تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3<>
فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :
فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .
من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .
****** تفريغ محاضرة / مقاصد ومعاني سورة الكهف
لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
******
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى تركها على ملة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كلما صلى عليه المصلون، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وسلم اللهم تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
فيا أيها الإخوة في الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإنها لساعة مباركة أن نلتقي في حلقة من حِلق العلم والهدى في هذا الجامع الذي بناه سمو أمير هذه المنطقة، الأمير/ عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي، ودعاني –جزاه الله خيرًا- لإلقاء محاضرة فيه بمناسبة افتتاح معرض وسائل الدعوة إلى الله في عرعر السادس عشر، وأشكر له هذه الدعوة، وهذه الحفاوة والحرص والتعاون الذي كان من جميع الجهات الحكومية والأهلية والناس في إنجاح هذا الموسم الدعوي الذي يفرح بها كل من يحب الدعوة ونشرها في الناس.
موضوع المحاضرة بحسب ما أعلن عنه رأيت أن أتكلم في غير ذلك الموضوع لمناسبة الحاضرين؛ لأن الموضوع المعلن عنه له شبه تخصص، والموضوع العام الذي يناسب الدعوة العامة، ويناسب جملة الحاضرين والمتلقين اليوم رأيت أن يكون في (مقاصد ومعاني سورة الكهف)، وذلك لأن أكثرنا يقرأ سورة (الكهف) كل جمعة، إما حفظًا، وإما تلاوة، وذلك لما ورد في تلاوتها يوم الجمعة، وفي حفظ آيات منها من الترغيب، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ من أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ)،(1) وفي لفظ: (مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ)،(2) وأيضًا جاء عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد بطرق يشهد بعضها لبعض: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يوم الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ له من النُّورِ ما بين الْجُمُعَتَيْنِ).(3)
وسورة (الكهف) سورة عظيمة من سور القرآن التي لقراءتها كل جمعة معان كبيرة ومقاصد عظيمة، ومن المقرر عند أهل التخصص في التفسير من أهل العلم أن سور القرآن العظيم لها مقاصد، يعني: لها موضوع أو موضوعات رئيسة تدور عليها الآيات ويتصل بعض الآيات برقاب بعض في إفهام المعنى، والمقصد الذي أراده الله –جل وعلا- من هذه السورة، فقد ذكر أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً أن سورة (البقرة) في حفظ الضروريات الخمس، وأن سورة (المائدة) في العقود، وهكذا في موضوعات شتى، وقد بالغ بعض أهل العلم حتى استنتج من كل سورة مقصد وغاية، فما بين مستقل ومستكثر، فبعضها يظهر المقصد أو المقاصد من السورة وآياتها، وبعضها لا يظهر إلا لذوي التحقيق من أهل العلم.
سورة (الكهف)، قال الله –جل وعلا- في أولها: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:7، 8]، والذي يظهر للمتأمل من أهل العلم بأن موضوع هذه السورة هو في الابتلاء، حياة الإنسان كلها ابتلاء، ولكن في هذه السورة ذكر الله –جل وعلا- هذا المعنى فيما أورده من قصص وأخبار، فبدأها الله –جل وعلا- بحمده، والثناء عليه، فقال سبحانه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا}[الكهف:1، 2]، فحمد الله –جل وعلا- نفسه، يعني أثنى على نفسه بأنواع الثناء، والحمد هو: الثناء بأنواع المحامد والصفات، والثناء يكون في معانٍ جاءت في الكتاب والسنة:
أولاً: الحمد بإثبات ربوبية الله –جل وعلا- وما له من صفات الكمال في ربوبيته.
ثانيًا: والحمد في ألوهيته سبحانه بما له من استحقاقات عظيمة أن يُعبد وحده لاشريك له، وأن أعظم ظلم أن يُعبد معه في ملكوته أحد.
ثالثًا:الحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، بلغ الكمال والنهاية فيما له من الأسماء ودلالاتها، وفيما يتصف بها من صفات على الحقيقة، وآثارها في ملكوته.
رابعًا: الحمد والثناء على الله –جل وعلا- فيما أنزله من كتب؛ لأن الكتب هي التشريع، وهي التي تبين الحق من الباطل، وتبين الهدى من الضلال، وتبين للناس طريق الخير، وطريق الشر، وتبصرهم من العمى، وتنقذهم من الضلالة، فله الثناء كل الثناء لإنزاله هذه الكتب، وخاتم هذه الكتب والمهيمن عليها والحاكم عليها هو القرآن العظيم، الذكر الحكيم، النور المبين؛ ولذلك قال هنا في أول هذه السورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}، وفي الربوبية قال:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، وهكذا في موضوعاتها.
الخامس: أنه عزوجل محمود على خلقه، وقدره، وهو عزوجل له تصريف هذا الملك، وله في كل شيء قدر؛ كما قال عزوجل: (” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ” )القمر:49]، وله سبحانه وتعالىأوامر كونية في ملكوته منها: الإنعام على من شاء أن يُنْعِم علىهم، ومنها: المصائب على من شاء أن يبتليهم…وهكذا، فهو عزوجل محمود على خلقه، وقدره، وكل أنواع تقديره عزوجل يستحق أن يُثنى علىه بها، وهذا النوع بعضه يستحضره الناس حينما يقولون: الحمد لله، أي: على ما أولاهم به من نعمة، فيحمدون الله عزوجل، ويثنون علىه بما أفاض علىهم من النعم، وهذا ولا شك نوع من أهم موارد الحمد، أما أهل العلم المتبصرون بما يستحقه عزوجل من الأسماء والصفات، وما له عزوجل من النعوت والكمالات، فإنهم يستحضرون من معاني الحمد أكثر من ذلك الذي يستحضره أكثر الخلق، من أن الحمد لا يكون إلا على ما أولوا من النعمة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله عزوجل في السراء، والضراء، يحمده عزوجل إذا أتته نعمة، وإذا جاءه ما لايسره حمد الله عزوجل، ويثني على الله عزوجل باستحقاقه للربوبية على خلقه، ويثني على الله عزوجل باستحقاقه للعبادة من خلقه وحده دونما سواه، ويثني علىه عزوجل بأنواع من الثناء.
ومن المهمات أن يستحضر الحامد لله عزوجل هذه الموارد، وإن لم يمكنه ذلك لضيق وعاء القلب عنده، فإنه يستحضر شيئًا فشيئًا منها، حتى يُعود قلبه على الثناء على الله عزوجل بجميع أنواع الثناء علىه سبحانه وتعالىالتي يستحقها. (4)
فبدأ بأنواع المحامد لله –جل وعلا- على إنزاله الكتاب؛ لأنه أنزل هذا الكتاب لكي يكون لنا نورًا، وليكون لنا برهانًا، ويكون لنا ضياءً في هذه الدنيا، فمن استرشد به رشد، ومن أخذ به هُدي، ومن اتبع هذا القرآن فلا يضل ولا يشقى، وهذا له صلة بموضوع السورة وهو الابتلاء، فكأنه قال –جل وعلا-: إذا أردت النجاة من هذا الابتلاء العظيم {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فهو راجع إلى هذا الكتاب العظيم.
قال –سبحانه-: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} فإذا أردت أن تفسر أكثر ما تراه في الحياة من أشياء تأنس لها فتأمل أنها زينة، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ} فكل ما على الأرض جعله الله –جل وعلا- زينة، قال:{لِنَبْلُوَهُمْ}الابتلاء ما معناه؟ معناه الاختبار: هل يذهب الإنسان لهواه، أم يتخلص من هواه ويذعن لمراد الله جل وعلا، هذا أعظم ابتلاء في الحياة؛ ولذلك جاء في الحديث وإسناده لا بأس به: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبِعًا لما جِئْت بِهِ)،(5) الابتلاء: اختبار، وهذه السورة ذكر الله أنواعا من الابتلاء:
•قصة أصحاب الكهف ابتلاء، وسيأتي ذكر بعض المعاني في ذلك.
•قصة الرجلين صاحب الجنتين ومن معه، ابتلاء.
•الحياة وإخراج آدم عليه السلام من الجنة، وابتلائه بالشيطان ابتلاء.
•قصة الخضر مع موسى عليه السلام ابتلاء لموسى عليه السلام .
•قصة ذي القرنين، ابتلاء الملك، ابتلاء الحكم، ابتلاء المسؤولية.
أما أولها فقصة أصحاب الكهف:
قصة أصحاب الكهف قال الله –جل وعلا- في شأنهم:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:9، 10]، فتية آمنوا بربهم، قال الله –جل وعلا-: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13]، حققوا الإيمان من قلوبهم فزادهم الله هدى، كقوله:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17]، فالله –جل وعلا-إذا أقبل عليه العبد شبرًا أقبل عليه الله –جل وعلا- ذراعا، كما ثبت في الحديث الصحيح في الصحيحين وغيرهما:(إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا..) إلى آخر الحديث،(6) أصحاب الكهف فتية تيقنوا التوحيد، وتيقنوا أن الله –جل وعلا- هو المستحق للعبادة وحده، في قومهم رأوا ما يخالف ذلك فآمنوا بالله وحده، فحاصرهم قومهم حتى أدى بهم الأمر إلى أن يحفظوا دينهم بالهجرة، فهاجروا إلى أن كتب الله لهم أن يكونوا في الكهف، فألقى عليهم النوم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا.
ما الابتلاء في قصتهم؟ عدة ابتلاءات- والابتلاء الموجود في قصتهم يتكرر مع كل واحد منا في حياته-:
الابتلاء الأول: أن الناس ليسو عبرة في الكثرة والقلة في معرفة الحق، الحق يُعرف من دليله وبرهانه:
فقد يكون الناس على حق كثير، مثلما كان في عهد النبوة، والخلافة الراشدة، وفي صدر الإسلام، والقرون المفضلة، فقد كان الأكثر على حق، فلم تفشُ فيهم الضلالات والفرق، فكان الحق بدليله موجود.
وقد يكون الناس على غير الحق وإن كانوا كثيرين وإن كانوا جماهير؛ لهذا قال –جل وعلا-:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}[النحل:120]، على الرغم من أنه واحد،(7) قال الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب ‘ في تفسيره لهذه الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}؛ لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين،
)قانتا لله) لا للملوك، ولاللتجار المترفين، (حنيفا):لا يميل يمينًا ولا شمالًا، كفعل العلماء المفتونين،(ولم يك من المشركين) خلافا لمن كثر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين. ا.#.(
معك أمة، إبراهيم أمة، والأنبياء أمة، وكل نبي أمة، ومن معهم من أهل الدين والتوحيد والحق والهدى أمة.
فأصحاب الكهف ابتلوا بمواجهة الكثرة، وكان معهم يقين بدليله وبرهانه أنهم على حق، فاختاروا الحق بدليله وبرهانه.
يغلط بعض الناس في القلة والكثرة:
بعضهم يرى أن الكثرة دائما صواب، والقلة دائما غلط على خلاف الحق.
وبعضهم يرى العكس، يرى أن القلة دائما المبتلاة في دينها على حق، وأن الكثرة على غلط، فأي قلة مبتلاة في دينها على صواب، وأي كثرة معاندة لهم أو مضادة لهم تكون على غلط، وهذا غير صواب.
الصواب أن القلة والكثرة ليست ميزانا، ابتلى الله الناس بالقلة والكثرة، فمنهم من وقع فريسة الكثرة والجماهير، ومنهم من وقع فريسة القلة، قال: نحن قلة على حق، وهذا ليس صوابا، وذاك ليس صواب، بل الصواب أن الحق يُعرف بدليله، ببرهانه، بمنهجه، بطريقته، وليس اعتبارا بأنهم كثير أو بإنهم قليل، أتى في أزمنة الله –جل وعلا-كثرة على الحق، وقلة على الباطل، في زمن الصحابة رضي الله عنهم الخوارج(9) كانوا قلة وكانوا هم الباطل، والصحابة رضي الله عنهم كانوا الكثرة وكانوا هم الحق، يأتي في زمن يكون العكس، قال صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ).(10)
فإذًا الابتلاء الأول: أن لا تضع في ميزانك للصواب كثرة الجماهير أو قلتها، الدليل ما هو، الحق ما هو، منهاج النبوة ما هو ، منهاج الصحابة ما هو، منهاج الأئمة الصالحية ما هو، منهاج العلماء ما هو، المنهاج الذي عليه الأكثر، ولنفرض: واحد منتسب لأهل العلم قال كلامًا يخالف إخوانه من أهل العلم، العالم يزل، ما جعل الله العصمة إلا لأنبيائه، ولكن أتباع الأنبياء يحصل منهم ويحصل، والعالم إذا زل في الأمور العظام المتعلقة بالأمة يزل معه العالم؛ ولذلك قال أهل العلم في القواعد: زلة العَالِم زلة العَالَم،(11) ومن هنا يظهر لك نوع الابتلاء، أصحاب الكهف نجوا من ذلك فأثنى الله عليهم، دخلوا في الكهف، فابتلاهم الله –جل وعلا- بقومهم، فهربوا من قومهم وأووا إلى الكهف، قالوا:{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا }[الكهف:16]، قضى الله عليهم أنهم ينامون هذه النومة الطويلة، ثم أيقظهم الله –جل وعلا- ابتلاء لمن؟ ابتلاء لهم، وابتلاء لقومهم مرة أخرى، قال الله –جل وعلا- في وصف ذلك: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ}، فقوله:{وَكَذَلِكَ} هذا ربط للأمر بموضوع السورة، {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} فلا يزالون يتذكرون الخوف الأول، {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:19، 20]، بعد الثلاثمائة وتسع سنين من النوم لا زال في ذهنهم الأمر الأول وهو أنهم مبتلين، وأنهم في ابتلاء عظيم مع هؤلاء القوم، قال الله –جل وعلا- مرة أخرى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}، يعني: أعثر الله قوم أصحاب الكهف بأصحاب الكهف، يعني: أرشدهم إليهم، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}، فحتى العثور عليهم فيه ابتلاء هل تؤمنون بالآخرة أم لا تؤمنون؟،{لِيَعْلَمُوا} اللام هنا يسميها العلماء: لام التعليل، يعني: لماذا أعثر عليهم؟ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} جاء الابتلاء هنا، هل لما هؤلاء القوم المشركون رأوا ما أكرم الله به هؤلاء الفتية، وهم كانوا كم؟ أكثر شيء سبعة وثامنهم كلبهم، هؤلاء الفتية هل استفادوا منهم وقالوا: لننظر ما كانوا عليه، ماذا كانوا يؤمنون به؟ لا، حتى في هذه فشلوا في الابتلاء، قال الله –جل وعلا-: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، يعني: ما زالوا مشككين، ثلاثمائة وتسع سنين، وقد رأوا معهم عملة هذه العملة لو عرضوها على أهل الخبرة لقالوا: هذه من ثلاثمائة سنة، لقالوا: هؤلاء أناس شباب ولتذكروا ان هناك أناس شباب هربوا من المدينة وفقدوا إلى آخره، ولتذكروا، إذًا هؤلاء حالة استثنائية، إذًا ما تتذكرون لم هربوا من قومهم؟ ما كانوا عليه من الدين، وما كانوا عليه من الهدى، وأن الله أكرمهم بهذه النومة العظيمة في هذه السنين ليبتليكم أنتم؟ ما استفادوا، ففشلوا في الابتلاء، فجاءهم الشيطان بحيلة، لا تؤمنون بما آمنوا به ولكن كرموهم، أعطوهم كرامة، {ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، يعني: لا ندري عنهم، ولكن ربهم أعلم بهم، ولكن أهل النفوذ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}[الكهف:21]، من هم الذين غلبوا على أمرهم؟ هناك ثلاثة أقوال لأهل العلم فيها،(12) والظاهر منها أنهم أهل النفوذ والقرار في وقتهم، قالوا: هؤلاء نستفيد منهم سياسيا، نستفيد منهم في وقتنا، {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} يعني: أهل النفوذ والكبراء وأهل القرار {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}، يعني: نبني عليهم مسجدًا، حتى يعرف الناس أننا غير مضادين لهم، بل أكرمناهم وبنينا عليهم مسجدا، فالعبرة في الحق ماذا كان عليه هؤلاء الفتية؟{إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}[الكهف:14، 15]، يعني: أنتم أيها القوم على شرك فلماذا لم تتذكروا أن هؤلاء الفتية أهل توحيد وعبادة لله وحده، فتتبعونهم فيما اهتدوا به؟ أما كونكم تقيممون عليهم مسجدا فهذا أيضًا فشل في الابتلاء؛ ولذلك من أدلة أهل العلم على عدم جواز بناء المساجد على القبور هذه الآية؛ لأن الله ذمهم بقوله:{لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} إلى أن قال:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}. هذا أول نوع من الابتلاء.
الابتلاء الثاني: ذكر الله –جل وعلا- العدد، قال:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22]، قال ابن عباس رضي الله عنه: ( أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثنى اللَّهُ، كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)،(13) وأيد قول ابن عباس جماعة من أهل العلم؛ لأنه قال:{ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، وأما في السبعة قال:{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}، هنا فيه ابتلاء، هذه الآية ما صلتها بالابتلاء؟ الصلة عظيمة، وهي: الابتلاء بالمعلومات، الابتلاء بالجدل، الابتلاء بقال وقيل، هذا لا فائدة منه، الفائدة فيما فيه حجة، أما ما لا حجة فيه فتُبتلى فيه في الحياة؛ ولذلك قال الله –جل وعلا- لنبيه صلى الله عليه وسلم ناهيًا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخوض في ذلك:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا}؛ لأنه لا حجة في أيٍّ من ذلك، لم تحضرهم، لهم قرون قد انقرضوا، فأي حجة في أن عددهم كان كذا أو كذا؟ هذا واحد، الثاني أي فائدة من العدد؟
قال الله –جل وعلا-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، هنا الفتنة بأي شيء؟ بزينة الحياة الدنيا، ليس هناك شك أن الحياة الدنيا زينة وابتلاء، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا}[الكهف:7]، النجاة من هذا النوع من الابتلاء: أن تصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، لا تترك الأخيار لأجل الدنيا، لأجل المال، لأجل المنصب، لأجل السمعة، لأجل الشهرة، بل نجاحك في الابتلاء أنه مهما جاءك في هذه الدنيا من هذه الأمور فإنك تصبر نفسك مع هؤلاء، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الأعظم أنك ما ترك الدنيا ولكن تطيع من أغفل الله قلبه وطبع عليه.
القصة الثانية: قصة صاحب الجنتين:
قال الله – جل وعلا-: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}[الكهف:32، 33]، هذه القصة في الابتلاء بالمال .
المال والمزارع والحسابات والثروة هذه ابتلاء، بل فتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المال: (لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ)،(14) هذا الرجل كان له جنتين، فجر الله –جل وعلا- خلالهما نهر، معجب بنفسه، ظن أن الله أعطاه هذه الأشياء وهذه المزارع الكبيرة الملتف بعضها على بعض لشيء فيه هو، إنه يستاهل كما يقولون، يستحق ذلك، قال الله –جل وعلا- في شأنه:{ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} صاحب ضعيف لديه مزرعة ضعيفة،{أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، أصحاب المال والثروة إذا اعتزوا بمالهم وثرواتهم فقد خالفوا نهج الله ووقعوا في سوء عملهم، يعني: فشلوا في الابتلاء، ولم ينجحوا في ابتلاء الله لهم، ولكن: (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ)،(15) ولكن أن يفتخر على الناس، من أعطاك المال؟ الله -جل وعلا-، لو يقيس أي واحد من أصحاب الثروات جهده بما أفيض عليه من المال لم يكن هناك وجه مقارنة، فبذل قليلا وجاءه كثير، فإذًا هو ابتلاء وعطاء من الله تعالى، وقد قال هنا: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بم ظلم نفسه؟ بالكبر ورؤية النفس وعدم الاعتراف بالنعمة أنها لله، فابتلي ففشل في الابتلاء، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35، 36]، فقد وصل به الحد إلى أنه يظن أنه ملك الدنيا، وملك القوة حتى الساعة أصبح في شك منها، وهنا جاء نداء الإيمان الذي يكون مع الغني الصالح، ويكون مع الفقير الصابر، ويكون مع من أعطاه الله ما أعطاه،{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف:37، 38]، دله على أن مقولته السابقة شرك بالله -جل وعلا-، ثم قال مرشدًا له:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}[الكهف:39]، فتكون قد تواضعت لله -جل وعلا-، ثم قال له: {إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}[الكهف:39، 40].. إلى آخر الآيات إلى قوله تعالى:{وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ} يعني: النصرة والمحبة، {لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:43، 44].
هذا رجل صاحب مال، لاشك الحياة كلها فيها أصحاب أموال يختبرون، وأيضًا أصحاب قلة يختبرون، أما أن يكون صاحب القلة يرى في نفسه حقدًا على صاحب الثروة، فهذا ليس من سمة أهل الإيمان، ولكن من سمة الذين فشلوا في الابتلاء وأحبوا الدنيا؛ لأن ما حقد عليه إلا لأنه يحب الدنيا، وإلا فما عند الله خير وأبقى، وما أعطاك الله خير مما حرمك، هنا نجح الذي عنده مال قليل وضل من عنده مال كثير في الابتلاء، فما راعى الله حق رعايته، ولم ينسب الشيء إلى الله -جل وعلا-، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:78]، إذ يقول: أنا فعلت وفعلت وفعلت، وتاريخي.. وعملت وقلت.. لابد أن تقيد هذا كله بتوفيق الله -جل وعلا-، وكلما نسبت الشيء لنفسك فلتنسبه إلى الله –جل وعلا- أولاً، ثم إلى نفسك، حتى تنجح في هذا الابتلاء.
فسورة (الكهف) فيها كل هذه المعاني، والواجب إنكم إذا جاء يوم الجمعة وقرأتموها أن تتوقفوا عند هذه المعاني، فكل جمعة تظهر لكم أسرار القرآن وما فيه من الفوائد والعلوم التي تجعل القلب يتحرك في كل لحظة، ولكن لمن علم، والعلم من أعظم أثره على عبد الله –جل وعلا- الذي علم إنه يكون حفيا بالقرآن العظيم.
القصة الثالثة: قصة موسى عليه السلام مع الخضر:
والخضر للعلماء فيه أقوال: هل كان نبيا أم كان وليا صالحا أجرى الله على يده كرامات؟ أقوال لأهل العلم.
سئل موسى عليه السلام كما في صحيح البخاري: ( أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟)، فقال موسى عليه السلام : (أَنَا)، فأراد الله –جل وعلا- أن يبتليه، وأن يعلمه وفي إعلامه له إعلام لنبي إسرائيل، وإعلام لأتباع الأنبياء أهل الإسلام إلى قيام الساعة، قال الله –جل وعلا- له: (بَلَى، لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ)، وهو الخضر، قال موسى عليه السلام : (أَيْ رَبِّ وَمَنْ لِي بِهِ؟)، أي: وما علامة ذلك، قال (تَأْخُذُ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ)،(16) فالعلامة فقدان الحوت، والقصة كما تعلمونها، فنسيا الحوت {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}[الكهف:64، 65]، موسى فهم أن هذا هو المقصود، قال له موسى عليه السلام : {هَلْ أَتَّبِعُكَ} ولاحظ أن العالم يتواضع، وهذا نبي من أنبياء الله وكليم الله، قال للخضر وهو لا يعلم من هو الخضر، بل قال الله له: (بَلَى، لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ)، قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[الكهف:66-68]، دائما الذي لا يصبر على الأشياء الذي ليس لديه معلومات كافية، بل يرى شيء حدث لا يحيط به، فيصبح يحكم عليه من الزاوية التي نظر إليها هو بحد علمه، وفي قصة موسى عليه السلام مع الخضر أبلغ درس في الابتلاء في هذا النوع، وخاصة لأهل هذا الزمان الذين يحكمون على الأشياء بظواهرها وهم لا يعرفون حقائق الأمور ولا مآلتها ولا عواقبها، {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا} تذكر موسى عليه السلام أنه قال: أنا أعلم أهل الأرض، فلم يقل: ستجدني صابرًا، خشي أن يحرم حتى الصبر، بل قال:{سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا} فخرق السفينة، وقتل الغلام، والجدار بناه، في أول موضع ذكر الخضر موسى فقال:{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف:72]، وفي الموطن الثاني غلظ العبارة على موسى عليه السلام فقال:{أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف:75]، زاد (لَّكَ)، وفي الثالثة قال:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، ثم بيَّن له فظهر فضل علم الخضر على علم موسى ابتلاء لنا جميعا، في أن المرء مهما كان عنده من معلومات فلا يغتر بأنه علم كل شيء، وهذا خاصة لأهل العلمك، وأهل الشهادات والذين يتابعون اليوم القنوات والمواقع يظن أن ما يقرأه هو كل شيء في الدنيا، لا، هناك شيء تتطلع عليه، وهناك شيء لم تتطلع عليه، وهناك شيء تعلمه بالقراءة، وهناك شيء لا يمكن أن تعلمه إلا بعمر وسنين في فهم الأمور على حقيقتها؛ ولذلك موسى عليه السلام اعترض على الخضر؛ لأنه ليس عنده علم الخضر، قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}[الكهف:71]، اعتراض، أنكر عليه، ولكن الصواب مع من؟ الصواب مع الحكمة، وليس مع ظاهر الأمر، الخضر خرق السفينة وكانت لمساكين يعملون في البحر، وموسى عليه السلام أنكر عليه، ولكن الصواب مع من؟ ابتلي موسى عليه السلام هنا بالعلم بظواهر الأمور، ولكن الصواب كان مع من معه الحكمة والعلم الإلهي في ذلك، وليس هذا خاص بالعلم الإلهي أو اللادنيا ولكن أيضًا الحكمة والعلم والتجارب في منازعة الصغير للكبير، أيضًا في الغلام قال:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا}[الكهف:74]، وفي الجدار قال: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[الكهف:77]، يعني: لا يضيفونكم
ولا يكرمونكم ولا يعطونا ثم تبني لهم جدارًا، ظاهر الأمر أن العطاء ببناء الجدار أعطى، الخضر بنى لهم جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، فهذا غريب هم أبوا أن يضيفوك وأنت تبني لهم جدار، هذه فيها الفرق، لابد أن تكون صاحب تأمل وحكمة، الفرق ما بين الظواهر والحقائق، فهناك فرق بين الظواهر والحقائق فلا تغتر دائما بالظواهر سلبا أو إيجابا حتى توافق الحقيقة؛ ولذلك أجابه عن الأسئلة حتى قال له في آخرها:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف:82]، قال أحد كبار أهل العلم في هذه القصة وهو ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق): (17)
تَسَلَ عَن الْوِفَاق فَربِنَا قَدْ***حَكَى بَين الْمَلائِكَة الخِصَامَا
كَذَا الْخضر المكرم والوجيه المكلم***إِذْ ألم بِهِ لماما
تكدر صفو جَمعهمَا مرَارًا***فعجل صَاحبُ السِّر الصَّرَاما
ففارقه الكليم كليم قلب***وَقد ثَنَا على الْخضر الملاما
وَمَا سَبَب الْخلاف سوى اخْتِلاف***الْعُلُوم هُنَاكَ بَعْضًا أَو تَمامًا
فَكَانَ من اللوازم أَن يكون الإلهُ*** مُخَالفا فِيهَا الأناما
فلا تجهل لها قدرًا***وخذها شكورًا للذي يحيي الأناما
قوله: (تكدر صفو جَمعهمَا مرَارًا) يعني: اعتراضات موسى على الخضر تكدر الصفو.
قوله: (فعجل صَاحب السِّرّ الصَّرَاما)، يعني: الخضر عجل الصرام فقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}[الكهف:78]، لقد انتهينا، تكفي ثلاث اعتراضات.
قوله: (ففارقه الكليم) يعني: موسى عليه السلام .
قوله:
وَمَا سَبَب الْخلاف سوى اخْتِلاف الْعُلُوم هُنَاكَ بَعْضًا أَو تَمامًا
يعني: لماذا يختلف اثنان، هذا يعاند هذا، وهذا يختلف مع هذا، الولد يقول لأبيه كذا، والأب يقول له: لا، اعمل كذا فإن المصلحة في كذا، وهو يقول: لا، فسبب الاختلاف: أن الصغير أو صاحب المعلومات الأقل أو صاحب المعلومات غير الرصينة لا يملك القدرة على اتخاذ القرار الأصوب؛ لأن اتخاذ القرار الأصوب هو مبني على مجموعة أمور منها: مجموعة معلومات متنوعة، متعددة المصادر، ومتعددة المصالح، متعددة الرؤيا للحاضر وللمستقبل، قال الشيخ الحافظ ابن الجوزي: (كان شيخنا أبوعبد الله يقول: لَوْ سَكَتَ مَنْ لا يَعْلَمُ سَقَطَ الِاخْتِلافُ)،(1 ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الْعَلْمُ نُقْطَةٌ كَثَّرَهَا الْجَاهِلُونَ)،(19)يعني: لو سكت الذين لا يعلمون لقل الخلاف، ولكن ما الذي يكثر الخلاف؟ الذين لا يعلمون، يأتي أناس ويعجب بنفسه، ويقول ويقول وينقد ويفتي وهو علمه محدود، ولكن ابتلى الله الناس بوجود هذا النوع، فلابد أن يعالجوا بالعلم، أن يعالجوا بالرد المحكم بالحكمة، واليقظة كما علمتنا هذه الآيات في الابتلاء في الاختلاف في المعلومات؛ لذلك هناك واحد يحكم على الأشياء وهو يرى بهذا الشكل فرؤيته محدودة، وآخر يرى أوسع، فلابد أن يقدر في حس المسلم حجم علمك، وحجم علم العالم، أو علم القيادة، أو علم ولي أمرك، أو علم صاحب العلم.
ففي قول الشاعر هنا:
وَمَا سَبَب الْخلاف سوى اخْتِلاف الْعُلُوم هُنَاكَ بَعْضًا أَو تَمامًا
نلحظ ملحظ آخر: يعني قد يكون جاهلا ويعاند عالما، وقد يكون لا بل جهل بعضا، ولكن ليس عنده علم بكل شيء، فهو عنده معلومات ويتحمس لها ويريد ويريد، ولكن في النهاية أنت ابتليت بذلك، وابتليت الناس بهذا الأمر.
فإذًا من ابتلي بقلة علم، فعليه أن يعلم حجم نفسه فلا يتكلم إلا بما يعرف ويدين لذي الفضل بفضلهم، ولذي العلم بعلمهم، ولذي الرأي برأيهم، ولذي الحكمة بحكمتهم، ولذي القيادة بقيادتهم؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحذرنا في آخر الزمان من فتنة، هذه الفتنة قال فيها صلى الله عليه وسلم:(وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ)،(20) لا أحد يسلم لأحد، اثنان يكونون ضد واحد في الراي، ثم يختلفون ويصبح لهم رأيان ويصير كل واحد ضد الآخر، هذا خلاف ما أمر الله به من الاجتماع في العلم؛ ولذلك جاء في القرآن في وصف هذه الأمة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى:38]، المهم أن لا يكون عندك أثرة في الرأي وإعجاب كل ذي رأي برأيه، اليوم ظاهرة بداية لهذه الفتنة العظيمة أن يعجب كل ذي رأي برأيه وبخاصة مع هذه القنوات التي تتيح للإنسان في وسط بيته أن يكتب رأيه ويتفاخر يقول: أنا لي ألف متابع، لي ألفين.. وهكذا، أنت ابتليت فليس الصواب بكثرة المتابعين، الصواب هل أنت على حق أم لا، فأعظم شيء أن لا تنظر في الليالي ذوات العدد إلى تكثير من يتابعك، أو تكثير من يمشي معك في موقعك أو في حساباتك، الذي تسعى لذوات العدد محاسبة بينك وبين الله هل أنت على صواب أم لا، هذا الابتلاء العظيم الذي دلتنا عليه هذه الآيات.
قال هنا:
فَكَانَ من اللوازم أَن يكون الإلهُ*** مُخَالفا فِيهَا الأناما
فَلَا تجْهَل لَهَا قدرا وخذها****شكُورًا للَّذي يحيى العظاما
من اللوازم إذًا أن لا تعترض على قدر الله، يأتي واحد ويقول: لم أنا هكذا، فقد ابتلاني الله أنا قصير وفلان طويل، أنا فقير وفلان غني، أنا ابتلاني الله فقد تزوجت وطلقت وأعيش في نكد .. إلى آخره، لا تنظر إلى أفعال الله فيك؛ لأن أفعال الله فيك لاتعلم حكمتها، ولكن انظر إلى ما يجب عليك في فعل الله فيك، ليجب عليك ما هو؛ لأن هذا هو النجاح في الابتلاء، ولكن الاعتراض لا، فعلمك محدود، وعلم الله –جل وعلا- كلي وجزئي والله بكل شيء عليم، قال:
فَكَانَ من اللوازم أَن يكون الإلهُ*** مُخَالفا فِيهَا الأناما
أكيد أن هناك أشياء من قدر الله –جل وعلا- لن تفهمه؛ لأن علم الناس جميعا في علم الله تعالى هو كمخيط إبرة غرزت في البحر فخرج منها قليل ماء، فهذا هو العلم الذي بيننا جميعا، ولكن علم الله –جل وعلا- واسع واسع،{وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:247]، سبحانه وتعالى.
إذًا كن مع القدر ومع القضاء في التسليم له والنظر فيما يجب عليك فيه، لاالاعتراض عليه؛ لأن المعترض على القدر هو معترض على الله -جل وعلا-، وكذلك المعترض على القدر يدخل فيه الحاسد، قال صلى الله عليه وسلم:(إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فإن الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كما تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ)،(21) لماذا الحسد يأكل الحسنات؟ لأن حقيقة الحاسد أنه يحسد فلانا لما أعطاه الله إياه، الله هو المعطي هو المفضل سبحانه، فضل بعض الناس على بعض، بل فضل بعض النبيين على بعض، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}، فتن الله الفقير بالغني، والغني بالفقير، والصحيح بالمريض، والمريض بالصحيح، والملك بالشعب، والشعب بالملك، والناس جميعا بعضهم ببعض، {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:20].
آخر قصة في هذه السورة: قصة ذي القرنين:
قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:83]، يعني قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، وخلق آدم: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]، وما فيها من الابتلاء، وكذا قصة موسى والخضر، ثم قصة ذي القرنين وبناء السد، فما العلاقة بينهم جميعا، ما علاقة هذه الآيات بعضها ببعض؟ كلها في إعطاء الدرس الكبير كيف تنجح في الابتلاء بحسب اختلاف الناس، هذا ابتلاء الملوك، قصة ذي القرنين ابتلاء الملوك، ابتلاء ذوي المسؤولية، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:83، 84]، من هو ذو القرنين؟ ذو القرنين كان في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام، ملك من الملوك أعطاه الله من كل شيء سببا، يعني من كل شيء علما، فيعلم أشياء كثيرة: في القوة، وفي السياسة، وفي البناء، وفي الحيل العسكرية، وفي تجهيز الجيوش، وفي الحصار، وفي كيفية التعامل مع الأعداء، فقد أعطاه الله من كل شيء سببا، يعني علما على الراجح، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:85]، يعني: فأتبع طريقا في مسألة بالعلم الذي علمه فيها، ومن المعلومات التي عنده علم الجغرافيا، وطرق الأرض وما فيها، ذو القرنين ملك صالح موحد جاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وجاهد ليعظم دين إبراهيم الخليل عليه السلام في الناس، فنشر التوحيد، وأحبط للشرك مناره، بدأ يمشي في الأرض، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} هنا اختبار الملك، اختبار المسؤولية، {إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}[الكهف:86]، خيَّره الله –جل وعلا-:{إِمَّا أَن تُعَذِّبَ}يعني: بالقتل أوالحبس أو التعزير، {وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} تعتقهم أو تعطيهم عطاء واسعا وتتخذ فيهم حسنا، فقد خيَّره الله ابتلاء واختبارا له فيما أعطاه، فنجح في الاختبار والابتلاء، فأجاب قائلا: {أَمَّا مَن ظَلَمَ}يعني: بالشرك، وبما دونه، فكل عقوبة بحسبها،{فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ}بأنواع العذاب: إما بالقتل، او بما دونه، {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى} يعني: الحياة الحسنة والعطاء، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}[الكهف:87، 88]، أيضًا سيخاطب بالخطاب الجيد، فأعطى الله هذا مثلا لمن ابتلاهم الله –جل وعلا- بالمسؤوليات عظمت أو صغرت:
أولاً: أن يتواضع، فليس فوق حكم الله –جل وعلا- حكم، فالأمر لله، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}[الأنعام:57].
ثانيًا: أن لا يحكم رأيه فيما لله فيه أمر، فلا مجال فيه للاجتهاد؛ لأن هناك مسائل مجمع عليها ومنصوص عليها بأمر الله -جل وعلا-، أو بوحيه لكتابه، أو بإجماع أهل الحق عليها، فههذ لا مجال فيها للاجتهاد، وهناك مسائل فيها مجال للاجتهاد يعني في الشريعة الإسلامية: إما لورود النص فيه مجال للاجتهاد أو لاختلاف العلماء أو لأشباه ذلك، فهنا يتحرى الحق بما يرى فيه المصلحة والاستعداد للحاضر والمستقبل.
فبيَّن الله –جل وعلا- أن ذا القرنين نجح في الابتلاء؛ ولذلك بعد قوله:{وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}[الكهف:88]، قال الله –جل وعلا-: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}[الكهف:89]، يعني: ذهب لطريق آخر، يعني: الله –جل وعلا- أعطاه فلما جاوب بهذه الإجابات، وفعل هذا الفعل الذي حمده الله تعالى عليه أعطاه أنه ذهب إلى طريق آخر فانتصر فيه؛ ولذلك سمي ذا القرنين وأصح الأقوال فيها أنه قرن الشمس في مشرقها ومغربها؛ لأنه ملك أقصى ما تصل إليه الشمس في عرف الناس آنذاك، وأقصى ما تغرب فيه الشمس، فأثنى الله –جل وعلا- عليه بذلك.
الخلاصة مما ذكر: نحن بحاجة أمام القرآن العظيم أن نقبل عليه، وأن نجعله الحجة في ألستنا، فطالب العلم الذي لم يحفظ القرآن عليه أن يحفظ القرآن، فإنه الأنس والهدى والرشاد، أنسك في خوتك، وفي صلاتك، وإذا تكالبت عليك الأمور، فالقرآن هو السلوى والصلة بالله جل وعلا هي الجنة، القرآن العظيم فيه العلم، علمه من علمه وجهله من جهله؛ ولذلك أثر عن شيخ الإسلام ابن تيمية ‘ أنه قال في آخر حياته في السجن، وقد سجن كسجن أصحاب الكهف بسبب التوحيد: (ندمت أنني لم أجعل حياتي كلها في تفسير القرآن)؛(22) لأنه وجد مع الخلوة زيادة وزيادة في نعمة الله عليه بالقرآن، فاحفظوا القرآن، والذي أوصيكم به ابدأوا بحفظ سورة (الكهف) لماذا؟ لأن حفظها يساعدكم على قراءتها يوم الجمعة قبل الصلاة إذا بكرتم إليها إن شاء الله، أو بعد العصر في ساعة من ساعات الإجابة، وتكرارها يوم الجمعة بعد أن تحفظها يشجعك لحفظ سور أخرى، ثم أيضًا احرص على التدبر في القرآن وقراءة التفاسير؛ لأن القرآن إذا قرأته بتدبر بعد العلم تجد له أنس عجيب، حتى بعض الآيات تجلس تكررها ليلة كاملة من عجب ما فيها من العلم، وما تفتح لك من رؤيا في أمور معاصرة حتى في حياتك الشخصية أو في حياة بيتك أو في العالمين بأجمعهم.
أسأل الله –جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والسداد، وأن ينفعنا بالقرآن، وأن يعلمنا منه ما جهلنا، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يزيدنا علما وعملا، وأن يجزي خيرا كل من دعا إلى هذه المحاضرة، وأعان عليها، وان يوفقنا وإياكم إلى ما فيه الرشد والسداد، أسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يوفق ولاة أمورنا لما فيه الرشد والسداد، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر الزلل في القول والعمل والرأي إنه جواد كريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد.
الأسئلة
سؤال: الله – جل وعلا- في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، لم أفهم مرارا ما وجه التعجب هنا؟
الجواب: عجبا في مخالفتهم لقومهم وهم فتية سبعة، أو عدد قليل، وعجب في تركهم لقومهم ودنيا وثراء قومهم وذهابهم إلى الكهف، وعجب في نومتهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، وعجبا في بعثهم، وعجب في الإعثار عليهم، وعجب في كل قصة أصحاب الكهف، فهي من آيات الله، {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}، فكل أحوالهم كانت عجبا.
سؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في هذه الدنيا مع الجمع بين زينة الحياة الدنيا والزهد فيها، وهل يحصل تعارض بينهما، وجزاكم الله خيرًا؟
الجواب: الزهد أفضل، الزهد في زينة الحياة الدنيا أفضل بإجماع أهل العلم، وتفسير الزهد في الدنيا اختلف أهل العلم فيه، وفسره شيخ الإسلام ابن تيمية ‘، فقال: (الزُّهْد تَرْك مَا لا يَنْفَع فِي الْآخِرَة)(23)، وهذا له معنى واسع يشمل طبقات من الناس، لكن الدنيا عند المؤمن في يده لا في قلبه، والمذموم أن يكون حب الدنيا في القلب، ولكن إن أرادها ظاهريا وأحبها متعة فيما أباح الله –جل وعلا- وجعلها في يده لا في قلبه وكان قلبه آويا إلى الله -جل وعلا-، ومهاجرا إلى الله سبحانه، فإنه على خير، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد سئل الحسن البصري الإمام الزاهد المعروف من سادات التابعين، سئل ‘ فقيل له: (ما بال الصحابة أعظم أجرا، وقد رأينا ممن بعدهم من هو أكثر تعبدًا، وزهدًا؟)، فقال الحسن ‘: (أُوْلَئِكَ تَعَبَّدُوا وَالْآخِرَةُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ تَعَبَّدُوا وَالْدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ) ، يعني: الرجل يقف في الصلاة مع الرجل كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي، وَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا عُشْرُهَا، وَتُسْعُهَا، أَوْ ثُمُنُهَا، أَوْ سُبُعُهَا)،(24) رجل بجانب رجل واحد نصف صلاته، وواحد كاملة صلاته، والآخر عشر صلاته، هل هو لأجل اللهو فقط، أو لنه سرح في صلاته أو ذهب يفكر في أشياء ولم يخشع في صلاته، ليس هذا فقط، ولكن من أسباب التفضيل: خشوع القلب؛ لأن القلب الذي ليس فيه إلا الله – جل وعلا- ليس كالقلب الذي فيه أشياء وأشياء وأشياء؛ ولهذا من محاسن الإشارات في تفسير الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم على حديث:(إنَّ المَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ،وَلَا صُورَةٌ)،(25 ) قال ‘: (إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ يَمْنَعُهَا الْكَلْبُ وَالصُّورَةُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ. فَكَيْفَ تَلِجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَحَبَّتُهُ وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا؟ فَهَذَا مِنْ إِشَارَةِ اللَّفْظِ الصَّحِيحَةِ)؛(26) لأن الكلب منه الكلب يعني الأهواء، والصورة صورة، وهذان الأمران هما اللذان بهما يضل العباد: إما بالشهوات، وأعظمها الصور وما تؤدي إليه، وإما بالشبهات وهي الأهواء، والكلب منه الكَلَب، يعني الاستيعار في البدعة والاستيعار في الشبهة، والاستيعار في الأهواء، وهذا الذي يمثل أمامنا اليوم؛ لذلك الدنيا في يد المؤمن لا عتب فيها، إذا كان القلب مع الله -جل وعلا-، فهو على خير وإلى خير، (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ)،(27) لكن أن تكون الدنيا في قلب المسلم تفضلها على الآخرة فهذا مذموم بحسبه ويأثم بحسب الحال، أشدها أن يكون كصاحب الجنتين يقول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف:36]، وأقل منه من لا يأبه للآخرة ويكون حتى العبادات يعملها بصورة غير مرضية ويكثر من المحرمات، فهو ما بين حسنات وسيئات؛ ولذلك ليس في الشرع ذم للمال بحسبه، ولا مدح للفقر بحسبه، وإنما الذم والمدح للصلة بالله جل وعلا، رغبة ما عنده سبحانه، وخشوع القلب، وتوجه القلب له -جل وعلا- وحده، والله أعلم.
سؤال: ما الموقف الشرعي تجاه هذه الفتنة المحيطة بنا وفقكم الله؟
الجواب: كان حذيفة رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن، يقول حذيفة رضي الله عنه: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟)، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (نَعَمْ)، قال: (وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟) قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)، قال: (وَمَا دَخَنُهُ؟) قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)، يعني: مرات كلامهم على السنة، ومرات كلامهم ينكر ليس على السنة، قال: (فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، قال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟) فَقَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)، قال: (فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟) قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)، قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟)، قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)،(2 هذا مخرج عظيم للشاب المسلم في هذه المدلهمات.
المسألة بسيطة سهلة شرعا، وهي: أن تلتزم السنة وإمام المسلمين وجماعتهم، هي موجودة الزمها، أنت على نور، وقد نجوت من الفتنة، والتزمت بالسنة ووفقك الله للصالح كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم.
أعجبت برأيك ودخلت مع أهل الأهواء فقد دخلت في الفرق فقد دخلت في الفرق التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة عنها، وكذا نهى المسلمين عنها؛ ولذلك المخرج دائما إذا اشتبه عليك شيء أن تنظر في السنة، وتسأل صاحب سنة، من يريد الله –جل وعلا- والدار الآخرة؛ لأنك لا تأمن إذا سألت من يريد الدنيا ولو كان هو منتسبا للخير أو داعية ولكنه يحب الدخول في الأمور الدنيوية والأمور السياسية بكثرة ويحب الدخول فيما ليس له ولا هو في فنه ولا في اختصاصه لا تأمن أن يعطيك شيئا تضل به؛ ولهذا الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، سهل الواحد أن يتكلم ولكن إذا وقعت الفتنة لا ترفع صعب رفعها.
أيضًا حذيفة رضي الله عنه سأله عمر رضي الله عنه قال: (أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الفِتْنَةِ؟)، فقال حذيفة رضي الله عنه: (لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بَأْسٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ)، يعني: لا تخاف أنت في حياتك لا تخاف فإن بينك وبين الفتن باب مغلق، عمر رضي الله عنه علم أن حذيفة رضي الله عنه ما قال باب مغلق يعني النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قاله، فهذا الباب مغلق معناه أنه يمكن أن يفتح، فسأله: (فَيُكْسَرُ البَابُ أَوْ يُفْتَحُ؟)، قَالَ: (لاَ، بَلْ يُكْسَرُ)، قَالَ: (فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا).(29)
فإذًا الفتنة إذا انكسر بابها انتهى، وقعت الدماء، ووقعت الفتن وذهب من الناس كل خير؛ ولذلك يا إخوة أوصوا من حولكم وأنفسكم ومن سيأتون بعدكم لا شيء يعادل وحدة الناس على شرع الله -عز وجل-، والتفاف الناس على حب رسوله، وعلى السمع والطاعة لولاة أمورهم، هذه لا يغل عليها قلب امرئ مسلم كما جاء في الحديث، يعني طيبة بها النفس، حتى ولو كان فيه أثرة، يعني الآن كل الأمور في الأحاديث النبوية أجاب عنها -عليه الصلاة والسلام- وبينها للأمة، ولكن نسيت أو لم تعد تذكر، بايع الصحابة رضي الله عنهم على السمع والطاعة في السر والعلن وفي المنشط والمكره، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: (دَعَانَا النبي صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ فقال فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، في مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إلا أَنْ ترو كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ من اللَّهِ فيه بُرْهَانٌ)(30)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)،(31) البطولات ضد الأعداء، ولكن لا تعمل بطولات على أهلك وأحبائك وقومك وعلى أسرتك وأولادك فتفرق فتقع الدماء؛ لأنه ليس بعد الاجتماع إلا الفرقة، والفرقة إذا جاءت جاءت الأحقاد، وإذا جاءت الأحقاد بعدها المواجهة حتميا؛ ولذلك كل داع للفرقة كل داع للتثبيط عن ولي الأمر، وللبعد عنه، ولكثرة الانتقاد عليه، ولعدم سلوك المسلك الشرعي في النصيحة، هذا يريد الفرقة، إذا حدثت الفرقة تحدث الأحقاد، وإذا حدثت الأحقاد يقع السيف، وقد يكون الأمر أكثر من ذلك، بلادكم بلاد المملكة العربية السعودية شاء الله لها أن يكون فيها اعظم قوة على الأرض، أعظم قوة ورصيد على الأرض وهي الكعبة، مكة، هذه أعظم قوة، الخوف من المسلمين من قبل جميع أعداء الإسلام هو الخوف أن يجتمعوا حول الكعبة وان يعظموا، في هذا العصر الحاضر ترون كيف سخر الله –جل وعلا- الأسباب بفضله ونعمته، ثم بتوجيه ملوك المملكة العربية السهودية للعناية بالحرمين اشد عناية، العناية بالحرمين ليست بناء مسجد فقط، بناء الحرمين وخدمتها فقط، هي في ضمنها تيسير السبيل للوصول إلى الحرمين من ملايين المسلمين، وملايين المسلمين إذا جاءوا للحرمين تتغير نفوسهم، وسوف يكون هناك نهضة إسلامية، وسوف يكون هناك شعور إسلامي عظيم، وسوف يكون هناك دعوة إسلامية تنتشر، اليوم نحن بحكم مسؤوليتنا نرى من أعظم المؤثرات على المسلمين هو مشاهدة الكعبة والطواف وقراءة أئمة الحرم المكي، ومشاهدة المسجد النبوي، وهذه السكينة التي حولها، أعظم قوة عندنا الكعبة، فإذا حصل شيء فغنه سوف تحصل فرقة عظيمة في الناس، يفقدون معها دينهم، وقربهم من كعبتهم ومسجد نبيهم صلى الله عليه وسلم، لاتظنون أيها الإخوة واذكروا كلمتي هذه إن كنا أحياء أو لم نكن، يذكر من يحيا ولا يظن أن أعداء الإسلام سعيدون بوحدتكم في المملكة العربية السعودية، ولا تظن أن أعداء الإسلام سعيدون بقوة الدولة وخدمتها للحرمين الشريفين، ولا تظن أن أعداء الإسلام سعيدون بإنفاق الدولة هذه الأموال على الإسلام، وعلى الحرمين الشريفين، وعلى المشاعر المقدسة وعلى المسلمين، لا تظن أنهم سعداء بذلك، بل هم شقيون بذلك، ولكن هذا واجبنا ولابد أن نؤديه بالحكمة، فهناك من يؤدي الواجب بغير حكمة بيخسر، ولكن من يؤدي الواجب بحكمة يكسب ويضمن الاستمراية، ويضمن خدمة المسلمين والأجيال المتعاقبة، وهذا يعطيك أن حبك للإسلام ولهذه الدعوة ولقوة الإسلام يكون بأسباب، ومن أسباب هذه المحبة التي في قلبك أن تحافظ على وحدة هذه البلاد؛ لأن وحدتها فيه قوة للمسلمين جميعا، بل وللإسلام، بل وللكتاب والسنة، وللتوحيد، وللحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، رأينا على مستوى معلن وعلى مستوى غير معلن بحكم مسوؤليتنا ما نكون معه على قناعة بأننا إذا ما كنا جميعا على يقظة وفهم فإن هذه البلد سيؤثر عليها أبناؤها، وإذا لم نكن على يقظة فسيؤثر عليها بعض أبنائها في التفريق بينهم، ولذلك ثبت في صحيح مسلم ‘: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قد أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ في التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)،(32) وهذه صنعة الشيطان، التحريش بين المسلمين، بين المؤمنين، ولذلك ترى أن الفتن تبدأ بالتحريش، فيبدأ يحقن النفوس كراهية، الغلط يعالج، الجريمة يعاقب أصحابها، الفساد يلاحق أهله، ولكن ما يسبب تصدع في الوحدة، يجب أن نسعى إليه بالطرق الصحيحة عبر ولاة الأمور وهم حريصون على الخير وعلى إحقاق الحق بحسب استطاعتهم، وبحسب ما يوافق الحكمة ومقتضيات الأمور، ولكن دورنا ما هو؟ دورنا في اثنتين:
الأول: أن نحافظ على هذه الوحدة التي حصلت بالتوحيد، وبالالتفاف على ولي الأمر، وبمحبتنا لبعضنا البعض، في الشمال هنا في عرعر، وفي جنوب المملكة، وفي الرياض وفي مكة، كلنا –ولله الحمد- إخوة متحابين، لا عداوات، الكل على هيئة واحدة، وعلى محبة واحدة، فرق الله بين الناس في أشكالهم وفي صورهم ومعطياتهم، ولهجاتهم، ولكنهم على قلب واحد ولله الحمد، فلنحافظ على هذا الأمر.
الثاني: أن لا نسمح لمريدي الفرقة أن يبثوا فرقتهم بيننا، وإلا فهي مسؤوليتنا ومسؤولية أهل هذا الزمان تجاه أبنائنا وبناتنا وتجاه الأجيال المقبلة إذا حصل شيء من النقص، فإنه بسبب تقصيرنا في أداء الواجب، أسأل الله –جل وعلا- أن يوفقني وإياكم ويجعلنا ملتزمين بالسنة ونهج السلف الصالح، اللهم أمتنا على السنة والإسلام إنك على كل شيء قدير.
—————— الهوامش
(1) أخرجه مسلم (257) (809).
(2) أخرجه أحمد (45/509)، وأخرجه مسلم (809)، والنسائي في الكبرى (8025، 10784، 10785، 10786)، وفي عمل اليوم والليلة (949)، وابن حبان (786)، والترمذي (2886)، وأبو عبيد في فضائل القرآن( ص 132).
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/299)، والبيهقي في الدعوات الكبير (2/133)، وفي السنن الصغير (1/233، 342)، وقال الحاكم : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ).
(4) قال ابن القيم ‘ في نونيته:
وَهْوَ الحَمِيدُ فَكُلُّ حَمدٍ وَاقِعٌ***أو كَانَ مَفرُوضًا مَدَى الأزمَانِ
مَلأ الوُجُودَ جَمِيعَهُ وَنَظِيرَهُ****مِن غَيرِ مَا عَدٍّ وَلاَ حُسبَانِ
هُوَ أهلُهُ سُبحَانَهُ وَبِحَمدِهِ****كُلُّ المَحَامِدِ وَصفُ ذِي الإِحسَانِ
انظر: النونية مع شرحها لابن عيسى (2/215).
(5) رواه البغوي في شرح السنة (1/212)، وابن أبي عاصم في السنة (1/12)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (1/188، وقال: (تفرد به نعيم بن حماد)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/368، وانظر تعليل الحافظ ابن رجب للحديث في جامع العلوم والحكم (ص387، 388
(6) أخرجه البخاري (7536).
(7) انظر في تفسير الآية: جامع الرسائل لشيخ الإسلام ‘ (1/5)، ومفتاح دار السعادة لابن القيم ‘ (1/174).
( انظر: مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب –كتاب فضائل القرآن والتفسير-(2/181).
(9) هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين، واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْقِرُ أحدكم صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مع صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ). أخرجه البخاري (2610)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وكل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيًا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان. انظر: مقالات الإسلاميين (ص4، 86)،والفرق بين الفرق (ص54)، والملل والنحل (1/114).
(10)أخرجه مسلم (145).
(11)انظر هذا البحث في : الموافقات للشاطبي ‘ (5/132-141).
(12)انظر : تفسير الطبري (15/216)، وزاد المسير (3/74)، وابن كثير (5/147).
(13)انظر : تفسير الطبري (15/219)، والبغوي(2/186)، وابن كثير ( 5/148.
(14)أخرجه الترمذي (2336)، والنسائي في الرقائق من الكبرى ( 11795)، وأحمد (29/15)، والبخاري في التاريخ الكبير( 7/222)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/462)، وابن حبان (8/17)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4325)، والطبراني في الكبير( 19/ 179)، وفي الأوسط (2/225)، وفي مسند الشاميين (2/178، والحاكم ( 4/254)، والقضاعي (2/124) ، والبيهقي في الشعب (12/522).
(15)أخرجه أحمد (29/16)، والبخاري في الأدب المفرد (ص155)، وابن حبان (8/6)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/327)، وأبو يعلى في مسنده (13/320)، والقضاعي في مسند الشهاب (2/259)، والطبراني في الأوسط( 3/ 291، 9/22)، والحاكم ( 2/3، 257)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/446)، وفي الآداب (1/220)، وابن أبي شيبة (4/467).
(16) أخرجه البخاري (122).
(17) انظر: في ذلك الأبيات اللطيفة التي نظمها ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق (1/199).
(1 انظر : جامع بيان العلم وفضله (1/583).
(19) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/87): (العلم نقطة كثرها الجاهلون، ليس بحديث بل من كلام بعضهم)، وفي سبل السلام (4/178 : (وفي كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم نقطة كثرها الجهال).
(20)أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي (3058، وابن ماجه (4014)، وأحمد (1/178، والبخاري في خلق أفعال العباد (1/63)، وابن وضاح في البدع (2/149)، والمروزي في السنة (ص14)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/211، 14/190)، وابن حبان (2/109)، والطبراني في الكبير (22/220)، وفي مسند الشاميين (1/428 ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/157)، وفي شعب الإيمان (10/51، 12/201)، وفي الآداب (ص 62)، وفي الاعتقاد (ص252)، وأبو نعيم في الحلية (2/30، 160)، والبغوي في شرح السنة (14/247).
(21)أخرجه أبو داود (4903)، وعبد بن حميد في مسنده (1/418 ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/266)، وابن عبد البر في التمهيد (6/124) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(22)انظر: العقود الدرية (ص 43-44) قال ‘: (… ثمَّ لما حبس فِي آخر عمره كتبت لَهُ أَن يكْتب على جَمِيع الْقُرْآن تَفْسِيرا مُرَتبا على السُّور، فَكتب يَقُول إِن الْقُرْآن فِيهِ مَا هُوَ بَين بِنَفسِهِ، وَفِيه مَا قد بَينه الْمُفَسِّرُونَ فِي غير كتاب، وَلَكِن بعض الْآيَات أشكل تَفْسِيرهَا على جمَاعَة من الْعلمَاء، فَرُبمَا يطالع الْإِنْسَان عَلَيْهَا عدَّة كتب وَلَا يتَبَيَّن لَهُ تَفْسِيرهَا، وَرُبمَا كتب المُصَنّف الْوَاحِد فِي آيَة تَفْسِيرا ويفسر غَيرهَا بنظيره، فقصدت تَفْسِير تِلْكَ الْآيَات بِالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهُ أهم من غَيره، وَإِذا تبين معنى آيَة تبين مَعَاني نظائرها، وَقَالَ: قد فتح الله عَليّ فِي هَذِه الْمرة من مَعَاني الْقُرْآن، وَمن أصُول الْعلم بأَشْيَاء كَانَ كثير من الْعلمَاء يتمنونها، وندمت على تَضْييع أَكثر أوقاتي فِي غير مَعَاني الْقُرْآن أَو نَحْو هَذَا، وَأرْسل إِلَيْنَا شَيْئا يَسِيرا مِمَّا كتبه فِي هَذَا الْحَبْس، وَبَقِي شَيْء كثير فِي مَسْأَلَة الحكم عِنْد الْحُكَّام لما أخرجُوا كتبه من عِنْده وَتُوفِّي وَهِي عِنْدهم إِلَى هَذَا الْوَقْت نَحْو أَربع عشرَة رزمة، ثمَّ ذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله مَا رَآهُ ووقف عَلَيْهِ من تَفْسِير الشَّيْخ).
(23) انظر: مجموع الفتاوى (10/615)، ومدارج السالكين (2/10)، وعدة الصابرين (226).
(24) أخرجه أبو داود (796)، والنسائي في الكبرى (614، 615)، وأحمد (31/171)، والبزار في مسنده (1420)، وأبو يعلى في مسنده (2/189، 211، 11/501)، وابن حبان (5/211) وابن أبي شيبة (1/290 )، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/126)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/398.
(25) أخرجه البخاري ( 3226، 5958، ومسلم (2106) من حديث أبى طلحة رضي الله عنه.
(26)انظر: مدارج السالكين (2/291)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (1/170).
(27) سبق تخريجه (ص11).
(28 أخرجه البخاري (3606، 7084).
(29) أخرجه البخاري (1435)، و مسلم (144).
(30) أخرجه البخاري (7055، )، ومسلم (42)(1709).
(31) أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849).
(32) أخرجه مسلم (2812).
تعليق