سورةُ الأنْعَام
أحسنُ ردٍّ قُرآنيٍّ على أهل الكلامِ في خَبَرِ الآحَاد
أحسنُ ردٍّ قُرآنيٍّ على أهل الكلامِ في خَبَرِ الآحَاد
قال الله تعالى : ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَ إِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ ( الأنعام : 148 ) .
معلومٌ أنّ أهل الكلام لا يأخذون بخبر الآحاد في العقيدة ، و يأخذون به في الأحكام ؛ مستدلّين على ذلك بأنّ خبر الآحاد يفيد الظّنّ ، و زعموا أنّ كلّ الآيات الّتي ذمّت الأخذ بالظّنّ وردت في العقائد !
و هاتان مقدّمتان غيرُ مسلَّمَتَيْن ؛ لأنّ إفادة الظّنّ لو سُلِّم لهم لكان على قول بعضهم : إنّه يفيد الظّنّ الرّاجح ، و قد جاءت شريعتنا بالأخذ بالظّنّ الرّاجح و هم يسلّمون بهذا ، و لسنا الآن بصدده ، و أمّا المقدّمة الثّانية – و هي زعمهم أنّ الآيات الذّامّة لاتّباع الظّنّ وردت في العقائد دون الأحكام – فمنقوضةٌ أيضاً ، قال الشّيخ الألبانيّ في " الحديث حجّة بنفسه في العقائد و الأحكام " ( ص 26-28 ) :
" لقد عرضت لهم شبهةٌ ثمّ صارت لديهم عقيدةً ، و هي أنّ حديث الآحاد لا يفيد إلاّ الظّنّ ، و يعنون به الظّنّ الرّاجح طبعاً ، و الظّنّ الرّاجح يجب العمل به في الأحكام اتّفاقاً ، و لا يجوز الأخذ به عندهم في الأخبار الغيبيّة و المسائل العلميّة ، و هي المراد بالعقيدة ، و نحن لو سلّمنا لهم جدلاً بقولهم : ( إنّ حديث الآحاد لا يفيد إلاّ الظّنّ ) على إطلاقه ، فإنّا نسألهم : من أين لكم هذا التّفريق ، و ما الدّليل على أنّه لا يجوز الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة ؟!
لقد رأينا بعض المعاصرين يستدلّون على ذلك بقوله تعالى في المشركين : ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ ﴾ ( النّجم : 23 ) و بقوله سبحانه : ﴿ إنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئاً ﴾ ( يونس : 36 ) ، و نحو ذلك من الآيات الّتي يذمّ الله تعالى فيها المشركين على اتّباعهم الظّنّ ، و فات هؤلاء المستدلّين أنّ الظّنّ المذكور في هذه الآيات ليس المراد به الظّنّ الغالب الّذي يفيده خبر الآحاد – و الواجب الأخذ به اتّفاقاً – و إنّما هو الشّكّ الّذي هو الخَرصُ ، فقد جاء في ( النّهاية ) و ( اللّسان ) و غيرها من كتب اللّغة : ( الظّنّ : الشّكّ يَعْرِض لك في الشّيء فتحقِّقه و تحكم به ) ، فهذا هو الظّنّ الّذي نعاه الله تعالى على المشركين ، و ممّا يؤيّدُ ذلك قولُه تعالى فيهم : ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ ( الأنعام : 116 ) (1) ، فجعل الظّنّ هو الخرص الّذي هو مجرّد الحَزر و التّخمين .
و لو كان الظّنّ المُنعى على المشركين في هذه الآيات هو الظّنّ الغالب كما زعم أولئك المستدلّون لم يجُز الأخذ به في الأحكام أيضاً ؛ و ذلك لسببين اثنين :
الأوّل : أنّ الله أنكره عليهم إنكاراً مطلقاً ، و لم يخصّه بالعقيدة دون الأحكام .
و الآخر : أنّه تعالى صرّح في بعض الآيات أنّ الظّنّ الّذي أنكره على المشركين يشمل القول به في الأحكام أيضاً ، فاسمع إلى قوله تعالى الصّريح في ذلك : ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ فهذه عقيدةٌ ، ﴿ وَ لاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ﴾ ، و هذا حكمٌ ، ﴿ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ ، و يفسّرها قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ ٱلإِثْمَ وَ ٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَق وَ أَنْ تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ أَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ( الأعراف : 33 ) ، فثبت ممّا تقدّم أنّ الظّنّ الّذي لا يجوز الأخذ به إنّما هو الظّنّ اللُّغويّ المرادف للخرص و التّخمين و القول بغير علم ، و أنّه يحرم الحكم به في الأحكام كما يحرم الأخذ به في العقائد و لا فرق ، و إذا كان الأمر كذلك فقد سلم لنا القول المتقدّم : إنّ كلّ الآيات و الأحاديث المتقدّمة الدّالّة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام ، تدلّ أيضاً بعمومها و شمولها على وجوب الأخذ به في العقائد أيضاً ، و الحقّ أنّ التّفريق بين العقيدة والأحكام في وجوب الأخذ فيها بحديث الآحاد فلسفةٌ دخيلةٌ في الإسلام ، لا يعرفها السّلف الصّالح و لا الأئمّة الأربعة الّذين يقلّدهم جماهير المسلمين في العصر الحاضر " .
لقد حرصتُ على نقل كلام الشّيخ رحمه الله ، لأنه احتجَّ على المتكلّمينَ بآيةٍ عظيمةٍ لا قبل لهم بها ، و لم أرَ من سبق الشّيخ إلى التّنبيه على هذه الآية ، و على هذا ، فإن استدلّوا بآية الباب لزمهم أن يَدَعوا الاستدلال بحديث الآحاد في الأحكام أيضاً لما سبق في كلام الشّيخ ، و هو مذهبٌ لا يقولون به ، و قد نسبه شيخنا الشّيخ أحمد محمود عبد الوهّاب الشّنقيطي - حفظه الله - في كتابه " خبر الواحد و حجّيّته " ( ص 141 ) إلى قومٍ من الرّافضة و المعتزلة ، و لمّا كانت نصوص السّنّة المتواترة أقلّ من نصوص الآحاد ، فإنّ المتكلّمين لو امتنعوا من الأخذ بخبر الآحاد ، فإنّ المتكلّمين لو امتنعوا من الأخذ بخبر الآحاد في الأحكام أيضاً لأسقطوا أكثر الشّريعة بعد أن أسقطوا كثيراً منها في أصلها الأصيل ، ألا و هو العقيدة الصّحيحة ، و إنّا لله !!
__________________
(1) : ذكر هنا الشّيخ الألبانيّ رحمه الله الآية 116 من سورة الأنعام ، و لا شكّ أنّه أراد ذكر الآية 148 و هي آية الباب بدليل كلام الشّيخ في السّياق و السّباق ، إلاّ أنّها جاءت في كتابنا هذا مرقّمةً برقم 148 و لا أدري إن كان الوهمُ من النّاسخ أو أنّه من المؤلّف حفظه الله ، فصححّتُ ذلك في نقلي ، و ذكرت هذا ليُعلم أنّهما آيتان و من نفس السّورة ، و حتّى لا يحسب أحدٌ أنّي أخطأت التّرقيم أو أنّي تصرّفتُ فيه ، والخطب في هذا سهلٌ ، و الله أعلم . [ أبو حاتم ]
تعليق