بسم الله الرحمن الرحيم
شَــــــرْحُ
كِـــتَـــابِ
( الْـفَـرْقِ بَـيْـنَ الـنَّـصِـيـحَـةِ والـتَّـعْـيِـيـْرِ )
لِلْـحَافِـظِ ابْـنِ رَجَـبٍ الْـحَـنْـبَلِيِّ
- رَحِـمَـهُ اللهُ تَـعَـالَى –
شَرْحُ فَضِيْلَةِ الشيخِ صَالِحِ بنِ سَعْدٍ السُّـحَـيْـمِـيِّ الحَـرْبِـيِّ
- حَـفِـظَـهُ اللهُ تَـعَـالَى –
بسم الله الرحمان الرحيم
( الْـفَـرْقِ بَـيْـنَ الـنَّـصِـيـحَـةِ والـتَّـعْـيِـيـْرِ )
لِلْـحَافِـظِ ابْـنِ رَجَـبٍ الْـحَـنْـبَلِيِّ
- رَحِـمَـهُ اللهُ تَـعَـالَى –
شَرْحُ فَضِيْلَةِ الشيخِ صَالِحِ بنِ سَعْدٍ السُّـحَـيْـمِـيِّ الحَـرْبِـيِّ
- حَـفِـظَـهُ اللهُ تَـعَـالَى –
بسم الله الرحمان الرحيم
إن الحمد لله ؛ نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ وصلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله ، وأصحابه أجمعين .
أيها الإخوة نبدأ - إن شاء الله - هذه الليلة بقراءة ودراسة كتاب الحافظ ابن رجب - الذي هو ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) ؛ والحافظ ابن رجب = هو ذلكم الحافظ المعروف صاحب المؤلفات العظيمة : في العقيدة ، وفي التراجم ، وفي التفسير ، وفي غيرها .
ولد سنة ست وثلاثين وسبعمئة ، وتوفي سنة خمس وتسعين ، وسبعمئة ؛ أي : عن عمر = تسع وخمسون سنة ، وهو عمر متوسط بالنسبة لغيره من العلماء المعمرين ، أو الذين ماتوا أصغر منه .
ومما أدى إلى اختيار هذا الكتاب هذه الأيام أمران :
الأمر الأول : أنه رغبة بعض الإخوة من طلاب العلم .
والأمر الثاني : أننا بحاجة إليه - بحاجة ماسة إليه في هذه الأيام ؛ لأن الناس في باب النصيحة ما بين مُـفـرِط ، ومُـفـرِّط ، ما بين مقصر = لا ينصح ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر مع قدرته على ذلك ، وما بين مُفرِط حوّل النصيحة إلى فضيحة .
وما بين داعٍ إلى الموازنات في الرد على المبتدعة . وكل هذه الطوائف منحرفة في باب النصح ؛ سواء الذي اتخذ النصح تعييرا للمنصوح ، وصار يقضي غرضه بالتشهير للمنصوح له عن طريق ذكر مساوئه ، أو عكسه الذي لا ينصح ألبتة ، وكذلك الذي يخلط بين طريقة النصح ، وبين الدعوة إلى ما يدعو إليه بعض المنتمين إلى بعض الجماعات والأحزاب القائمة في هذه الأيام من تحوير النصيحة ، أو من تحويرها إلى موازنات بين حسنات المبتدعة ومثالبهم .
بعبارة أخرى : يرى بعضهم : بأنه قبل أن تنصح المبتدع ، أو قبل أن ترد على المبتدع الذي استنقدت النصائح بشأنه لا تذكر بدعه حتى تذكر حسانته ؛ وهذا طريق مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة - جملة وتفصيلا - . وأيضا يخالفه من اتخذ النصيحة تعييرا - كما سنبينه من خلال دراستنا لهذا الكتاب - ؛ وكذلك من قصر في باب النصيحة .
خمسُ طوائف أخطأت في حقيقة النصيحة :
الفرقة الأولى : المعرضون المفرطون الذين لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن منكر - ولو قدروا على ذلك - المتخاذلون .
الفرقة الثانية : الذي حولوا النصيحة إلى فضيحة ، ولم يفرقوا بين النصيحة والفضيحة ، وأخذوا يقضون أغراضهم عبر ما يدعون أنهم نصيحة ؛ والمقصود هو التشهير ، وهذا كثير مما يجري - الآن - بين الناس - وللأسف ! - ولا سيما أولئك الذين يرون إلقاء المثالب عبر المنابر ؛ وبخاصة التعرض لهفوات العلماء وأخطائهم ، أو التعرض لمثالب الولاة ، أو ما يتوهم وما يتصور أنه مثالب .
الفرقة الثالثة : طائفة جديدة جدت في هذا العصر تدعو إلى الموازنة في النصيحة في الرد على المبتدعة .
التوزان مطلوب وأما الموازنة في الرد على المبتدعة - يعني الأصل في المسلم السلامة - ولست ملزما أنني إذا أردت أن أرد على أخطاء مبتدع أنني أبدأ الرد ببيان حسانته .
الفرقة الرابعة : وهي التي جعلت من بعض الأخطاء ، أو بعض الهفوات - عند بعض أهل العلم - سلما للنيل منهم ، والتنقص من شأنهم ، ونالوا منهم ، وتنقصوهم ، ولم يستفيدوا من علمهم بسبب موقفهم هذا ؛ كما فعلت فرقة الحدادية تجاه الإمام ابن حجر ، والإمام النووي ، والإمام ابن رجب ، وغيرهم من أئمة الهدى والدين ؛ الذين - ربما - وجدت عندهم بعض الأخطاء التي بينها العلماء -لم يسكتوا عنها ، لكن بيانهم لها ليس على سبيل التجريح ، ولا على سبيل وصمهم بالابتداع ، أو نحو ذلك ، ولكن يذكر ويبين الخطأ مع الاحتفاظ بمنزلة العالم الجليل الذي عنده هذه الهفوات ، وعدم تجريحه وعدم الإساءة إليه .
الفرقة الخامسة : وهي طائفة تهول الأمور ، وتجعل الأمور الصغيرةَ كبيرةً ؛ فإذا وجد - ولو خطأ يسيرا - من إخوانهم طوروه ، وجعلوا له أجنحة ، وأذيالا ، وزادوا ونقصوا ونسوا ، وقولوه ما لم يقل ، ثم أخذوا ينشرون ذلك عبر تلك الشبكة المسماة بالإنترنت - شبكة المعلومات العنكبوتية - التي لو استخدمت في الخير لكان فيها خير كثير ، لكن أصبح جل استخدامها في الشر : إما في باب الإفراط ، وإما في باب التفريط .
وأهل السنة والجماعة وسط في هذا كله ؛ بين هذه الأمور كلها : بين المفْرِطين والمفرِّطين ، والمضخمين ، والمهرجين ، والمستغلين .
لعلي أشير إلى مسألة مهمة - هنا - وهو أن بعض ضعاف الإيمان ، أو مرضى القلوب ! إذا بين بعض كبار أهل العلم مسألة من مسائل العلم ؛ ونصحوا لأمتهم – وما زال علماؤنا – وفقهم الله – وما فتئوا ينصحون للأمة – قديما وحديثا – لكن بعض الذين يصطادون في الماء العكر يحورون النصيحة إلى أن المقصود فلان وفلان ممن هو معلوم أنه من أهل السنة والجماعة ، أو أن المقصود أهل البلدة الفلانية ، ونحو ذلك ، كما فعل بعضهم قبل بضع سنوات لما أصدر شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله تعالى – بيانا يوجه فيه الدعاة إلى المسلك السوي في الدعوة إلى الله – عز وجل – ووجه لهم نصيحة قيمة في عدم ( الإفراط والتفريط ) نصيحة عظيمة ؛ لا غبار عليها ولا يمكن أن يشك في قصده ونيته – رحمه الله تعالى - بهذه النصيحة وإن مراده الخير ، وهي نصيحة – لمن وفق وعقلها – نصيحة عظيمة جدا ، يعني فيها رسم للمنهج الطيب للدعاة إلى الله – عز وجل – يعني يدعو على بصيرة ، وأن يسلكوا منهج أهل السنة إلى الجماعة في بيان الحق بدليله ، والرد على المخالفين بالطرق الشرعية المعروفة .
فلما صدر بيان الشيخ – رحمه الله تعالى – قام بعض المحرفين ، وبعض الغلاة ، وبعض زعماء الفرق المعاصرة ؛ وألقوا محاضراتٍ أكثرها ألقيت في ليلة واحدة (!!) ، وفسروا أن بيان الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – يقصد به مجموعة في من الناس في المدينة النبوية .
فما كان من الشيخ – رحمه الله تعالى – إلا أن أصدر توضيحا لهذا الفهم المنكوس ، والذي أفرزته تلك المحاضرات التي فسرت كلام الشيخ بغير مراده فقال – ما خلاصته – من زعم أنني أقصد بهذا البيان : فلانا وفلانا من إخواننا ، أو أقصد أحدا من أهل السنة والجماعة فهذا كذب ، وإنما من يصطاد في الماء العكر – هذه عبارة الشيخ – رحمه الله – مسجلة بصوته عندي – وإنما من يصطاد في الماء العكر يقول : إن المقصود بالبيان فلانا وفلانا !!
فرد على أولئك الذين يصطادون في الماء العكر ، وبين أن بيانه إنما هو بيان عام لإخوانه الدعاة إلى الله – عز وجل – في أن يسلكوا الطريق المستقيم – طريق أهل السنة والجماعة في الدعوة إلى الله على بصيرة ، والسير على هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بعيدا عن الإفراط والتفريط .
فكان في توضيحه ذلك – رحمه الله – ردا قاطعا ، وبيانا ساطعا ، في الرد على يصطادون في الماء العكر ، والذين يحورون كلام علمائنا في أن المقصود به زيد أو عمرو ، ويشوشون عبر تلك الأجهزة المشبوهة ، ويفسرون كما يريدون ، وتوجيهات علمائنا ومشايخنا واضحة أوضح من الشمس في رابعة النهار ، فمن أراد الحق وجده ، ومن أراد الاستفادة من كلام علمائنا فالأمر جلي واضح ، ومن أراد أن يصطاد في الماء العكر فقد اصطادوا في القرآن الكريم ؛ وحرفوه عن ظاهره ، وحملوه على غير معناه ، ولووا كثيرا من أعناق النصوص من الآيات والأحاديث وحملوها على غير معناها .
هذه القضية هي التي حملتنا على اختيار هذا الكتاب القيم للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى فنستعين بالله - عز وجل - .
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ؛ وبعد : قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله : (( المتن ))
بسم الله الرحمان الرحيم ؛ وبه نستعين .
الحمد لله رب العالمين ؛ وصلاته وسلامه على إمام المتقين ، وخاتم النبيين ؛ وآله ، وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .بسم الله الرحمان الرحيم ؛ وبه نستعين .
أما بعد :
(( الشرح ))
هذه مقدمة درج عليها السلف ، وهي مقتبسة من هدي الكتاب والسنة ، بعد التسمية بعد ذكر اسم الله - عز وجل - ، ثم الاستعانة به ؛ لأنه وحده الذي يستعان ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) سورة الفاتحة آية (5) .بدأ بحمد الله – عز وجل – والثناء عليه بما هو – له - أهل ، ثم الصلاة والسلام على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ثم ثنى بالصلاة والسلام على آله وصحبه الكرام ؛ وكذا من تبعهم بإحسان ، وهذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده ، وكذلك علماء الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
ثم قال ( أما بعد ) وهي كلمة فصل معروفة عند العرب من قديم الزمان .
(( المتن ))
فهذه كلمات مختصرة جامعة ، في الفرق بين النصيحة والتعيير(( الشرح ))
فهذه كلمات مختصرة جامعة ، في الفرق بين النصيحة والتعيير ؛ كلمات ؛ لأنه كتاب يوصف بأنه صغير ، ولكنها كلمات قليلة غير أن نفعها عظيم جدا ، قليلة في مبناها ، عظيمة في معناها ، وجعلها في ضوء الكتاب والسنة للفرق بين ( النصيحة والتعيير ) .والنصيحة في اللغة مأخذوة من ( نصحت العسل إذا خلصته من شمعه والشوائب التي فيه ) ، وفي الشرع له اصطلاح هي بذل الخير للناس بتنبيههم إلى فعل خير أو اجتناب شر ، يعني توجيه الناس إلى فعل الخير ، أو توجيه إلى التحذير من الشر .
والتعيير هو التنقص ، عيره : أي تنقصه بنسبه ، أو بصنعته ، أو بشكله ، أو بلونه أو نحو ذلك ، وكل هذا محرم ؛ ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – لأبي ذر – رضي الله عنه – وهو من هو – فقال : أعيرته بأمه ؟!
ولما قالت عائشة – رضي الله عنها وأرضاها ، وأبغض من أبغضها وقلاها – لصفية ما قالت ! ، قال لها النبي – صلى الله عليه وسلم - : لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ، الخلاصة أي لكانت - والعياذ بالله – يعني ملأت منها مياه البحار ، مع أنها كلمة تابت منها – رضي الله عنها - ولا تعير عائشة بمثل هذه الكلمة ، فإنها كلمة عابرة حصلت وقتَ غضب ، وقد نصحها النبي – صلى الله عليه وسلم – فقبلت النصح – رضي الله عنها وأرضاها –
والشاهد أن التعيير - من عير الشخص أي : تنقصه سواء : طعن في حسبه ، أو نسبه - أو قبل ذلك في دينه - أو في بلده ، أو في لونه ، أو في شكله ، أو في خلقه : وكل ذلك محرم ، ولا يجوز الوصف بقصد التعيير والتنقص ، فإذا اقتضى الأمر= الوصف لضرورة شرعية وجب الاقتصار على ما تدعو الضروة إليه : كوصف النبي – صلى الله عليه وسلم – لحال معاوية – رضي الله عنه – وحال أبي جهم – عندما خطبا إحدى نساء المسلمين – رضي الله عنها – عندما يعني عرضت نفسها ، أو استشارت النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبتهما لها ، ثم نصحها بأن تنكح أسامة بن زيد – رضي الله عنه - .
فالشاهد هو الفرق بين النصيحة والتعيير .
النصيحة : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بضوء الشرع ، بلا إفراط ولا تفريط ، بالطرق المشروعة ، وبحسب ما يقتضيه المقام ، وبحسب حال المنصوح ، وبحسب قوة أو درجة المنصوح منه ، وبحسب إعلانه وإسراره ، وبحسب اقتصار شر الأمر المنصوح منه على صاحبه ، أو تعديه إلى غيره ، يعني تراعى فيها اعتبارات عدة - سيأتي تفصيلها في أثناء كلام الشيخ – رحمه الله تعالى - .
(( المتن ))
فإنهما يشتركان في أن كلاً منهما ذِكْرُ الإنسان بما يكره ذِكْرَه ، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس ؛ والله الموفق للصواب . (( الشرح ))
يشتركان في أمر واحد ، وهو أن النصيحة قد تكون بذكر ما يكره الإنسان ، وكذا الحال في التعيير ، فعندما يقال : فلان مبتدع ، أو فلان عاصٍ ، يختلف الحال من وضع لآخر ، قد يكون الكلام سائغا في حال ، وقد يكون ممنوعا إعلانه في حال أخرى ، فيجب مراعاة مقتضيات تلك الأحوال . وكما قلت : سيأتي تفضيل هذا .يعني يجب على الناصح أن يراعي مقتضيات الأحوال ؛ وإلا تحول إلى تعيير وفضيحة ، وليست نصيحة ! إذا لم تراعَ الطرق الشرعية النبوية الواردة في طريقة النصيحة ، والتفريق بينها وبين التعيير ، حيث إن ثمة قاسما مشتركا بينهما في أنه قد يكون كلا منها ذكر لما يكره الشخص المنصوح ، أو المعير ، ولكن يختلف الأمر باختلاف الأحوال التي سيأتي تفصيلها – إن شاء الله – تبارك وتعالى - .
(( المتن ))
وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس ؛ والله الموفق للصواب .(( الشرح ))
وقد يشتبه الكثير من التعيير ، أو النصح لدى من ليس عندهم فرقان يسيرون به في ضوء الكتاب والسنة ، فقد يتحول النصح إلى تعيير ، وقد يسمي بعضُ الناس النصحَ تعييراً ، يعني بعض الناس قد ينتقل من النصح إلى التعيير ؛ لأنه لا يعرف طريقة النصح الشرعية ، وآخرون إذا نصحوا من أمر وحذِّروا من أمر فهموا أن المقصود منه التعيير !! ؛ والنصح وسط بين هؤلاء وأولئك .(( المتن ))
اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ ، والعيب ، والنقص .(( الشرح ))
أولا : الحكم الأساسي : أن ذكر الإنسان بما يكره محرم ، فإن كان مباشرة ، فهو فضيحة ، وإن كان في غيابه فهي غيبة ، سواء كان ما قلته فيه صحيحا ، أو كان كذبا ؛ لذم النبي – صلى الله عليه وسلم – الغيبة ، وقولِه ( الغيبة ذكرك أخاك بما فيه بما يكره ) .لما قيل له : أرأيت إن كان ما قلته فيه صحيحا ؟
قال : إن كان ما قلته صحيحا فقد اغتبته ، وإن كان غير ذلك فقد بهته .
والله – عز وجل – شبه من يغتاب أخاه المسلم بمن يأكل لحمه حال موته ! قال الله – عز وجل ( وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) سورة الحجرات آية (12) .
فهذا هو الأصل ؛ الأصل أنك لا تذكر الشخص بما يكره ، ولو كان ذلك صحيحا ؛ إذا لم يكن المقصود غرضا صحيحا ، فإذا كان المقصود الإساءةَ إليه ، أو تنقصَه ، أو التشفيَّ منه ، أو تحقيرَه عند الآخرين ، أو النيل منه بأي شكل من أشكال النيل ، أوخفضَه ، أو الإطاحةَ به ، أو ما إلى ذلك دون مسوغ شرعي ؛ فإن هذا محرم ، والأصل فيه أنه ممنوع .
(( المتن ))
فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين ، خاصة لبعضهم ، وكان المقصودُ منه تحصيلَ تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه .(( الشرح ))
أما إذا كان ذكرُك الشخص بما يكره فيه مصلحة عامة للمسلمين ، وكفاية لشر المنصوح منه ، كما لو كان مجرما قد تعدى جرمه إلى الإضرار بالآخرين ، ولم يَعُد ينفع معه النصح = فيجب رفع أمره وذكره والرد عليه بحسب ما يقتضيه المقام ، من أجل اتقاء شره ، ووقاية المسلمين من آذاه ، هذا إذا كان المقصود بذلك هو مجرد النصح ، وبذل النصح للمسلمين . كذلك يشمل المبتدعة الذين اشتهروا بالبدعة ، وأسسوا منهجهم على البدعة ، وصار منهجهم يتعداهم إلى غيرهم ، ويتأثر بهم الآخرون فهنا يجب بيان أمرهم وتوضيح حالهم ؛ حتى لا ينخدع الناس بهم ، وليس هذا من الغيبة في شيء ، وسوف نذكر أنواعها – إن شاء الله – وارجعوا إليه وراجعوه في ( رياض الصالحين ) للإمام النووي – رحمه الله تعالى – وكذلك ذكره ابن الصلاح ، وغيرهما من أئمة العلم ، وسيأتي تفصيل ذلك – إن شاء الله تعالى – المهم أن ننظر في حال ذلك الذي ينصح : ماذا يعني ؟وماذا يريد ؟
وما هي الحال المنصوح منها ؟
وما قدرها ؟
وهل يحتاج الأمر إلى :
التوضيح ؟
أو التصريح ؟
أو التلميح ؟
أو ( ما بال أقوام ) ؟
أو ( بئس خطيب القوم أنت ) ؟ كما ثبت في المراعاة لتلك الأحوال كلها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – .
(( المتن ))
(خاصة لبعضهم ) (( الشرح ))
يعني الاقتراح المستثنى ، وما كان فيه مصلحة للمسلمين وسنمثل له – إن شاء الله – وما كان فيه دفع للضرر عن المسلمين ، وكذلك ما كان فيه نفع خاص للمنصوح نفسه ، أو لبعض الناس ، وكذلك ما كان يعني ذكره متعينا ؛ لئلا يتضرر به الآخرون ، كل ذلك تجب مراعاته ، والوقوف عنده ، بقدر ما يقتضيه المقام ، وبقدر ما يقتضيه الحال .(( المتن ))
فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين ، خاصة لبعضهم ، وكان المقصودُ منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه .(( الشرح ))
يعني إذا كان فيه حصول مصلحة لعامة السلمين ، أو خاصتهم ، أو دفع مضرة عنهم ، فإنه حينئذ يكون مندوبا ، بل قد يكون واجبا متعينا ، فإذا اندفع بالتي هي أحسن كان مندوبا إليه ، وإن اقتضى الأمر أن يصرَّح بوضعه ، ويُحذَّر منه ، ويُنبَّه على خطورته ، فإن ذلك قد يصل إلى درجة الوجوب ، وقد كان السلف يطوف ويقول : فلان مبتدع ، فلان سيء الحفظ ، فلان كذاب ، فلان وضاع ، فلان متهم ، فلان ضعيف ، وإلى آخر ما هو معلوم من خلال " علوم الحديث " كما لا يخفى على أحد .المهم أن تراعى مقتضيات الأحوال ؛ فقد يكون محرما ، فقد يكون ذكرك لما يكره الشخص محرما ، وقد يكون مباحا ، وقد يكون مندوبا إليه ، بل قد يكون واجبا ، بحسب ما يقتضيه المقام .
(( المتن ))
وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل (1) ، وذكروا الفرق بين جرح الرواة ، وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبِّدين ، وغيرهم ممن لا يتسع علمه . ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ، ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل ، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة ، وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله ، وتمسك بما لا يتمسك به ؛ ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماءُ على جواز ذلك أيضاً .
(( الشرح ))
قد ذكر الشيخ – رحمه الله - إجمالا - أن أهل العلم - وخاصة من تخصص في علوم الحديث – قديما وحديثا – أجمعوا على أن ذلك جائز ؛ فيبنوا حال رواة الحديث سواء : ما يتعلق بالطعن في الراوي ، أو ما يتعلق بالسقوط من السند .والطعن في الراوي يشمل ما يتعلق في تقصيره في جنب الله من : بدعٍ ، أو معاصٍ ، ويشمل : ما يتعلق بضعفه ، أو ضعف حفظه ، أو تساهله ، أو قوته وضعفه .
كما يشمل ذلك – أيضا – ما يتعلق بدقته وفهمه لمنهج السلف في هذا المقام ، فكانوا يبينون حال الراوي :
من كونه ضعيفا .
من كونه وضاعا .
من كونه كذابا .
من كونه متهَـما .
من كونه فاسقا .
من كونه مبتدعا .
من كونه سيء الحفظ .
من كونه ، من كونه .... إلى أن أصبح هذا علما يدرس ، وكتبا مؤلَّفة يدرسها أهل العلم ، ويتناقلونها فيما بينهم ، ونتج عن ذلك ما يسمى بـ (( علوم الحديث )) أو (( مصطلح الحديث )) .
وردوا على من يهون من شأن هذا العلم ، فإنه علم عظيم يقول عبد الله بن المبارك – رحمه الله تعالى - : الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .
ويشمل الإسناد دراسة السند من جميع جوانبه :
من جهة اتصاله وانقطاعه .
ومن جهة حال رواته .
وقد أجمعوا - ولم ينقل خلاف بين أهل العلم في أهمية هذا العلم : من مسائل الجرح والتعديل ، وتفصيل ذلك بحسب ما يقتضيه الحال ، وبحسب ما حال الرواية ، وبينوا حالة الروايات لدى كل شخص من الرواة من :
القَبول ، أو الرد ، أو الضعف ، أو الصحة ، أو الوضع ، أو الوهم ، أو التدليس ، أو نحو ذلك مما هو معلوم لدى طلاب العلم كافةً ، بل أجمعوا على ذلك ، ومن يقدح في الجرح والتعديل فإنه يقدح في أئمة العلم قاطبة ، ولكن يُرجع في ذلك إلى علماء الأمة ، وليس إلى اجتهاد الصغار ، أو المغمورين .
وإنما الذي يرجع إليه في ذلك هم علماء الأمة الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) سورة النساء آية (83) .
( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) سورة النحل آية (43) وسورة الأنبياء آية (7) .
فيجب أن يعلم أن هذا العلم باقٍ ، وأنه يستثنى من مسألة الغيبة ، ولا يعتبر غيبة في بيان حال الرواة ، وأمورهم ، ودراسة الأسانيد ، ولولا هذا العلم الذي قيضه الله للأمة لا ختلطت الأحاديث ، ولاختلط الحابل بالنابل ، ولحرِّف الدين كما حرفت الأديان السابقة ، ولا أشكُّ أن تحقيق هذا الأمر إنما هو تحقيق لقوله الله - عز وجل - ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) سورة الحجر آية (9) .
(( المتن ))
ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم ، ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ، ولا ذمَّاً ، ولا نقصاً ؛ اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ، ويُسيءُ الأدب في العبارة = فيُنكَر عليه فحاشته ، وإساءته ، دون أصل ردِّه ، ومخالفته ؛ إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة .(( الشرح ))
هنا يبين الشيخ – رحمه الله – تعالى أن الأئمة – رحمهم الله تعالى – كانوا – وما زالوا – يبينون هذا الأمر فيما يتعلق ببيان أحوال الراوي ، ويُـرَتَّبُ على ذلك القَـبول ، أو الرد ، أو الضعف ، أو الوضع ، ويبيون : ما فيه من نكارة ، ما فيه من وضع ، ما فيه من ضعف ، ثم يبينونه بأساليب يقتضيها المقام ، ويردون على من يستحق الرد ، بحسب ما يقتضيه المقام ، تارة بصريح العبارة ، وتارة بالتلميح والإشارة ، ويبينون ، ولم يعترض عليهم أحد ، لا من السلف ، ولا من الخلف ، بل هذا منهج أهل السنة والجماعة ، فيردون على من ابتدع ، أو من فسر النصوص بغير مدلاولها ، أو من حرفها عن مواضعها ، وصرفها عن مدلاولها ، ويبينون أحوال المبتدعة ، وأحوال الفسقة ، وأحوال الدخلاء في هذا الدين ، وكل ذلك يراعون فيه مقتضيات الأحوال ؛ ولم يعترض على هذا المنهج إلا بعض المرضى ! الذين لا يفقهون مقاصد الشريعة ، ولا يفقهون كلام الأئمة ، ولم يتضح لهم الأمر ، أو إنهم مرضى القلوب ! ممن مرضت قلوبهم ، تلفت بالشبه – والعياذ بالله – التي تبعدهم عن فهم منهج السلف الصالح في هذا الباب ، وغيره ، ثم إنهم لم ينكر عليهم أحد في بيان أحوال الراوة : سواء ما يتعلق بنقد السند ، ونقد الراوة ، أو نحو ذلك ، ولم يعترض على هذا أحد ، اللهم إلا بعض من لا يفهم .وقد بينوا تلك الأحوال . علما بأن السلف - قد - ينهون عن الإفحاش في القول - في الرد على المخالف ، ويأمرون بالاعتدال في الحـكـم عـلـى الأشياء ، وفق هدي الكتاب والسنة ، حتى إنهم ] إذا [ انتقدوا شخصا في بعض ألفاظه النابئة ، والقاسية ، فإنهم لا يردون ما عنده من حق ، يدافع عنه ، أو يبينه ، بل يبينون الحق بدليله ، ويأخذون الحق عمن جاء به ، وربما نقدوه في غلظه ، أو في بعض أساليبه ، كما ينقدون من يتساهل ومن يتنازل إلى درجة ترك الواجبات في هذا الباب .
وهذا – كما هو معلوم - محل إجماع بين أهل السنة والجماعة ، ولم يعد محل خلاف ألبتة ، ولكن – كما قلت : مرده ومرجعه ، والرجوع فيه يكون إلى علماء الأمة الذين ينفون عن كتاب الله – عز وجل - تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين .
(( المتن ))
وسبب ذلك أن علماء الدين كلّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم - وأنْ يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمته هي العليا ، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ، ولا من المتأخرين ؛ فلهذا كان أئمة السلف - المجمع على علمهم وفضلهم - يقبلون الحق ممن أورده عليهم ، وإن كان صغيراً ، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم . كما قال عمر في مهور النساء وردَّت تلك المرأة عليه بقوله تعالى : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً )سورة النساء آية (20) . فرجع عن قوله وقال : ( أصابتِ امرأةٌ ورجلٌ أخطأ ) (2) وروي عنه أنه قال : ( كل أحد أفقه من عمر ) .
وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول : ( هذا رأينا فمن جاءنا برأي أحسنَ منه قبلناه ) .
(( الشرح ))
بين المصنف في هذه المسألة أن سبب كونه ينصحون بالطرق الشرعية النصيحةَ البعيدةَ عن التعيير ، والتعييب ، والتنقص ، وأنهم يردون على المبتدعة بدعَهم ، ويبينون الحقَّ بدليله ، ويردون على المخالف بشرط أن يكون المقصودُ هو بيانَ الحق لا التعيير ، فقوله ، وسببُ ذلك يعود إلى هذا المسلك الذي سلكه علماء الأمة ، وأجمعوا عليه ، وهو بيان الحق بدليله ، والرد على المخالف ، على أن يكون القصدُ والنيةُ والهدفُ من الردِّ = هو النصحيةَ له وللمسلمين ، انطلاقا من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة .قلنا لمن يا رسول الله ؟
قال لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم . كما رواه الإمام مسلم من حديث أبي رقية تميم الداري – رضي الله عنه – .
فسببُ هذا المسلك أنهم يريدون إعلاء كلمة الله ، ويريدون أن يبينوا الحق صافيا مجردا من كل كدر ، بعيدا عن الإفراط والتفريط ؛ ولذلك ردوا على المخالف :
ردوا على الجهمية .
ردوا على الرافضة .
ردوا على الخوارج .
ردوا على أهل الكلام من المعتزلة ، ومن نهج نهجهم ، ردوا عليهم بكتب مؤلَّفة واضحة ، ولا تأخذهم في الله لومةُ لائم ، مع الأخذ بالاعتبار حال المردود عليه – كما أسلفنا – .
ثم بين – رحمه الله – أنهم مع كونهم يعنون بذلك – يردون على المخالف ، ويبنون حال المبتدع والفاسق والعاصي ، ويبيون حال الراوي ؛ لتُـصّـفى الروايات من كل كدرٍ ، مع ذلك لا يدعون لأنفسهم أنهم بلغوا المنتهى في العلم ، بل كلُّـهم يوقنون أن فوق كل ذي علمٍ عليمٌ ؛ لأنهم يترسمون القول الذي يقول ( لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ) .
فتجدهم يتهمون آراءهم ، ويتهمون قصورهم ، ويتهمون عقولهم ، فإن جاءهم مستفتٍ كلٌّ منهم يحيل إلى الآخر ، حتى في المسائل التي يختلفون فيها ، وهم لم يختلفوا في الأصول بكل حال ، وإنما ختلافهم كان في بعض المسائل الفقهية ، وكانوا – أيضا – يتهمون آراءهم ؛ لأنهم يعلمون أن المجتهد عُرضة للخطإ والصواب ، وبخاصة في المسائل الاجتهادية ، وكان كل منهم يتهم رأيه بالقصور ؛ لأن الدين ليس بالرأي ، وقد يقول : هذا هو الذي أراه في هذه المسألة ، فإن كان الحق معي ، وإلا فإني أبرأ إلى الله منه إن كان خطأً .
ومنهم يقول : فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني – أو فمن نفسي - ومن الشيطان .
ثم إنهم لهذا السبب يقبلون الحق ممن جاء به ؛ حتى ولو كان من صغار طلاب العلم ، بشرط أن يكون طالبَ علمٍ محققٍ .
فالصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يرجعون إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – في كبار المسائل ، ومع ذلك كانوا لا يتعصبون لرأيه ، فقد خالفوه في المتعة ، وخالفوه في أمور كثيرة .
وإذا كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يرجعون عن آرائهم إذا ظهر أن الحق على خلافها ، فما بالك بنا نحن الصغار في هذه العصور المتأخرة ؟!
فهذه القصة المنسوبة إلى عمر – على ضعف في روايتها – ولكن معناها صحيح ، أو يعني ليس فيها مخالفة ، يعني إن صحت فإنها تدل على تجرد عمر – رضي الله عنه – فإنه تدل على تجرده ، وكان هو ، وسائر الصحابة ، بعد قضية الحذيبية ، قال : اتهموا الرأي في الدين ، كل منهم يقول : اتهموا الرأي في الدين ، ولا سيما بعد قضية صلح الحذيبية ، وما كان فيه من أمور ، وقف فيها الصحابة موقفا يشبه المعارضة ، حتى شرح اللهُ صدورهم لما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – فكانت العاقبة للمتقين .
ولذلك - بعد هذا – كانوا يرجعون ويتهمون آراءهم .
فهذا القصة – قصة الصداق - إن صحت عن عمر – فهي تدل على تجرده لله – عز وجل – واتهامه لرأيه ، وتواضعه وبعده عن التفاخر والتعالم الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان = فتجده - على صحة القصة – يرجع ويعترف أمام امرأة تقول له : لا يا عمر ! – عندما أراد أن يحدد المهور – فإن الله – عز وجل – يقول ( وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) سورة النساء آية (20) .
فقال – على صحة القصة - : أخطأ عمر وأصابت امرأة .
وسواء صحت ، أم لم تصح فإن لدى الصحابة من الشواهد على مثل هذه الأمور ما لا يمكن حصره .
ولا أدل على هذا من أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما جاؤوا يسألونه عن ( الأب ) في قوله الله – عز وجل - ( وفاكهة وأبا ) لم يجب ! بل قال : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن أنا قلت في كتاب الله – عز وجل - ما لا أعلم .
فهذا يتطلب من طلاب العلم – ولا سيما نحن الصغار - أن يتواضعوا وأن يعرفوا لأنفسهم قدرها فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه ، وأن يعيدوا الحق إلى نصابه ، وأن يعطوا القوس باريها ، وأن يرجعوا إلى علماء الأمة فيما أشكل عليهم ، أم كل من درس له فترة قصيرة ، أو خرج مع الجماعة الفلانية ثلاثة أيام أو أربعين يوما أو أربعة أشهر ، زعم نفسه عالما من العلماء فأخذ يفتي ، ويتصدى للفتوى ، ويرتقي المنابرَ ، ويضع نفسه موضع العلماء الربانيين الكبار .
أقول : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه .
الإمـام مـالك - رحمه الله تعالى - يسأل عن أربـعـيـن مسألة فيفتي في اثنتين ، ويعتذر عن الباقي .
ولمـا قـال لـه السائل : أنت الإمام مالك بن أنس التي تضرب إليه أكباد الإبل ، تقول لا أدري !
قال له : اذهب إلى كل الأمصار ، وأعلن لهم إن مالكا لا يدري عن شيء في تلك المسائل !!
هذا مالك الذي قيل فيه : ( لا يفتى ومالك في المدينة ) .
مشكلتنا - الآن - أنه قد وُجد أناس تزببوا قبل أن يحصرموا وادعوا لأنفسهم درجة ليسوا أهلا لها !
أحدهم قبل أيام ونحن في مناقشة رسالة علمية ينال من كتاب جمعه بعضُ طلاب العلم ، أو العلماء في المملكة فينتقده ويقول : إنه كتاب لا يصلح وإنه سبة في جبين العقيدة .
والكتاب الذي قرظوه مشايخ أفاضل فينبغي للمسلم أن يتقي الله - سبحانه وتعالى - عندما ينقد ؛ خصوصا عندما يجعل نفسه في موضع الناقد ؛ عليه أن يعلم أنه محاسب عن كل كلمة تصدر منه ، فلا تنقد حتى تكون من أهل النقد ، وحتى تكون عندك الآلة التي تنقد بها .
فقد سمعتَ – الآن – عن الصحابة كيف توقفوا في الفتوى ، ويتوقفون في مسائل كثيرة ، وكذلك التابعون ، وكذلك السلف الصالح بعدهم .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم أن التشبه بالكرام فلاح
عـلـيـنـا أن نقتدي بهم ، والله ! ما المانع أنني إذا سئلت عن مسألة ؛ ما أعرف فيها شيئا أقول : لا أدري .أو أحيل إلى مشايخي الذين هم أكبر مني ، لا يلزم أنني أذهب وأشغل نفسي بأمر لا أحكمه ، ولا أفقهه ، ولا أعلمه ، وأقحم نفسي فيه بغير علم .
( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) سورة الإسراء آية (36) .
(( المتن ))
وكان الشافعي يبالغ في هذا المعنى ، ويوصي أصحابه باتباع الحق وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قولهم ، وأن يضرب بقوله حينئذٍ الحائط ، وكان يقول في كتبه (3) : ( لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة ؛ لأن الله تعالى يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء آية (82) .وأبلغ من هذا أنه قال : ( ما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه أو على لساني ) .
وهذا يدل على أنه لم يكن له قصد إلا في ظهور الحق ، ولو كان على لسان غيره ممن يناظره أو يخالفه .
ومن كانت هذه حاله = فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه ، ويتبين له مخالفته للسنة لا في حياته ، ولا في مماته . وهذا هو الظن بغيره من أئمة الإسلام ، الذابين عنه القائمين بنَصْرِه من السلف والخلف ، ولم يكونوا يكرهون مخالفة من خالفهم - أيضاً - بدليل عَرَضَ له ، ولو لم يكن ذلك الدليل قوياً عندهم بحيث يتمسكون به ، ويتركون دليلهم له ؛ ولهذا كان الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - يذكر إسحاق بن راهويه ، ويمدحه ، ويثني عليه ، ويقول : ( وإن كان يخالف في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا ) أو كما قال .
(( الشرح ))
المصنف – رحمه الله تعالى - سرد – بعد أن ذكر قول عمر ، وذكر أقوالا عن الإمام الشافعي ، وهو قوله المشهور ( ما وجدتم من قولي مخالفا لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فاضربوا به عُرض الحائط ) .وصرح بأنه لابد أن يوجد في كتاب أي أحد بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما فيه مخالفة للكتاب والسنة ؛ لأنه أبى الله – عز وجل – أن يكون الكمال إلا له ، وأن تكون العصمة إلا لرسوله – صلى الله عليه وسلم - .
وأن الكمال في أحكام كتابه وسنة نبيه – عليه الصلاة والسلام - ؛ ولذلك قال مقالته المشهورة : ما وجدتهم من قولي مخالفا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضربوا به عرض الحائط ، بل بالغ في ذلك ، وبين أنه لا يوجد أحد يسلم كتابُـه من مخالفة الكتاب والسنة ، وبخاصة في المسائل الاجتهادية ، ومن ادعى الكمال فقد أعظم على الله الفرية ، ثم استدل على هذا بقول الله – عز وجل – ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء آية (82) .
هذا في عهده ، وهم يتحرون الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة ، ويجتهدون في موافقة الحق ، ومع ذلك كله يتهمون أنفسهم بأنهم عرضة للخطأِ والصواب ، وأنهم قد يخطئون ، وقد يصيبون ، ولا يدعون لأنفسهم الكمال ، بل إن الإمام الشافعي بالغ في أكثر من هذا فقال - ما معناه ما سمعتم - من أنه لو أن أحدا خالفه إنه يفرح لكون المخالف أصاب الدليل ، وأخطأ هو ؛ لأنه بهذا :
أولا : ينال التواضع الجم عند الله – عز وجل – .
وثانيا : أنه حصل له الخير برجوعه إلى الحق .
وثالثا : أنه استفاد مسألة علمية لم يكن يعلمها قبلُ .
ورابعا : أنه فرح لأخيه حيث وفقه الله - تبارك وتعالى - للصواب .
فلهذه الأمور الأربع كان السلف يفرحون بإصابة إخوانهم ، حتى ولو أخطأوا هم ، ومع ذلك ، فإنهم – طالما أنه لم يظهر لهم الدليل – فإنهم يثبتون على ما ظهر لهم أنه الحق في المسائل الاجتهادية ؛ حتى يظهر الدليل على خلاف ذلك ، فإذا ظهر لهم الدليل على خلاف ذلك ؛ أخذوا به ؛ ولذلك فإن للإمام الشافعي مذهبين يسمونه الجديد ، والقديم ، رجع – بعد أن التقى بعضَ العلماء - عن كثير من أقواله التي قالها ، أو التي ذهب إليها في قوله الأول ، لا لأنه يتلون ، أو يتنقل من مذهب إلى مذهب جزافا – هكذا - بدون علم ، ولكن لأنه ظهر له الحق ، والحق ضالة المؤمن أنى وجده اتبعه ، الحق ضالة المؤمن أنى وجده اتبعه ، وبمثل قول الإمام الشافعي قال الإمام أحمد مع إسحاق بن رَاهُـويَـه – رحم الله الجميع - فقد أثنى عليه - كما سمعتم - بهذا الثناء العَطِر - قال : وإن كنت أخالفه في بعض المسائل ، أو إن كنت أرى أن عنده مخالفة في بعض المسائل ، وهذا أمر لا يسلم منه أحد ، يعني المخالفة في بعض المسائل الفرعية ، فإنه لا يسلم منه أحد ألبتة .
فهذا يدلنا على منهج السلف الدقيق المحكم المتقن ، ومن أراد المزيد من هذا المعنى الذي يشير إليه الحافظ ابن رجب - هنا – بنقله لهذه النقول ؛ فليرجعْ إلى ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - .
(( المتن ))
وكان كثيراً يُعرضُ عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ، ومأخذهم في أقوالهم فلا يوافقهم في قولهم ، ولا يُنكِر عليهم أقوالهم ، ولا استدلالهم ، وإن لم يكن هو موافقاً على ذلك كله (4).(( الشرح ))
يستطرد – رحمه الله تعالى - في وضع الإمام أحمد مع الإمام إسحاق بن راهويه ، وأنه تعرض عليه أقوال إسحاق وغيره من أهل العلم الفضلاء من أقران الإمام أحمد وممن بعده ، وممن قبله ، ومع ذلك يصر على ما يظهر له أنه الحق ، فإن رأى الدليل مع واحد منهم رجع إليه وأخذ به ، وإن لم يظهر له ذلك استمر على ما هو عليه ؛ لأن هدفه الحق لا يريد أن يحيد عنه ، والحق واحد لا يتعدد ، هو مع واحد ( إن أصاب المجتهد له أجران ، وإن أخطأ له أجر واحد ) ، بعد استخدام آلة الاجتهاد .(( المتن ))
وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له : أنت رجل أعجمي لا تفصح ، وما ناظرك أحد إلا قطعته فبأي شيء تغلب خصمك ؟ فقال بثلاث : أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه ، أو معنى هذا فقال أحمد : (ما أعقله من رجل ) .(( الشرح ))
الله أكبر !هذه حكاية طريفة وعجيبة جدا ، وحاتم الأصم من علماء الشافعية ، أظنه في علماء القرن الثالث - أظن إذا لم تخني الذاكرة - وهو غير أبي العباس الأصم - أيضا - من علماء الشافعية لكن إذا أطلق الأصم – أحيانا – ولاسيما عند المخالفات في مسائل الشرعية كالخلاف في حكم الإجارة ، والعارية ، والشفعة ، وما إلى ذلك فإن الأصم المقصود هناك هو الأصم المعتزلي أبوبكر تلميذ ابن علية ، ابن علية الابن ، وليس الأب ، الأب إسماعيل بن علية أحد رجال الكتب الستة المعروف المشهور ، وابن علية الابن إبراهيم بن إسماعيل الذي قال فيه الإمام الذهبي ( إن مخالفته لأهل العلم مشهورة وروايته عند أهل العلم مهجورة ) وأما الأصم فقد قال فيه – غير واحد من السلف – إنه عن الحق أصم .
فحاتم الأصم غير هذا ، هو من علماء الشافعية - على ما أذكر ، ولعلنا نرجع - أويرجع الإخوة – إلى ترجمته .
الشاهد أن هذه – يعني – الحكاية الطريفة العجيبة التي عجب منها الإمام أحمد . أن حاتما الأصم عجب منه الناس وهو من الأعاجم ، من الأعاجم .
قالوا : كيف بك – نراك – إذا ناظرت أحدا قطعته ؟
ما معنى قطعته ؟
يعني غلبته في الحجة ، مع أنك من الأعاجم ، فمع هذه العجمة أنت تغلبه في الحجة ، فكيف ذلك ؟
قال : لأنني أعتبر ثلاثةَ أمورٍ ، هذه الأمور :
أولا : أنني أفرحُ إذا أصاب أخي ؛ العالم الذي أجادله وأناظره - يفرح ؛ لأنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحزن لخطئه ، يفرح لإصابته ، ويحزن لخطئه ، ولا ينال منه بلسانه ، يكفُّ لسانَه عن الكلام فيه ، وما أحسنَها من منقبةٍ عظيمةٍ ؛ هذه المنقبة قلَّ من يتفطن إليها ، تفرح لإصابة أخيك ؛ لأنك لا تحسده ؛ لأنه أخوك المؤمن تحب له ما تحب لنفسك ، وتحزن لحزنه ، أوتحزن لخطئه ؛ لأنك تتألم بآلامه . ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشده بعضه بعضا ) ، ولا تلوكه بلسانك ، بعض الناس – والعياذ بالله – ... ربما بعض المنتسبين إلى العلم – الآن - لا يتورع من أن يفرح إذا أخطأ فلان ، ويفرح فرحا شديدا ، ويغضب وتصيبه الغيرة إن أصاب ، وليته – مع هذا كلِّه – يسلم من لسانه ، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، استدل الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - على أن هذا التصرف دليل عظيم على راجحة عقل أبي حاتم الأصم ، دليل على عقله ، يحفظ لسانه ، يفرح لإصابة أخيه ، يحزن لحزنه ؛ لأن اللسان خطير ، خطير جدا ؛ لأن اللسان يحتاج إلى أن يصان ، وأن يُحفظ ، وأن يلجم بلجام .
ربما استفتحت من مزح مغاليق الحِمَامِ إنما السالم من ألجم فاه بلجام
وقبل ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمُِـتْ ) .وكان - صلى الله عليه وسلم – يمزح ، ولكن لا يقول إلا حقا ، فانتبهوا ؛ لأن هذه القضية خطيرة جدا .
سبحان الله ! أين هذا الطراز من الناس ؟!
لا نقول : معدوم ! بل يوجد بين مشايخنا ، وعلمائنا ، وطلاب العلم من يكون فيه شيء من هذه الخصال – إن شاء الله تعالى - لكنها عزيزة ، لا شك أنها عزيزة ، يفرح إذا فاز أخوه وأصاب ، يحزن إذا أخطأ ، يصون عرضه من أن يتكلم فيه بلسانه .
فقال الإمام أحمد : إن هذا دليل على راجحة عقله .
(( المتن ))
فحينئذٍ ؛ فرد المقالات الضعيفة ، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكره العلماء بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه .فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية ، فلو فرض أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك ؛ فإن كراهة إظهار الحق - إذا كان مخالفاً لقول الرجل - ليس من الخصال المحمودة ، بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ، ومعرفة المسلمين له ، سواءٌ كان ذلك في موافقته ، أو مخالفته .
وهذا من النصيحة لله ، ولكتابه ، ورسوله ، ودينه ، وأئمة المسلمين ، وعامتهم ، وذلك هو الدين كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - (5).
(( الشرح ))
نعم هذا مقطع عظيم !يقول : إن بيانَ الحق ، والردَّ على المبتدعة والمخالفين ، وبيانَ خطأِ المخطئ ، لا يعارض فيه أحدٌ من علماء الأمة ، حتى ولو كان المردودُ عليه أحدَهم ، بل يتقبلون ذلك بصدر رحبٍ ، ( فرحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي ) ولا يتضجرون من ذلك ، ولا يغضبون - لا سيما إن علموا أن الذي ردَّ له هدفٌ سامٍ ، وهو إظهار الحق ، وإبطال الباطل ، فإذا علم بصدق نوايا أخيه ، فإنه يمدحه في هذا ، ويثني عليه ، ويرى أن هذا عمل جليل لابد منه - طالما أنه يعلم أن مراد أخيه هو الحق ، ولو ردَّ عليه ، فرد المقالات الباطلة ، ورد الخطأ على من أخطأ بالشرط الذي ذكرناه بالأمس ، وهو أن لا يكون المقصودُ هو التشفيّ ، والإضرار ، وإظهار العيوب ؛ لأنه – حينئذ – عليك أن تفتش عن نفسك :
عليك نفسك فتش عن معايبها
لكن إذا كان المرادُ بالردِّ بيانَ الحق ، وإظهارَ الحقِّ ، وإبطالَ الباطلِ ، وبيانَ السنةِ من البدعةِ ، والحقّ من الباطلِ ، والخير من الشرِّ ، والخبيث من الطيبِ ، وعلمتَ عن أخيك ذلك ، فإن هذا هو الذي يقرُّه ويؤيدُه ويدعو إليه علماءُ الأمة منذ عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وإلى يومنا هذا ، بل إن هذا هو الدين كلُّه ، الذي دعا إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة .قالوا : لمن يا رسول الله ؟
قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم .
فلذلك يجب على المسلمين عامة ، وطلاب العلم خاصة ، أن يعوا هذه الحقيقة - إذا ردددتُ على مبتدع ما تعترض عليَّ وترى أن هذا من الغيبة والنميمة ، بل إن هذا من الحق الذي يجب بيانُه ؛ لا سيما إذا علمت أنه ليس بيني وبين هذا الرجل المردودِ عليه إلا الحق ، إلا إرادة إظهار الحق وهذا كلُّه – الردُّ إنما يكون بعد أن يتمَّ النصحُ والتوجيهُ والتنبيهُ فيصرُ ذلك الذي أخطا ، أو انتشر خطؤه ، أو انتشرت بدعتُه بين الملأ ، وصار يشكل خطراً على الأمة ، ولم تُجْـدِ النصيحةُ ، ولن يرجع عن قوله بعد الإعذار ، وبعد البيان ، عندها ليس بعد الحق إلا الضلال .
لابد من البيان ، وهذا أمر قد أجمع عليه علماءُ الأمة وهو ( الدين النصيحة ) الذي قامت عليه السماوات والأرض ، ولا يمكن أن يتبرم منه مسلم ، أو طالب علم بحال من الأحوال .
(( المتن ))
وأما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله ، إذا تأدب في الخطاب ، وأحسن الرد والجواب ، فلا حرج عليه ، ولا لوم يتوجه عليه ، وإن صدر منه من الاغترار بمقالته ، فلا حرج عليه ، وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : ( كذب فلان ) ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذب أبو السنابل ) (6) ؛ لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل حتى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر .وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء ، وردوها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور ، وغيره مقالاتٍ ضعيفةً تفردوا بها ، ويبالغ في ردها عليهم ؛ هذا كله حكم الظاهر .
وأما في باطن الأمر : فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته ؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده ، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ، ورسوله ، وأئمة المسلمين ، وعامتهم (7) .
وسواء كان الذي يبين خطأه صغيراً أو كبيراً وله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي شذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل : المتعة ، والصرف ، والعمرتين ، وغير ذلك .
ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد ، وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، ورد على الحسن قوله في ترك الإحداد عن المتوفى عنها زوجها ، وعلى عطاء قوله في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ، ودرايتهم ، ومحبتهم ، والثناء عليهم .
ولم يـعـدّ أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ، ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة ، ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين - من السلف والخلف - بتبيين خطأِ هذه المقالات ، وما أشبهها مثل : كتب الشافعي ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ، وما كان بمثابتها شيء كثير ، ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً .
وأما إن كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه ، وتنقصَه ، وتبيينَ جهله ، وقصوره في العلم ، ونحو ذلك = كان محرماً ؛ سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه ، أو في غَيبته ، وسواء كان في حياته ، أو بعد موته ، وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه ، وتوعد عليه في الهمز واللمز ، ودخل - أيضاً - في قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته ) ( . وهذا - كله - في حق العلماء المقتدى بهم في الدين ؛ فأما أهل البدع والضلالة ، ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم ، وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم . وليس كلامنا - الآن - في هذا القبيل ؛ والله أعلم .
(( الشرح ))
الله أكبر ! ما أجملَـه من تفصيل !أُلخص كلام المصنف – رحمه الله - في أسطر : فأنه – رحمه الله - بين أن الرد حتى على من تقدم من العلماء الأفاضل سائغ ، وهو شأن الأئمة – رحمهم الله تعالى – كما يقول الإمام مالك : كل يؤخذ من قوله ويرد ، إلا صاحب هذا القبر ويشير إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فما من صاحب مقالة إلا وهو راد ، أو مردود عليه ، فالعصمة لكتاب الله - عز وجل - ، ولرسوله - عليه الصلاة والسلام - .
ولكن هذا الذي يرد على العلماء مقالاتهم ، أو يرد عليهم في بعض ما أخطأوا فيه ، وهذا شان أئمة الهدى والدين ، فقد رد الإمام أحمد على جمع من الأئمة ممن تقدم ، ورد الصحابة والتابعون ، بل ورد بعض المتأخرين على ابن عباس – رضي الله عنهما - في مسألة المتعة ، وفي مسألة العمرتين في سنة واحدة ، وفي مسائل كثيرة ، وسعيد بن المسيب في مسألة المطلقة ثلاثا ، وحكم العقد عليها ، وما إلى ذلك ، مسائل كثيرة ضربها المصنف ؛ لبيان أن السلف ما كانوا يسكتون عن مخالفة ، طالما كان القصد والنية هو الخير وإظهار الحق ، بل اعتقدوا أن هذا من التطبيق لحديث ( الدين النصيحة ) هذا بشرط أن يكون سليم النية ، وأن يكون قصدُه بيانَ الحق ، أما إذا كان قصده أن يعير ، أو أن يتنقص ذلك العالم ، أو أن ينال منه ، أو يحط من شأنه ، أو أن يشوهه عند الآخرين .
هذا الكلام بشأن العلماء ؛ أو بشأن المبتدعة ؟!
التفصيل هذا بشأن العلماء .
إذا كان الذي يرد عليهم ، أو يبين بعض أخطائهم قصده تنقصهم ، فهذا قد ارتكب إثما عظيما ، وجرما خطيرا ، وينطبق عليه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب ) فيما يرويه عن ربه – جل وعلا – ، وينطبق عليه قول الله - عز وجل – ( ويل لكل همزة لمزة ) سورة الهمزة آية (1). وينطبق عليه قول الله - عز وجل – ( هماز مشاء بنميم ) سورة القلم آية (11) . إذا كان قصدُه النيلَ من العلماء ، وتنقصَهم ، أو الحطَّ من شأنهم ، كما هو شأن بعض المتعالمين الذين يدَّعُون لأنفسهم أنهم بلغوا ما لم تبلغه الأوائلُ ؛ ولذلك يروى عن الإمـام ابن عساكر – رحمه الله تعالى - أنه كان يقول : لحوم العلماء مسمومة .
فالخلاصة أن الرد على أخطاء – أو بعض هفوات العلماء يجب أن نتأدب فيها ، وأن لا نسلك مسلك بعض الطوائف التي نادت - في هذا الزمان - من النيل من ابن حجر ، أو النووي ، أو ابن رجب ، أو ابن الجوزي ، أو غيرهم ؛ بسبب ما قد يكون عندهم من أخطاء ، نعم هناك أخطاء قد تكون عقدية ، لكنها قليلة في خضم ما قدموه من خدمة للعقيدة وللسنة النبوية . وهذا لا يجعلنا نسكت عن ما وجدنا من أخطاء نقول : هذا خطأ ، ويرد على صاحبه ، وأما إذا كان الراد يريد أن يغمزهم ويلمزهم ويحط من شأنهم ؛ كما يقول أحد زعماء الجماعات المعاصرة عن أحد علمائنا : والله الشيخ فلان ، والله ما عنده غير التلفون ليس عدنه إلا التلفون ألو ! نعم . ألو ! نعم .
قاتلك الله يا مسكين ! هو عندما يقول : نعم ؛ أذُنه في السماعة يجيب المسلمين على فتاواهم ، ليس فتاوي زعمائك أصحاب الفضائيات ! الذين يهرفون بما لا يعرفون ! وفي الوقت نفسه تقرأ عليه القضايا ويفتي فيها - التلفون في أذنه ، والقارئ يقرأ عليه وهو يجيب - رحمه الله رحمة واسعة - وقاتل الله من تنقصه ، أو تنقص أحدا من علماء الأمة فإذاً هذي الخلاصة فيما يتعلق بالعلماء .
أما إذا كان المردود عليه من المبتدعة ؛ فلا كرامة للمبتدع الذي أسس مذهبه على البدعة ، وأنشأ مذهبه على البدعة ؛ فكان السلف يطوفون ويقولون : فلان جهمي ، فلان كذاب ، فلان حروري ، فلان خارجي ، فلان سيئ الحفظ ، فلان كذا ، إلى آخره ؛ فيتكلمون ، وألفت في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتب السلف مملوءة بالرد عليهم : الرد على الجهمية ، (( رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد فيما افترى على الله من التوحيد )) ، و (( الرد على الجهمية )) لابن منده ، وللإمام أحمد ، ولعبد الله بن الإمام أحمد ، ولعثمان بن سعيد الدارمي ، و(( الرد على من أخلد إلى الأرض )) للسيوطي ؛ وكثير – الرد على المبتدعة مطلوب ، ولكن - أيضا - بدون سب ، أو تسفف ، أو كلام نابئ ؛ لأن المقصود هداية الناس ، حتى المبتدع نرد عليه .
الإمام الشافعي – رحمه الله – سئل عن أهل الكلام – أبدى رأيين - قال : حكمي فيهم أن يطاف بهم في العشائر ، وأن تسود وجوههم ، ويضربوا بالنعال ، ويقال : هذا جزاء من يعرض عن كتاب الله – عز وجل – ويدعو إلى علم الفلسفة والمنطق .
ومن جانب آخر قال - ما خلاصته - : إنه يشفق عليهم ن ويهدف إلى هدايتهم ، ولا سيما إذا كانوا ممن اعتراهم الجهل ، والتبست عليهم الأمور بسبب الجهل .
فالخلاصة : أن نفرق بين الرد على بعض ما قد بدر من بعض العلماء من أخطاء ، أو من هفوات ، أو من تقصير ، فعلينا أن نرد بحذر ، وبخوف ، وباحترام ، وبأدب ، وبحفظ كرامتهم ، والترحم عليهم ، واحترامهم ، وتعظيمهم ، وتبجيلهم ، والدعاء لهم ، والاستغفار لهم ، وعدم تنقصهم أو النيل منهم .
فيا من يغمز العلماء إني برئ لستُ منك ولستَ مني
فانتبهوا لهذا !أما المبتدع فيرد عليه ويُـبَـيُّـنُ عورُه ، ويكشف للناس ، وارجعوا إلى ما استثناه الإمام النووي – رحمه الله تعالى - في كتابه ( رياض الصالحين ) ، من الغيبة ستة مواضع ، لعلنا نذكرها في درس الغد – إن شاء الله تعالى – ، وكذلك عند سائر أهل العلم كابن الصلاح ، وغيرِه .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تعليق