بسم الله الرحمن الرحيم
{{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}} [المائدة: 3] فقد نزلت بعرفة عام حجة الوداع.
* * *
{{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا *قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَناً *مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا *}}
. قوله تعالى:{ } هو وصفُ المحمود بالكمال محبة وتعظيماً، وبقولنا محبةً وتعظيماً خرج المدح؛ لأن المدح لا يستلزم المحبة والتعظيم، بل قد يَمدح الإنسان شخصاً لا يساوي فلساً ولكن لرجاء منفعة أو دفع مضرة، أما الحمد فإنه وصف بالكمال مع المحبة والتعظيم. { {لِلَّهِ}} هذا اسمٌ عَلَمٌ على الله مُختَصٌّ به لا يوصف به غيره، وهو عَلَمٌ على الذات المقدَّسة تبارك وتعالى. { {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} } جملة: { {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ} } هل هي خَبَرٌ، أراد الله سبحانه وتعالى أن يُخبر عباده بأنه محمود، أو هي إنشاءٌ وتوجيهٌ على أنَّنا نحمدُ الله على هذا، أو الجميع؟ الجواب: الجميع، فهو خبرٌ من الله عن نفسه، وهو إرشادٌ لنا أن نَحمدَ الله عزّ وجل على ذلك. { {عَبْدِهِ} } يعني مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، وَصَفَهُ تعالى بالعبودية؛ لأنه أعبَدُ البَشَر لله عزّ وجل. وقد وصَفَه تعالى بالعبودية في حالات ثلاث: 1 ـ حالِ إنزال القرآن عليه كما في هذه الآية. 2 ـ في حالِ الدفاعِ عنهُ صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}} [البقرة: 23] . 3 ـ وفي حالِ الإسراءِ به، قال تعالى: {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *}} [الإسراء: 1] ، يعني في أشرف مقاماتِ النبي صلّى الله عليه وسلّم وَصفهُ الله سبحانه وتعالى بأنه عبدٌ، ونِعمَ الوصفُ أن يكون الإنسانُ عبداً لله، حتى قال العاشق في معشوقته:
لا تدعُني إلاَّ بيا عَبدَها***فإنه أشرف أسمائي
وليس كل خلاف جاء معتبراً***إلاَّ خلافاً له حظٌّ من النَّظرِ
* * *
{{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا *مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا *}}
. قوله تعالى: { {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا *} } كالإيضاح لما أبهم في الآية السابقة، فيه إنذار لمثل النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، ولليهود الذين قالوا: العُزير ابن الله، وللمشركين الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله. والعزير ليس بنبي ولكنه رجل صالح. { {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا *} } أي بالولد أو بالقول، { {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا *} } أي بهذا القول، أو { {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا *} } أي بالولد { {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا *} } فإذا انتفى العلم ما بقي إلاَّ الجهل. { {وَلاَ لآِبَائِهِمْ} } الذين قالوا مثل قولهم، ليس لهم في ذلك علم، ليسَ هناك إلاّ أوهام ظنوها حقائق وهي ليست علوماً. { {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} } قد يُشكل على طالب العلم نَصْبُ { {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} }. والجواب: { {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} } تمييز والفاعل محذوف والتقدير «كبرت مقالتهم كلمةً» تخرج من أفواههم: أي عَظُمت لأنها عظيمة والعياذ بالله، كما قال تعالى: { نْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 90 ـ 93] . يعني: مستحيل غاية الاستحالة أن يكون له ولد. فإن قال قائل: «أليس الله يقول: {{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ *}} [الزخرف: 81] ». الجواب: نعم. ولكن التعليق بالشرط لا يدل على إمكان المشروط، لأننا نفهم من آيات أخرى أنه لا يمكن أن يكون وهذا كقوله تعالى للرسول صلّى الله عليه وسلّم: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [يونس: 94] وهو صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يَشك، ولكن على فرض الأمر الذي لا يقع، كقوله تعالى: {{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ *}} [الأنبياء: 22] . فإنه لا يمكن أن يكون فيهما آلهة سوى الله عزّ وجل، فتبين بهذا أن التعليق بالشرط لا يدل على إمكان المشروط، بل قد يكون مستحيلاً غاية الاستحالة. قوله: { {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} } هل لنا أن نستفيد من قوله: { {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} } أن هؤلاء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم لا يستيقنون أن لله ولداً؛ لأن أي عاقل لا يمكن أن يقول إن لله ولداً، فكيف يمكن أن يكون لله ولدٌ، وهذا الولد من البشر نراه مثلنا يأكل ويشرب ويلبس، ويلحقه الجوع والعطش والحر والبرد، كيف يكون ولدٌ لله تعالى؟ هذا غير ممكن؛ ولذلك قال: { {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} } «إن» بمعنى «ما» ومن علامات «إن» النافية أن يقع بعدها «إلاَّ» {{إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ *}} [فاطر: 23] ، {{إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}} [المائدة: 110] . { {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} } أي ما يقول هؤلاء إلاَّ كذباً. والكذب: هو الخبر المخالف للواقع، والصدق: هو الخبر المطابق للواقع، فإذا قال قائل: «قدِم فلانٌ اليوم» وهو لم يَقدُم، فهذا كذب سَواءٌ علم أم لم يعلم، ودليل ذلك قصة سُبَيْعةَ الأسلمِيَّةِ رضي الله عنها حينما مات عنها زوجها وهي حامل فوضعت بعد موته بليالٍ ثم خلعت ثياب الحداد، ولبست الثياب الجميلة تريد أن تُخطَب، فدخل عليها أبو السنابل فقال لها: «ما أنت بناكح حتى يأتي عليك أربعةُ أشهر وعشر»، لأنها وضعت بعد موت زوجها بنحو أربعين ليلة أو أقل أو أكثر، فلبست ثياب الإحداد ثم أتت إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بالخبر فقال لها: «كذب أبو السنابل» [( 2 )]، مع أن الرجل ما تعمد الكذب، يظن أنها تعتدُ بأطول الأجلين، فإن بقيت حاملاً بعد أربعةِ أشهر وعشر بقيت في الإحداد حتى تضع، وإن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر بقيت في الإحداد حتى تتم لها أربعةُ أشهر وعشر، تعتد أطول الأجلين، ولكن السنَّة بينت أن الحامل عِدَّتُها وضع الحمل ولو دون أربعةِ أشهر، فالشاهد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أطلق على قول أبي السنابل «كَذب» مع أنه لم يتعمد.
* * *
___________
ـ[1] رواه مسلم: كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قَدَرِ الله سبحانه وتعالى...، ( 8 ) ( 1 ). ـ[2] أخرجه الإمام أحمد ( 4273 ) وغيره وأصله في الصحيحين.
تعليق