تأملات في القول بتفضيل سلام إبراهيم عليه السلام على سلام الملائكة:
قال الله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ}، وقال أيضا: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما، قال سلام قوم منكرون}، ففي هذين الموضعين جاء ذكر السلام المنسوب إلى الملائكة بالنصب، وسلام إبراهيم عليه السلام مرفوعا على الابتداء أو الخبرية، ويذكرون أن سلام إبراهيم عليه السلام أبلغ, لأنه جاء بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والدوام، والسلامم المنسوب إلى الملائكة جملة فعلية تفيد الحدوث والتجدد، وهذه المسائل ونظيراتها محل اجتهاد لأهل العلم، وليس القول فيها قولا واحدا، وإليك أيها القارئ ما تيسرر في هذه المسألة في مسائل.
المسألة الأولى: هل التسليم خبر أو إنشاء؟ قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد ج2: وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر؟
فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية. وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح. فنقول: الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه، ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلبًا، وإما خبرًا. وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض. وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر، والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان. فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الأخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع. فكل موضع كان المعنى فيه حاصلًا بقصد المتكلم وإرادته فقط. فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء نحو قوله: بعتك كذا، ووهبتكه وأعتقت وطلقت. فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده. فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه. لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر وكل موضع كان المعنى حاصلًا فيه من غير جهة المتكلم. وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته. فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء وهذا نحو سلام عليكم. فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم، وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها فإذا قال: سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها، وكذلك ويل له قال سيبويه: هو دعاء وخبر ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه. بل حرفوه عما أراده به. وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا. بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير. وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما. وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه.
إذن, فالسلام الذي هو تحية، يدخله الخبر من جهة ويدخله الإنشاء من جهة، وقد يدخله الخبر والإنشاء معا في سياق، وقد يفترقان, فيدل سياق على هذا تارة، ويدل على الآخر تارة أخرى.
وبناء على ما تقدم نقله يمكن القول أن لفظة, {سلاما} في التسليم المنسوب للملائكة بعد القول، هل هي خبرية أم إنشائية، فمن قدر, (سلمنا سلاما) فهي عنده على صورة الخبر، ومن قدرها, (اسلم سلاما)، أو (سلمت سلاما)، على صورة الخبر المراد به الدعاء، فهي إنشائية للدعاء، وهم إنما سلموا حال دخولهم، فكيف يخبرون بالماضي؟ ومجيء المصدر منصوبا ومنونا إنما يأتي غالبا نائبا عن فعل أمر وهو الأقرب إن قدر أنه حكاية للفظ الملائكة، والله أعلم.
المسألة الثانية: الفرق بين الرفع والنصب فيما يأتي بعد فعل القول، قال ابن جرير الطبري رحمه الله: ، (قالوا سلاما) ، يقول: فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب " سلامًا " بإعمال " قالوا " فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.
* * *
، (قال سلام) ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام ، فرفع " سلامٌ"، بمعنى : عليكم السلام ، أو بمعنى : سلام منكم . ا.ه،
وقال القرطبي رحمه الله: (قالُوا سَلاماً) نُصِبَ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: قَالُوا خَيْرًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. ... ولو رفعا جميعا أَوْ نُصِبَا جَمِيعًا "قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ" جاز في العربية. وقيل: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: "قالُوا سَلاماً" أَيْ فَاتَحُوهُ بِصَوَابٍ مِنَ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ:" وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي صو أبا، فَسَلَامًا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا لَفْظُهُ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاخْتَارَهُ. قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ اللَّفْظِ قَالَهُ بِعَيْنِهِ فَقَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ "" سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ". وَقِيلَ دَعَوْا لَهُ، وَالْمَعْنَى سَلِمْتَ سَلَامًا.
(قالَ سَلامٌ) فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ هُوَ سَلَامٌ، وَأَمْرِي سَلَامٌ. وَالْآخَرُ بِمَعْنَى سَلَامٌ عَلَيْكُمْ إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، فَأُضْمِرَ الْخَبَرُ. وَجَازَ سَلَامٌ عَلَى التَّنْكِيرِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ، فَحُذِفَ الألف والام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرى "سِلْمٌ" قَالَ الْفَرَّاءُ: السِّلْمُ وَالسَّلَامُ بِمَعْنًى، مِثْلُ الْحِلِّ وَالْحَلَالِ. ا.ه.
وتعدد التقديرات، واختلاف وجوه الإعراب يدلك على أن القول بأفضلية سلام إبراهيم على سلام الملائكة قولا محتملا لا مسلما، فالنصب في (سلاما) له ثلاث احتمالات, النصب على أنه مقول القول، أي حكاية قولهم بلفظه منصوبا، الانتصااب على المفعولية من باب الإخبار عنهم أنه خاطبوه مخاطبة مسالمة ومؤانسة، ولم يكن منهم من القول إلا ما يوجب الأنس بهم ومع هذا نكرهم، الانتصاب على المصصدرية باسم مصدر نائب عن فعله أي سلمنا سلاما، أخبارا منهم عن أنفسهم، وقد مر ذكره في المسألة السابقة، الاحتمال الثالث، الدعاء بتقدير, (اسلم سلاما)، أو (سلمت سلاما)، من باب صورة الخبر المراد به الدعاء.
وأما الرفع فليس فيه إلا احتمال حكاية القول، لكنه على معنيين: المتاركة, فإنه أنكرهم وأوجس منهم خيفة، كقول الله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام} {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}، أو التحية، كقوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم}.
المسألة الثالثة: الملائكة تعرف الرفع في السلام وتحيي به، ودليله من الكتاب في ابتدائهم السلام قوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتمم} ودليله في رد السلام واستقبالهم له على الرفع الحديث الصحيح في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وطُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، ثُمَّ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ علَى أُولَئِكَ مِنَ المَلائِكَةِ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقالَ السَّلامُ علَيْكُم، فقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَزادُوهُ: ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حتَّى الآنَ. وفي رواية في غير الصحيحين كالترمذي والبيهقي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ ونَفَخَ فيهِ
الرُّوحَ عَطَسَ، فقال: الحمدُ للهِ، فحَمِدَ اللهَ بإذنِ اللهِ، فقال له ربُّهُ: رَحِمَكَ ربُّكَ يا آدَمُ. وقال: اذهَبْ إلى أولئِكَ المَلائكةِ إلى مَلأٍ مِنهُمْ جُلُوسٌ، فقُلْ: السَّلامُ عليكُم، فذَهَبَ، فقالوا: وعليكَ السَّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلى ربِّهِ، فقال: هذهِ تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ بَنِيكَ وبَنِيهِم. وقال اللهُ له ويَداهُ مَقْبوضَتانِ: اختَرْ أيَّهُمَا شِئْتَ، فقال: اختَرْتُ يَمِينَ ربِّي، وكِلْتَا يَدَيْ ربِّي يَمِينٌ مُبارَكةٌ، ثُمَّ بَسَطَها، فإذا فيها آدَمُ وذُرِّيَّتُهُ، فقال: أيْ ربِّ، ما هؤلاءِ؟ قال: هؤلاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فإذا كلُّ إنسانٍ مكتوبٌ عُمُرُهُ بيْن عَينيْهِ، وإذا فيهِم رَجْلٌ أَضْوَؤُهُم، لم يُكتَبْ له إلَّا أربعون سَنَةً، فقال: أيْ ربِّ، زِدْ في عُمُرِهِ، قال: ذاكَ الَّذي كَتَبْتُ له، قال: فإنِّي قد جَعَلْتُ له مِن عُمُري سِتِّينَ، قال: أنتَ وذاكَ، قال: ثُمَّ أُسكِنَ الجَنَّةَ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ أُهبِطَ منها، وكان آدَمُ يَعُدُّ لنفْسِهِ، فأَتاهُ ملَكُ الموتِ، فقال له آدَمُ: قد عَجِلْتَ، قد كُتِبَ لي ألْفُ سَنَةٍ، قال: بلى، ولكنَّكَ جَعَلْتَ لابنِكَ داودَ منها سِتِّينَ سَنَةً. فجَحَدَ فجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، ونَسِيَ فنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، فيَوْمَئِذٍ أُمِرَ بالكِتابِ والشُّهودِ. قال الذهبي في مهذبه على سنن البيهقي: 8/4149 إسناده صالح وأصل الحديث في الجملة في صحيفة همام. وهي قصة قبل قصة ضيف إبراهيم، فالملائكة تعرف التحية التي هي على الرفع في كلام العرب، فكيف تعدل عنه؟ لا سيما وقد مر من كلام ابن العربي المالكي احتمال أن يكون سلاما على النصب ليس حكاية لقولهم بلفظه، ونحن لا ندري اللغة التي خاطبت بها الملائكة إبراهيم عليه السلام ورد عليهم بها، والقرآن ورد فيه بصريح العبارة أنه: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وإنما ذكر لنا من أخبارهم حكاية معاني أقوالهم في الغالب لا عين ألفاظها، يدل على ذلك تعدد الألفاظ في الحكاية الواحدة بحسب ما يقتضيه سياق السورة، والمعنى المراد في كل سياق، وبحسب ما يقتضيه السياق من الإيجاز والإطناب، فليس عندنا دليل جازم على أن الملائكة قالت هذا السلام بالنصب باللفظ ذاته، وإنما هو استنباط معارض بغيره، ولمعترض أن يقول الذي حكى لنا الحوار بين الملائكة عالم بما يحكي، فحكى لنا عن ذلك اللسان الذي وقع به التخاطب ما يقتضيه النصب في الجملة الفعلية من التجدد والحدوث في اللسان العربي، يدل عليه تكرر سياق القصة في السلام بالنصب في تسليم الملائكة وبالرفع في سلام إبراهيم عليه السلام، وإنما يستقيم هذا في حال تأكد أن سلاما المنصوب هو عين قول الملائكة من باب التحية، ولا مرجح، وقد تقدم أن الله عز وجل حين ذكر قول الملائكة في تحيتهم لأهل الجنة، وردهم لتحية آدم عليه السلام ذكروها بالرفع، فهم يعرفونها.
المسألة الرابعة: معنى تحية الإسلام: وهي التحية التي تلفظ بها إبراهيم عليه السلام صراحة في رده على الملائكة، قال ابن القيم رحمه الله في البدائع ج2:
وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية ففيه قولان مشهوران:
أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز وجل. ومعنى الكلام نزنت بركة اسمه عليكم، وحلت عليكم ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده، واحتج أصحاب هذا القول بحجج منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة: السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي ï·؛: «لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام». ولكن قولوا: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فنهاهم النبي ï·؛ أن يقولوا: السلام على الله، لأن السلام على المسلم عليه دعاء له، وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له. فيستحيل أن يسلم عليه. بل هو المسلم على عباده كما سلم عليهم في كتابه. حيث يقول: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين }، . ا.ه.
إلى أن قال:
ومن حججهم ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رجلًا سلم على النبي ï·؛ فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمم ورد عليه وقال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر»، قالوا: ففي هذا الحديث بيان أن السلام ذكر الله. وإنما يكون ذكرًا إذا تضمن اسمًا من أسمائه. ا.ه.
إلى أن قال:
القول الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية. ومن حجة أصحاب هذا القول أن يذكر بلا ألف ولام. بل يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك. بل كان يطلق عليه معرفًا كما يطلق عليه سائر أسمائه الحسنى فيقال: السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر فإن التنكير لايصرف اللفظ إلى معين فضلًا عن أن يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينًا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى. ا.ه.
إلى أن قال:
ومن حججهم أيضا أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا. ولهذا كان السلام أمانًا لتضمنه معنى السلامة وأمن كل واحد من المسلم والراد عليه من صاحبه. قالوا: فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وحذفت تاؤه، لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه، والتاء تفيد التحديد كما تقدم. ا.ه.
فتأمل قوله عن السلام الذي هو تحية أن فيه خبرا ودعاء، وصله بما تقدم.
ثم رجح فقال:
وفصل الخطاب في هذه المسألة أن يقال الحق في مجموع القولين فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما وإنما نبين ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مرارًا وهي أن من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله. حتى كأن الداعي مستشفع إليه متوسل إليه به. ا.ه.
إلى أن قال:
وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله وهو السلام الذي يطلب منه السلامة. فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله كما في حديث ابن عمر. والثاني طلب السلامة وهو مقصود المسلم. فقد تضمن سلام عليكم اسمًا من أسماء الله، وطلب السلامة منه. فتأمل هذه الفائدة. ا.ه.
وهي عبارة أوضح من الأولى وأجلى في بيان المقصود، ومع الأسف، كم رددناها دون أن نعرفها، فيا لغربة الدين!
وقال في المسألة التي تليها في بيان الفائدة من السلام عند اللقاء:
ومقصود العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين؛ بسلامته من الشر وحصول الخير كله، والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الأصل. ولهذا إنما يهتم الإنسان بل كل حيوان بسلامته أولًا، ثم غنيمته ثانيًا. على أن السلامة المطلقة تضمن حصول الخير. فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص والضعف. ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة فتضمنت السلامة نجاته من كل شر وفوزه بالخير. فانتظمت الأصلين الذين لا تتم الحياة إلا بهما مع كونها مشتقة من اسمه السلام ومتضمنة له وحذفت التاء منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا السلامة الواحدة. ولما كانت الجنة دار السلامة من كل عيب وشر وآفة، بل قد سلمت من كل ما ينغص العيش، والحياة كانت تحية أهلها فيها سلام، والرب يحييهم فيها بالسلام، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. فهذا سر التحية بالسلام عند اللقاء. ا.ه رحمه الله.
وإنما أورِدت عليك هذه المسألة لبيان أن السلام فيه معنى الدعاء, لتتبين الفرق بين ورود السلام منصوبا على حذف الفعل فيكون جليا أنه بمعنى الدعاء، وبين السلام المرفوع المنكر الذي كان رفعه لسببين, الدلالة على الدعاء، ولذا, جاز الابتداء بالنكرة, لأنها أفادت معنى الدعاء، ولأن فيه معنى الخبرية, بإثبات حصوله للمخبر بجملة التحية.
المسألة الخامسة: اتحد لفظ سلام إبراهيم عليه السلام مع السلام المنسوب للملائكة في أمر وتباينا في أمر، فاتحدا في التنكير، وفترقا في الرفع والنصب مع أن العامل فيهما هو لفظ صريح القول،قال ابن القيم رحمه الله في البدائع:
فلنرجع إلى المقصود. فنقول: الذي صحح الابتداء بالنكرة في سلام عليكم. إن المسلم لما كان داعيًا وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به، وينزل منزلة قولك أسأل الله سلامًا عليكم، وأطلب من الله سلامًا عليك. فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك. ألا ترى أنك لو قلت: أسأل الله عليك سلامًا لم يجز وهذا في قوته ومعناه. فتأمله فإنه بديع جدًا.
فإن قلت: فإذا كان في قوته فهلا كان منصوبًا مثل سقيًا ورعيًا، لأنه في معنى سقاك الله سقيًا ورعاك رعيًا؟
قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين سلام إبراهيم، وسلام ضيفه إن شاء الله. وأيضا فالذي حسن الابتداء بالنكرة ههنا. إنها في حكم الموصوفة، لأن المسلم إذا قال: سلام عليكم فإنما مراده سلام مني عليك كما قال تعالى: { اهبط بسلام منا }، ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف. ا.ه.
وقال في الجواب عن سر ابتداء السلام بالنكرة:
والجواب عنها بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام. وهو أن السلام دعاء وطلب وهم في ألفاظ الدعاء والطلب. إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول ويل له. ومن الثاني خيبة له وجدعًا وعقرًا وتربًا وجندلًا هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له سقيًا ورعيًا وكرامة ومسرة فجاء سلام عليكم بلفظ النكرة، كما جاء سائر ألفاظ الدعاء. وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل. ألا ترى أن سقيًا ورعيًا وخيبة جرى مجرى سقاك الله ورعاك وخيبه، وكذلك سلام عليك جار مجرى سلمك الله والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه كالبدل منه نكرة مثله. ا.ه.
ولذا اختلف العلماء في تقدير المحذوف في سلام إبراهيم عليه السلام، ولو جاء معرفا لما احتمل السياق الحذف، وإنما احتمل السياق الحذف في سلام إبراهيم عليه السلام مع أنه سياق رد يقتضي التعريف لما سيذكر فيما بعد من اختلاف الحال في التسليم بين الملائكة وبين إبراهيم عليه السلام.
والمقصود وجود معنى متفق بين السلامين دل عليه تنكيرهما، وهو معنى الدعاء الملحوظ فيهما، ووجود معنى مختلف بينهما دل عليه اختلاف الرفع والنصب، فانتصب السلام المنسوب إلى الملائكة في جملة مقول القول بفعل محذوف من مادته وناب منابه على المفعولية, وتقدير الفعل المحذوف, سلمت، أو اسلم، ومعاني النحو إنما تنتظم في الكلام بانتظام المعاني التي يريدها المتكلم، فلو صح أنه عين لفظ الملائكة، فهو إذن كلام مقصود إليه، متين في سياقه، يقصد به التجدد لأنه سياق دعاء كما مر. بينما اختلف سلام إبراهيم عليه السلام فجاء مرفوعا على الابتداء أن له جهتان, جهة الدعاء التي تقتضي محبة ذلك للمسلم عليه وتمنيه له وهو سياق يقتضي تجدد ذلك واستمراره، وجهة الخبرية التي تقتضي ثبوت ذلك للمخاطب به، وقد مر معك أن تحية الإسلام قد تتجرد للخبرية، أو للإنشاء، أو يجتمع فيها الأمران، فإذا صح تحرير ما تقدم بأدلته ونقوله فعندئذ يعلم أن علة دلالة الجملة الاسمية على الثبوت والدوام لا تنهض في تفضيل سلام إبراهيم عليه السلام على السلام المنسوب للملائكة، لأنه ليس جملة خبرية محضة وإن جاء في صورة الجملة الخبرية، وليس هو خبرا بمعنى الإنشاء، بل فيه جهتان مجتمعتان, جهة خبرية، وجهة إنشائية.
المسألة السادسة: يقول الله عز وجل: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين}، وقال: {وهذا لسان عربي مبين}، واعتمادا على القواعد التي قعدت لهذا اللسان العربي المبين أخذ القائلون بالتفضيل بدلالة الجملة الاسمية على الثبوت، وهو أفضل في التعبير عن السلام هنا من الجملة الفعلية التي تفيد التجدد والحدوث، فهل سيطردون هذا التفضيل في سياقات مشابهة لهذا السياق؟
ومر أن أكثر ما يكون من قصص القرآن إنما هو حكاية معنى لا حكاية ألفاظ بعينها، ولئن فضلت بعض آيات القرآن بعضا، وبعض سوره بعضا، فإنه كله كلام الله بلسان عربي مبين، فإذا فهم هذا مع المسائل الخمس الأول فهل يمكن أن يقال أنه يلزم من مجيء جملتين بعين ألفاظهما أحداهما اسمية والأخرى فعلية تقديم الاسمية منهما في البلاغة على الفعلية لكون الأولى تفيد الثبوت، والثانية تفيد الحدوث والتجدد؟ وهل هذا القول على إطلاقه؟ بمعنى, لو جاءت سياقات مشابهة لقصة سلام إبراهيم عليه السلام مع الملائكة يمكننا اعتبار هذا ضابطا مطردا في التفضيل؟
وفي كلام الله الذي هو وحي بألفاظه ومعانيه، والذي هو بلسان عربي مبين جواب للإشكال، فقد تكلم الله عز وجل في سياق مشابه بالسلام الذي هو التحية بالرفع والنصب، ولا شك أن أهل الجنة في نعيم مقيم، ومن النعيم الذي هو لهم ما قال الله عز وجل: {ويلقون فيها تحية وسلاما}، سلام من الله عز وجل، قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} على رفع السلام وتنكيره كما في سلام إبراهيم عليه السلام، وسلام من الملائكة، قال الله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم}، الآية، وهو أيضا سلام مرفوع منكر، فهما سلامان مرفوعان منكران ابتدئت بهما جملة اسمية هي عند أهل البيان تفيد الثبوت.
فماذا سيقال عن هذه الآية؟
قال الله عز وجل: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما}، وقد قيل في إعراب {إلا قيلا سلاما سلاما} ما قيل في إعراب {قالوا سلاما} مع شيء من الفارق، فقال الطبري رحمه الله:
وفي نصب قوله: ( سَلامًا سَلامًا ) وجهان: إن شئت جعلته تابعا للقيل، ويكون السلام حينئذ هو القيل؛ فكأنه قيل: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا سلاما سلاما، ولكنهم يسمعون سلاما سلاما. والثاني: أن يكون نصبه بوقوع القيل عليه، فيكون معناه حينئذ: إلا قيلَ سلامٍ فإن نوّن نصب قوله: ( سَلامًا سَلامًا ) بوقوع قِيلٍ عليه. ا.ه.
وقال القرطبي رحمه الله:
إلا قيلا سلاما سلاما " قيلا " منصوب ب " يسمعون " أو استثناء منقطع أي : لكن يقولون قيلا أو يسمعون . و سلاما سلاما منصوبان بالقول ، أي إلا أنهم يقولون الخير . أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض : سلاما . أو يكون وصفا ل " قيلا " ، والسلام الثاني بدل من الأول ، والمعنى : إلا قيلا يسلم فيه من اللغو . ويجوز الرفع على تقدير : سلام عليكم . قال ابن عباس : أي يحيي بعضهم بعضا . وقيل : تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل. ا.ه.
فالمكان واحد، وهو دار النعيم، والمسلمو, الله رب العالمين، الملائكة، أهل الجنة يسلم بعضهم على بعض، وذكر التسليم في كتاب الله عز وجل معبرا عنه بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت، وبالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث والتجدد، وهو عين المعبر به في سياق سلام إبراهيم على الملائكة وسلامهم عليه، وتوكيد السلام المنكر المنصوب بالتكرار في قوله تعالى: {إلا قيلا سلاما سلاما} يقوي أن المقصود فيها تجدد السلام، أي, سلام بعد سلام، كقوله تعالى: {دكا دكا} و{صفا صفا}، أو يدل على كثرته وتجدده في كل وقد وحين، ويقوي أن السلام المنكر المنصوب المكرر مقول للقول، فلو قيل بالفرق وتقديم الجملة الاسمية على الفعلية يقال: فكيف يعدل في دار النعيم عن الأفضل إلى الأدنى من المسلمين الذين عرفت أنهم سيسلمون على أهل النعيم في الجنة؟
ولو اعترض على السلام المنصوب المنكر في حال أهل الجنة بالوجوه الإعرابية الأخرى فهي ذاتها الوجوه التي يعترض بها على ما قيل في السلام المنصوب المنكر من الملائكة، فلا فرق يبدو بين المسألتين، وتعرف الأمور بنظائرها.
المسألة السابعة: قاعدة تقديم الجملة الاسمية على الفعلية لإفادة الأولى للثبوت والثانية للحدوث والتجدد ليست على إطلاقها، بل قد تكون البلاغة في الحدوث والتجددوقد تكون في ثبوت المحكوم به وتقريره، وقد تكون في اجتماعهما، فالدعاء مثلا, يكثر فيه ويغلب استعمال الجملة الفعلية، والأمر والنهي أقوى صيغهماا مبنية على الجملة الفعلية، وقد يراد من الخبر الأمر، كما في قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}، وقد يراد من الخبر الأمر، كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا}، وقوله صلى الله عليه وسلم: {قوموا فلأصلِ لكم}، وكل هذا لما تقتضيه موافقة الكلام للمقام الذي يقال فيه، وقد يجتمع في الكلام الخبر والإنشاء كما تقدم نقله عن ابن القيم رحمه الله في مسألة السلام، فقد يراد بالسلام الخبر إذا تعلق بإرادة المتكلم، أي, أنت مني في سلام، كتسليم الله على عباده، فالله هو السلام ومنه السلام، وقد يراد به الإنشاء، كما في السلام بالنصب، أي اسلم سلاما، فحذف الفعل وأنيب المصدر منابه، وقد يجتمعان، كما في التحية بين الملتقيين، ومن بدهيات البلاغة موافقة الكلام لمقتضى الحال الذي يقال فيه.
الخلاصة: القول بتفضيل سلام إبراهيم على سلام الملائكة لا يستقيم إلا بأربعة أمور لو ثبتت مجتمعة لكان القول به هو الصواب المقطوع به,
أولها: بحمل السلام المنكر المنصوب بعد القول في السلام المنسوب إلى الملائكة على أنه حكاية للفظ الملائكة بعينه، ثانيها: إمكنية الجزم بأن جواب إبراهيم عليه السلام كان تحية، بإثبات أن المحذوف هو الجار والمجرور (عليكم)، وقد مضى أن في تقدير المحذوف وجوه أخرى منها, أمري سلام، هو سلام،
ثالثها: التصريح بالتحية كاملة، والسياق القصة جاء في سورتي على الإيجاز بالحذف، فهو مقصود المتكلم به، فلا مرجح والحالة كما ذكر، والثابت في القرآن أنه كلام بسلام مرفوع منكر مبني على الإيجاز بالحذف في موضعين وثالث مقدر فيه السلام بذكره في الموضعين، وهو قول الله تعالى: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون}، وهو قول ملائم لحال الوجل المنكر الموجس بعد ذلك خيفة، وهي أوجه ثلاثة فيها أخذ ورد، وبعضها احتمالات متساوية في القوة.
رابعها: أن تفضيل الجملة الاسمية على الفعلية لدلالتها على الثبوت ليست من المسلمات، فكل حال يقتضي كلاما يوافقه، فالأفضلية في البلاغة لا تكون في تفضيل تركيب على تركيب فحسب، بل هناك جهة أخرى في مناسبته للحال الذي يساق له الكلام، بحيث يكون أبلغ من غيره فيه، وليس الاختلاف في السلامين من حيث التركيب فقط بكون إحدى الجملتين اسمية، والأخرى فعلية، بل هما جملتان مختلفتان من حيث الدلالة، فجملة سلام الملائكة إنشائية، وجملة سلام إبراهيم عليه السلام إنشائية من حيث دلالتها على الدعاء، ومن حيث دلالتها على الخبر، فلماذا يترك الوجهالثاني عند النظر إلى التفضيل، وينظر إلى الوجه الأول فقط؟
فالقول بأفضلية سلام إبراهيم عليه السلام على سلام الملائكة لا يؤخذ على أنه مسلمة من مسلمات العلم بها يزول الإشكال في الفرق بين نصب السلام الأول ورفع الثاني.
والأليق بإبراهيم عليه السلام أنه كانن جوابا على كلامهم، فجاء رده للسلام بسلام مرفوع منكر محذوف المتعلق مناسبا لحال من يجهل ضيفه، وجاء سلام الملائكة إن قيل بأنه عين لفظهم سلاما منصوبا منكرا تجرد فيه الكلام إلى الإنشاء دون الخبر، أي, سلمك الله سلاما، أو اسلم سلاما، من باب الدعاء له وإدخال الأنس عليه وقد جاءوه بالبشرى، وعلى هذا فسلامهم أبلغ في سياقه، وسلامه أبلغ في سياقه.
وقد يقال الأليق بإبراهيم عليه السلام رد التحية بأحسن منها، وهذا عمدة عند القائلين بالتفضيل، فيقال: الأفضلية في رد التحية بأحسن منها لم يأت من دلالة الجملة الاسمية على الثبوت، بل في دلالتها على الخبر من جهة ودلالتها على الدعاء من جهة أخرى، كما مضى النقل في تحرير المسألة من كلام ابن القيم في بدائعه، فهي بلاغة اقتضاها سياق الرد، لا على أنها أفضلية بين سلامين مطلقا، بل يمكن أن يقال أن هناك أفضلية لسلام الملائكة على سلام إبراهيم، وهي أفضلية بداءة، قال الشيخ العثيمين رحمه الله في محاضرة له بعنوان آداب السلام:
وإذا لم تأت السنة ممن عليه أن يبدأ بها، فليبدأ بها الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) قال: خيرهما، فدل ذلك على أن من بدأ غيره بالسلام فهو خير، وهو كذلك؛ لأنك أنت إذا سلمت حصلت على عشر حسنات، ثم إذا رد صاحبك حصل على عشر حسنات، وما هو السبب الذي جعله يحصل العشر الحسنات؟ السبب البادئ، لولا أنك سلمت مارد فتكون أنت متسبباً لهذا الذي عمل عملاً صالحاً فلك أجره، ولهذا قال العلماء: ابتداء السلام سنة ورده واجب، ثم أوردوا على هذا إشكالاً، قالوا: أيهما أفضل: ابتداء السلام، أو رد السلام؟ ابتداء السلام، أفضل، ثم أوردوا إشكالاً قالوا: كيف تكون السنة أفضل من الواجب، والقاعدة الشرعية: أن الواجب أفضل كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه). أجابوا عن ذلك قالوا: هذا الإشكال جوابه أن هذا الواجب كان مبنياً على السنة، فصارت السنة التي بني عليها الواجب لمن أتى بها، ثواب أجره الخاص، وثواب أجر الراد الواجب. ا.ه.
فتبين أن كلا من السلامين بليغ في موضعه، ويمكن أن يقال: فضل سلام الملائكة أفضلية ابتدااء، وفضل سلام إبراهيم أفضلية جواب، كذلك يمكن القول أن السلام يطلب فيه الثبوت والتجددكما في ذكر الآيات عن نعيم أهل الجنة أنه ورد بالرف والنصب.
ولعل هذا الكلام له حظ من النظر إن قال به عالم معتبر من أهل العلم، والله أعلم.
قال الله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ}، وقال أيضا: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما، قال سلام قوم منكرون}، ففي هذين الموضعين جاء ذكر السلام المنسوب إلى الملائكة بالنصب، وسلام إبراهيم عليه السلام مرفوعا على الابتداء أو الخبرية، ويذكرون أن سلام إبراهيم عليه السلام أبلغ, لأنه جاء بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والدوام، والسلامم المنسوب إلى الملائكة جملة فعلية تفيد الحدوث والتجدد، وهذه المسائل ونظيراتها محل اجتهاد لأهل العلم، وليس القول فيها قولا واحدا، وإليك أيها القارئ ما تيسرر في هذه المسألة في مسائل.
المسألة الأولى: هل التسليم خبر أو إنشاء؟ قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد ج2: وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر؟
فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية. وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح. فنقول: الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه، ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلبًا، وإما خبرًا. وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض. وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر، والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان. فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الأخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع. فكل موضع كان المعنى فيه حاصلًا بقصد المتكلم وإرادته فقط. فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء نحو قوله: بعتك كذا، ووهبتكه وأعتقت وطلقت. فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده. فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه. لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر وكل موضع كان المعنى حاصلًا فيه من غير جهة المتكلم. وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته. فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء وهذا نحو سلام عليكم. فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم، وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها فإذا قال: سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها، وكذلك ويل له قال سيبويه: هو دعاء وخبر ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه. بل حرفوه عما أراده به. وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا. بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير. وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما. وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه.
إذن, فالسلام الذي هو تحية، يدخله الخبر من جهة ويدخله الإنشاء من جهة، وقد يدخله الخبر والإنشاء معا في سياق، وقد يفترقان, فيدل سياق على هذا تارة، ويدل على الآخر تارة أخرى.
وبناء على ما تقدم نقله يمكن القول أن لفظة, {سلاما} في التسليم المنسوب للملائكة بعد القول، هل هي خبرية أم إنشائية، فمن قدر, (سلمنا سلاما) فهي عنده على صورة الخبر، ومن قدرها, (اسلم سلاما)، أو (سلمت سلاما)، على صورة الخبر المراد به الدعاء، فهي إنشائية للدعاء، وهم إنما سلموا حال دخولهم، فكيف يخبرون بالماضي؟ ومجيء المصدر منصوبا ومنونا إنما يأتي غالبا نائبا عن فعل أمر وهو الأقرب إن قدر أنه حكاية للفظ الملائكة، والله أعلم.
المسألة الثانية: الفرق بين الرفع والنصب فيما يأتي بعد فعل القول، قال ابن جرير الطبري رحمه الله: ، (قالوا سلاما) ، يقول: فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب " سلامًا " بإعمال " قالوا " فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.
* * *
، (قال سلام) ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام ، فرفع " سلامٌ"، بمعنى : عليكم السلام ، أو بمعنى : سلام منكم . ا.ه،
وقال القرطبي رحمه الله: (قالُوا سَلاماً) نُصِبَ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: قَالُوا خَيْرًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. ... ولو رفعا جميعا أَوْ نُصِبَا جَمِيعًا "قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ" جاز في العربية. وقيل: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: "قالُوا سَلاماً" أَيْ فَاتَحُوهُ بِصَوَابٍ مِنَ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ:" وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي صو أبا، فَسَلَامًا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا لَفْظُهُ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاخْتَارَهُ. قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ اللَّفْظِ قَالَهُ بِعَيْنِهِ فَقَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ "" سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ". وَقِيلَ دَعَوْا لَهُ، وَالْمَعْنَى سَلِمْتَ سَلَامًا.
(قالَ سَلامٌ) فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ هُوَ سَلَامٌ، وَأَمْرِي سَلَامٌ. وَالْآخَرُ بِمَعْنَى سَلَامٌ عَلَيْكُمْ إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، فَأُضْمِرَ الْخَبَرُ. وَجَازَ سَلَامٌ عَلَى التَّنْكِيرِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ، فَحُذِفَ الألف والام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرى "سِلْمٌ" قَالَ الْفَرَّاءُ: السِّلْمُ وَالسَّلَامُ بِمَعْنًى، مِثْلُ الْحِلِّ وَالْحَلَالِ. ا.ه.
وتعدد التقديرات، واختلاف وجوه الإعراب يدلك على أن القول بأفضلية سلام إبراهيم على سلام الملائكة قولا محتملا لا مسلما، فالنصب في (سلاما) له ثلاث احتمالات, النصب على أنه مقول القول، أي حكاية قولهم بلفظه منصوبا، الانتصااب على المفعولية من باب الإخبار عنهم أنه خاطبوه مخاطبة مسالمة ومؤانسة، ولم يكن منهم من القول إلا ما يوجب الأنس بهم ومع هذا نكرهم، الانتصاب على المصصدرية باسم مصدر نائب عن فعله أي سلمنا سلاما، أخبارا منهم عن أنفسهم، وقد مر ذكره في المسألة السابقة، الاحتمال الثالث، الدعاء بتقدير, (اسلم سلاما)، أو (سلمت سلاما)، من باب صورة الخبر المراد به الدعاء.
وأما الرفع فليس فيه إلا احتمال حكاية القول، لكنه على معنيين: المتاركة, فإنه أنكرهم وأوجس منهم خيفة، كقول الله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام} {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}، أو التحية، كقوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم}.
المسألة الثالثة: الملائكة تعرف الرفع في السلام وتحيي به، ودليله من الكتاب في ابتدائهم السلام قوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتمم} ودليله في رد السلام واستقبالهم له على الرفع الحديث الصحيح في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وطُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، ثُمَّ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ علَى أُولَئِكَ مِنَ المَلائِكَةِ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقالَ السَّلامُ علَيْكُم، فقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَزادُوهُ: ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حتَّى الآنَ. وفي رواية في غير الصحيحين كالترمذي والبيهقي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ ونَفَخَ فيهِ
الرُّوحَ عَطَسَ، فقال: الحمدُ للهِ، فحَمِدَ اللهَ بإذنِ اللهِ، فقال له ربُّهُ: رَحِمَكَ ربُّكَ يا آدَمُ. وقال: اذهَبْ إلى أولئِكَ المَلائكةِ إلى مَلأٍ مِنهُمْ جُلُوسٌ، فقُلْ: السَّلامُ عليكُم، فذَهَبَ، فقالوا: وعليكَ السَّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلى ربِّهِ، فقال: هذهِ تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ بَنِيكَ وبَنِيهِم. وقال اللهُ له ويَداهُ مَقْبوضَتانِ: اختَرْ أيَّهُمَا شِئْتَ، فقال: اختَرْتُ يَمِينَ ربِّي، وكِلْتَا يَدَيْ ربِّي يَمِينٌ مُبارَكةٌ، ثُمَّ بَسَطَها، فإذا فيها آدَمُ وذُرِّيَّتُهُ، فقال: أيْ ربِّ، ما هؤلاءِ؟ قال: هؤلاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فإذا كلُّ إنسانٍ مكتوبٌ عُمُرُهُ بيْن عَينيْهِ، وإذا فيهِم رَجْلٌ أَضْوَؤُهُم، لم يُكتَبْ له إلَّا أربعون سَنَةً، فقال: أيْ ربِّ، زِدْ في عُمُرِهِ، قال: ذاكَ الَّذي كَتَبْتُ له، قال: فإنِّي قد جَعَلْتُ له مِن عُمُري سِتِّينَ، قال: أنتَ وذاكَ، قال: ثُمَّ أُسكِنَ الجَنَّةَ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ أُهبِطَ منها، وكان آدَمُ يَعُدُّ لنفْسِهِ، فأَتاهُ ملَكُ الموتِ، فقال له آدَمُ: قد عَجِلْتَ، قد كُتِبَ لي ألْفُ سَنَةٍ، قال: بلى، ولكنَّكَ جَعَلْتَ لابنِكَ داودَ منها سِتِّينَ سَنَةً. فجَحَدَ فجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، ونَسِيَ فنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، فيَوْمَئِذٍ أُمِرَ بالكِتابِ والشُّهودِ. قال الذهبي في مهذبه على سنن البيهقي: 8/4149 إسناده صالح وأصل الحديث في الجملة في صحيفة همام. وهي قصة قبل قصة ضيف إبراهيم، فالملائكة تعرف التحية التي هي على الرفع في كلام العرب، فكيف تعدل عنه؟ لا سيما وقد مر من كلام ابن العربي المالكي احتمال أن يكون سلاما على النصب ليس حكاية لقولهم بلفظه، ونحن لا ندري اللغة التي خاطبت بها الملائكة إبراهيم عليه السلام ورد عليهم بها، والقرآن ورد فيه بصريح العبارة أنه: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وإنما ذكر لنا من أخبارهم حكاية معاني أقوالهم في الغالب لا عين ألفاظها، يدل على ذلك تعدد الألفاظ في الحكاية الواحدة بحسب ما يقتضيه سياق السورة، والمعنى المراد في كل سياق، وبحسب ما يقتضيه السياق من الإيجاز والإطناب، فليس عندنا دليل جازم على أن الملائكة قالت هذا السلام بالنصب باللفظ ذاته، وإنما هو استنباط معارض بغيره، ولمعترض أن يقول الذي حكى لنا الحوار بين الملائكة عالم بما يحكي، فحكى لنا عن ذلك اللسان الذي وقع به التخاطب ما يقتضيه النصب في الجملة الفعلية من التجدد والحدوث في اللسان العربي، يدل عليه تكرر سياق القصة في السلام بالنصب في تسليم الملائكة وبالرفع في سلام إبراهيم عليه السلام، وإنما يستقيم هذا في حال تأكد أن سلاما المنصوب هو عين قول الملائكة من باب التحية، ولا مرجح، وقد تقدم أن الله عز وجل حين ذكر قول الملائكة في تحيتهم لأهل الجنة، وردهم لتحية آدم عليه السلام ذكروها بالرفع، فهم يعرفونها.
المسألة الرابعة: معنى تحية الإسلام: وهي التحية التي تلفظ بها إبراهيم عليه السلام صراحة في رده على الملائكة، قال ابن القيم رحمه الله في البدائع ج2:
وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية ففيه قولان مشهوران:
أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز وجل. ومعنى الكلام نزنت بركة اسمه عليكم، وحلت عليكم ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده، واحتج أصحاب هذا القول بحجج منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة: السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي ï·؛: «لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام». ولكن قولوا: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فنهاهم النبي ï·؛ أن يقولوا: السلام على الله، لأن السلام على المسلم عليه دعاء له، وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له. فيستحيل أن يسلم عليه. بل هو المسلم على عباده كما سلم عليهم في كتابه. حيث يقول: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين }، . ا.ه.
إلى أن قال:
ومن حججهم ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رجلًا سلم على النبي ï·؛ فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمم ورد عليه وقال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر»، قالوا: ففي هذا الحديث بيان أن السلام ذكر الله. وإنما يكون ذكرًا إذا تضمن اسمًا من أسمائه. ا.ه.
إلى أن قال:
القول الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية. ومن حجة أصحاب هذا القول أن يذكر بلا ألف ولام. بل يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك. بل كان يطلق عليه معرفًا كما يطلق عليه سائر أسمائه الحسنى فيقال: السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر فإن التنكير لايصرف اللفظ إلى معين فضلًا عن أن يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينًا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى. ا.ه.
إلى أن قال:
ومن حججهم أيضا أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا. ولهذا كان السلام أمانًا لتضمنه معنى السلامة وأمن كل واحد من المسلم والراد عليه من صاحبه. قالوا: فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وحذفت تاؤه، لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه، والتاء تفيد التحديد كما تقدم. ا.ه.
فتأمل قوله عن السلام الذي هو تحية أن فيه خبرا ودعاء، وصله بما تقدم.
ثم رجح فقال:
وفصل الخطاب في هذه المسألة أن يقال الحق في مجموع القولين فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما وإنما نبين ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مرارًا وهي أن من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله. حتى كأن الداعي مستشفع إليه متوسل إليه به. ا.ه.
إلى أن قال:
وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله وهو السلام الذي يطلب منه السلامة. فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله كما في حديث ابن عمر. والثاني طلب السلامة وهو مقصود المسلم. فقد تضمن سلام عليكم اسمًا من أسماء الله، وطلب السلامة منه. فتأمل هذه الفائدة. ا.ه.
وهي عبارة أوضح من الأولى وأجلى في بيان المقصود، ومع الأسف، كم رددناها دون أن نعرفها، فيا لغربة الدين!
وقال في المسألة التي تليها في بيان الفائدة من السلام عند اللقاء:
ومقصود العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين؛ بسلامته من الشر وحصول الخير كله، والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الأصل. ولهذا إنما يهتم الإنسان بل كل حيوان بسلامته أولًا، ثم غنيمته ثانيًا. على أن السلامة المطلقة تضمن حصول الخير. فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص والضعف. ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة فتضمنت السلامة نجاته من كل شر وفوزه بالخير. فانتظمت الأصلين الذين لا تتم الحياة إلا بهما مع كونها مشتقة من اسمه السلام ومتضمنة له وحذفت التاء منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا السلامة الواحدة. ولما كانت الجنة دار السلامة من كل عيب وشر وآفة، بل قد سلمت من كل ما ينغص العيش، والحياة كانت تحية أهلها فيها سلام، والرب يحييهم فيها بالسلام، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. فهذا سر التحية بالسلام عند اللقاء. ا.ه رحمه الله.
وإنما أورِدت عليك هذه المسألة لبيان أن السلام فيه معنى الدعاء, لتتبين الفرق بين ورود السلام منصوبا على حذف الفعل فيكون جليا أنه بمعنى الدعاء، وبين السلام المرفوع المنكر الذي كان رفعه لسببين, الدلالة على الدعاء، ولذا, جاز الابتداء بالنكرة, لأنها أفادت معنى الدعاء، ولأن فيه معنى الخبرية, بإثبات حصوله للمخبر بجملة التحية.
المسألة الخامسة: اتحد لفظ سلام إبراهيم عليه السلام مع السلام المنسوب للملائكة في أمر وتباينا في أمر، فاتحدا في التنكير، وفترقا في الرفع والنصب مع أن العامل فيهما هو لفظ صريح القول،قال ابن القيم رحمه الله في البدائع:
فلنرجع إلى المقصود. فنقول: الذي صحح الابتداء بالنكرة في سلام عليكم. إن المسلم لما كان داعيًا وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به، وينزل منزلة قولك أسأل الله سلامًا عليكم، وأطلب من الله سلامًا عليك. فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك. ألا ترى أنك لو قلت: أسأل الله عليك سلامًا لم يجز وهذا في قوته ومعناه. فتأمله فإنه بديع جدًا.
فإن قلت: فإذا كان في قوته فهلا كان منصوبًا مثل سقيًا ورعيًا، لأنه في معنى سقاك الله سقيًا ورعاك رعيًا؟
قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين سلام إبراهيم، وسلام ضيفه إن شاء الله. وأيضا فالذي حسن الابتداء بالنكرة ههنا. إنها في حكم الموصوفة، لأن المسلم إذا قال: سلام عليكم فإنما مراده سلام مني عليك كما قال تعالى: { اهبط بسلام منا }، ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف. ا.ه.
وقال في الجواب عن سر ابتداء السلام بالنكرة:
والجواب عنها بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام. وهو أن السلام دعاء وطلب وهم في ألفاظ الدعاء والطلب. إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول ويل له. ومن الثاني خيبة له وجدعًا وعقرًا وتربًا وجندلًا هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له سقيًا ورعيًا وكرامة ومسرة فجاء سلام عليكم بلفظ النكرة، كما جاء سائر ألفاظ الدعاء. وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل. ألا ترى أن سقيًا ورعيًا وخيبة جرى مجرى سقاك الله ورعاك وخيبه، وكذلك سلام عليك جار مجرى سلمك الله والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه كالبدل منه نكرة مثله. ا.ه.
ولذا اختلف العلماء في تقدير المحذوف في سلام إبراهيم عليه السلام، ولو جاء معرفا لما احتمل السياق الحذف، وإنما احتمل السياق الحذف في سلام إبراهيم عليه السلام مع أنه سياق رد يقتضي التعريف لما سيذكر فيما بعد من اختلاف الحال في التسليم بين الملائكة وبين إبراهيم عليه السلام.
والمقصود وجود معنى متفق بين السلامين دل عليه تنكيرهما، وهو معنى الدعاء الملحوظ فيهما، ووجود معنى مختلف بينهما دل عليه اختلاف الرفع والنصب، فانتصب السلام المنسوب إلى الملائكة في جملة مقول القول بفعل محذوف من مادته وناب منابه على المفعولية, وتقدير الفعل المحذوف, سلمت، أو اسلم، ومعاني النحو إنما تنتظم في الكلام بانتظام المعاني التي يريدها المتكلم، فلو صح أنه عين لفظ الملائكة، فهو إذن كلام مقصود إليه، متين في سياقه، يقصد به التجدد لأنه سياق دعاء كما مر. بينما اختلف سلام إبراهيم عليه السلام فجاء مرفوعا على الابتداء أن له جهتان, جهة الدعاء التي تقتضي محبة ذلك للمسلم عليه وتمنيه له وهو سياق يقتضي تجدد ذلك واستمراره، وجهة الخبرية التي تقتضي ثبوت ذلك للمخاطب به، وقد مر معك أن تحية الإسلام قد تتجرد للخبرية، أو للإنشاء، أو يجتمع فيها الأمران، فإذا صح تحرير ما تقدم بأدلته ونقوله فعندئذ يعلم أن علة دلالة الجملة الاسمية على الثبوت والدوام لا تنهض في تفضيل سلام إبراهيم عليه السلام على السلام المنسوب للملائكة، لأنه ليس جملة خبرية محضة وإن جاء في صورة الجملة الخبرية، وليس هو خبرا بمعنى الإنشاء، بل فيه جهتان مجتمعتان, جهة خبرية، وجهة إنشائية.
المسألة السادسة: يقول الله عز وجل: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين}، وقال: {وهذا لسان عربي مبين}، واعتمادا على القواعد التي قعدت لهذا اللسان العربي المبين أخذ القائلون بالتفضيل بدلالة الجملة الاسمية على الثبوت، وهو أفضل في التعبير عن السلام هنا من الجملة الفعلية التي تفيد التجدد والحدوث، فهل سيطردون هذا التفضيل في سياقات مشابهة لهذا السياق؟
ومر أن أكثر ما يكون من قصص القرآن إنما هو حكاية معنى لا حكاية ألفاظ بعينها، ولئن فضلت بعض آيات القرآن بعضا، وبعض سوره بعضا، فإنه كله كلام الله بلسان عربي مبين، فإذا فهم هذا مع المسائل الخمس الأول فهل يمكن أن يقال أنه يلزم من مجيء جملتين بعين ألفاظهما أحداهما اسمية والأخرى فعلية تقديم الاسمية منهما في البلاغة على الفعلية لكون الأولى تفيد الثبوت، والثانية تفيد الحدوث والتجدد؟ وهل هذا القول على إطلاقه؟ بمعنى, لو جاءت سياقات مشابهة لقصة سلام إبراهيم عليه السلام مع الملائكة يمكننا اعتبار هذا ضابطا مطردا في التفضيل؟
وفي كلام الله الذي هو وحي بألفاظه ومعانيه، والذي هو بلسان عربي مبين جواب للإشكال، فقد تكلم الله عز وجل في سياق مشابه بالسلام الذي هو التحية بالرفع والنصب، ولا شك أن أهل الجنة في نعيم مقيم، ومن النعيم الذي هو لهم ما قال الله عز وجل: {ويلقون فيها تحية وسلاما}، سلام من الله عز وجل، قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} على رفع السلام وتنكيره كما في سلام إبراهيم عليه السلام، وسلام من الملائكة، قال الله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم}، الآية، وهو أيضا سلام مرفوع منكر، فهما سلامان مرفوعان منكران ابتدئت بهما جملة اسمية هي عند أهل البيان تفيد الثبوت.
فماذا سيقال عن هذه الآية؟
قال الله عز وجل: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما}، وقد قيل في إعراب {إلا قيلا سلاما سلاما} ما قيل في إعراب {قالوا سلاما} مع شيء من الفارق، فقال الطبري رحمه الله:
وفي نصب قوله: ( سَلامًا سَلامًا ) وجهان: إن شئت جعلته تابعا للقيل، ويكون السلام حينئذ هو القيل؛ فكأنه قيل: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا سلاما سلاما، ولكنهم يسمعون سلاما سلاما. والثاني: أن يكون نصبه بوقوع القيل عليه، فيكون معناه حينئذ: إلا قيلَ سلامٍ فإن نوّن نصب قوله: ( سَلامًا سَلامًا ) بوقوع قِيلٍ عليه. ا.ه.
وقال القرطبي رحمه الله:
إلا قيلا سلاما سلاما " قيلا " منصوب ب " يسمعون " أو استثناء منقطع أي : لكن يقولون قيلا أو يسمعون . و سلاما سلاما منصوبان بالقول ، أي إلا أنهم يقولون الخير . أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض : سلاما . أو يكون وصفا ل " قيلا " ، والسلام الثاني بدل من الأول ، والمعنى : إلا قيلا يسلم فيه من اللغو . ويجوز الرفع على تقدير : سلام عليكم . قال ابن عباس : أي يحيي بعضهم بعضا . وقيل : تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل. ا.ه.
فالمكان واحد، وهو دار النعيم، والمسلمو, الله رب العالمين، الملائكة، أهل الجنة يسلم بعضهم على بعض، وذكر التسليم في كتاب الله عز وجل معبرا عنه بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت، وبالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث والتجدد، وهو عين المعبر به في سياق سلام إبراهيم على الملائكة وسلامهم عليه، وتوكيد السلام المنكر المنصوب بالتكرار في قوله تعالى: {إلا قيلا سلاما سلاما} يقوي أن المقصود فيها تجدد السلام، أي, سلام بعد سلام، كقوله تعالى: {دكا دكا} و{صفا صفا}، أو يدل على كثرته وتجدده في كل وقد وحين، ويقوي أن السلام المنكر المنصوب المكرر مقول للقول، فلو قيل بالفرق وتقديم الجملة الاسمية على الفعلية يقال: فكيف يعدل في دار النعيم عن الأفضل إلى الأدنى من المسلمين الذين عرفت أنهم سيسلمون على أهل النعيم في الجنة؟
ولو اعترض على السلام المنصوب المنكر في حال أهل الجنة بالوجوه الإعرابية الأخرى فهي ذاتها الوجوه التي يعترض بها على ما قيل في السلام المنصوب المنكر من الملائكة، فلا فرق يبدو بين المسألتين، وتعرف الأمور بنظائرها.
المسألة السابعة: قاعدة تقديم الجملة الاسمية على الفعلية لإفادة الأولى للثبوت والثانية للحدوث والتجدد ليست على إطلاقها، بل قد تكون البلاغة في الحدوث والتجددوقد تكون في ثبوت المحكوم به وتقريره، وقد تكون في اجتماعهما، فالدعاء مثلا, يكثر فيه ويغلب استعمال الجملة الفعلية، والأمر والنهي أقوى صيغهماا مبنية على الجملة الفعلية، وقد يراد من الخبر الأمر، كما في قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}، وقد يراد من الخبر الأمر، كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا}، وقوله صلى الله عليه وسلم: {قوموا فلأصلِ لكم}، وكل هذا لما تقتضيه موافقة الكلام للمقام الذي يقال فيه، وقد يجتمع في الكلام الخبر والإنشاء كما تقدم نقله عن ابن القيم رحمه الله في مسألة السلام، فقد يراد بالسلام الخبر إذا تعلق بإرادة المتكلم، أي, أنت مني في سلام، كتسليم الله على عباده، فالله هو السلام ومنه السلام، وقد يراد به الإنشاء، كما في السلام بالنصب، أي اسلم سلاما، فحذف الفعل وأنيب المصدر منابه، وقد يجتمعان، كما في التحية بين الملتقيين، ومن بدهيات البلاغة موافقة الكلام لمقتضى الحال الذي يقال فيه.
الخلاصة: القول بتفضيل سلام إبراهيم على سلام الملائكة لا يستقيم إلا بأربعة أمور لو ثبتت مجتمعة لكان القول به هو الصواب المقطوع به,
أولها: بحمل السلام المنكر المنصوب بعد القول في السلام المنسوب إلى الملائكة على أنه حكاية للفظ الملائكة بعينه، ثانيها: إمكنية الجزم بأن جواب إبراهيم عليه السلام كان تحية، بإثبات أن المحذوف هو الجار والمجرور (عليكم)، وقد مضى أن في تقدير المحذوف وجوه أخرى منها, أمري سلام، هو سلام،
ثالثها: التصريح بالتحية كاملة، والسياق القصة جاء في سورتي على الإيجاز بالحذف، فهو مقصود المتكلم به، فلا مرجح والحالة كما ذكر، والثابت في القرآن أنه كلام بسلام مرفوع منكر مبني على الإيجاز بالحذف في موضعين وثالث مقدر فيه السلام بذكره في الموضعين، وهو قول الله تعالى: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون}، وهو قول ملائم لحال الوجل المنكر الموجس بعد ذلك خيفة، وهي أوجه ثلاثة فيها أخذ ورد، وبعضها احتمالات متساوية في القوة.
رابعها: أن تفضيل الجملة الاسمية على الفعلية لدلالتها على الثبوت ليست من المسلمات، فكل حال يقتضي كلاما يوافقه، فالأفضلية في البلاغة لا تكون في تفضيل تركيب على تركيب فحسب، بل هناك جهة أخرى في مناسبته للحال الذي يساق له الكلام، بحيث يكون أبلغ من غيره فيه، وليس الاختلاف في السلامين من حيث التركيب فقط بكون إحدى الجملتين اسمية، والأخرى فعلية، بل هما جملتان مختلفتان من حيث الدلالة، فجملة سلام الملائكة إنشائية، وجملة سلام إبراهيم عليه السلام إنشائية من حيث دلالتها على الدعاء، ومن حيث دلالتها على الخبر، فلماذا يترك الوجهالثاني عند النظر إلى التفضيل، وينظر إلى الوجه الأول فقط؟
فالقول بأفضلية سلام إبراهيم عليه السلام على سلام الملائكة لا يؤخذ على أنه مسلمة من مسلمات العلم بها يزول الإشكال في الفرق بين نصب السلام الأول ورفع الثاني.
والأليق بإبراهيم عليه السلام أنه كانن جوابا على كلامهم، فجاء رده للسلام بسلام مرفوع منكر محذوف المتعلق مناسبا لحال من يجهل ضيفه، وجاء سلام الملائكة إن قيل بأنه عين لفظهم سلاما منصوبا منكرا تجرد فيه الكلام إلى الإنشاء دون الخبر، أي, سلمك الله سلاما، أو اسلم سلاما، من باب الدعاء له وإدخال الأنس عليه وقد جاءوه بالبشرى، وعلى هذا فسلامهم أبلغ في سياقه، وسلامه أبلغ في سياقه.
وقد يقال الأليق بإبراهيم عليه السلام رد التحية بأحسن منها، وهذا عمدة عند القائلين بالتفضيل، فيقال: الأفضلية في رد التحية بأحسن منها لم يأت من دلالة الجملة الاسمية على الثبوت، بل في دلالتها على الخبر من جهة ودلالتها على الدعاء من جهة أخرى، كما مضى النقل في تحرير المسألة من كلام ابن القيم في بدائعه، فهي بلاغة اقتضاها سياق الرد، لا على أنها أفضلية بين سلامين مطلقا، بل يمكن أن يقال أن هناك أفضلية لسلام الملائكة على سلام إبراهيم، وهي أفضلية بداءة، قال الشيخ العثيمين رحمه الله في محاضرة له بعنوان آداب السلام:
وإذا لم تأت السنة ممن عليه أن يبدأ بها، فليبدأ بها الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) قال: خيرهما، فدل ذلك على أن من بدأ غيره بالسلام فهو خير، وهو كذلك؛ لأنك أنت إذا سلمت حصلت على عشر حسنات، ثم إذا رد صاحبك حصل على عشر حسنات، وما هو السبب الذي جعله يحصل العشر الحسنات؟ السبب البادئ، لولا أنك سلمت مارد فتكون أنت متسبباً لهذا الذي عمل عملاً صالحاً فلك أجره، ولهذا قال العلماء: ابتداء السلام سنة ورده واجب، ثم أوردوا على هذا إشكالاً، قالوا: أيهما أفضل: ابتداء السلام، أو رد السلام؟ ابتداء السلام، أفضل، ثم أوردوا إشكالاً قالوا: كيف تكون السنة أفضل من الواجب، والقاعدة الشرعية: أن الواجب أفضل كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه). أجابوا عن ذلك قالوا: هذا الإشكال جوابه أن هذا الواجب كان مبنياً على السنة، فصارت السنة التي بني عليها الواجب لمن أتى بها، ثواب أجره الخاص، وثواب أجر الراد الواجب. ا.ه.
فتبين أن كلا من السلامين بليغ في موضعه، ويمكن أن يقال: فضل سلام الملائكة أفضلية ابتدااء، وفضل سلام إبراهيم أفضلية جواب، كذلك يمكن القول أن السلام يطلب فيه الثبوت والتجددكما في ذكر الآيات عن نعيم أهل الجنة أنه ورد بالرف والنصب.
ولعل هذا الكلام له حظ من النظر إن قال به عالم معتبر من أهل العلم، والله أعلم.