=تفسير سورة ق
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى وأشكره وقد تأذن بالزيادة للشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى كل من دعا بدعوته وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول الله سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ* يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ))[ق:1-45]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول الله سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ* يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ))[ق:1-45]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى كل من دعا بدعوته وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
عباد الله: ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن أم هانئ بنت الحارث قالت: [ ما أخذت (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ))[ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرؤها كل جمعة إذا خطب الناس ]
لقد أخذ العلماء من هذا مشروعية وجوب قراءة القرآن في الخطبة سورة أو آيات أو على الأقل آية مفيدة، وأخذوا منه أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يتحرى في خطبه ما فيه لمس للقلوب وعظة لها وتذكير لها، بل وزجر لها ووعيد شديد، ففيها فقد كان كثيراً ما يجعل هذه السورة موضوعاً ومادة لخطبته عليه الصلاة والسلام.
ولا غرو أيها الأخوة ولا جرم فهذه سورة عظيمة، سورة اشتملت على أمور نحتاج إلى أن نذكر بها، ففي مقطعها الأول في قرابة الثلث منها ركزت الآيات الكريمة على ضرورة الإيمان بالبعث بل والتذكير بالبعث والنشور، (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا )) [ق:1-3] وتقام على هذا الأدلة والحجج بما يخاطب النفوس ويناظر العقول، ويفتح أمام من أراد الله سعادته أن يسلك الطريق.
وتأتي الآيات تسدد البعث في النفوس وتقيم أدلته، وتعظ المؤمنين به وتذكرهم إلى قوله جل وعلا: ( أفعيينا بالخلق الأول ). هذا فيه ما يرجع به إلى ما حكاه الله عنهم: (( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ))[ق:3] قال: (( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ))[ق:15] ومثل هذا مع قوله تعالى: (( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[يس:79] ويأتي بعد هذا مقطع يثبت المعاني الأولى في النصوص، ويذكر النفوس بأنها متابعة مراقبة محسوب عليها حركاتها وسكناتها، بل وما يختلج في نفوسها، يقول سبحانه وتعالى: (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ))[ق:16-17] ملائكة تكتب أعمال الإنسان، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) رحماك اللهم يا رب، (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ))[ق:18].
ويذكر بما يعيشونه وما يشاهدونه من تخطف الموت لأقرانهم ولمن ولدوا قبلهم وبعدهم ولمن عايشوهم، تذكير فيه زجر ووعيد: (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))[ق:19]، جاء في الحديث: [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته يرفع السقاء ويمسح العرق، ويقول: إن للموت لسكرات ]، وكشفت عائشة رضي الله عنها عن أبيها أبي بكر وهو في سكرات الموت فتمثلت بقول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال رضي الله تعالى عنه: لا تقولي هذا، وقولي: (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ))[ق:19]
وقف أحد الأدباء على قبر زوجته كما يروي التاريخ، وعرض به من يظن أو يعلم فيه نقصاً: ماذا أعددت لهذا -يعني: الموت والقبر-؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين عاماً، ثم أطرق قليلاً وقال:
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى القبر مغلول القلادة أزرقا
أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
وعلى حكاية الرؤى حكي أنه رئي في المنام بعد الممات فسئل: ماذا وجت؟ فقال: بكلمتي يوم تقبر فلاناً، يقول هذه العظة، وقبلها وأجل منها قول الله: (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))[ق:19].
وينصب الميزان ويقضي الله بين العباد، ويأخذ المفرطون جزاءهم أمامهم جهنم تفتح فاغرة فاهها: (( إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ))[الفرقان:12] الملك الموكل بالأعمال يقدم الملف الذي لديه فيقول: (( هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ))[ق:23] فيقول الله: (( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ))[ق:24-25] اسمعوها يا أصحاب الأموال، وأرجو الله أن تكونوا مسلمين حقاً، وأن نعافى وإياكم من عذاب جهنم: (( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إلهاً آخر )) [ ق: 24-26] يعبده ويستغيث به وينذر له ويرجوه في الشدائد، إلهاً آخر اتخذه مصدر تشريع من دون الله رضاً بتشريعاته وطواعية واستمراءً، فهذا اتخذ مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد.
(( وَقَالَ قَرِينُهُ ))[ق:23] الأول الملك الذي قال: (( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ))[ق:23-24] (( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ))[ق:27] هذا هو الشيطان، شيطانه الموكل به يتخلى عنه في أحلك الظروف، بل ويسخر منه ويضحك عليه، (( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ))[إبراهيم:22] هذا هو الشيطان وهذه خطبته يوم القيامة فيمن أطاعه: (( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ))[إبراهيم:22].
(( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ))[ق:27] أي إنه كان لديه قابلية وميول ومحبة وهوى لما دعوته إليه، وبعد هذا الجنة مزلفة ... وتفتح أبوابها وتستقبل ضيوفها: (( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ))[الأحزاب:44]، (( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ))[ق:31-32] من إذا مسه نزغ من الشيطان رجع وأناب، من إذا ظلم نفسه ذكر الله فاستغفر لذنبه، (( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ))[ق:32] حافظ لشرع الله، حافظ للسانه من قول الزور، حافظ لاعتقاده من الشكوك والشبه، حافظ لفرجه من الوقوع في المحرمات، حافظ لمأكله من أن يأكل ما اشتبه أو ما حرم عليه، (( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ))[ق:32].
(( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ))[ق:33] بالغيب عندما تغيب أعين الناس وتراقبه عين الله ورعاية الله بل وهو في موقعه يخشى الله، (( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا ))[ق:32-34] يقال لهم هذا: (( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ))[ق:34] خلود استمرار لا انقطاع، خلود أبدي ونعيم سرمدي (( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ))[ق:34-35].
اللهم اجعلنا ممن يدخلها بسلام ووالدينا والمسلمين، (( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ))[ق:35].
ويأتي آخر السورة يربط أولها بآخرها ويقرب محورها الكلي وموضوعها ومادتها التي تقوم وتشتمل عليه في جملتها: (( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا ))[ق:36] إيماء إلى ما تقدم: (( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ))[ق:12] الآية، إيماء إلى الغابرين إلى الطاغين الذين لم يلتزموا كتاب الله وشرع الله وما أمروا به من الله، (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ))[ق:38] دليل يثبت الأدلة السابقة: (( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ))[ق:15].
(( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ))[ق:38-39] اصبر يا محمد على ما تسمعه، اصبر يا بني يا أيها المسلم يا أيها الشاب الذي شرح الله صدرك للإسلام وألزمك سنة خير الأنام، وأصبحت تتطلع إلى أن ترى الإنسانية جمعاً يحكمها كتاب الله ويسوسها شرع الله وتطبق فيها أحكام الله، وتزول فيها فرائق الجنس وفرائق القبيل وفرائق الفيز وفرائق.. وفرائق.. وتصبح أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، يا من هذه أمنيته وكلنا هذه أمنيته (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ))[ق:39-41].
أيها الإخوة في الله.. أيها المؤمنون: إن لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعل هذه السورة مادة للخطب لأمراً عظيماً، إنها لتخاطب القلوب، تخاطبها في البدء الأدلة وفي المرحلة الثانية بالقرع والتخويف والتهديد، وفي الثالثة ببيان الجزاء جزاء من استقام وجزاء من آمن، وتذكرهم بالآخرة وتعظهم، تذكر القلوب لترضى بحكم ربها ولتتعظ بمواعظ ربها، ولتكون إذا سمعت آيات الله أو فرائض الله تكون ممن ألقى السمع وهو شهيد، من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فيا عباد الله: اتقوا الله وتدبروا كتاب الله واستنوا بسنة رسول الله، وهيئوا أنفسكم وكأنكم تمرون بهذه المراحل مراحل الخلق الأول والبدء والمتابعة والموت ثم الجزاء.
(( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اشرح صدورنا بالإسلام، اللهم نور قلوبنا بالإيمان، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويتعظ بمواعظه ويجعله سلطاناً عليه....، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون (( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ))[النحل:91].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
عباد الله: ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن أم هانئ بنت الحارث قالت: [ ما أخذت (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ))[ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرؤها كل جمعة إذا خطب الناس ]
لقد أخذ العلماء من هذا مشروعية وجوب قراءة القرآن في الخطبة سورة أو آيات أو على الأقل آية مفيدة، وأخذوا منه أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يتحرى في خطبه ما فيه لمس للقلوب وعظة لها وتذكير لها، بل وزجر لها ووعيد شديد، ففيها فقد كان كثيراً ما يجعل هذه السورة موضوعاً ومادة لخطبته عليه الصلاة والسلام.
ولا غرو أيها الأخوة ولا جرم فهذه سورة عظيمة، سورة اشتملت على أمور نحتاج إلى أن نذكر بها، ففي مقطعها الأول في قرابة الثلث منها ركزت الآيات الكريمة على ضرورة الإيمان بالبعث بل والتذكير بالبعث والنشور، (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا )) [ق:1-3] وتقام على هذا الأدلة والحجج بما يخاطب النفوس ويناظر العقول، ويفتح أمام من أراد الله سعادته أن يسلك الطريق.
وتأتي الآيات تسدد البعث في النفوس وتقيم أدلته، وتعظ المؤمنين به وتذكرهم إلى قوله جل وعلا: ( أفعيينا بالخلق الأول ). هذا فيه ما يرجع به إلى ما حكاه الله عنهم: (( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ))[ق:3] قال: (( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ))[ق:15] ومثل هذا مع قوله تعالى: (( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[يس:79] ويأتي بعد هذا مقطع يثبت المعاني الأولى في النصوص، ويذكر النفوس بأنها متابعة مراقبة محسوب عليها حركاتها وسكناتها، بل وما يختلج في نفوسها، يقول سبحانه وتعالى: (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ))[ق:16-17] ملائكة تكتب أعمال الإنسان، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) رحماك اللهم يا رب، (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ))[ق:18].
ويذكر بما يعيشونه وما يشاهدونه من تخطف الموت لأقرانهم ولمن ولدوا قبلهم وبعدهم ولمن عايشوهم، تذكير فيه زجر ووعيد: (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))[ق:19]، جاء في الحديث: [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته يرفع السقاء ويمسح العرق، ويقول: إن للموت لسكرات ]، وكشفت عائشة رضي الله عنها عن أبيها أبي بكر وهو في سكرات الموت فتمثلت بقول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال رضي الله تعالى عنه: لا تقولي هذا، وقولي: (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ))[ق:19]
وقف أحد الأدباء على قبر زوجته كما يروي التاريخ، وعرض به من يظن أو يعلم فيه نقصاً: ماذا أعددت لهذا -يعني: الموت والقبر-؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين عاماً، ثم أطرق قليلاً وقال:
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى القبر مغلول القلادة أزرقا
أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
وعلى حكاية الرؤى حكي أنه رئي في المنام بعد الممات فسئل: ماذا وجت؟ فقال: بكلمتي يوم تقبر فلاناً، يقول هذه العظة، وقبلها وأجل منها قول الله: (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))[ق:19].
وينصب الميزان ويقضي الله بين العباد، ويأخذ المفرطون جزاءهم أمامهم جهنم تفتح فاغرة فاهها: (( إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ))[الفرقان:12] الملك الموكل بالأعمال يقدم الملف الذي لديه فيقول: (( هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ))[ق:23] فيقول الله: (( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ))[ق:24-25] اسمعوها يا أصحاب الأموال، وأرجو الله أن تكونوا مسلمين حقاً، وأن نعافى وإياكم من عذاب جهنم: (( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إلهاً آخر )) [ ق: 24-26] يعبده ويستغيث به وينذر له ويرجوه في الشدائد، إلهاً آخر اتخذه مصدر تشريع من دون الله رضاً بتشريعاته وطواعية واستمراءً، فهذا اتخذ مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد.
(( وَقَالَ قَرِينُهُ ))[ق:23] الأول الملك الذي قال: (( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ))[ق:23-24] (( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ))[ق:27] هذا هو الشيطان، شيطانه الموكل به يتخلى عنه في أحلك الظروف، بل ويسخر منه ويضحك عليه، (( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ))[إبراهيم:22] هذا هو الشيطان وهذه خطبته يوم القيامة فيمن أطاعه: (( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ))[إبراهيم:22].
(( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ))[ق:27] أي إنه كان لديه قابلية وميول ومحبة وهوى لما دعوته إليه، وبعد هذا الجنة مزلفة ... وتفتح أبوابها وتستقبل ضيوفها: (( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ))[الأحزاب:44]، (( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ))[ق:31-32] من إذا مسه نزغ من الشيطان رجع وأناب، من إذا ظلم نفسه ذكر الله فاستغفر لذنبه، (( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ))[ق:32] حافظ لشرع الله، حافظ للسانه من قول الزور، حافظ لاعتقاده من الشكوك والشبه، حافظ لفرجه من الوقوع في المحرمات، حافظ لمأكله من أن يأكل ما اشتبه أو ما حرم عليه، (( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ))[ق:32].
(( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ))[ق:33] بالغيب عندما تغيب أعين الناس وتراقبه عين الله ورعاية الله بل وهو في موقعه يخشى الله، (( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا ))[ق:32-34] يقال لهم هذا: (( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ))[ق:34] خلود استمرار لا انقطاع، خلود أبدي ونعيم سرمدي (( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ))[ق:34-35].
اللهم اجعلنا ممن يدخلها بسلام ووالدينا والمسلمين، (( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ))[ق:35].
ويأتي آخر السورة يربط أولها بآخرها ويقرب محورها الكلي وموضوعها ومادتها التي تقوم وتشتمل عليه في جملتها: (( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا ))[ق:36] إيماء إلى ما تقدم: (( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ))[ق:12] الآية، إيماء إلى الغابرين إلى الطاغين الذين لم يلتزموا كتاب الله وشرع الله وما أمروا به من الله، (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ))[ق:38] دليل يثبت الأدلة السابقة: (( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ))[ق:15].
(( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ))[ق:38-39] اصبر يا محمد على ما تسمعه، اصبر يا بني يا أيها المسلم يا أيها الشاب الذي شرح الله صدرك للإسلام وألزمك سنة خير الأنام، وأصبحت تتطلع إلى أن ترى الإنسانية جمعاً يحكمها كتاب الله ويسوسها شرع الله وتطبق فيها أحكام الله، وتزول فيها فرائق الجنس وفرائق القبيل وفرائق الفيز وفرائق.. وفرائق.. وتصبح أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، يا من هذه أمنيته وكلنا هذه أمنيته (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ))[ق:39-41].
أيها الإخوة في الله.. أيها المؤمنون: إن لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعل هذه السورة مادة للخطب لأمراً عظيماً، إنها لتخاطب القلوب، تخاطبها في البدء الأدلة وفي المرحلة الثانية بالقرع والتخويف والتهديد، وفي الثالثة ببيان الجزاء جزاء من استقام وجزاء من آمن، وتذكرهم بالآخرة وتعظهم، تذكر القلوب لترضى بحكم ربها ولتتعظ بمواعظ ربها، ولتكون إذا سمعت آيات الله أو فرائض الله تكون ممن ألقى السمع وهو شهيد، من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فيا عباد الله: اتقوا الله وتدبروا كتاب الله واستنوا بسنة رسول الله، وهيئوا أنفسكم وكأنكم تمرون بهذه المراحل مراحل الخلق الأول والبدء والمتابعة والموت ثم الجزاء.
(( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اشرح صدورنا بالإسلام، اللهم نور قلوبنا بالإيمان، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويتعظ بمواعظه ويجعله سلطاناً عليه....، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون (( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ))[النحل:91].
تعليق