إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلآ وأنتم مسلمون "
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما "
أما بعد:
فقد قال سعيد الأفغاني في أصول النحو ج1/ص39 :" إن علم العربية من أجل العلوم فائدة وأفضلها عائدة وحكمة وافرة جمة ومعرفته تفضي إلى معرفة العلوم المهمة والكتب المؤلفة فيه تفوت الإحصاء عدا وتخرج عن الضبط جدا وأنفعها أوسطها حجما وأكثرها علما ".
ولا يخفى على كل مشتغل بعلم اللغة أنها ألفاظ ومقاصد ؛ فما من لفظ وضعه العرب إلا ولهم قصد فيه ؛ كما يعلم أن العربية بلغت الفصاحة والبلاغة ذروتها .
وما من لفظ من ألفاظ العربية إلا وله استعمال خاص به لا يشركه فيه لفظ آخر. غير أنهم يستعيرون بعض الألفاظ نيابة عن بعض لمعنى آخر .
وينبغي أن يعلم أيضا أنه لا يوجد - عند التحقيق - في كلام العرب مشترك لفظي أو ترادف معنوي في أصل الوضع - مع العلم أنهما من مباحث أصول الفقه - وحينما أنفي وجود المشترك والمترادف في اللغة بأصل الوضع أؤكد أن العرب تستعير لفظا بدلا من آخر لأجل معنى مقصود .
أعني بعبارة أخرى أنه لا يوجد في أصل الوضع عند العرب أن لفظة ( قرء ) تعني طهرا وحيضا في آن واحد بأصل وضعها؛ بل هي لا تعني إلا معنى واحدا وقد حرر ذلك ابن القيم في زاد المعاد فليرجع إليه.
فوجود ترادف معنوي أو اشتراك لفظي بأصل الوضع أقول هذا من ضرب الخيال ؛ والقول به إما قصور في تتبع ألفاظ العرب أو هو بسبب غلبة الاستعمال أو الاستعارة؛ وأذكر لذلك مثالا: (الخوف لا يعني الخشية من كل وجه ) ؛ و العين لا تطلق على ( العين الباصرة ؛ والجاسوس ؛ وعين الماء ) بأصل الوضع لكن تباين لهجات العرب وغلبة الاستعمال أوجد مثل هذا الاشتراك. و لأجل معرفة ذلك تراجع مؤلفات المحققين من اللغويين والأصوليين؛ فليس بحثنا هذا لبيان هذا الأمر وإنما جاء استطرادا لا غير.
لكن بعض من ينتسب إلى العلم لا يدرك مثل هذه الحقائق فيفوته من العلم بحسب قصوره في هذا الباب.
وأذكر مثالا آخر يبيّن لنا استعارة العرب ألفاظا بدلا من أخرى لمعنى أخر:
نقول: فلان ذلّ لفلان ويذل لفلان. وذليل لفلان وإذلة لفلان وهكذا . نلاحظ أن ( ذلّ) قد تعدى بحرف اللام هذا إذا كان المقصود ذلة الهوان والصغار. ونرى أن الفعل ( أشفق ) يتعدى بحرف (على) نقول : أشفق عليه ويشفق عليه ...
لكن لو أردنا ذلة الإشفاق لم نعدِّها إلا بالحرف ( على ) وهذا سر قول الله جلّ وعلا :" إذلة على المؤمنين". فإنه جلّ وعلا أراد ذلة الإشفاق لا ذلة الهوان والصغار فعدى لفظة (إذلة ) بالحرف على وقد ذكر ذلك الحكمي في كتابه المعارج .
فأقول مختصرا : لا يوجد ترادف و اشتراك في لغة العرب ؛ لكن قد تستعار لفظة بدلا من أخرى فهذا كثير. ولعلي أو بعض الشباب ممن له همة يبحث في باب ( المشترك والمترادف عند اللغويين والأصوليين ) .
وسبب القول بعدم وجود مشترك لفظي أو ترادف معنوي هو أن العرب لا يوجد في لغتهم تكرار لا في الألفاظ ولا في المعاني ؛ بل لا يوجد عندهم تكرار في حروف المباني من كل وجه ؛ فهم إما أن يحذفوا الحرف المكرر إن استطاعوا وبقي ما يدل عليه من الحركات أو يدغمون الثاني بالأول ليجعلوه واحدا مشددا فإن تعذر هذا وذاك غيروا حركة الثاني خلاف حركة الأول.
فإذا كان العرب يسأمون التكرار في حروف المباني ويهربون منه بل هو معيب في لغتهم ؛ ففرارهم من تكرار الألفاظ والمعاني أولى وأحرى.
والقول بالاستعارة لا أعني به أبدا ما عناه بعض من يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز فأنا لا أقول بالمجاز بل هو أحد الطواغيت التي ذكرها ابن القيم ؛ ولكن أعني بالاستعارة أسلوبا من أساليب العرب في بيان مقاصدهم.
هذا وقد اخترت حرف العطف ( ثمّ ) لأبيّن للقراء الأكارم صحة ما أزعم ( استعارة اللفظ بدلا من آخر لمعنى مقصود ) فإن كان صوابا فالموفق من وفقه الله وإن كان غير ذلك فعذري أني استشهدت بكلام أهل العلم من النحويين والفقهاء والمفسرين والأصوليين.
ومن المعلوم أن حرف العطف ( ثم ) في أصل الوضع يفيد العطف بتراخي الفعل الثاني عن الأول؛ فقولي: جاء زيد وعمر. يختلف عن قولي: جاء زيد فعمر. ويختلف أيضا عن قولي: جاء زيد ثم عمر.
أما الأول فقد جاءا جميعا في وقت واحد ؛ والواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب ولا تنافيه خلافا للكوفيين القائلين بإفادتها الترتيب ويرد عليهم قوله تعالى عن الكفار القائلين " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ".
وأما الثاني فقد جاء عمر عقب زيد وبأثره على الترتيب بلا فصل .
وأما الثالث فقد جاء عمر بعد زيد متراخيا عنه بمدة ؛ بمعنى لا بد من وجود فاصل زمني بين المعطوف الأول والمعطوف الثاني.
قال ابن مالك في ألفيته : والفاء للترتيب باتصال ... وثم للترتيب بانفصال.
أي تدل ( الفاء ) على تأخر المعطوف عن المعطوف عليه متصلا به نحو قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}؛ و(ثم) على تأخره عنه منفصلا أي متراخيا عنه ؛ مثل قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} .
هذا من حيث أصل الوضع؛ ولا حاجة بنا لبيان ذلك فأمثلته كثيرة .
وقد يستخدم العرب حرف العطف ( ثم ) لمطلق العطف. وفي هذا قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان ج1/ص89 : " ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) لم يبين هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة ( حيث ) التي هي كلمة تدل على المكان كما تدل ( حين ) على الزمان .
قلت ( أبو الحسين ): عنى الشنقيطي بلفظة ( حيث ) للمكان و ( حين) للزمان أن يفيض أهل مكة ( قريش ) من نفس المكان الذي قد فاض منه الناس وهذا ما تعنيه لفظة (حيث) ؛ وأن يقيضوا في نفس الوقت الذي قد فاض منه الناس وهذا ما عنته لفظة ( حين ).
ويتابع الشنقيطي فيقول : ولكنه يبين ذلك بقوله ( فإذا أفضتم من عرفات ) وسبب نزولها أن قريشا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة ويقولون نحن قطان بيت الله ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم لأن عرفات خارج عن الحرم وعامة الناس يقفون بعرفات فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يفيضوا من حيث أفاض الناس وهو عرفات لا من المزدلفة كفعل قريش وهذا هو مذهب جماهير العلماء وحكى ابن جرير عليه الإجماع؛ وعليه فلفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة وترتيبها عليها في مطلق الذكر ونظيره قوله تعالى فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
قلت ( أبو الحسين ): يعني الشنقيطي أن العمل الصالح مسبوق بالإيمان إذ لا يقبل عمل صالح بدون إيمان؛ وقال أيضا ذلك رحمه الله في تفسيره أيضا ج8/ص534 : " قوله تعالى ( ثم كان من الذين آمنوا ) هذا قيد في اقتحام العقبة بتلك الأعمال من عتق أو إطعام لأن عمل غير المؤمن لا يجعله يقتحم العقبة يوم القيامة لإحباط عمله ولاستيفائه إياه في الدنيا و ( ثم ) هنا للترتيب الذكري لا الزمني لأن الإيمان مشروط وجوده عند العمل. وذكر ذلك أبو حيان في تفسير البحر المحيط ج8/ص471 :" ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة لا للتراخي في الزمان لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع أو يكون المعنى ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا ".
وقد جعل الله هذا الإطعام اجتياز العقبة فلا يقتحمها ؛ قال القرطبي في التفسير ج20/ص71 : " يعني أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة أو أطعم في يوم ذا مسغبة حتى يكون من الذين آمنوا أي صدقوا فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان قال الله تعالى في المنافقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وقالت عائشة يا رسول الله إن إبن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله فهل ينفعه ذلك شيئا قال لا إنه لم يقل يوما رب أغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ويتابع الشنقيطي قائلا: ومن أمثلته في القرءان العظيم قوله تعالى ( فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا ادارَكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ) فلا يخفى أن ( ثُمَّ ) حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه من الذين أمنوا لا ترتّب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذكري ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :" وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء ". كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذكري... ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله: إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّه ".
قال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم في معرض بيانه للحديث الذي رواه مسلم وهو حديث أبي هريرة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال إيمان الله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور وفي رواية قال إيمان بالله ورسوله .
ثم حديث أبي ذر قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيله الحديث.
فإن الحديث جاء بحرف ( ثم ) من حديث أبي هريرة ؛ وجاء بحرف ( الواو ) من حديث أبي ذر .
فقال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم ج1/ص261: " وأما الباقيات من الجهاد والصلاة والحج وبر الوالدين وغيرها فنقول كل واحد منها إنه أفضل الأعمال فحسب وهي متساوية في هذا الوصف ولهذا جاء منها بحرف الواو في بعض الروايات المذكورة ما جاء في غيرها بحرف ثم ولا يثبت بحرف ثم في ذلك تفضيل بعضها على بعض بل يكون ما تقتضيه ثم من الترتيب والتأخير مصروفا إلى الترتيب والتأخير في الذكر".
وقد بيّن الرازي في تفسره (التفسير الكبير) ج31/ص169 ذلك فقال:" فما السبب في أن الله تعالى أخره عنها بقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ والجواب من وجوه أحدها أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود كقوله إن من ساد ثم ساد أبوه ".
ويؤكد ابن كثير هذا المعني فيقول في تفسيره ج2/ص192 :" و ( ثم ) هنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب ها هنا كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم من قبل ذاك قد ساد جده.
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله وأن هذا صراطي مستقيما في سورة الأنعام (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (*) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (*) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (*) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (*) فاتبعه "بثم" وهو عطف على التراخي " بمدح التوراة ورسولها فقال ( ثم آتينا موسى الكتاب ) وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة".
وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم ج2/ص78 : قال تعالى وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب فى الفعل وكما قال تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا إلى قوله ثم آتينا موسى الكتاب وقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ونظائر ذلك كثيرة ".
والسيوطي يقول في همع الهوامع ج3/ص195 :" ( ثم ) للتشريك في الحكم والترتيب خلافا لقطرب في قوله إنها لا تفيده واحتج بقوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها. وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه " ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ثُمَّ ءَاتَينَا مُوسَى وقول الشاعر: إنَّ مَنْ سادَ ثُمّ سادَ أَبُوه ثُمَّ قد ساد قَبْلَ ذلِك جَدُّه ".
وأجيب بأنها في الجميع لترتيب الأخبار لا الحكم والمهلة خلافا للفراء في قوله إنها بمعنى الفاء .
قلت ( أبو الحسين ) : لا مانع من أن تأتي ( ثم ) بمعنى الفاء ؛ فإنها قد جاءت بمعنى الواو فمجيئها بمعنى الفاء غير مستبعد والفراء إمام في هذا الفن مع جلالة قدر السيوطي كما سأبينه بعد قليل.
وقد تقع الفاء في إفادة الترتيب بلا مهلة وعكسه أي تقع الفاء موقع ( ثم ) في إفادته بمهلة فالأول كقوله: كهَزِّ الرُّدَيْنيِّ تحت العَجَاج جَرَى في الأنابيب ثُمَّ اضْطَربْ .. إذ الهز مع جرى في أنابيب الرمح يعقبه اضطرابه بلا تراخ . والثاني كقوله تعالى ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ) فالفاء في الثلاثة بمعنى ثم".
وقال رضى الدين محمد بن الحسن الاستراباذي في شرح الكافية لابن الحاجب4/ 390 : " وقد تجئ (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر، والتدرج في درج الارتقاء وذكر ما هو الأولى ثم الأولى من دون اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله، كما في قوله: - إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده. فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح، فابتدأ بسيادته، ثم بسيادة أبية، ثم بسيادة جده، لأن سيادة نفسه أخص ثم سيادة الأب ثم سيادة الجد، وإن كانت سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه، فثم، ههنا، كالفاء في قوله تعالى (فبئس مثوى المتكبرين) كما ذكرنا، وقد تكون ثم، والفاء، أيضا، لمجرد التدرج في الارتقاء، وإن لم يكن الثاني مترتبا في الذكر على الأول، وذلك أن تكرر الأول بلفظه، نحو: بالله، فبالله أو: والله ثم والله، وقوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين) ، وقوله: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) ، وأما قوله تعالى: (فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) ، فأقام العلة مقام المعلول".
ويقول سعيد الأفغاني في أصول النحو ج1/ص422 :" و ( ثم ) كالفاء في التشريك والترتيب إلا أنها تدل على المهلة إذ كانت أكثر حروفا من الفاء وقد جاءت لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر عنه كقوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون وقال وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتقول زيد عالم كريم ثم هو شجاع.
وتأتي ثم بمعنى الفاء ؛ قال الأشموني في شرحه ألفية ابن مالك 1/136 :" "وثم للترتيب بانفصال" أي: بمهلة وتراخ نحو: {فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]، وقد توضع موضع الفاء كقوله: كَهَزّ الرُّدَينِيِّ تحت العَجَاج جَرى في الأنابيب ثم اضْطَرَبْ. أي فاضطرب.
وقال أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني في كتاب الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية ج1/ص325:" و(ثم) في قوله تعالى ثم كلا سوف تعلمون للتدرج كما في والله ثم والله.
وقد يجيء لمجرد الترقي نحو إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده .
وقد تجيء للترتيب في الأخبار كما يقال : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أي ثم أخبرك أن الذي صنعت أمس أعجب .
وعليه قوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا أي ثم أخبركم أن هذا لمن كان مؤمنا كما في التيسير ... .... ويجوز أن يكون المعنى ثم دام على الإيمان إذ الأمور بخواتيمها كقوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى أي دام على الاهتداء ويجوز أن يكون بمعنى الواو التي بمعنى مع أي مع ذلك كان من الذين آمنوا .
ومثل قوله تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) أي والله على ما تفعلون شهيد". وثم المفيدة لعطف التراخي تأتي بمعنى الواو.
وقال الآمدي في كتابه الإحكام ج1/ص103 :" وقيل إنها قد ترد بمعنى الواو كقوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون لاستحالة كونه شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا".
وفي تفسير القرطبي ج9/ص3 :" قوله تعالى وأن استغفروا ربكم عطف على الأول ثم توبوا إليه أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة قال الفراء ثم هنا بمعنى الواو".
وقال أيضا ج14/ص86:" ثم استوى على العرش ... وليست ثم للترتيب وإنما هي بمعنى الواو". أي واستوى على العرش
وقال أيضا ج15/ص88 :" ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم قيل إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها وقال مقاتل الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم لقوله تعالى هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن وقرأ ابن مسعود ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم وقال أبو عبيدة يجوز أن تكون ثم بمعنى الواو".
وقال الشنقيطي أيضا :" وذهب الفراء إلى أن الفاء في فتدلى بمعنى الواو والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا وشتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الشتم والإساءة شيء واحد".
وقال في كتاب الكليات ج1/ص325 :" وبمعنى الابتداء نحو : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ". أي وأورثنا الكتاب.
ويبيّن الآلوسي هذا المعنى في روح المعاني ج8/ص59 في تفسير قوله تعالى:" ثم ءاتينا موسى الكتاب ... وقال بعضهم إن ( ثم ) هنا بمعنى الواو".
والشوكاني ينقل ذلك أيضا في فتح القدير ج2/ص179 :" ثم آتينا موسى هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التى وصى الله عباده بها وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه وهو ما تقدم من قوله ذلكم وصاكم به فقيل إن ثم ها هنا بمعنى الواو".
وهذا ابن العربي في أحكام القرآن ج1/ص196 يقول:" ( ثم ) بمعنى الواو كما قال تعالى: ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ".
وابن حجر في فتح الباري ج5/ص81 يبيّن ذلك عند شرحه حديث اللقطة الذي أخرجه البخاري في صحيحه ج2/ص855:" عن زَيْدِ بن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قال جاء أَعْرَابِيٌّ النبي صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فقال عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جاء أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بها وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْهَا قال يا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قال لك أو لِأَخِيكَ أو لِلذِّئْبِ قال ضَالَّةُ الْإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ".
قال ابن حجر :" عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال عرفها سنة ثم أوثق وعاءها فذكر الحديث وقد ذكر أبو داود طرفا منه تعليقا ولم يسق لفظه وكذلك البخاري في تاريخه وهو أولى ما يفسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من حديث أبي ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله الورق يوجد عند القرية قال عرفها حولا الحديث وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي وروى الإسماعيلي في الصحابة من طريق مالك بن عمير عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال أن وجدت من يعرفها فادفعها إليه الحديث وإسناده واه جدا وروى الطبراني من حديث الجارود العبدي قال قلت يا رسول الله اللقطة نجدها قال أنشدها ولا تكتم ولا تغيب الحديث قوله فسأله عما يلتقطه في أكثر الروايات أنه سأل عن اللقطة زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث الذهب والفضة وهو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلا وغير ذلك مما يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة وفي اعطائه الحكم المذكور ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ وسئل عن اللقطة قوله عرفها سنة ثم أعرف عفاصها ووكاءها في رواية العقدي عن سليمان بن بلال الماضية في العلم أعرف وكاءها أو قال عفاصها ولمسلم من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها زاد فيه العدد كما في حديث أبي بن كعب ووقع في رواية مالك كما سيأتي بعد باب أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ووافقه الأكثر نعم وافق الثوري ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ عرفها حولا فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا أعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك الحديث وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات ورواية الباب تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة وقال النووي يجمع بينهما بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها قلت (ابن حجر ) : ويحتمل أن تكون ( ثم ) في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع ويقويه كون المخرج واحد والقصة واحدة".
وقال الصنعاني في سبل السلام ج1/ص19 :" لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل .
النهي إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال دون إفراد أحدهما مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقا فإنه لا يخل بجواز النصب لأنه يستفاد من هذا النهي عن الجمع ومن غيره النهي عن إفراد البول وإفراد الاغتسال . هذا بناء على أن ثم قد صارت بمعنى الواو تفيد الجمع .....
قلت ( الصنعاني ): والذي تقتضيه قواعد العربية أن النهي في الحديث إنما هو عن الجمع بين البول ثم الاغتسال منه سواء رفعت اللام أو نصبت وذلك لأن ثم تفيد ما تفيده الواو العاطفة في أنها للجمع وإنما اختصت ثم بالترتيب".
قلت ( أبو الحسين ) : ثم هنا قد تكون على بابها في إفادة التراخي ذلك أن الاغتسال يكون بعد مدة والقول بإفادتها حرف الواو قد لا يسلم للصنعاني ؛ والله أعلم .
وقال السرخسي في الأصول ج1/ص210 :" وقد يستعمل حرف ثم بمعنى الواو مجازا قال الله تعالى ثم كان من الذين آمنوا وقال تعالى ثم الله شهيد على ما يفعلون ".
قلت ( أبو الحسين ): لا نسلم للسرخسي بالقول بالمجاز إلا إذا عنى به أسلوبا من أساليب العرب.
ويذكر الآمدي في الاحكام ج3/ص36 مبينا عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فقال في معرض تقريره لذلك :" المسألة الرابعة: في جواز تأخير البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.....
وإذا كان المراد بقوله قرأناه الإنزال فقوله ثم إن علينا بيانه يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي على ما سبق تقريره.
ولقائل أن يقول وإن كان المراد من قوله تعالى فإذا قرأناه الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله ثم إن علينا بيانه بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه .
كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه إنما هو جميع القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بقوله فإذا قرأناه فاتبع قرآنه والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعا ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ كان مجملا وتكليفا له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل وإذا ثبت أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى ثم إن علينا بيانه عائد إلى جميع المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملا ولا ظاهرا في معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين .
وإن سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله أبو الحسين البصري فإن قيل لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على البيان التفصيلي يكون تقييدا له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع .
قلنا وإذا كان مطلقا فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاما لا مطلقا بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه وإن سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون فإن ثم ها هنا بمعنى الواو ولاستحالة كون الرب شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا ".
وتأتي ( ثم ) استئنافية بمعنى بداية جملة كما هو حال واو الاستئناف بمعنى واو الابتداء
نقل ذلك السيوطي عن الفراء في همع الهوامع3/196 فقال :" قال ( الفراء ) تقع (للاستئناف ) نحو أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا". وقال ابن أم قاسم المرادي في الجني الداني في حروف المعاني :" ذكر صاحب رصف المباني أن لثم في الكلام موضعين: الأول: أن تكون حرف عطف، يعطف مفرداً على مفرد، وجملة على جملة.
والثاني: أن تكون حرف ابتداء؛ إما أن تكون حرف ابتداء، على الاصطلاح، أي: يكون بعدها المبتدأ والخبر. وإما ابتداء كلام. فالأول نحو أن تقول: أقول لك اضرب زيداً، ثم أنت تترك الضرب. ومنه قول تعالى " قل الله ينتجيكم منها ومن كل كرب. ثم أنتم تشركون ".
وقد تأتي ثم زائدة؛ قال الأشموني في شرح ألفية ابن مالك حاشية الصبان 1/138 :" تنبيه: زعم الأخفش والكوفيون: أن ثم تقع زائدة فلا تكون عاطفة ألبتة, وحملوها على ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، جعلوا تاب عليهم هو الجواب وثم زائدة. وقول زهير: أَرَانِي إذا أَصْبَحْتُ أَصْبَحْتُ ذا هَوًى فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ عادِيَا".
وقد تستعمل ( ثم ) لبيان التباين بين مراتب المعطوفات وتفاضلها
قال الزمخشري في الكشاف ج3/ص288 في تفسير قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً".
قلت ( الزمخشري ): موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأوّل والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.
ومثل ( ثم ) الفاء التي تفيد الترتيب بلا تراخي
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد ج1/ص202:" وأما الفاء فهي موضوعة للتعقيب وقد تكون للتسبيب والترتيب وهما راجعان إلى معنى التعقيب لأن الثاني بعدهما أبدا إنما يجيء في عقب الأول فالسبب نحو ضربته فبكى والترتيب أهلكناها فجاءها بأسنا الأعراف دخلت الفاء لترتيب اللفظ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر لأن الإهتمام به أولى وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود".
وقد تأتي الفاء بمعنى الواو ينقل الآلوسي في روح المعاني ج8/ص78 عن الفراء قوله في تفسير قوله تعالى:" ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) .... وقال الفراء الفاء بمعنى الواو ".
قال الشنقيطي في أضواء البيان: والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرّد الترتيب الذكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذكرى فقط دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربيّ معروف جاء في القرءان في مواضع وهو كثير في كلام العرب .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلآ وأنتم مسلمون "
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما "
أما بعد:
فقد قال سعيد الأفغاني في أصول النحو ج1/ص39 :" إن علم العربية من أجل العلوم فائدة وأفضلها عائدة وحكمة وافرة جمة ومعرفته تفضي إلى معرفة العلوم المهمة والكتب المؤلفة فيه تفوت الإحصاء عدا وتخرج عن الضبط جدا وأنفعها أوسطها حجما وأكثرها علما ".
ولا يخفى على كل مشتغل بعلم اللغة أنها ألفاظ ومقاصد ؛ فما من لفظ وضعه العرب إلا ولهم قصد فيه ؛ كما يعلم أن العربية بلغت الفصاحة والبلاغة ذروتها .
وما من لفظ من ألفاظ العربية إلا وله استعمال خاص به لا يشركه فيه لفظ آخر. غير أنهم يستعيرون بعض الألفاظ نيابة عن بعض لمعنى آخر .
وينبغي أن يعلم أيضا أنه لا يوجد - عند التحقيق - في كلام العرب مشترك لفظي أو ترادف معنوي في أصل الوضع - مع العلم أنهما من مباحث أصول الفقه - وحينما أنفي وجود المشترك والمترادف في اللغة بأصل الوضع أؤكد أن العرب تستعير لفظا بدلا من آخر لأجل معنى مقصود .
أعني بعبارة أخرى أنه لا يوجد في أصل الوضع عند العرب أن لفظة ( قرء ) تعني طهرا وحيضا في آن واحد بأصل وضعها؛ بل هي لا تعني إلا معنى واحدا وقد حرر ذلك ابن القيم في زاد المعاد فليرجع إليه.
فوجود ترادف معنوي أو اشتراك لفظي بأصل الوضع أقول هذا من ضرب الخيال ؛ والقول به إما قصور في تتبع ألفاظ العرب أو هو بسبب غلبة الاستعمال أو الاستعارة؛ وأذكر لذلك مثالا: (الخوف لا يعني الخشية من كل وجه ) ؛ و العين لا تطلق على ( العين الباصرة ؛ والجاسوس ؛ وعين الماء ) بأصل الوضع لكن تباين لهجات العرب وغلبة الاستعمال أوجد مثل هذا الاشتراك. و لأجل معرفة ذلك تراجع مؤلفات المحققين من اللغويين والأصوليين؛ فليس بحثنا هذا لبيان هذا الأمر وإنما جاء استطرادا لا غير.
لكن بعض من ينتسب إلى العلم لا يدرك مثل هذه الحقائق فيفوته من العلم بحسب قصوره في هذا الباب.
وأذكر مثالا آخر يبيّن لنا استعارة العرب ألفاظا بدلا من أخرى لمعنى أخر:
نقول: فلان ذلّ لفلان ويذل لفلان. وذليل لفلان وإذلة لفلان وهكذا . نلاحظ أن ( ذلّ) قد تعدى بحرف اللام هذا إذا كان المقصود ذلة الهوان والصغار. ونرى أن الفعل ( أشفق ) يتعدى بحرف (على) نقول : أشفق عليه ويشفق عليه ...
لكن لو أردنا ذلة الإشفاق لم نعدِّها إلا بالحرف ( على ) وهذا سر قول الله جلّ وعلا :" إذلة على المؤمنين". فإنه جلّ وعلا أراد ذلة الإشفاق لا ذلة الهوان والصغار فعدى لفظة (إذلة ) بالحرف على وقد ذكر ذلك الحكمي في كتابه المعارج .
فأقول مختصرا : لا يوجد ترادف و اشتراك في لغة العرب ؛ لكن قد تستعار لفظة بدلا من أخرى فهذا كثير. ولعلي أو بعض الشباب ممن له همة يبحث في باب ( المشترك والمترادف عند اللغويين والأصوليين ) .
وسبب القول بعدم وجود مشترك لفظي أو ترادف معنوي هو أن العرب لا يوجد في لغتهم تكرار لا في الألفاظ ولا في المعاني ؛ بل لا يوجد عندهم تكرار في حروف المباني من كل وجه ؛ فهم إما أن يحذفوا الحرف المكرر إن استطاعوا وبقي ما يدل عليه من الحركات أو يدغمون الثاني بالأول ليجعلوه واحدا مشددا فإن تعذر هذا وذاك غيروا حركة الثاني خلاف حركة الأول.
فإذا كان العرب يسأمون التكرار في حروف المباني ويهربون منه بل هو معيب في لغتهم ؛ ففرارهم من تكرار الألفاظ والمعاني أولى وأحرى.
والقول بالاستعارة لا أعني به أبدا ما عناه بعض من يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز فأنا لا أقول بالمجاز بل هو أحد الطواغيت التي ذكرها ابن القيم ؛ ولكن أعني بالاستعارة أسلوبا من أساليب العرب في بيان مقاصدهم.
هذا وقد اخترت حرف العطف ( ثمّ ) لأبيّن للقراء الأكارم صحة ما أزعم ( استعارة اللفظ بدلا من آخر لمعنى مقصود ) فإن كان صوابا فالموفق من وفقه الله وإن كان غير ذلك فعذري أني استشهدت بكلام أهل العلم من النحويين والفقهاء والمفسرين والأصوليين.
ومن المعلوم أن حرف العطف ( ثم ) في أصل الوضع يفيد العطف بتراخي الفعل الثاني عن الأول؛ فقولي: جاء زيد وعمر. يختلف عن قولي: جاء زيد فعمر. ويختلف أيضا عن قولي: جاء زيد ثم عمر.
أما الأول فقد جاءا جميعا في وقت واحد ؛ والواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب ولا تنافيه خلافا للكوفيين القائلين بإفادتها الترتيب ويرد عليهم قوله تعالى عن الكفار القائلين " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ".
وأما الثاني فقد جاء عمر عقب زيد وبأثره على الترتيب بلا فصل .
وأما الثالث فقد جاء عمر بعد زيد متراخيا عنه بمدة ؛ بمعنى لا بد من وجود فاصل زمني بين المعطوف الأول والمعطوف الثاني.
قال ابن مالك في ألفيته : والفاء للترتيب باتصال ... وثم للترتيب بانفصال.
أي تدل ( الفاء ) على تأخر المعطوف عن المعطوف عليه متصلا به نحو قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}؛ و(ثم) على تأخره عنه منفصلا أي متراخيا عنه ؛ مثل قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} .
هذا من حيث أصل الوضع؛ ولا حاجة بنا لبيان ذلك فأمثلته كثيرة .
وقد يستخدم العرب حرف العطف ( ثم ) لمطلق العطف. وفي هذا قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان ج1/ص89 : " ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) لم يبين هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة ( حيث ) التي هي كلمة تدل على المكان كما تدل ( حين ) على الزمان .
قلت ( أبو الحسين ): عنى الشنقيطي بلفظة ( حيث ) للمكان و ( حين) للزمان أن يفيض أهل مكة ( قريش ) من نفس المكان الذي قد فاض منه الناس وهذا ما تعنيه لفظة (حيث) ؛ وأن يقيضوا في نفس الوقت الذي قد فاض منه الناس وهذا ما عنته لفظة ( حين ).
ويتابع الشنقيطي فيقول : ولكنه يبين ذلك بقوله ( فإذا أفضتم من عرفات ) وسبب نزولها أن قريشا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة ويقولون نحن قطان بيت الله ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم لأن عرفات خارج عن الحرم وعامة الناس يقفون بعرفات فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يفيضوا من حيث أفاض الناس وهو عرفات لا من المزدلفة كفعل قريش وهذا هو مذهب جماهير العلماء وحكى ابن جرير عليه الإجماع؛ وعليه فلفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة وترتيبها عليها في مطلق الذكر ونظيره قوله تعالى فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
قلت ( أبو الحسين ): يعني الشنقيطي أن العمل الصالح مسبوق بالإيمان إذ لا يقبل عمل صالح بدون إيمان؛ وقال أيضا ذلك رحمه الله في تفسيره أيضا ج8/ص534 : " قوله تعالى ( ثم كان من الذين آمنوا ) هذا قيد في اقتحام العقبة بتلك الأعمال من عتق أو إطعام لأن عمل غير المؤمن لا يجعله يقتحم العقبة يوم القيامة لإحباط عمله ولاستيفائه إياه في الدنيا و ( ثم ) هنا للترتيب الذكري لا الزمني لأن الإيمان مشروط وجوده عند العمل. وذكر ذلك أبو حيان في تفسير البحر المحيط ج8/ص471 :" ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة لا للتراخي في الزمان لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع أو يكون المعنى ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا ".
وقد جعل الله هذا الإطعام اجتياز العقبة فلا يقتحمها ؛ قال القرطبي في التفسير ج20/ص71 : " يعني أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة أو أطعم في يوم ذا مسغبة حتى يكون من الذين آمنوا أي صدقوا فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان قال الله تعالى في المنافقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وقالت عائشة يا رسول الله إن إبن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله فهل ينفعه ذلك شيئا قال لا إنه لم يقل يوما رب أغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ويتابع الشنقيطي قائلا: ومن أمثلته في القرءان العظيم قوله تعالى ( فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا ادارَكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ) فلا يخفى أن ( ثُمَّ ) حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه من الذين أمنوا لا ترتّب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذكري ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :" وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء ". كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذكري... ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله: إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّه ".
قال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم في معرض بيانه للحديث الذي رواه مسلم وهو حديث أبي هريرة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال إيمان الله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور وفي رواية قال إيمان بالله ورسوله .
ثم حديث أبي ذر قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيله الحديث.
فإن الحديث جاء بحرف ( ثم ) من حديث أبي هريرة ؛ وجاء بحرف ( الواو ) من حديث أبي ذر .
فقال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم ج1/ص261: " وأما الباقيات من الجهاد والصلاة والحج وبر الوالدين وغيرها فنقول كل واحد منها إنه أفضل الأعمال فحسب وهي متساوية في هذا الوصف ولهذا جاء منها بحرف الواو في بعض الروايات المذكورة ما جاء في غيرها بحرف ثم ولا يثبت بحرف ثم في ذلك تفضيل بعضها على بعض بل يكون ما تقتضيه ثم من الترتيب والتأخير مصروفا إلى الترتيب والتأخير في الذكر".
وقد بيّن الرازي في تفسره (التفسير الكبير) ج31/ص169 ذلك فقال:" فما السبب في أن الله تعالى أخره عنها بقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ والجواب من وجوه أحدها أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود كقوله إن من ساد ثم ساد أبوه ".
ويؤكد ابن كثير هذا المعني فيقول في تفسيره ج2/ص192 :" و ( ثم ) هنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب ها هنا كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم من قبل ذاك قد ساد جده.
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله وأن هذا صراطي مستقيما في سورة الأنعام (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (*) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (*) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (*) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (*) فاتبعه "بثم" وهو عطف على التراخي " بمدح التوراة ورسولها فقال ( ثم آتينا موسى الكتاب ) وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة".
وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم ج2/ص78 : قال تعالى وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب فى الفعل وكما قال تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا إلى قوله ثم آتينا موسى الكتاب وقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ونظائر ذلك كثيرة ".
والسيوطي يقول في همع الهوامع ج3/ص195 :" ( ثم ) للتشريك في الحكم والترتيب خلافا لقطرب في قوله إنها لا تفيده واحتج بقوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها. وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه " ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ثُمَّ ءَاتَينَا مُوسَى وقول الشاعر: إنَّ مَنْ سادَ ثُمّ سادَ أَبُوه ثُمَّ قد ساد قَبْلَ ذلِك جَدُّه ".
وأجيب بأنها في الجميع لترتيب الأخبار لا الحكم والمهلة خلافا للفراء في قوله إنها بمعنى الفاء .
قلت ( أبو الحسين ) : لا مانع من أن تأتي ( ثم ) بمعنى الفاء ؛ فإنها قد جاءت بمعنى الواو فمجيئها بمعنى الفاء غير مستبعد والفراء إمام في هذا الفن مع جلالة قدر السيوطي كما سأبينه بعد قليل.
وقد تقع الفاء في إفادة الترتيب بلا مهلة وعكسه أي تقع الفاء موقع ( ثم ) في إفادته بمهلة فالأول كقوله: كهَزِّ الرُّدَيْنيِّ تحت العَجَاج جَرَى في الأنابيب ثُمَّ اضْطَربْ .. إذ الهز مع جرى في أنابيب الرمح يعقبه اضطرابه بلا تراخ . والثاني كقوله تعالى ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ) فالفاء في الثلاثة بمعنى ثم".
وقال رضى الدين محمد بن الحسن الاستراباذي في شرح الكافية لابن الحاجب4/ 390 : " وقد تجئ (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر، والتدرج في درج الارتقاء وذكر ما هو الأولى ثم الأولى من دون اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله، كما في قوله: - إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده. فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح، فابتدأ بسيادته، ثم بسيادة أبية، ثم بسيادة جده، لأن سيادة نفسه أخص ثم سيادة الأب ثم سيادة الجد، وإن كانت سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه، فثم، ههنا، كالفاء في قوله تعالى (فبئس مثوى المتكبرين) كما ذكرنا، وقد تكون ثم، والفاء، أيضا، لمجرد التدرج في الارتقاء، وإن لم يكن الثاني مترتبا في الذكر على الأول، وذلك أن تكرر الأول بلفظه، نحو: بالله، فبالله أو: والله ثم والله، وقوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين) ، وقوله: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) ، وأما قوله تعالى: (فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) ، فأقام العلة مقام المعلول".
ويقول سعيد الأفغاني في أصول النحو ج1/ص422 :" و ( ثم ) كالفاء في التشريك والترتيب إلا أنها تدل على المهلة إذ كانت أكثر حروفا من الفاء وقد جاءت لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر عنه كقوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون وقال وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتقول زيد عالم كريم ثم هو شجاع.
وتأتي ثم بمعنى الفاء ؛ قال الأشموني في شرحه ألفية ابن مالك 1/136 :" "وثم للترتيب بانفصال" أي: بمهلة وتراخ نحو: {فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]، وقد توضع موضع الفاء كقوله: كَهَزّ الرُّدَينِيِّ تحت العَجَاج جَرى في الأنابيب ثم اضْطَرَبْ. أي فاضطرب.
وقال أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني في كتاب الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية ج1/ص325:" و(ثم) في قوله تعالى ثم كلا سوف تعلمون للتدرج كما في والله ثم والله.
وقد يجيء لمجرد الترقي نحو إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده .
وقد تجيء للترتيب في الأخبار كما يقال : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أي ثم أخبرك أن الذي صنعت أمس أعجب .
وعليه قوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا أي ثم أخبركم أن هذا لمن كان مؤمنا كما في التيسير ... .... ويجوز أن يكون المعنى ثم دام على الإيمان إذ الأمور بخواتيمها كقوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى أي دام على الاهتداء ويجوز أن يكون بمعنى الواو التي بمعنى مع أي مع ذلك كان من الذين آمنوا .
ومثل قوله تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) أي والله على ما تفعلون شهيد". وثم المفيدة لعطف التراخي تأتي بمعنى الواو.
وقال الآمدي في كتابه الإحكام ج1/ص103 :" وقيل إنها قد ترد بمعنى الواو كقوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون لاستحالة كونه شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا".
وفي تفسير القرطبي ج9/ص3 :" قوله تعالى وأن استغفروا ربكم عطف على الأول ثم توبوا إليه أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة قال الفراء ثم هنا بمعنى الواو".
وقال أيضا ج14/ص86:" ثم استوى على العرش ... وليست ثم للترتيب وإنما هي بمعنى الواو". أي واستوى على العرش
وقال أيضا ج15/ص88 :" ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم قيل إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها وقال مقاتل الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم لقوله تعالى هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن وقرأ ابن مسعود ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم وقال أبو عبيدة يجوز أن تكون ثم بمعنى الواو".
وقال الشنقيطي أيضا :" وذهب الفراء إلى أن الفاء في فتدلى بمعنى الواو والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا وشتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الشتم والإساءة شيء واحد".
وقال في كتاب الكليات ج1/ص325 :" وبمعنى الابتداء نحو : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ". أي وأورثنا الكتاب.
ويبيّن الآلوسي هذا المعنى في روح المعاني ج8/ص59 في تفسير قوله تعالى:" ثم ءاتينا موسى الكتاب ... وقال بعضهم إن ( ثم ) هنا بمعنى الواو".
والشوكاني ينقل ذلك أيضا في فتح القدير ج2/ص179 :" ثم آتينا موسى هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التى وصى الله عباده بها وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه وهو ما تقدم من قوله ذلكم وصاكم به فقيل إن ثم ها هنا بمعنى الواو".
وهذا ابن العربي في أحكام القرآن ج1/ص196 يقول:" ( ثم ) بمعنى الواو كما قال تعالى: ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ".
وابن حجر في فتح الباري ج5/ص81 يبيّن ذلك عند شرحه حديث اللقطة الذي أخرجه البخاري في صحيحه ج2/ص855:" عن زَيْدِ بن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قال جاء أَعْرَابِيٌّ النبي صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فقال عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جاء أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بها وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْهَا قال يا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قال لك أو لِأَخِيكَ أو لِلذِّئْبِ قال ضَالَّةُ الْإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ".
قال ابن حجر :" عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال عرفها سنة ثم أوثق وعاءها فذكر الحديث وقد ذكر أبو داود طرفا منه تعليقا ولم يسق لفظه وكذلك البخاري في تاريخه وهو أولى ما يفسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من حديث أبي ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله الورق يوجد عند القرية قال عرفها حولا الحديث وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي وروى الإسماعيلي في الصحابة من طريق مالك بن عمير عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال أن وجدت من يعرفها فادفعها إليه الحديث وإسناده واه جدا وروى الطبراني من حديث الجارود العبدي قال قلت يا رسول الله اللقطة نجدها قال أنشدها ولا تكتم ولا تغيب الحديث قوله فسأله عما يلتقطه في أكثر الروايات أنه سأل عن اللقطة زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث الذهب والفضة وهو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلا وغير ذلك مما يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة وفي اعطائه الحكم المذكور ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ وسئل عن اللقطة قوله عرفها سنة ثم أعرف عفاصها ووكاءها في رواية العقدي عن سليمان بن بلال الماضية في العلم أعرف وكاءها أو قال عفاصها ولمسلم من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها زاد فيه العدد كما في حديث أبي بن كعب ووقع في رواية مالك كما سيأتي بعد باب أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ووافقه الأكثر نعم وافق الثوري ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ عرفها حولا فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا أعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك الحديث وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات ورواية الباب تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة وقال النووي يجمع بينهما بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها قلت (ابن حجر ) : ويحتمل أن تكون ( ثم ) في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع ويقويه كون المخرج واحد والقصة واحدة".
وقال الصنعاني في سبل السلام ج1/ص19 :" لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل .
النهي إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال دون إفراد أحدهما مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقا فإنه لا يخل بجواز النصب لأنه يستفاد من هذا النهي عن الجمع ومن غيره النهي عن إفراد البول وإفراد الاغتسال . هذا بناء على أن ثم قد صارت بمعنى الواو تفيد الجمع .....
قلت ( الصنعاني ): والذي تقتضيه قواعد العربية أن النهي في الحديث إنما هو عن الجمع بين البول ثم الاغتسال منه سواء رفعت اللام أو نصبت وذلك لأن ثم تفيد ما تفيده الواو العاطفة في أنها للجمع وإنما اختصت ثم بالترتيب".
قلت ( أبو الحسين ) : ثم هنا قد تكون على بابها في إفادة التراخي ذلك أن الاغتسال يكون بعد مدة والقول بإفادتها حرف الواو قد لا يسلم للصنعاني ؛ والله أعلم .
وقال السرخسي في الأصول ج1/ص210 :" وقد يستعمل حرف ثم بمعنى الواو مجازا قال الله تعالى ثم كان من الذين آمنوا وقال تعالى ثم الله شهيد على ما يفعلون ".
قلت ( أبو الحسين ): لا نسلم للسرخسي بالقول بالمجاز إلا إذا عنى به أسلوبا من أساليب العرب.
ويذكر الآمدي في الاحكام ج3/ص36 مبينا عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فقال في معرض تقريره لذلك :" المسألة الرابعة: في جواز تأخير البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.....
وإذا كان المراد بقوله قرأناه الإنزال فقوله ثم إن علينا بيانه يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي على ما سبق تقريره.
ولقائل أن يقول وإن كان المراد من قوله تعالى فإذا قرأناه الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله ثم إن علينا بيانه بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه .
كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه إنما هو جميع القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بقوله فإذا قرأناه فاتبع قرآنه والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعا ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ كان مجملا وتكليفا له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل وإذا ثبت أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى ثم إن علينا بيانه عائد إلى جميع المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملا ولا ظاهرا في معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين .
وإن سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله أبو الحسين البصري فإن قيل لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على البيان التفصيلي يكون تقييدا له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع .
قلنا وإذا كان مطلقا فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاما لا مطلقا بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه وإن سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون فإن ثم ها هنا بمعنى الواو ولاستحالة كون الرب شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا ".
وتأتي ( ثم ) استئنافية بمعنى بداية جملة كما هو حال واو الاستئناف بمعنى واو الابتداء
نقل ذلك السيوطي عن الفراء في همع الهوامع3/196 فقال :" قال ( الفراء ) تقع (للاستئناف ) نحو أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا". وقال ابن أم قاسم المرادي في الجني الداني في حروف المعاني :" ذكر صاحب رصف المباني أن لثم في الكلام موضعين: الأول: أن تكون حرف عطف، يعطف مفرداً على مفرد، وجملة على جملة.
والثاني: أن تكون حرف ابتداء؛ إما أن تكون حرف ابتداء، على الاصطلاح، أي: يكون بعدها المبتدأ والخبر. وإما ابتداء كلام. فالأول نحو أن تقول: أقول لك اضرب زيداً، ثم أنت تترك الضرب. ومنه قول تعالى " قل الله ينتجيكم منها ومن كل كرب. ثم أنتم تشركون ".
وقد تأتي ثم زائدة؛ قال الأشموني في شرح ألفية ابن مالك حاشية الصبان 1/138 :" تنبيه: زعم الأخفش والكوفيون: أن ثم تقع زائدة فلا تكون عاطفة ألبتة, وحملوها على ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، جعلوا تاب عليهم هو الجواب وثم زائدة. وقول زهير: أَرَانِي إذا أَصْبَحْتُ أَصْبَحْتُ ذا هَوًى فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ عادِيَا".
وقد تستعمل ( ثم ) لبيان التباين بين مراتب المعطوفات وتفاضلها
قال الزمخشري في الكشاف ج3/ص288 في تفسير قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً".
قلت ( الزمخشري ): موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأوّل والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.
ومثل ( ثم ) الفاء التي تفيد الترتيب بلا تراخي
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد ج1/ص202:" وأما الفاء فهي موضوعة للتعقيب وقد تكون للتسبيب والترتيب وهما راجعان إلى معنى التعقيب لأن الثاني بعدهما أبدا إنما يجيء في عقب الأول فالسبب نحو ضربته فبكى والترتيب أهلكناها فجاءها بأسنا الأعراف دخلت الفاء لترتيب اللفظ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر لأن الإهتمام به أولى وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود".
وقد تأتي الفاء بمعنى الواو ينقل الآلوسي في روح المعاني ج8/ص78 عن الفراء قوله في تفسير قوله تعالى:" ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) .... وقال الفراء الفاء بمعنى الواو ".
قال الشنقيطي في أضواء البيان: والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرّد الترتيب الذكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذكرى فقط دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربيّ معروف جاء في القرءان في مواضع وهو كثير في كلام العرب .
وكتبه
الشريف
أبو الحسين الحسيني الهاشمي
الشريف
أبو الحسين الحسيني الهاشمي
تعليق