الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، والتابعين وسلم إلى يوم الدين
أما بعد،
قال المصنف، رحمه الله:" وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) [النساء: 59] فَأَمَرَ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَأَعَادَ الْفِعْلَ إعْلَامًا بِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ تَجِبُ اسْتِقْلَالًا مِنْ غَيْرِ عَرْضِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، بَلْ إذَا أَمَرَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ اسْتِقْلَالًا، بَلْ حَذَفَ الْفِعْلَ وَجَعَلَ طَاعَتَهُمْ فِي ضِمْنِ طَاعَةِ الرَّسُولِ؛ إيذَانًا بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُطَاعُونَ تَبَعًا لِطَاعَةِ الرَّسُولِ، فَمَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَمَنْ أَمَرَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ كَمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ" وَقَالَ: "إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" وَقَالَ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ: "مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ" .
وَقَدْ "أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الَّذِينَ أَرَادُوا دُخُولَ النَّارِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ بِدُخُولِهَا: "إنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا" مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَدْخُلُونَهَا طَاعَةً لِأَمِيرِهِمْ، وَظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَبَادَرُوا إلَى طَاعَةِ مَنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَحَمَلُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ الْآمِرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ إرَادَةُ خِلَافِهِ، فَقَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَعْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِهْلَاكِهَا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَتَبَيُّنٍ هَلْ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أَطَاعَ غَيْرَهُ فِي صَرِيحِ مُخَالَفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي الْعَاقِبَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أُمُورًا:
مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْمَلُ الْأُمَّةِ إيمَانًا، وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّه لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، بَلْ كُلُّهُمْ عَلَى إثْبَاتِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، لَمْ يَسُومُوهَا تَأْوِيلًا، وَلَمْ يُحَرِّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلًا، وَلَمْ يُبْدُوا لِشَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالًا، وَلَا ضَرَبُوا لَهَا أَمْثَالًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا فِي صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ حَقَائِقهَا وَحَمْلِهَا عَلَى مَجَازِهَا، بَلْ تَلْقَوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَابَلُوهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ، وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِيهَا كُلِّهَا أَمْرًا وَاحِدًا، وَأَجْرَوْهَا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَيْثُ جَعَلُوهَا عِضِينَ، وَأَقَرُّوا بِبَعْضِهَا وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ، مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ كَاللَّازِمِ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ وَأَثْبَتُوهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ تَنَازُعُهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا شَرَطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء: 59] وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) [النساء: 59] نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجِلِّهِ، جَلِيِّهِ وَخَفِيِّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيَانُ حُكْمِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَافِيًا لَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَيْهِ؛ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ النِّزَاعِ إلَى مَنْ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَضْلُ النِّزَاعِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّدُّ إلَيْهِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الرَّدَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا الرَّدُّ انْتَفَى الْإِيمَانُ؛ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ، وَلَا سِيَّمَا التَّلَازُمُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ أَحْسَنُ عَاقِبَةً، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَحَاكَمَ أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَدْ حَكَّمَ الطَّاغُوتَ وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ، وَالطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ؛ فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مِنْ يَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنْ اللَّهِ، أَوْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ؛ فَهَذِهِ طَوَاغِيتُ الْعَالَمِ إذَا تَأَمَّلْتَهَا وَتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْت أَكْثَرَهُمْ [عَدَلُوا] مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَعَنْ التَّحَاكُمِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ إلَى التَّحَاكُمِ إلَى الطَّاغُوتِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ إلَى طَاعَةِ الطَّاغُوتِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ النَّاجِينَ الْفَائِزِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ - وَلَا قَصَدُوا قَصْدَهُمْ، بَلْ خَالَفُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَالْقَصْدِ مَعًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي، وَرَضُوا بِحُكْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَبَصَائِرهمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ إعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَحْكِيمِ غَيْرِهِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [المائدة: 49] اعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَصَدُوا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ، أَيْ بِفِعْلِ مَا يُرْضِي الْفَرِيقَيْنِ وَيُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرُومُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا خَالَفَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ قَاصِدٌ الْإِصْلَاحَ وَالتَّوْفِيقَ، وَالْإِيمَانُ إنَّمَا يَقْتَضِي إلْقَاءَ الْحَرْبِ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ كُلِّ مَا خَالَفَهُ مِنْ طَرِيقَةٍ وَحَقِيقَةٍ وَعَقِيدَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَرَأْيٍ؛ فَرَخَّصَ الْإِيمَانُ فِي هَذَا الْحَرْبِ لَا فِي التَّوْفِيقِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ." اه
---------------------------
المصدر: كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، للعلامة ابن قيم الجوزية، رحمه الله
منقول من موقعه على الشبكة العالمية
أما بعد،
قال المصنف، رحمه الله:" وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) [النساء: 59] فَأَمَرَ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَأَعَادَ الْفِعْلَ إعْلَامًا بِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ تَجِبُ اسْتِقْلَالًا مِنْ غَيْرِ عَرْضِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، بَلْ إذَا أَمَرَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ اسْتِقْلَالًا، بَلْ حَذَفَ الْفِعْلَ وَجَعَلَ طَاعَتَهُمْ فِي ضِمْنِ طَاعَةِ الرَّسُولِ؛ إيذَانًا بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُطَاعُونَ تَبَعًا لِطَاعَةِ الرَّسُولِ، فَمَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَمَنْ أَمَرَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ كَمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ" وَقَالَ: "إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" وَقَالَ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ: "مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ" .
وَقَدْ "أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الَّذِينَ أَرَادُوا دُخُولَ النَّارِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ بِدُخُولِهَا: "إنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا" مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَدْخُلُونَهَا طَاعَةً لِأَمِيرِهِمْ، وَظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَبَادَرُوا إلَى طَاعَةِ مَنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَحَمَلُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ الْآمِرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ إرَادَةُ خِلَافِهِ، فَقَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَعْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِهْلَاكِهَا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَتَبَيُّنٍ هَلْ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أَطَاعَ غَيْرَهُ فِي صَرِيحِ مُخَالَفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي الْعَاقِبَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أُمُورًا:
مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْمَلُ الْأُمَّةِ إيمَانًا، وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّه لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، بَلْ كُلُّهُمْ عَلَى إثْبَاتِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، لَمْ يَسُومُوهَا تَأْوِيلًا، وَلَمْ يُحَرِّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلًا، وَلَمْ يُبْدُوا لِشَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالًا، وَلَا ضَرَبُوا لَهَا أَمْثَالًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا فِي صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ حَقَائِقهَا وَحَمْلِهَا عَلَى مَجَازِهَا، بَلْ تَلْقَوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَابَلُوهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ، وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِيهَا كُلِّهَا أَمْرًا وَاحِدًا، وَأَجْرَوْهَا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَيْثُ جَعَلُوهَا عِضِينَ، وَأَقَرُّوا بِبَعْضِهَا وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ، مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ كَاللَّازِمِ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ وَأَثْبَتُوهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ تَنَازُعُهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا شَرَطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء: 59] وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) [النساء: 59] نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجِلِّهِ، جَلِيِّهِ وَخَفِيِّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيَانُ حُكْمِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَافِيًا لَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَيْهِ؛ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ النِّزَاعِ إلَى مَنْ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَضْلُ النِّزَاعِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّدُّ إلَيْهِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الرَّدَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا الرَّدُّ انْتَفَى الْإِيمَانُ؛ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ، وَلَا سِيَّمَا التَّلَازُمُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ أَحْسَنُ عَاقِبَةً، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَحَاكَمَ أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَدْ حَكَّمَ الطَّاغُوتَ وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ، وَالطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ؛ فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مِنْ يَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنْ اللَّهِ، أَوْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ؛ فَهَذِهِ طَوَاغِيتُ الْعَالَمِ إذَا تَأَمَّلْتَهَا وَتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْت أَكْثَرَهُمْ [عَدَلُوا] مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَعَنْ التَّحَاكُمِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ إلَى التَّحَاكُمِ إلَى الطَّاغُوتِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ إلَى طَاعَةِ الطَّاغُوتِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ النَّاجِينَ الْفَائِزِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ - وَلَا قَصَدُوا قَصْدَهُمْ، بَلْ خَالَفُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَالْقَصْدِ مَعًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي، وَرَضُوا بِحُكْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَبَصَائِرهمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ إعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَحْكِيمِ غَيْرِهِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [المائدة: 49] اعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَصَدُوا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ، أَيْ بِفِعْلِ مَا يُرْضِي الْفَرِيقَيْنِ وَيُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرُومُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا خَالَفَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ قَاصِدٌ الْإِصْلَاحَ وَالتَّوْفِيقَ، وَالْإِيمَانُ إنَّمَا يَقْتَضِي إلْقَاءَ الْحَرْبِ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ كُلِّ مَا خَالَفَهُ مِنْ طَرِيقَةٍ وَحَقِيقَةٍ وَعَقِيدَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَرَأْيٍ؛ فَرَخَّصَ الْإِيمَانُ فِي هَذَا الْحَرْبِ لَا فِي التَّوْفِيقِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ." اه
---------------------------
المصدر: كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، للعلامة ابن قيم الجوزية، رحمه الله
منقول من موقعه على الشبكة العالمية