ابن حزم وتقريره عن هم يوسف عليه السلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .. وبعد :
فإن موضوع هم نبي الله يوسف عليه السلام ، شغل حيزاً ليس بالهين بين العلماء والدعاة وطلاب العلم ، وبالتالي انتقل الخلاف إلى العامة من الناس ..
فأحببت في هذه المشاركة أن أنقل كلاما مهما للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى ..
ثم أعقب عليه – من عندي - بما يتناسب إن شاء الله تعالى ..
قال في كتابه الماتع الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/10) :
وأما قوله ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال : إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة !!
ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، فإن قيل : إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد ، قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس ، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به ..
لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين :
[ الأول ] : إما أنه هم بالإيقاع بها وضربها كما قال تعالى ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) [غافر-5 ] وكما يقول القائل لقد هممت بك ، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها ، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته ، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر القد من القميص .
[ والوجه الثاني ] : أن الكلام تم عند قوله ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول ..
[ ثم ذكر حديث أنس مرفوعاً ] : في قوله تعالى : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالها يوسف عليه السلام قال له جبريل يا يوسف اذكر همك ، فقال يوسف :( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) .
[ حديث أنس قال الألباني في السلسلة الضعيفة (4/455 رقم 1991) حديث منكر وقوله ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ) هو من تمام كلام امرأة العزيز وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه ابن كثير في تفسيره ] اهـ
فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ولكنه فيه أنه بأمرها وهذا حق كما قلنا ، فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معا ..
إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته وبرهان ربه ها هنا هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذيلة عن مثل المقام فيهلك وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما : هذه صفية [ حديث صحيح ] ..
[ مهم ] قال أبو محمد :
ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ) فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء ؟ فلا بد أنه سوء ، ولو قال أنه ليس بسوء لعاند الإجماع ، فإذاً هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين .
وأيضا فإنها قالت ( قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً ) وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق ( وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ) فصح أنها كذبت بنص القرآن وإذا كذبت بنص القرآن فما أراد بها سوء فما هم بالزنا قط ، ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جداً ..
وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال ( وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) فصح عنه أنه قط لم يصب إليها .
وبالله تعالى التوفيق . اهـ
انتهى كلامه رحمه الله تعالى ..
وفيه تقرير قوي في تبرئة نبي الله يوسف من الهم بالفاحشة ، خلافاً لكثير من المفسرين وغيرهم من العلماء الذين تكلموا عن هذه الآية الكريمة ..
وعلى ضوء كلامه – رحمه الله - نبين بعض المسائل ..
- أن آية الهم ، لابد وأن تفهم من خلال السياق القرآني للقصة ..
فمن قال أنه هم بها أي أراد ما دعته إليه ، أو جال بخاطره انسياباً مع الفطرة ، وأن هذا الهم لا يؤاخذ عليه لأنه لم يتمه وبالتالي فهو مثاب عليه ..
- فهذا جميل ، والأجمل منه أن نثبت عصمته من الهم بالفاحشة لجلالة مقام النبوة .
- وقد قال جمهور السلف أو كادوا أن يجمعوا على أنه ما زنت امرأة نبي قط ، وبالتالي أجدر ألا يجول بخواطرهم مثل هذا .. فالقول به في حق الأنبياء آكد وأولى.
- ومما لا شك فيه أن موقف يوسف عليه السلام من المرأة أشهر ما في قصته .. وهو مثار الاختلاف العريض المنثور في المصنفات ..
فإذا أراد الله أن يضرب لهذا النوع مثلا يحكى ، ويتعبد بتلاوته آبد الدهر ، ويقتدى بما فيه من عبرة ، فلا محيص من أن يختار أعلاه سمواً ورفعة وطهراً ..
- وهذا ليس تخرصاً ، ولا ضربا من الغيب .. وإنما بتفسير كلام الله بعضه ببعض..
- فلو فرضنا جدلاً : أن ننسى كل تفسير سمعناه من قبل في موضوع الهم ..
فلننظر الآن بعين الإنصاف ..
- الهم يكون قبل الفعل أم بعده ؟
الإجابة المتفق عليها بين جميع العقلاء أن الهم قبل الفعل ..
إذاً فالسياق ذكر بوضوح أن موقف المراودة هو الفعل وقد تم وانتهى ، وقد كملت فيه جميع عناصر الفعل ، ففيه دعوة المرأة ليوسف إلى الفاحشة صراحة ، فعلاً وقولاً ..
قال تعالى : ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )
أَي المرأة راودت يُوسُف حِين بلغ مبلغ الرِّجَال .. والمراودة الْإِرَادَة والطلب بِرِفْق ولين { الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا } أَي امْرَأَة الْعَزِيز { وغلقت الْأَبْوَاب } أَي أطبقتها { وَقَالَت هيت لَك } أَي هَلُمَّ وتعال وأقبل ..
فهي ( راودته .. وغلقت .. وقالت .. )
وذكر الله موقفه الرافض لتلك الفاحشة مبرراً بأمرين :
استعاذته بالله من فعل مشين في حق سيده الذي رباه وأكرمه ..
وأن هذا فعل الظالم الجهول وليس فعل العاقل السوي ..
ومن قال أن معنى ربي هنا هو سيده لا يمنع منه مانع ومن أعاد ضمير إنه إلى لفظ الجلالة لم يكن مخطئا أيضا ، غير أن كلمة مثواي جاءت على لسان سيده من قبل ولفظ الجلالة جاء صريحا في قوله معاذ الله ، فكون ربي يراد به سيده أليق بالسياق..
وعلى كل : فهذا موقف صريح في أن الدعوة إلى الفاحشة والعمل لها والتصريح بها وكذا رفض نبي الله يوسف لها ووعظ المرأة وتذكيرها بعاقبة مثل هذا الفعل المشين المنكر ..
وفي معنى المراودة ذكر رشيد رضا في المنار قول الرَّاغِبُ الأصفهاني :
الْمُرَاوَدَةُ أَنْ تُنَازِعَ غَيْرَكَ فِي الْإِرَادَةِ فَتُرِيدُ غَيْرَ مَا يُرِيدُ ، أَوْ تَرُودُ غَيْرَ مَا يَرُودُ .
كَأَنَّ الْمَعْنَى خَادَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ ، أَيْ فَعَلَتْ مَا يَفْعَلُ الْمُخَادِعُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ ، يَحْتَالُ أَنْ يَغْلِبَهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَهُ مِنْهُ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحَيُّلِ لِمُوَاقَعَتِهِ إِيَّاهَا . انْتَهَى . وَلَوْ رَأَتْ مِنْهُ أَدْنَى مَيْلٍ إِلَيْهَا وَهِيَ تَخْلُو بِهِ فِي مَخَادِعِ بَيْتِهَا لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى مُخَادَعَتِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ . اهـ
فأي قائل بعد ذلك يقول أن الهم هنا هو الهم بالفاحشة ، فقد خالف صريح القرآن ، الذي صرح بانتهاء موقف الفعل ..
- إذاً : فلكي نعرف معنى هذا الهم ؟ لابد من تعمق النظر والملاحظة ..
ونرى الجميع تذهب أذهانهم إلى أن هذا الهم هو حديث النفس وما يجول في الخاطر .
وكأنه ليس له معنى آخر ..
لك أن تذكر الآية التي ذكرها ابن حزم وهي قوله تعالى : ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) [ غافر-5 ] .. هل هذا هم خاطر وحديث نفس ، أم هم فعل ؟
وقوله تعالى : ( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [ التوبة- 13 ] هل هذا هم خاطر وحديث نفس ، أم هم فعل ؟
وقال تعالى : ( يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ) [ التوبة- 74 ] هل هذا هم خاطر وحديث نفس ، أم هم فعل ؟
فالهم كما جاء في اللغة أنه حديث النفس والخاطر ، ففي اللغة أيضاً ، يقال : هَمَمْتُ بفلان ، أي : قصدته ودفعته ..
- في حين أن أكثر المفسرين ومنهم شيخ الإسلام قال في الفتاوى (10/296) :
َالْهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْهَمُّ هَمَّانِ : هَمُّ خَطَرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ .. وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا . اهـ
فهذا على أساس أن الهم هنا هو هم الخطرات .. يعني أنه عليه السلام جال في خاطره أن يطاوعها إلى فعل الفاحشة ..
فيقال : هل الأفضل أن ننسب لنبي الله التفكير في الزنا وجولانه في خاطره ولو للحظة ، أم نقول بقول ابن حزم أنه ما هم بالفاحشة قط ؟
ما الذي يلجئنا أن نقول بأنه هم بالفاحشة ؟
أليس في النص الصريح أن الله برأه من السوء والفحشاء ؟
وهل هناك سوء أكثر من الهم بالفاحشة ، وأي فاحشة هي تلك ؟
ونلاحظ أن كلمتي السوء والفحشاء الألف واللام فيهما جاءتا للاستغراق التام ، وكأن المنفي أي سوء أو فحشاء ولو كان هماً في الخاطر والنفس لم يتجاوز الفعل ..
وهذا أكمل في باب العصمة كما هو ظاهر ..
- لماذا نقول أن الهم في هذه الآية – على الأقل في حق يوسف – ليس هما بالفاحشة مع أنه مقتضى الفطرة والطبيعة ؟
نقول - كما ذكره ابن حزم أعلاه – القرآن هو الذي صرح بأن هم نبي الله يوسف ليس هما بالفاحشة .. والسبيل إلى معرفة ذلك بتساؤل بسيط :
هل الهم بالفاحشة سوءٌ أم ليس بسوء ؟
الشرع والعقل والفطرة يقولان أن الهم بالفاحشة سوء مؤكد ، ولكن لا يقع عليه عقاب ما لم يفعله .
- ونحن إذ قررنا ذلك ، نضع قول الله تبارك وتعالى أمام أعيننا لنبصر طهارة نبي الله يوسف من الهم بالفاحشة ..
قال تعالى : ( رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )
وأنا أعرض الآية على هذا النحو لكي لا نتشوش برأي من قال بالتقديم والتأخير في جواب لولا .. و لكي ننهي هذه المسألة أنقل فقط كلاما قيما لابن القيم ..
قال في الصواعق المرسلة (2/716) : وأما ما يدعى من التقديم والتأخير في قوله ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) وأن هذا قد تقدم فيه جواب لولا عليها فهذا أولا لا يجيزه النحاة ولا دليل على دعواه ولا يقدح في العلم بالمراد . اهـ
- إذاً : المتحقق يقينا بنص القرآن ، أن نبي الله يوسف رأى برهان ربه – أيا كان هو لنخرج من الخلاف – فصرف الله عنه السوء والفحشاء إذ إنه من عباد الله المخلصين.
والمخلصين بالفتح أي المصطفين وبالكسر من الإخلاص ..
قال القرطبي : وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " المخلصين " بكسر اللام ، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله .
وقرأ الباقون بفتح اللام ، وتأويلها : الذين أخلصهم الله لرسالته ، وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين ، لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى ، مستخلصا لرسالة الله تعالى . اهـ
فوصفه بالإخلاص ها هنا أكبر دليل على أنه ما هم بالفاحشة قط ..
فالإخلاص عمل قلبي لا يطلع عليه إلا الله ، والهم بالفاحشة ينافي الإخلاص بداهة ..
والخطرات والهم لا شك انه من إغواء الشيطان .. وقد قال الله تعالى عنه مقسماً :
( َلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) [ الحجر-40 / ص-83 ]
وقد وصف الله يوسف بأنه من المخلصين .. فبمعادلة يسيرة تظهر النتيجة ..
وهذا وحده جوابا كافيا للرد على من قال أنه هم بالفاحشة بالطبع والفطرة ..
ولو أضفنا أن الهم بالفاحشة هو السوء بعينه ، وقد برأه الله من السوء بالنص الصريح الواضح والذي لا يحتاج إلى تأويل أو تكلف .
- وفي مقام النبوة وجلالة أمرها :
يقول الإمام ابن العربي في أحكام القرآن (5/39) : أنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ إبَّانَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لِتَكُونَ لَهُ سَبَبًا لِلْعِصْمَةِ . اهـ
أي أنه أوتي العلم والحكمة من قبل الله قبل هذه الحادثة ..
ولن نخوض في موضوع عصمة الأنبياء ..
وإنما نتساءل : هل يصح أن نجوز عليه أنه هم بخاطره بفعل الفاحشة ؟
لو قلنا أنه يجوز في حق الأنبياء .. فهل يساعدنا سياق القصة على فهم هذا ؟
يقول شيخ الإسلام قال في مجموع الفتاوى (10/296) :
وَأَمَّا يُوسُفُ الصِّدِّيقُ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ ذَنْبًا فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُنَاسِبُ الذَّنْبَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ .. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ سُوءٌ وَلَا فَحْشَاءُ .
وقال في قاعدة في المحبة (1/77) : فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء ومن السوء عشقها ومحبتها ومن الفحشاء الزنا وقد يزني بفرجه من لا يكون عاشقا وقد يعشق من لا يزني بفرجه والزنا بالفرج أعظم من الإلمام بصغيرة كنظرة وقبلة . اهـ
وهذا كلام صحيح ، ولكن لو استبدلنا قوله أعلاه :
ومن السوء عشقها ومحبتها .. إلى قول : ومن السوء الهم بفعل الفاحشة .
ترى ماذا يقول أي عاقل عن هذا الافتراض ؟ وهو ما اختاره ابن حزم أعلاه .
- وأمر آخر ..
أن امرأة العزيز قالت أمام النسوة : ( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ )
وقالت أمام الملك : ( أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ )
وقال يوسف عن نفسه وهو الصديق : ( قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي )
انظر كيف ذكرت النفس ثلاث مرات في موقف التبرئة الصريحة ..
فإذا كان الهم معناه حديث النفس .. فكيف نوجه هاته الآيات الثلاث في تبرئته ؟
فهذا أيضا رد على من زعم أن نفسه همت بفعل الفاحشة .
ولكي نصل إلى حقيقة الهم
نضع أمام أعيننا أن موقف المراودة سبق موقف الهم .. كما هو ظاهر في السياق القرآني للقصة .. والمراودة فيها التصريح بالفعل قولا وفعلا منها ، وجاء منه الرد الواضح الصريح في عدم مشاركتها فيما أقدمت عليه ..
- فإذا جاء موقف الهم ، لا نقول هو هم بالفعل لأنه بشر والهم ليس بذنب ما لم يقع !!
ولكن نقول أن الهم من الطرفين ها هنا ، واضح أنه في أمر آخر بعد وقوع التصريح بالفاحشة من المرأة ..
- فالهم أصبح في هذه المرحلة المتأخرة ، هم مدافعة ومجاذبة أو ضرب ، هي تفعل به ذلك لإبائه ورفضه دعوتها للفاحشة ، وهو يفعل بها ذلك محاولا الهرب والنجاة ثم بعد ذلك ( واستبقا الباب )..
- ثم ننظر بدقة إلى كلمة المراودة والتي تعني : الْإِرَادَة والطلب بِرِفْق ولين ..
وننظر إلى موقف المسابقة الآتي ، وهو الحركة من الطرفين في اتجاه واحد بنيتين مختلفتين ..
يتبين لك أن الهم منهما ، هو هم مدافعة ومجاذبة وشد أو ضرب .. كل حسب مطلبه .
وهذا التفسير يؤكده السياق ولأن الهم يسبق الفعل بداهة .. ولا يقال فعلت ثم همت.
وأجمل ما فيه أنه قرر العصمة حتى من الهم بالفاحشة ..
موقف المسابقة:
وعلى ضوء ما سبق ننظر بعين الإنصاف في موقف المسابقة ..
قال تعالى : ( وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
- يقول صديق خان ملك بهوبال في حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة (1/113) : قَالَ تَعَالَى { واستبقا الْبَاب } أَي تسابقا .. وَوجه تسابقهما أَن يُوسُف أَرَادَ الْفِرَار وَالْخُرُوج من الْبَاب وَامْرَأَة الْعَزِيز أَرَادَت أَن تسبقه إِلَيْهِ لتمنعه عَن الْفَتْح وَالْخُرُوج قَالَ السُّيُوطِيّ بَادر إِلَيْهِ يُوسُف للفرار وَهِي للتشبث بِهِ فَأَمْسَكت ثَوْبه .. { وقدت } أَي جذبت قَمِيصه { من دبر } من وَرَائه فانشق إِلَى أَسْفَله { وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب } أَي وجدا الْعَزِيز هُنَالك { قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا } من الزِّنَا وَنَحْوه وَقَالَت هَذِه الْمقَالة طلبا للحيلة وللستر على نَفسهَا فنسبت مَا كَانَ مِنْهَا إِلَى يُوسُف { إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم } هُوَ الضَّرْب بالسياط وَالظَّاهِر أَنه مَا يصدق عَلَيْهِ الْعَذَاب الْأَلِيم من ضرب أَو غَيره وَفِي الْإِبْهَام زِيَادَة تهويل . اهـ
- هذا الموقف الخطير يصور لك أمراً في غاية الظهور ..
وهو أن يوسف أدرك ببرهان الله له ، أن مكثه في مسرح الجريمة هو أكبر إدانة له .
وأن التشابك مع المرأة في مدافعة ومجاذبة أو ضرب هو دليل أكبر من المكوث ..
فكان التفكير السليم أن يحاول الهرب من كلتا الخدعتين .. فاستبقا الباب ..
هو يحاول الهرب لما قدمناه ، وهي تحاول أن تبقيه غيظا من إبائه وكسر كبريائها ..
ويمكن أن يكون البرهان ما جاء في قول ابن عباس وابن إسحاق فيما ذكره ابن جرير وغيره أن البرهان هنا هو شيء أعلمهما عن دخول سيده إلى البيت ، من صوت سمعوه أو خيال رأوه ..
ويساعد هذا التفسير أن كلمة ربه في السورة جاءت تحمل المعنيين : ربه أي خالقه وربه الذي أكرم مثواه ..
وكلمة برهان وردت في كتاب الله بمعنى دلالة الحجة ، وهي إما دلالة عقلية أو نظرية ، وهي تتماشى مع الرأيين في تفسير البرهان على ما سبق بيانه ..
أما باقي الأقوال التي تقول أنه رأى صورة أبيه أو آية من القرآن على الحائط وما شابه ذلك ، فهو مما يستبعد لأننا لا نقول أن النبي في حاجة إلى معجزة حسية كي لا يفعل السوء والفحشاء ..
فكون البرهان دليل ظهور سيده قول لا ترده مجمل القصة ولا سياقها ..
ويتضح بهذا – إن صح - أن مبرر كل منهما للتسابق إلى الباب منطقي جداً ..
هو للخروج من مكان الجريمة ، ولعدم التشابك معها ، لأن فيهما إدانته الظاهرة ..
وهي تحاول إبقائه في حجرتها ، وجذبه ليتشابك معها فيظهر هو المعتدي عليها وفي حجرتها ، فتظهر هي بمظهر المعتدى عليها ..
ولكن الله ألهمه أن يوليها ظهره رافضا الدخول معها في تضارب وتجاذب ..
فتقع آية قد القميص التي أظهرها الله دلالة صريحة على براءته .
وفي تفسير اللباب لابن عادل الحنبلي (9/243) :
قال ابن الخطيب :
وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين ، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ ، والهَمّ المُحرَّم ، وبه نقولُ ، وعنه نذبُّ ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً :
الأول : أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ ، والخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ ..
وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان ، وبقي مكفيَّ المؤنةِ ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إلى زمان شبابه ، وكمال قوَّته ، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال ، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات ، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله ، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ ، لاستنكف منه ، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء } وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ماهيَّة السُّوء وماهية الفحشاء مصروفةٌ عنه ، والمعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع السوء والفحشاء ، وأيضاً فلا يليق برحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية ، ثم يمدحه ، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم ، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب ، وأفحش الأعمال ، ثم يذكره بالمدح العظيم ، والثناءِ البالغ عقيبه ، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا ، فكذا هاهنا . اهـ
أما ما يتوهمه البعض من قول نبي الله يوسف : ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ )
ويستدل به على أنه لا مانع من تفكير الخاطر بالفاحشة بطبعه البشري !!
فليكمل قوله تعالى : ( فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
ليعلم أولاً أن هذا في موقف النسوة وليس في موقف امرأة العزيز ، والفرق واضح ..
وثانيا : يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (15/130) :
وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } عِبْرَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " اخْتِيَارُ السَّجْنِ وَالْبَلَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي . والثَّانِيَةُ " طَلَبُ سُؤَالِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى دِينِهِ وَيَصْرِفَهُ إلَى طَاعَتِهِ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يُثَبِّتْ الْقَلْبَ صَبَا إلَى الْآمِرِينَ بِالذُّنُوبِ وَصَارَ مِنْ الْجَاهِلِينَ . فَفِي هَذَا تَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَفِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْأَذَى الْحَاصِلِ إذَا ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ . اهـ
ومما لا شك فيه أنه ما من مخلوق من إنس وجان إن لم يعصمه ربه غوى وضل ..
فما بالنا بنبي هو الصديق ، ومن عباد الله المخلصين صرح الله أنه ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ..
والله أعلى وأعلم .
وبعد :
فهذه عجالة ما تسنى لي التعليق عليه في تفسير هذه الآية الكريمة على ضوء ما قرره الإمام ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل ..
فإن كان صوابا فمن الله تعالى ، وإن كان غير ذلك فنسأل الله العفو والعافية ، وأن يعلمنا ويلهمنا الرشد والصواب ..