيُصِيبُ الألْفاظَ مِنَ البِلَى ما يُصِيبُ العُملاتِ المعْدِنيَّـةَ والورَقِـيَّـةَ .
والكلِماتُ القَصِيرةُ كثيرًا ما تُقاوِمُ الانْحِرافاتِ الَّتي تُصِيبُ الكلِماتِ الطَّويلةَ بِاطِّرادٍ ، أَمَّا الكلِماتُ الطَّويلةُ فعلَى العَكْسِ مِنْ ذلِكَ ؛ تُـقَدِّمُ لَنا في بَعْضِ الأَحيانِ انْحِرافاتٍ خاصَّةً ناجِمةً مِنْ طُولِـها .
وهذِه بِوَجْهٍ خاصٍّ هِيَ الحالُ بِالنِّسْبَـةِ لِكلِماتٍ كثيرةِ الاسْتِـعْمالِ ، ومِنْ ثَـمَّ يُمْكِنُ فَهْمُها قَبلَ النُّطْقِ بِها لِكَـثْرةِ اسْتِعْمالِـها ، إِلَى حَدِّ أَنَّ المتكلِّمَ يَسْتَطيعُ أَنْ يُعْـفِيَ نَفْسَه مِنْ تَوْضِيحِ النُّطْقِ بِها مُكتَـفيًا بِنُطْقِها في صُورةٍ مُختَصَرةٍ ؛ فالبِلَى الصَّوْتِيُّ واضِحٌ فيها بِدرجةٍ خاصَّةٍ .
وهذِه الأَلْفاظُ في عُمُومِها : إِمَّا آلاتٌ مُسَاعِدةٌ في اللُّغةِ ، وإِمَّا عِباراتٌ مَحفُوظةٌ مُتدَاوَلةٌ ؛ وهِيَ لذلِكَ لَيْسَتْ في حاجةٍ إِلَى وُضُوحِ النُّطْقِ الَّذي تَقْـتَضِيه الرَّغْبةُ في الإِفْهامِ ؛ فيُصِيبُها حينَـئِذٍ تِلْكَ الظَّاهِرةُ الَّتي سَمَّاها اللُّغَوِيُّونَ : ( البِلَى اللَّفْظِـيَّ ) ، كما يبْـلَى الثَّوْبُ وكما تَبْـلَى العُملاتُ الوَرقِيَّـةُ والمعدِنيَّـةُ لِكثرةِ التَّداوُلِ بِالأَيْـدِي تَبْلَى الأَلْفاظُ أَيْضًا .
ومِنَ الأَلْـفَاظِ الَّتي تُـعَاني هَـذَا القَـصَّ والبِـلَى : الأَدواتُ الَّتي تَـدُورُ كـثيرًا في الكَـلَامِ ، وكذلِكَ كلِماتُ التَّحِيَّـةِ الَّتي يُـرَدِّدُها النَّاسُ صَباحَ مَسَاءَ ، وما شَابَههَا .
كعِبارةِ : ( عِمْ صَباحًا ) ، هذِه تَطوَّرتْ عنْ : ( أَنْعِمْ صَباحًا ) (1) .
وكعِبارةِ : ( مُ اللهِ ) وهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ : ( أَيْـمُنُ اللهِ ) (2) .
وفي مِصْرَ يَقُولُونَ : ( سَ الْخِـير ) ! بَدَلًا مِنْ : ( مَسَاءِ الـخَـيْرِ ) .
وفي العِراقِ يَقُولُونَ : ( اللهْ بِالخِيرْ ) ! أَيْ : ( صَبَّحكَ اللهُ بِالخيْرِ ) أَوْ ( مَسَّاكَ اللهُ بِالخيْرِ ) ، فأَصَابَ العِبارةَ البِلَى اللَّفْظِـيُّ وهذَا القَصُّ مِنها حَتَّى صَارتْ إِلَى هذَا الَّذي وَصَلَتْ إِلَيْه (3) .
أَيْضًا كلِمةَ ( للسَّاعةِ ) ، مَثَـلًا : للسَّاعةِ لَـمْ يأْتِ فُلانٌ ، يَعْني : لِلآنِ لَـمْ يَأْتِ فُلانٌ ، أَصْبحتْ في مِصْرَ : ( لِلسَّـهْ ) ! ولا يَـدْرِي كثيرٌ ممَّنْ يتكلَّمُ بِها مَعْناها ومِنْ أَيْنَ جاءَتْ ، هِيَ في الأَصْلِ : ( لِلسَّاعةِ ) يَعْني : لِلْآنِ .
في شَمالِـيِّ إِفْرِيقـيا يقُولُونَ : ( لِلسَّـعْ ) ! ، وفي السُّودانِ : ( لِلسَّاتِي ) ! (4) .
وكذلِـكَ كلِمةَ ( حَـتَّى ) أَصْبَحتْ في نُطْقِ أَهْلِ سُوريا الـيَـوْمَ : ( تَـا ) ، بَعْضُهُمْ يقُولُ : ( طَـوِّلْ رُوحَكْ تَا احْكِي لَكْ ) ! ، بِمَعْنَى : مَهْلًا حَتَّى أَحْكِيَ لَكَ .
رُوِيَ هذَا التَّطَـوُّرُ في كلِمةِ ( حَتَّى ) في القَدِيمِ ، ذكَرَهُ الجَوالِـيـقِيُّ ( المتوَفَّى سَنةَ 539 ) (5) ، يقُولُ عنْ عَوامِّ عَصْرِه : (( ومِنْ كَلامِهم الـمُحالِ الغَثِّ : ( جِئْتُ تَـا أَلْقاكَ ) ، يَعْني : حَتَّى أَلْقاكَ )) .
بلْ يُمْكِنُ أَنْ تَعُودَ بِهذِه الظَّاهِرةِ إِلَى عُصُورِ الاحْتِجاجِ في العَرَبِـيَّـةِ ، في مِثْلِ قَوْلِ أَبِي وَجْزةَ السَّعْدِيِّ (6) : [ الكامل ]
العَـاطِـفُونَ تَحِـينَ ما مِنْ عاطِـفٍ.........والـمُطْعِمُونَ زَمانَ أَيْنَ الـمُطْعِمُ
( العاطِفُونَ تَحِـينَ ) حَتَّى حِينَ ( ما مِنْ عاطِفٍ ) لا يُوجَدُ مَنْ يَعْطِفُ ، وإِنْ كانَ نُحاةُ العَربِيَّـةِ قدِ اخْتلَطَ علَيْهمُ الأَمْرُ في شَأْنِ هذَا البَـيْتِ (7) .
وإلَى الملْـتَـقَى بمشِيئَـةِ الله تعالَى ..
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) لعلَّ هذَا القَوْلُ هُو الأقْربُ ، وقيلَ : إِنَّه فِعْلُ أَمرٍ منْ ( وَعَمَ يَـعِمُ ) ، قالَ امرُؤُ القَيْسِ في قَصِيدتِه الَّتي تقارنُ بِمعلَّقتِه في الجوْدةِ : [ الطَّويل ]
أَلَا عِـمْ صَـباحًا أَيُّها الطَّـلَـلُ الـبَـالِي......... وهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخالِي
(2) وقَدْ تُصُرِّفَ فيها تَصَرُّفاتٍ عجيبةً ، انظُرْها في اللِّسانِ ، مادَّة ( ي م ن ) .
(3) وفي بَعْضِ البِلادِ : ( صَبَّحْكْ بِالخِير ) و ( مسَّاكْ بالخير ) ، أوْ ( مَسِّيكْ بالخير ) كأنَّهُ مِنْ : يُمَسِّيكَ المضارعِ .
(4) أَوْ : ( لِلسَّـادِي ) كأنَّها اخْتِصارُ ( للسَّاعةِ هذِه ) = ( لِلسَّاعة ذِي ) ، ويُلاحظُ أنَّ ( لِلسَّه ) ونحْوها إِذَا أدرِجتْ في جُملةٍ كانَ معناها ( إِلَى الآنِ أوْ حَتَّى هذِه السَّاعةِ ) وأمَّا إِذَا كانتْ مُفردةً في جَوابِ سُؤالٍ عنْ حُصُولِ شَيْءٍ فهِيَ تُؤَدِّي معْنَى ( إِلَى الآنِ لا ) أيْ ( لَـمَّا بَعْدُ ) .
وممَّا يُشْبِـهُ هذَا قوْلُهمْ لـ ( في هذِه السَّاعةِ ) بِمَعْنى ( الآنَ ) : ( ها السَّعْ ) ويقلبُ أهلُ العِراقِ العَيْنَ إِلَى همزةٍ ( ها السَّأْ ) ، ويُسْقِطُها أَكثرُ أهلِ الشَّامِ ( ها السَّ ) .
(5) الجوالِـيقِيُّ هُو : مَوْهُوب بْنُ أَحمدَ بْنِ الحسنِ بْنِ الخضرِ البَغْداديُّ ، والجواليقِيُّ نِسْبةً إِلَى عَملِ الجواليقِ وبَيْعِها ـ جَمْعُ جُوالِق وجُوالَق ، وِعاءٌ مَعْرُوفٌ ، مُعرَّبٌ ، في اللِّسَانِ عنِ ابْنِ الأَعْرابِيِّ ـ ، عالِمٌ بِاللُّغةِ والأَدبِ ، ترجمتُهُ في مُعْجمِ الأُدباءِ و وفياتِ الأَعيان وسِيرِ أَعلامِ النُّبلاءِ وغيْرِها .
وممَّا ذكرُوا مِنْ مناقِبه ـ وهذَا ما يَنبَغي أَنْ يُعْنَى بِه في التَّراجُمِ ـ : كانَ طويلَ الصَّمتِ شَديدَ التَّحرِّي فيما يقُولُ ، لا يقُولُ شَيْـئًا إِلَّا بعْدَ التَّحْقِيقِ ويُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ ( لا أَدرِي ) حتَّى قالَ ابْنُ الجوزِيِّ ـ وهُو مِنْ تلامِذَتِه ـ : ( رُبَّما سُئِلَ المسألةَ الظَّاهِرةَ الَّتي يُبادِرُ بِجوابِها بَعْضُ غِلْمانِه فيتَوَقَّفُ فيها حتَّى يَتيَـقَّنَ ) لله دَرُّهُ .
وكانَ ملِيحَ الخطِّ يتنافسُ النَّاسُ في تَحْصِيلِه والمغالاةِ بِه ، مِنْ مُصَنَّفاتِه المشْهُورة : ( المعرَّبُ منَ الكلامِ الأَعْجمِيِّ ) و ( شَرْحُ أَدبِ الكاتِبِ ) و ( تكمِلةُ إِصْلاحِ ما تَغلطُ فيه العامَّـةُ ) أَكملَ بِه دُرَّةَ الغَوَّاصِ لِلحَرِيرِيِّ وكُلُّها مَطْبُوعةٌ .
وقدْ تَبعَ الشَّيْخُ حفظَهُ اللهُ ياقُوتَ وابْنَ خلِّكانَ في سَنةِ وفاتِه ، وقالَ الذَّهبِيُّ رحمهُ اللهُ في السِّيرِ (20/90) : ( ماتَ في المحرَّمِ سَنةَ أَرْبعينَ وخمسمِئَـة ، وغلِطَ مَنْ قالَ : سَنةَ تِسْعٍ وثلاثِينَ ) اهـ .
(6) يَزِيد بْنُ عُبَـيْدٍ أَبُو وَجْزَةَ ـ بِفَتْحِ الواوِ وسُكُونِ الجِيمِ بَعْدَها زَايٌ ـ السَّعْدِيُّ المدَنِيُّ الشَّاعِرُ : ثِقَةٌ ، مِنَ الخامِسَةِ ماتَ سَنةَ ثَلاثِينَ ومِئَـةً ( د ، س ) . أيْ : رِوايتُه عِندَ أَبي داوُدَ والنَّسائِيِّ ، كذَا في التَّقْرِيبِ ، وفي الكاشِفِ للذَّهَبيِّ : عنْ عُمر بْنِ أَبي سَلمةَ وعنهُ ابْنُ إِسْحاقَ وسُليْمانُ بْنُ بِلالٍ ، ثقةٌ ، وانظُرْ ترجمتهُ أيْضًا في ( الشِّعْر والشُّعَراء ) لابْنِ قُتَيْـبَةَ رحمه الله (2/691) ت : الشَّيخ أحمد شاكر رحمه الله .
(7) رِوايةً ودِرايَـةً ، انْظُر رِوايةَ البَيْتِ والخِلافَ في تَوْجيه التَّاءِ في ( تَحينَ ) في اللِّسانِ ، مادَّةَ ( ح ي ن ) ، وفي الإِنْصافِ لابْنِ الأَنبارِيِّ ص (86.) ط ( المكتبة العصْرِيَّـة ) معَ تعْلِيـقِ محقِّقِـهِ محمَّد مُحيِي الدِّينِ عبدِ الحميدِ .
تعليق