اللغة العربية، وما أدراك ما اللغة العربية!
تلك اللغةُ التي اختارها اللهُ لإنزال كتابِه، وجعلها لغةَ خاتمِ أنبيائه، وكتَب لها الحِفْظَ والخلود، وخصَّها بما لم تحظَ به لغة من اللغات.
وعلى الرغم من ذلك يَزْهد فيها كثير من أبنائها، ويفضّلون عليها لغات الأعاجم من الشرق والغرب، ويرطنون بها في أحاديثهم وكتاباتهم، تاركين وراءهم لغتَهم الشريفة ظِهْرِيًّا، وظانّين أنهم سيكونون بذلك من أهل الحضارة، ويوصفون بالرُّقيِّ والتقدم، وإضافة إلى ذلك يستهزئون بمن يتكلم بالفصحى!
وهم في الواقع ينزلون إلى دركات الانحطاط والدونية، والخنوع والتبَعية، ويحرمون أنفسَهم ذوقَ طعمِ الفصاحة، ولذّةِ البلاغة، وجمالِ البيانِ!
وفي المقابل نرى كثيرًا من أبناء العجم قد أدركوا مكانةَ هذه اللغة وأهميتَها، وقدَروها قدْرَها وعرفوا قيمتَها!
فيا ليت قومي يعلمون، وعن غيِّهم ينتهون، ومن غفلتهم ينتبهون!
حتى لا أطيل الكلام، إليكم بإيجاز بعضَ مزايا لغة القرآن، مع مقارنتها باللغات الأخرى ولا سيما الإنجليزية التي يجعلها أولئك الضعفاء أهم لغات العالم اليوم!
* أنها لغة غنية بالمفردات:
فأنت إذا نظرتَ إلى عدد الجذور والمفردات التي تحويها معاجمُ اللغة لأثارَ ذلك دهشَتَك، فهي أغنى اللغات من هذه الحيثية؛ فعدد جذورها -كما يذكر بعض الباحثين- 16000 جذر، وقد بلغت المواد اللغوية في معجم (لسان العرب) نحو 80000 مادة، وفي معجم (تاج العروس) نحو 120000 مادة، وهذان هما أوسع المعاجم اللغوية العربية، ومع ذلك هناك مواد لغوية لم تتضمنها هذه المعاجم، مع ما ضاع من لسان العرب ولم يدوَّن أو دُوِّن وضاعت مدوناته.
وهذا الأمر بلَغَتْ به العربية شأوًا لا يكاد يُلحَق.
ومن أبرز القضايا المميِّزة للعربية في هذا الجانب: قضية الاشتقاق، وقضية الترادف والتضاد.
ففي العربية يمكنك أن تعبِّر عن المعنى الواحد بأكثر من كلمة، بل نجد بعض المعاني يعبِّر عنها بأكثر من عشر كلمات!
ليس ذلك فقط، بل إنك تجد بين هذه المفردات المتنوعة فروقًا دقيقةً وعميقةً، تعطي اللغةَ إبداعًا وبلاغةً لا نظير لهما، وتعطي المتكلم خيارات كثيرة للتعبير عما يريد بوضوحٍ.
ومن نظر في معاجم المعاني مثل: (المخصص) لابن سيده، و(فقه اللغة) للثعالبي، وفي كتب الفروق مثل: (الفروق) للعسكري؛ يدرك ذلك عيانًا.
انظر مثلا إلى كلمة (شيخ)، تُجمَعُ جموعًا كثيرةً ما بين قلة وكثرة، مثل: شُيوخ، وشِيوخ، وأشياخ، وشِيَخَة، وشِيخة، وشِيخان، ومَشيَخَة، ومَشْيُخَة، ومِشْيَخَة، ومِشْيُخَة، ومَشِيخَة، ومَشْيُخاء، ومَشْيُوخاء، ومَشايِخ، وأشاييخ.
ومن ذلك أنهم عبّروا عن الحب بأكثر من ستين كلمة، منها: المحبة، والعلاقة، والهوى، والصبوة، والصبابة، والشغف، والوَجْد، والكَلَف، والتتيُّم، والعشق، والجَوَى، والدَّنَف، والشَّجْو، والشوق، والتباريح، والغمرات، والشَّجَن، واللاعِج، والاكتئاب، والوصَب، واللذع، والحُرْق، والسهد، والأرق، واللهف، والحنين، واللوعة، والجنون، والودّ، والخُلّة، والغرام، والهيام، والوَلَه... إلخ.
وسموا الأسد بأسماء عِدَّة، منها: اللَّيْث، والضيغم، والهِزَبْر، والهيصم، والعنبس، والرئبال، والقَسْوَرة، والهرماس، والقرافصة، وأُسَامَة، وساعِدَة.
بل إنك تجد كلمات تعبِّر عن معانٍ متضادة في وقت واحد، وقد كُتِبَ في هذه القضية كتُبٌ عُرِفَت بكتب الأضداد، ومثلها كلمة الخفاء، فهي تدل على السّتْر وعلى الظهور في آنٍ معًا.
كما أن العربية يمكن أن تجد فيها تعبيرا عن اللفظ الواحد بأكثر من طريقة، فمثلا كلمة: (جبريل) تنطق في العربية: جبريل، وجَبْرائيل، وجَبْرَئل، وجِبْرِين، وغير ذلك.
وليس في اللغات الأخرى هذا الغِنى من المفردات.
* ظاهرة الاشتقاق:
ففي العربية يُشتق من الجذر الواحد كثير من الكلمات، فالجذر (ك ت ب) مثلا يُشتق منه الأفعال بأنواعها (كَتَب، كُتِبَ، يكتُب، اكتُب)، واسم الفاعل (كاتب)، واسم المفعول (مكتوب)، والمصدر (كتابة وكتاب وكَتْب...)، وغير ذلك؛ مما يجعلها لغة مَرِنَةً، وثريّةً وغنيةً بالمشتقات، ومعبّرة عن المعاني بدقة وعمقٍ مدهشَيْنِ.
بينما في الإنجليزية مثلا نجد أنها تعتمد على تكوين الكلمات من خلال الجمع بين الجذور واللواحق، وهذا يجعلها لغة فقيرة بالمفردات جدًّا مقارنة بالعربية.
* البناء الصوتي:
تتميز العربية بأن أصواتها كثيرة كثرةً غير مملة، فهي تتضمن 29 حرفًا هجائيًّا، تتميز جُرُوسها بعضها عن بعض، وفيها حروف لا توجد في اللغات الأخرى إلا قليلًا.
فمثلا لا توجد في الإنجليزية الضاد ولا الحاء ولا الخاء ولا الغين ولا القاف ولا الظاء ولا الصاد ولا الطاء، بينما الحروف التي تتميز بها الإنجليزية عن العربية أقل عددًا.
* دقة الضمائر:
ففي العربية عندنا ضمائر خاصة بالمفرد المذكر، والمفردة المؤنثة، وجمع الذكور، وجمع الإناث، وضمائر تميز المفرد والمثنى والجمع.
فمثلا نحن نقول في الخطاب: أنتَ، وأنتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتُنَّ. بينما في اللغة الإنجليزية كل هؤلاء يخاطبون بالضمير (you)!
* الإعراب:
وهو من أهم خصائص العربية، إذ تُدرَكُ به معاني التراكيب وأجزاؤها، ومواقعُ الكلمات من الجمَل، وليس هو مجرد حركات توضع بلا فائدة ولا معنى.
فلولا الإعراب لم نعرف من الموصوف بالقوة في نحو قولنا: (هذا سيفُ زيدٍ القوي)، ولم نعرف الفاعل من المفعول في نحو قولنا: (أسعدَ الحفيد الجد)، وهلمّ جرًّا.
وبالإعراب يمكننا أن تقدم ونؤخر في الكلام، ونحذف ونزيد ... وغير ذلك؛ لأن المعاني معروفة، وكل ذلك بقانون وضوابط ونظام محكَم.
بينما نجد اللغة الإنجليزية مثلا تعتمد على ترتيب الكلمات في الجملة لتحديد المعنى، وليس فيها ميزة الإعراب.
* الاختصار:
من أهم مظاهر الاختصار: التعبير عن المعاني بحروف أو كلمات قليلة، وهذا نجده في العربية واضحًا وجليًّا؛ فهي لغة البلاغة والفصاحة.
وحسبنا مثالا لذلك كلمة: (أنلزمكموها)، هذه الكلمة مكونة من: همزة الاستفهام، والفعل المضارع نلزم، وضمير مستتر تقديره نحن، وكاف الخطاب، وعلامة الجمع (الميم) مُشْبَعَةً ضمَّتُها حتى تولد منها الواو، وضمير الغائبة (ها).
فانظر كيف اجتمعت كل هذه المكونات في هذا البناء الموجز.
بينما لو جئت تترجمها إلى الأنجليزية ستقول: Shall we compel you to accept it?
* دقة التعبير:
تتميز اللغة العربية بدقتها في التعبير عن المعاني المختلفة، فمثلًا نجد الكلمة الواحدة قد تحمل أكثر من معنى بحسب سياقاتها، ومثال ذلك: كلمة (عين)، فهي تدل تارة على العين الباصرة، وتارة على من يرسله قائد الجيش ونحوُه من الناس ليأتوهم بالأخبار، وتارة تدل على عين الماء، وتارة تدل على عين الذهب ... إلى غير ذلك من المعاني التي يحددها السياق.
ومن تعبير العربية الدقيق عن المعاني: ما يذكره أصحاب الفروق اللغوية من الفروق بين الكلمات التي تستخدم للتعبير عن المعنى الواحد، ومن ذلك تفريقهم بين الشك والريب؛ فقالوا: هناك فرق بينهما وليسا بمعنى واحد، فالريب هو شكُّ مصحوبٌ بقَلَقٍ.
وقالوا مثلا في الحب: إنه درجات بعضها فوق بعض، وقال بعضهم: الحب أوله الهوى، ثم العلاقة ثم الكف ثم الوجد، ثم العشق، والعشق إسم لما فصل عن المقدار الذي هو الحب، ثم الشغف وهو إحراق القلب بالحب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج والغرام ثم الجوى وهو الهوى الباطن والتيتيم والسبل والهيام وهو شبيه الجنون ...
* الفصاحة:
فاللغة العربية تتميز بفصاحتها، وخلوها مما يضاد ذلك مِن تنافُر الحروف، وتنافر الكلمات، وضعف التأليف اللفظي.
ولو نظرنا إلى اللغات الأخرى نجد أن فيها من التراكيب المعقدة والصعبةِ النطق ما لا يوجد في العربية.
مثل كلمة: (Rindfleischetikettierungsüberwachungsaufgabenüber tragungsgesetz) في اللغة الألمانية، التي تتكون من 63 حرفًا، وتعني: قانون نقل مهام مراقبة وضع علامات على لحوم البقر.
ومثل كلمة: (anticonstitutionnellement) في الفرنسية، التي تتألف من 25 حرفًا، وتعني: بشكل غير دستوري. ومثلها في الأسبانية: (anticonstitucionalmente).
* نظامها الكتابي:
إن النظام الكتابي للغة العربية يعدّ أوفى الأنظمة الكتابية وأكثرَها رُقِيًّا ونُضْجًا وكَمَالًا؛ فهو يحقق إلى حدٍّ كبيرٍ المطابقةَ بين المنطوق والمكتوب، ويتميز بكثرة حروفِه المكتوبة، وكل حرف منطوق يقابله رمز واحد مكتوب، ولا يتغير كثير بتغيُّرِ أحوالِه، كما يتميز النظام الكتابي للعربية بعلاماته التي تتنوع بين علاماتٍ تمييزية تميز الحروف المتشابهة في الصورة، وعلاماتٍ صوتية تعبِّرُ عن الأصوات المختلفة التي تقارِنُ الحرفَ، كالفتحة والضمة والكسرة والسكون وغيرها، وغير ذلك من العلامات.
بينما نرى في اللغات الأخرى أنها يكثر فيها الزيادات التي لا تنطق، ويعبَّر فيها عن بعض الأصوات برمزين أو أكثر، وتختلف أصوات الحروف باختلاف مواقعها، ولا يوجد فيها علامات تعبِّر عن الحركات ولا عن الإعراب، إلى غير ذلك من عيوب أنظمتها الكتابية.
مثلا في الإنجليزية نرى أن كلمة (couph) تكتب بخمسة حروف وتنطق بحرفين، وحرف (c) ينطق بأكثر من صوت بحسب مكانه وما يجاوره من أصوات، ويتداخل مع حرف (K) في بعض التراكيب، وصوت الثاء يعبر عنه بـ(th)، وحرف الفاء تارة يعبر عنه بالحرف (F) وتارة (ph)، ونجد فيها كلمات تتشابه في النطق وتختلف في المعنى والبناء والكتابة.
* الثبات، التأثير في اللغات الأخرى:
من قوة العربية وشموخها أنها أثّرت في كثير من اللغات الأخرى، ولا سيما في حقبة الفتوحات، فانتشرت المفردات العربية في اللغة الفارسية، والأسبانية، والتركية، وغيرها.
في حين أنها على كثرةِ ما اختلطت به من اللغات كان تأثير اللغات الأخرى فيها قليلًا؛ لأنها لغة محفوظة بحفظ الله، وقد قيّض الله لها من العلماء من كتبوا فيها كتابات لا تجدها في أي لغة أخرى؛ فتناولوها من كل جوانبها: الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية، والأسلوبية، والكتابية، ولم يتركوا شيئًا من جوانبها وقضاياها إلا بحثوا فيه وتركوا فيه كتاباتٍ.
* القِدَم والأصالة:
اللغة العربية موغلة في القِدَم، بل إن بعض الباحثين ذكر أن العربية هي أقدم اللغات، وذهب بعضهم إلى أنها أم اللغات كلها.
بينما لو نظرنا إلى لغة مثل الإنجليزية الحديثة لا يتجاوز عمرها نحو 500 عام، بل إن شكلها المعروف اليوم فيعود تاريخه إلى أواخر القرن السابع عشر!
أفبعد كل هذا يتركُ هذه اللغةَ العظيمةَ أبناؤها؟!
وما أجمل ما قاله حافظ إبراهيم على لسان العربية، وهو يغنيني عن قولِ كثير من الكلام:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني ... عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالاً وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ... وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغوص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني ... ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة ... وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا ... فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياني
....... إلى أن قال:
أيهجرني قومي عفا الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الأعجام فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لاقيامة بعده ... ممات لنعمري لم يقس بممات
نسأل الله أن يردنا إلى لغتنا ردا جميلًا، وأن يجعلنا من جنودها وحماتها، إن ربنا لسميع الدعاء.
كتبه
علي المالكي
تلك اللغةُ التي اختارها اللهُ لإنزال كتابِه، وجعلها لغةَ خاتمِ أنبيائه، وكتَب لها الحِفْظَ والخلود، وخصَّها بما لم تحظَ به لغة من اللغات.
وعلى الرغم من ذلك يَزْهد فيها كثير من أبنائها، ويفضّلون عليها لغات الأعاجم من الشرق والغرب، ويرطنون بها في أحاديثهم وكتاباتهم، تاركين وراءهم لغتَهم الشريفة ظِهْرِيًّا، وظانّين أنهم سيكونون بذلك من أهل الحضارة، ويوصفون بالرُّقيِّ والتقدم، وإضافة إلى ذلك يستهزئون بمن يتكلم بالفصحى!
وهم في الواقع ينزلون إلى دركات الانحطاط والدونية، والخنوع والتبَعية، ويحرمون أنفسَهم ذوقَ طعمِ الفصاحة، ولذّةِ البلاغة، وجمالِ البيانِ!
وفي المقابل نرى كثيرًا من أبناء العجم قد أدركوا مكانةَ هذه اللغة وأهميتَها، وقدَروها قدْرَها وعرفوا قيمتَها!
فيا ليت قومي يعلمون، وعن غيِّهم ينتهون، ومن غفلتهم ينتبهون!
حتى لا أطيل الكلام، إليكم بإيجاز بعضَ مزايا لغة القرآن، مع مقارنتها باللغات الأخرى ولا سيما الإنجليزية التي يجعلها أولئك الضعفاء أهم لغات العالم اليوم!
* أنها لغة غنية بالمفردات:
فأنت إذا نظرتَ إلى عدد الجذور والمفردات التي تحويها معاجمُ اللغة لأثارَ ذلك دهشَتَك، فهي أغنى اللغات من هذه الحيثية؛ فعدد جذورها -كما يذكر بعض الباحثين- 16000 جذر، وقد بلغت المواد اللغوية في معجم (لسان العرب) نحو 80000 مادة، وفي معجم (تاج العروس) نحو 120000 مادة، وهذان هما أوسع المعاجم اللغوية العربية، ومع ذلك هناك مواد لغوية لم تتضمنها هذه المعاجم، مع ما ضاع من لسان العرب ولم يدوَّن أو دُوِّن وضاعت مدوناته.
وهذا الأمر بلَغَتْ به العربية شأوًا لا يكاد يُلحَق.
ومن أبرز القضايا المميِّزة للعربية في هذا الجانب: قضية الاشتقاق، وقضية الترادف والتضاد.
ففي العربية يمكنك أن تعبِّر عن المعنى الواحد بأكثر من كلمة، بل نجد بعض المعاني يعبِّر عنها بأكثر من عشر كلمات!
ليس ذلك فقط، بل إنك تجد بين هذه المفردات المتنوعة فروقًا دقيقةً وعميقةً، تعطي اللغةَ إبداعًا وبلاغةً لا نظير لهما، وتعطي المتكلم خيارات كثيرة للتعبير عما يريد بوضوحٍ.
ومن نظر في معاجم المعاني مثل: (المخصص) لابن سيده، و(فقه اللغة) للثعالبي، وفي كتب الفروق مثل: (الفروق) للعسكري؛ يدرك ذلك عيانًا.
انظر مثلا إلى كلمة (شيخ)، تُجمَعُ جموعًا كثيرةً ما بين قلة وكثرة، مثل: شُيوخ، وشِيوخ، وأشياخ، وشِيَخَة، وشِيخة، وشِيخان، ومَشيَخَة، ومَشْيُخَة، ومِشْيَخَة، ومِشْيُخَة، ومَشِيخَة، ومَشْيُخاء، ومَشْيُوخاء، ومَشايِخ، وأشاييخ.
ومن ذلك أنهم عبّروا عن الحب بأكثر من ستين كلمة، منها: المحبة، والعلاقة، والهوى، والصبوة، والصبابة، والشغف، والوَجْد، والكَلَف، والتتيُّم، والعشق، والجَوَى، والدَّنَف، والشَّجْو، والشوق، والتباريح، والغمرات، والشَّجَن، واللاعِج، والاكتئاب، والوصَب، واللذع، والحُرْق، والسهد، والأرق، واللهف، والحنين، واللوعة، والجنون، والودّ، والخُلّة، والغرام، والهيام، والوَلَه... إلخ.
وسموا الأسد بأسماء عِدَّة، منها: اللَّيْث، والضيغم، والهِزَبْر، والهيصم، والعنبس، والرئبال، والقَسْوَرة، والهرماس، والقرافصة، وأُسَامَة، وساعِدَة.
بل إنك تجد كلمات تعبِّر عن معانٍ متضادة في وقت واحد، وقد كُتِبَ في هذه القضية كتُبٌ عُرِفَت بكتب الأضداد، ومثلها كلمة الخفاء، فهي تدل على السّتْر وعلى الظهور في آنٍ معًا.
كما أن العربية يمكن أن تجد فيها تعبيرا عن اللفظ الواحد بأكثر من طريقة، فمثلا كلمة: (جبريل) تنطق في العربية: جبريل، وجَبْرائيل، وجَبْرَئل، وجِبْرِين، وغير ذلك.
وليس في اللغات الأخرى هذا الغِنى من المفردات.
* ظاهرة الاشتقاق:
ففي العربية يُشتق من الجذر الواحد كثير من الكلمات، فالجذر (ك ت ب) مثلا يُشتق منه الأفعال بأنواعها (كَتَب، كُتِبَ، يكتُب، اكتُب)، واسم الفاعل (كاتب)، واسم المفعول (مكتوب)، والمصدر (كتابة وكتاب وكَتْب...)، وغير ذلك؛ مما يجعلها لغة مَرِنَةً، وثريّةً وغنيةً بالمشتقات، ومعبّرة عن المعاني بدقة وعمقٍ مدهشَيْنِ.
بينما في الإنجليزية مثلا نجد أنها تعتمد على تكوين الكلمات من خلال الجمع بين الجذور واللواحق، وهذا يجعلها لغة فقيرة بالمفردات جدًّا مقارنة بالعربية.
* البناء الصوتي:
تتميز العربية بأن أصواتها كثيرة كثرةً غير مملة، فهي تتضمن 29 حرفًا هجائيًّا، تتميز جُرُوسها بعضها عن بعض، وفيها حروف لا توجد في اللغات الأخرى إلا قليلًا.
فمثلا لا توجد في الإنجليزية الضاد ولا الحاء ولا الخاء ولا الغين ولا القاف ولا الظاء ولا الصاد ولا الطاء، بينما الحروف التي تتميز بها الإنجليزية عن العربية أقل عددًا.
* دقة الضمائر:
ففي العربية عندنا ضمائر خاصة بالمفرد المذكر، والمفردة المؤنثة، وجمع الذكور، وجمع الإناث، وضمائر تميز المفرد والمثنى والجمع.
فمثلا نحن نقول في الخطاب: أنتَ، وأنتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتُنَّ. بينما في اللغة الإنجليزية كل هؤلاء يخاطبون بالضمير (you)!
* الإعراب:
وهو من أهم خصائص العربية، إذ تُدرَكُ به معاني التراكيب وأجزاؤها، ومواقعُ الكلمات من الجمَل، وليس هو مجرد حركات توضع بلا فائدة ولا معنى.
فلولا الإعراب لم نعرف من الموصوف بالقوة في نحو قولنا: (هذا سيفُ زيدٍ القوي)، ولم نعرف الفاعل من المفعول في نحو قولنا: (أسعدَ الحفيد الجد)، وهلمّ جرًّا.
وبالإعراب يمكننا أن تقدم ونؤخر في الكلام، ونحذف ونزيد ... وغير ذلك؛ لأن المعاني معروفة، وكل ذلك بقانون وضوابط ونظام محكَم.
بينما نجد اللغة الإنجليزية مثلا تعتمد على ترتيب الكلمات في الجملة لتحديد المعنى، وليس فيها ميزة الإعراب.
* الاختصار:
من أهم مظاهر الاختصار: التعبير عن المعاني بحروف أو كلمات قليلة، وهذا نجده في العربية واضحًا وجليًّا؛ فهي لغة البلاغة والفصاحة.
وحسبنا مثالا لذلك كلمة: (أنلزمكموها)، هذه الكلمة مكونة من: همزة الاستفهام، والفعل المضارع نلزم، وضمير مستتر تقديره نحن، وكاف الخطاب، وعلامة الجمع (الميم) مُشْبَعَةً ضمَّتُها حتى تولد منها الواو، وضمير الغائبة (ها).
فانظر كيف اجتمعت كل هذه المكونات في هذا البناء الموجز.
بينما لو جئت تترجمها إلى الأنجليزية ستقول: Shall we compel you to accept it?
* دقة التعبير:
تتميز اللغة العربية بدقتها في التعبير عن المعاني المختلفة، فمثلًا نجد الكلمة الواحدة قد تحمل أكثر من معنى بحسب سياقاتها، ومثال ذلك: كلمة (عين)، فهي تدل تارة على العين الباصرة، وتارة على من يرسله قائد الجيش ونحوُه من الناس ليأتوهم بالأخبار، وتارة تدل على عين الماء، وتارة تدل على عين الذهب ... إلى غير ذلك من المعاني التي يحددها السياق.
ومن تعبير العربية الدقيق عن المعاني: ما يذكره أصحاب الفروق اللغوية من الفروق بين الكلمات التي تستخدم للتعبير عن المعنى الواحد، ومن ذلك تفريقهم بين الشك والريب؛ فقالوا: هناك فرق بينهما وليسا بمعنى واحد، فالريب هو شكُّ مصحوبٌ بقَلَقٍ.
وقالوا مثلا في الحب: إنه درجات بعضها فوق بعض، وقال بعضهم: الحب أوله الهوى، ثم العلاقة ثم الكف ثم الوجد، ثم العشق، والعشق إسم لما فصل عن المقدار الذي هو الحب، ثم الشغف وهو إحراق القلب بالحب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج والغرام ثم الجوى وهو الهوى الباطن والتيتيم والسبل والهيام وهو شبيه الجنون ...
* الفصاحة:
فاللغة العربية تتميز بفصاحتها، وخلوها مما يضاد ذلك مِن تنافُر الحروف، وتنافر الكلمات، وضعف التأليف اللفظي.
ولو نظرنا إلى اللغات الأخرى نجد أن فيها من التراكيب المعقدة والصعبةِ النطق ما لا يوجد في العربية.
مثل كلمة: (Rindfleischetikettierungsüberwachungsaufgabenüber tragungsgesetz) في اللغة الألمانية، التي تتكون من 63 حرفًا، وتعني: قانون نقل مهام مراقبة وضع علامات على لحوم البقر.
ومثل كلمة: (anticonstitutionnellement) في الفرنسية، التي تتألف من 25 حرفًا، وتعني: بشكل غير دستوري. ومثلها في الأسبانية: (anticonstitucionalmente).
* نظامها الكتابي:
إن النظام الكتابي للغة العربية يعدّ أوفى الأنظمة الكتابية وأكثرَها رُقِيًّا ونُضْجًا وكَمَالًا؛ فهو يحقق إلى حدٍّ كبيرٍ المطابقةَ بين المنطوق والمكتوب، ويتميز بكثرة حروفِه المكتوبة، وكل حرف منطوق يقابله رمز واحد مكتوب، ولا يتغير كثير بتغيُّرِ أحوالِه، كما يتميز النظام الكتابي للعربية بعلاماته التي تتنوع بين علاماتٍ تمييزية تميز الحروف المتشابهة في الصورة، وعلاماتٍ صوتية تعبِّرُ عن الأصوات المختلفة التي تقارِنُ الحرفَ، كالفتحة والضمة والكسرة والسكون وغيرها، وغير ذلك من العلامات.
بينما نرى في اللغات الأخرى أنها يكثر فيها الزيادات التي لا تنطق، ويعبَّر فيها عن بعض الأصوات برمزين أو أكثر، وتختلف أصوات الحروف باختلاف مواقعها، ولا يوجد فيها علامات تعبِّر عن الحركات ولا عن الإعراب، إلى غير ذلك من عيوب أنظمتها الكتابية.
مثلا في الإنجليزية نرى أن كلمة (couph) تكتب بخمسة حروف وتنطق بحرفين، وحرف (c) ينطق بأكثر من صوت بحسب مكانه وما يجاوره من أصوات، ويتداخل مع حرف (K) في بعض التراكيب، وصوت الثاء يعبر عنه بـ(th)، وحرف الفاء تارة يعبر عنه بالحرف (F) وتارة (ph)، ونجد فيها كلمات تتشابه في النطق وتختلف في المعنى والبناء والكتابة.
* الثبات، التأثير في اللغات الأخرى:
من قوة العربية وشموخها أنها أثّرت في كثير من اللغات الأخرى، ولا سيما في حقبة الفتوحات، فانتشرت المفردات العربية في اللغة الفارسية، والأسبانية، والتركية، وغيرها.
في حين أنها على كثرةِ ما اختلطت به من اللغات كان تأثير اللغات الأخرى فيها قليلًا؛ لأنها لغة محفوظة بحفظ الله، وقد قيّض الله لها من العلماء من كتبوا فيها كتابات لا تجدها في أي لغة أخرى؛ فتناولوها من كل جوانبها: الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية، والأسلوبية، والكتابية، ولم يتركوا شيئًا من جوانبها وقضاياها إلا بحثوا فيه وتركوا فيه كتاباتٍ.
* القِدَم والأصالة:
اللغة العربية موغلة في القِدَم، بل إن بعض الباحثين ذكر أن العربية هي أقدم اللغات، وذهب بعضهم إلى أنها أم اللغات كلها.
بينما لو نظرنا إلى لغة مثل الإنجليزية الحديثة لا يتجاوز عمرها نحو 500 عام، بل إن شكلها المعروف اليوم فيعود تاريخه إلى أواخر القرن السابع عشر!
أفبعد كل هذا يتركُ هذه اللغةَ العظيمةَ أبناؤها؟!
وما أجمل ما قاله حافظ إبراهيم على لسان العربية، وهو يغنيني عن قولِ كثير من الكلام:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني ... عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالاً وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ... وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغوص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني ... ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة ... وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا ... فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياني
....... إلى أن قال:
أيهجرني قومي عفا الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الأعجام فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لاقيامة بعده ... ممات لنعمري لم يقس بممات
نسأل الله أن يردنا إلى لغتنا ردا جميلًا، وأن يجعلنا من جنودها وحماتها، إن ربنا لسميع الدعاء.
كتبه
علي المالكي