- وقال قَوَّامُ السُّنَّةِ؛ الأصبهانيُّ رحمه اللهُ: (وأمّا قولُه صلّى الله عليه وسلّم: ((خَلَقْتُ عبادي حُنَفَاءَ)) (36) فهو - واللهُ أعلمُ - إشارةٌ إلى المعرفةِ الغريزيةِ التي هي مُرَكَّبَةٌ فيهم.
قال: وقد ذَكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ أنّ الفطرةَ ها هنا هي الفطرةُ الغريزيةُ التي هي موجودةٌ في كلِّ إنسانٍ، فإنّ كلَّ أحدٍ يَرْجِعُ إلى غريزتِه عَرَفَ خالقَه، وذلك معنى قولِه تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذه المعرفةُ هي المعرفةُ التي أَخْبَرَ اللهُ تعالى بوجودها مِن الكفارِ، وذلك في قولِه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] فحينَ ظَهَرَتْ لهم حالُ الضرورةِ وانقطعوا عن أسبابِ الخَلْقِ؛ ولم يَبْقَ لهم تَعَلُّقٌ بأحدٍ ظهرتْ فيهم المعرفةُ الغريزيةُ؛ إلّا أنها غيرُ نافعةٍ! إنما النافعةُ هي المعرفةُ الكسبيةُ، إلّا أنّ اللهَ تعالى فَطَرَ الناس على المعرفةِ الغريزيةِ؛ وطَلَبَ منهم المعرفةَ الكسبيةَ، وعَلَّقَ الثوابَ بها والعقابَ على ترْكِها.
يدلُّ على هذا ما رويَ أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عمّن مات قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ؛ فقال: ((اللهُ أعلمُ بما كانوا عاملِينَ)) (37)، ولو وُلِدَ وَلَدُ الكافرِ على الإسلامِ؛ لأوجبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم له الجنةَ بكلِّ حالٍ! فلما أحالَ الحُكْمَ على ما عَلِمَ اللهُ تعالى مِن أعمالِهم أنْ لو أَدْرَكوا وَقْتَ العملِ؛ عَرَفْنَا أنّ المعنى بالفطرةِ - ما قلنا - مِن المعرفةِ التي لا يكونُ فيها ثوابٌ؛ ولا بعَدَمِها عقابٌ) (3.
- وقال العلّامةُ ابنُ أبي العِزِّ الحنفيّ - تعليقًا على كلامِ الإمامِ الطحاويِّ رحمهما اللهُ في عقيدتِه المشهورةِ: "والميثاقُ الذي أَخَذَه اللهُ تعالى مِن آدمَ وذُرِّيَّتِه حَقٌّ" (39) -: (ولا شكّ أنّ الإقرارَ بالرُّبوبيّةِ أمرٌ فِطْرِيٌّ؛ والشركُ حادثٌ طارئٌ؛ والأبناءُ تَقَلَّدُوه عنِ الآباءِ، فإذا احْتَجّوا يومَ القيامةِ بأنّ الآباءَ أَشركوا ونحن جَرَيْنَا على عادتهم كما يجري الناسُ على عادةِ آبائِهم في المطاعمِ والملابسِ والمساكنِ! يقالُ لهم: أنتم كنتم مُعْتَرِفِين بالصانعِ؛ مُقِرِّينَ بأنّ اللهَ ربُّكم لا شريكَ له، وقد شهدتم بذلك على أنفسِكم؛ فإنّ شهادةَ المرءِ على نَفْسِه هي إقرارُه بالشيءِ ليس إلّا، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، وليس المرادُ أنْ يقولَ: أشهدُ على نفسي بكذا! بل مَن أَقَرَّ بشيءٍ فقد شَهِدَ على نَفْسِه به؛ فلم عَدَلْتُم عن هذه المعرفةِ والإقرارِ الذي شَهِدْتُم به على أنفسِكم إلى الشركِ؟؟ بل عَدَلْتُم عنِ المعلومِ المُتَيَقَّنِ إلى ما لا يُعْلَمُ له حقيقةٌ - تقليدًا لِمَن لا حُجَّةَ معه! -، بخلافِ اتِّبَاعِهم في العاداتِ الدنيويةِ؛ فإنّ تلك لم يكن عندكم ما يُعْلَمُ به فسادُها - وفيه مصلحةٌ لكم - بخلافِ الشركِ؛ فإنه كان عندكم مِن المعرفةِ والشهادةِ على أنفسِكم ما يُبَيِّنُ فسادَه وعُدُوْلَكُم فيه عنِ الصوابِ، فإنّ الدِّيْنَ الذي يأخذُه الصبيُّ عن أبويه هو: دينُ التربيةِ والعادةِ - وهو لأجلِ مصلحةِ الدنيا -، فإنّ الطفلَ لا بُدّ له مِن كافلٍ، وأحقُّ الناسِ به أبواه، ولهذا جاءتِ الشريعةُ بأنّ الطفلَ مع أبويه على دينِهما في أحكامِ الدنيا الظاهرةِ، وهذا الدِّيْنُ لا يُعَاقِبُهُ اللهُ عليه - على الصحيحِ - حتى يَبْلُغَ ويَعْقِلَ وتقومَ عليه الحُجَّةُ، وحينئذٍ فعليه أنْ يَتَّبِعَ دينَ العلمِ والعقلِ - وهو الذي يَعْلَمُ بعقلِه هو أنه دينٌ صحيحٌ -، فإنْ كان آباؤه مهتدين كيوسفَ الصِّدِّيقِ مع آبائِه، قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]، وقال لِيعقوبَ بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، وإنْ كان الآباءُ مخالِفِين الرُّسُلَ؛ كان عليه أنْ يَتَّبِعَ الرُّسُلَ، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8]، الآية، فمَنِ اتَّبَعَ دِيْنَ آبائِه بغيرِ بصيرةٍ وعِلْمٍ؛ بل يَعْدِلُ عن الحقِّ المعلومِ إليه! فهذا اتَّبَعَ هواه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وهذه حالُ كثيرٍ مِن الناسِ مِن الذين وُلِدوا على الإسلامِ؛ يَتَّبِعُ أحدُهم أباه فيما كان عليه مِن اعتقادٍ ومذهبٍ؛ وإنْ كان خطًا ليس هو فيه على بصيرةٍ! بل هو مِن مُسْلِمَةِ الدارِ؛ لا مُسْلِمَةِ الاختيارِ، وهذا إذا قيل له في قبرِه: مَن ربُّك؟ قال: هاه هاه، لا أدري! سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُه.
فلْيتأملِ اللبيبُ هذا المَحَلَّ، ولْينصحْ نَفْسَه، ولْيَقُمْ معه، ولْيَنظرْ مِن أيّ الفريقين هو؟ واللهُ الموفِّقُ، فإنّ توحيدَ الرُّبوبيّةِ لا يَحتاجُ إلى دليلٍ فإنه مركوزٌ في الفِطَرِ, وأقربُ ما يَنْظُرُ فيه المرءُ أمرَ نَفْسِه لَمّا كان نطفةً وقد خَرَجَ مِن بين الصُّلْبِ والترائبِ - والترائبُ: عظامُ الصدر - ثم صارتْ تلك النطفةُ في قَرَارٍ مَكِيْنٍ - في ظلماتٍ ثلاثٍ -، وانقطعَ عنها تدبيرُ الأبوين وسائرِ الخلائقِ، ولو كانت موضوعةً على لوحٍ أو طَبَقٍ، واجتمعَ حكماءُ العالَمِ على أنْ يُصَوِّرُوا منها شيئًا لم يَقْدِروا, ومحالٌ تَوَهُّمُ عملِ الطبائعِ فيها! لأنها مواتٌ عاجزةٌ، ولا تُوْصَفُ بحياةٍ! ولن يتأتى مِن المواتِ فعلٌ وتدبيرٌ! فإذا تَفَكَّرَ في ذلك وانتقالِ هذه النطفةِ مِن حالٍ إلى حالٍ؛ عَلِمَ بذلك توحيدَ الرُّبوبيّة، فانتقلَ منه إلى توحيدِ الإلهيةِ, فإنه إذا عَلِمَ بالعقل أنّ له رَبًّا أَوْجَدَهُ؛ كيف يَلِيْقُ به أنْ يَعْبُدَ غيرُه؟ وكلما تَفَكَّرَ وتَدَبَّرَ ازدادَ يقينًا وتوحيدًا، واللهُ الموفِّقُ، لا ربَّ غيرُه، ولا إله سواه) (40).
والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
(36) صحيح مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه مرفوعًا.
(37) صحيح البخاري (6599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(3 يُنظر: ((الحُجَّةُ في بيانِ المَحَجّةِ)) للأصبهاني (2/ 41).
(39) يُنظر: ((متن الطحاوية)) بتعليق الألباني (ص: 47).
(40) يُنظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العِزِّ الحنفيّ (ص: 220).
قال: وقد ذَكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ أنّ الفطرةَ ها هنا هي الفطرةُ الغريزيةُ التي هي موجودةٌ في كلِّ إنسانٍ، فإنّ كلَّ أحدٍ يَرْجِعُ إلى غريزتِه عَرَفَ خالقَه، وذلك معنى قولِه تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذه المعرفةُ هي المعرفةُ التي أَخْبَرَ اللهُ تعالى بوجودها مِن الكفارِ، وذلك في قولِه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] فحينَ ظَهَرَتْ لهم حالُ الضرورةِ وانقطعوا عن أسبابِ الخَلْقِ؛ ولم يَبْقَ لهم تَعَلُّقٌ بأحدٍ ظهرتْ فيهم المعرفةُ الغريزيةُ؛ إلّا أنها غيرُ نافعةٍ! إنما النافعةُ هي المعرفةُ الكسبيةُ، إلّا أنّ اللهَ تعالى فَطَرَ الناس على المعرفةِ الغريزيةِ؛ وطَلَبَ منهم المعرفةَ الكسبيةَ، وعَلَّقَ الثوابَ بها والعقابَ على ترْكِها.
يدلُّ على هذا ما رويَ أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عمّن مات قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ؛ فقال: ((اللهُ أعلمُ بما كانوا عاملِينَ)) (37)، ولو وُلِدَ وَلَدُ الكافرِ على الإسلامِ؛ لأوجبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم له الجنةَ بكلِّ حالٍ! فلما أحالَ الحُكْمَ على ما عَلِمَ اللهُ تعالى مِن أعمالِهم أنْ لو أَدْرَكوا وَقْتَ العملِ؛ عَرَفْنَا أنّ المعنى بالفطرةِ - ما قلنا - مِن المعرفةِ التي لا يكونُ فيها ثوابٌ؛ ولا بعَدَمِها عقابٌ) (3.
- وقال العلّامةُ ابنُ أبي العِزِّ الحنفيّ - تعليقًا على كلامِ الإمامِ الطحاويِّ رحمهما اللهُ في عقيدتِه المشهورةِ: "والميثاقُ الذي أَخَذَه اللهُ تعالى مِن آدمَ وذُرِّيَّتِه حَقٌّ" (39) -: (ولا شكّ أنّ الإقرارَ بالرُّبوبيّةِ أمرٌ فِطْرِيٌّ؛ والشركُ حادثٌ طارئٌ؛ والأبناءُ تَقَلَّدُوه عنِ الآباءِ، فإذا احْتَجّوا يومَ القيامةِ بأنّ الآباءَ أَشركوا ونحن جَرَيْنَا على عادتهم كما يجري الناسُ على عادةِ آبائِهم في المطاعمِ والملابسِ والمساكنِ! يقالُ لهم: أنتم كنتم مُعْتَرِفِين بالصانعِ؛ مُقِرِّينَ بأنّ اللهَ ربُّكم لا شريكَ له، وقد شهدتم بذلك على أنفسِكم؛ فإنّ شهادةَ المرءِ على نَفْسِه هي إقرارُه بالشيءِ ليس إلّا، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، وليس المرادُ أنْ يقولَ: أشهدُ على نفسي بكذا! بل مَن أَقَرَّ بشيءٍ فقد شَهِدَ على نَفْسِه به؛ فلم عَدَلْتُم عن هذه المعرفةِ والإقرارِ الذي شَهِدْتُم به على أنفسِكم إلى الشركِ؟؟ بل عَدَلْتُم عنِ المعلومِ المُتَيَقَّنِ إلى ما لا يُعْلَمُ له حقيقةٌ - تقليدًا لِمَن لا حُجَّةَ معه! -، بخلافِ اتِّبَاعِهم في العاداتِ الدنيويةِ؛ فإنّ تلك لم يكن عندكم ما يُعْلَمُ به فسادُها - وفيه مصلحةٌ لكم - بخلافِ الشركِ؛ فإنه كان عندكم مِن المعرفةِ والشهادةِ على أنفسِكم ما يُبَيِّنُ فسادَه وعُدُوْلَكُم فيه عنِ الصوابِ، فإنّ الدِّيْنَ الذي يأخذُه الصبيُّ عن أبويه هو: دينُ التربيةِ والعادةِ - وهو لأجلِ مصلحةِ الدنيا -، فإنّ الطفلَ لا بُدّ له مِن كافلٍ، وأحقُّ الناسِ به أبواه، ولهذا جاءتِ الشريعةُ بأنّ الطفلَ مع أبويه على دينِهما في أحكامِ الدنيا الظاهرةِ، وهذا الدِّيْنُ لا يُعَاقِبُهُ اللهُ عليه - على الصحيحِ - حتى يَبْلُغَ ويَعْقِلَ وتقومَ عليه الحُجَّةُ، وحينئذٍ فعليه أنْ يَتَّبِعَ دينَ العلمِ والعقلِ - وهو الذي يَعْلَمُ بعقلِه هو أنه دينٌ صحيحٌ -، فإنْ كان آباؤه مهتدين كيوسفَ الصِّدِّيقِ مع آبائِه، قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]، وقال لِيعقوبَ بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، وإنْ كان الآباءُ مخالِفِين الرُّسُلَ؛ كان عليه أنْ يَتَّبِعَ الرُّسُلَ، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8]، الآية، فمَنِ اتَّبَعَ دِيْنَ آبائِه بغيرِ بصيرةٍ وعِلْمٍ؛ بل يَعْدِلُ عن الحقِّ المعلومِ إليه! فهذا اتَّبَعَ هواه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وهذه حالُ كثيرٍ مِن الناسِ مِن الذين وُلِدوا على الإسلامِ؛ يَتَّبِعُ أحدُهم أباه فيما كان عليه مِن اعتقادٍ ومذهبٍ؛ وإنْ كان خطًا ليس هو فيه على بصيرةٍ! بل هو مِن مُسْلِمَةِ الدارِ؛ لا مُسْلِمَةِ الاختيارِ، وهذا إذا قيل له في قبرِه: مَن ربُّك؟ قال: هاه هاه، لا أدري! سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُه.
فلْيتأملِ اللبيبُ هذا المَحَلَّ، ولْينصحْ نَفْسَه، ولْيَقُمْ معه، ولْيَنظرْ مِن أيّ الفريقين هو؟ واللهُ الموفِّقُ، فإنّ توحيدَ الرُّبوبيّةِ لا يَحتاجُ إلى دليلٍ فإنه مركوزٌ في الفِطَرِ, وأقربُ ما يَنْظُرُ فيه المرءُ أمرَ نَفْسِه لَمّا كان نطفةً وقد خَرَجَ مِن بين الصُّلْبِ والترائبِ - والترائبُ: عظامُ الصدر - ثم صارتْ تلك النطفةُ في قَرَارٍ مَكِيْنٍ - في ظلماتٍ ثلاثٍ -، وانقطعَ عنها تدبيرُ الأبوين وسائرِ الخلائقِ، ولو كانت موضوعةً على لوحٍ أو طَبَقٍ، واجتمعَ حكماءُ العالَمِ على أنْ يُصَوِّرُوا منها شيئًا لم يَقْدِروا, ومحالٌ تَوَهُّمُ عملِ الطبائعِ فيها! لأنها مواتٌ عاجزةٌ، ولا تُوْصَفُ بحياةٍ! ولن يتأتى مِن المواتِ فعلٌ وتدبيرٌ! فإذا تَفَكَّرَ في ذلك وانتقالِ هذه النطفةِ مِن حالٍ إلى حالٍ؛ عَلِمَ بذلك توحيدَ الرُّبوبيّة، فانتقلَ منه إلى توحيدِ الإلهيةِ, فإنه إذا عَلِمَ بالعقل أنّ له رَبًّا أَوْجَدَهُ؛ كيف يَلِيْقُ به أنْ يَعْبُدَ غيرُه؟ وكلما تَفَكَّرَ وتَدَبَّرَ ازدادَ يقينًا وتوحيدًا، واللهُ الموفِّقُ، لا ربَّ غيرُه، ولا إله سواه) (40).
والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
(36) صحيح مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه مرفوعًا.
(37) صحيح البخاري (6599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(3 يُنظر: ((الحُجَّةُ في بيانِ المَحَجّةِ)) للأصبهاني (2/ 41).
(39) يُنظر: ((متن الطحاوية)) بتعليق الألباني (ص: 47).
(40) يُنظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العِزِّ الحنفيّ (ص: 220).