السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
من "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب"- أحمد الهاشمي
اعلم أن هذا موضوع متعذر على الوالج ومسلك متوعر على الناهج، ولم تزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل.
وغاية ما يقال في هذا الباب أن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصبح إذا ظهر.
ثم إنهم يقفون عند ذلك لا يكشفون عن السر فيه، وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة؛ لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات:
أحدها: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهراً بيناً لم يكن فصيحاً، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحاً.
الوجه الثاني: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص؛ فإن اللفظ قد يكون ظاهراً لزيد ولا يكون ظاهراً لعمرو، فهو إذاً فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا. وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال؛ لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.
الوجه الثالث: أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغي أن يكون فصيحاً. وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن للفظ لا وصف قبح.
ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها، ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه. ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه، وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه، فأقول: إن الكرم الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة.
وإنما كان بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ حتى استعملوه وعلموا القبيح منها فلم يستعملوه. فحسن الاستعمال سبب استعمالها دون غيرها. واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها. فالفصيح إذاً من الألفاظ هو الحسن.
فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟
قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوبة التي شاهدها من نفسها؛ لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات؛ فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح.
ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه؟ وكذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس.
والألفاظ جارية هذا المجرى فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد.
ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفتي الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لايستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم. ولا جرم أنه ذم وقدح فيه، ولم يلتفت إليه وإن كان عربيا محضا من الجاهلية الأقدمين. فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها ولم يعرج على ما خرج عنها.
(عن ابن الأثير باختصار)
منقول
بسم الله الرحمن الرحيم
من "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب"- أحمد الهاشمي
اعلم أن هذا موضوع متعذر على الوالج ومسلك متوعر على الناهج، ولم تزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل.
وغاية ما يقال في هذا الباب أن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصبح إذا ظهر.
ثم إنهم يقفون عند ذلك لا يكشفون عن السر فيه، وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة؛ لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات:
أحدها: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهراً بيناً لم يكن فصيحاً، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحاً.
الوجه الثاني: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص؛ فإن اللفظ قد يكون ظاهراً لزيد ولا يكون ظاهراً لعمرو، فهو إذاً فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا. وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال؛ لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.
الوجه الثالث: أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغي أن يكون فصيحاً. وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن للفظ لا وصف قبح.
ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها، ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه. ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه، وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه، فأقول: إن الكرم الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة.
وإنما كان بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ حتى استعملوه وعلموا القبيح منها فلم يستعملوه. فحسن الاستعمال سبب استعمالها دون غيرها. واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها. فالفصيح إذاً من الألفاظ هو الحسن.
فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟
قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوبة التي شاهدها من نفسها؛ لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات؛ فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح.
ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه؟ وكذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس.
والألفاظ جارية هذا المجرى فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد.
ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفتي الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لايستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم. ولا جرم أنه ذم وقدح فيه، ولم يلتفت إليه وإن كان عربيا محضا من الجاهلية الأقدمين. فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها ولم يعرج على ما خرج عنها.
(عن ابن الأثير باختصار)
منقول