تفسير آية الحجاب من سورة الأحزاب
أضواء البيان
الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي
{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ ٱلَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـٰئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً * وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ ٱللاَّتِىۤ ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـٰلَٰـتِكَ ٱللاَّتِى هَـٰجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِىۤ أَزْوَٰجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِىۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً * لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيباً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ٱلنَّبِىِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً * إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً * لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىۤ ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَٰنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَٰنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَٰتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً * إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاًّزْوَٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً * سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً * يَسْألُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً * إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَاوَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ * رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}
{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}.
ما تضمّنته هذه الآية الكريمة من الأمر بالإكثار من الذكر، جاء معناه في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذكِرٰتِ}، إلى غير ذلك من الآيات. {وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً}. لم يبيّن هنا المراد بالفضل الكبير في هذه الآية الكريمة، ولكنه بيّنه في سورة «الشورى»، في قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِى رَوْضَـٰتِ ٱلْجَنَّـٰتِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ}. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}. قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها، أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً،
وتكون في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحة ذلك القول، وذكرنا له أمثلة في الترجمة، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومن أمثلته قول كثير من الناس إن آية «الحجاب»، أعني قوله تعالىٰ: {وَإِذَا * سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْـئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، خاصة بأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن تعليله تعالىٰ لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالىٰ: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُلِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهنّ، وقد تقرّر في الأصول: أن العلّة قد تعمّم معلولها، وإليه أشار في «مراقي السعود»، بقوله: وقد تخصّص وقد تعمّم لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة.
وبما ذكرنا، تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصًّا بهن؛ لأن عموم علّته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلّة الذي دلّ على أن قوله تعالىٰ: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، هو علَّة قوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ}، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم لكان الكلام معيبًا عند العارفين، وعرف صاحب «مراقي السعود»، دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه، بقوله:
دلالة الإيماء والتنبيه في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن لغير علّة يعبه من فطن
وعرّف أيضًا الإيماء والتنبيه في مسالك العلَّة، بقوله: والثالث الإيما اقتران الوصف بالحكم ملفوظين دون خلف
وذلك الوصف أو النظير قرانه لغيرها يضير
فقوله تعالىٰ:{ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، لو لم يكن علّة لقوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ}، لكان الكلام معيبًا غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالىٰ: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، هو علّة قوله: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ}، وعلمت أن حكم العلّة عام.
فاعلم أن العلّة قد تعمّم معلولها، وقد تخصّصه كما ذكرنا في بيت «مراقي السعود»، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علّته، وإذا كان حكم هذه الآية عامًّا، بدلالة القرينة القرءانيّة.
فاعلم أن الحجاب واجب، بدلالة القرءان على جميع النساء.
واعلم أنَّا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلَّة القرءانيَّة على وجوب الحجاب على العموم، ثم الأدلّة من السنّة، ثم نناقش أدلَّة الطرفين، ونذكر الجواب عن أدلّة من قالوا بعدم وجوب الحجاب، على غير أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا آنفًا أن قوله: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ}، قرينة على عموم حكم آية الحجاب.
ومن الأدلّة القرءانيّة على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها، قوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاِزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}: أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شىء إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به: ابن مسعود، وابن عباس، وعبيدة السلماني وغيرهم.
فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالىٰ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول
بعض المفسّرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالىٰ فيها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، يدخل في معناه ستر وجوههنّ بإدناء جلابيبهنّ عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالىٰ: {قُل لاْزْوٰجِكَ}، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدلّ على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، كما ترى.
ومن الأدلّة على ذلك أيضًا: هو ما قدمنا في سورة «النور»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، من أن استقراء القرءان يدلّ على أن معنى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصحّ تفسير: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين، كما تقدّم إيضاحه.
واعلم أن قول من قال: إنه قد قامت قرينة قرءانيّة على أن قوله تعالىٰ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالىٰ: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ}، قال: وقد دلّ قوله: {أَن يُعْرَفْنَ} على أنهنّ سافرات كاشفات عن وجوههن؛ لأن التي تستر وجهها لا تعرف باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منعًا باتًّا؛ لأن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، صريح في منع ذلك.
وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ} راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه، كما لا يخفى.
وقوله في الآية الكريمة: {لاْزْوٰجِكَ} دليل أيضًا على أن المعرفة المذكورة في الآية، ليست بكشف الوجوه؛ لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين.
والحاصل: أن القول المذكور تدلّ على بطلانه أدلّة متعدّدة:
الأول: سياق الآية، كما أوضحناه آنفًا.
الثاني: قوله: {لاْزْوٰجِكَ}، كما أوضحناه أيضًا.
الثالث: أن عامّة المفسّرين من الصحابة فمن بعدهم فسّروا الآية مع بيانهم سبب نزولها، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفسّاق يتعرّضون للإماء، ولا يتعرّضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميّزًا عن زي الإماء، فيتعرّض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنًّا منهم أنهن إماء، فأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميّزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق، علموا أنهن حرائر، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ}، فهي معرفة بالصفة لا بالشخص. وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرءان، كما ترى. فقوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن، أي: يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرّضون للإماء، وهذا هو الذي فسّر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية، وهو واضح، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: {وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (33/06)، في قوله تعالىٰ: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ نَخْسِفْ بِهِمُ}، إلى قوله: {وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً}.
ومما يدلّ على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالىٰ: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ}، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى: حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليابهنّ الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أُخر ليس منها إدناء الجلابيب.
أضواء البيان
الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي
{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ ٱلَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـٰئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً * وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ ٱللاَّتِىۤ ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـٰلَٰـتِكَ ٱللاَّتِى هَـٰجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِىۤ أَزْوَٰجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِىۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً * لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيباً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ٱلنَّبِىِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً * إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً * لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىۤ ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَٰنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَٰنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَٰتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً * إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاًّزْوَٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً * سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً * يَسْألُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً * إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَاوَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ * رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}
{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}.
ما تضمّنته هذه الآية الكريمة من الأمر بالإكثار من الذكر، جاء معناه في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذكِرٰتِ}، إلى غير ذلك من الآيات. {وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً}. لم يبيّن هنا المراد بالفضل الكبير في هذه الآية الكريمة، ولكنه بيّنه في سورة «الشورى»، في قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِى رَوْضَـٰتِ ٱلْجَنَّـٰتِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ}. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}. قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها، أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً،
وتكون في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحة ذلك القول، وذكرنا له أمثلة في الترجمة، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومن أمثلته قول كثير من الناس إن آية «الحجاب»، أعني قوله تعالىٰ: {وَإِذَا * سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْـئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، خاصة بأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن تعليله تعالىٰ لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالىٰ: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُلِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهنّ، وقد تقرّر في الأصول: أن العلّة قد تعمّم معلولها، وإليه أشار في «مراقي السعود»، بقوله: وقد تخصّص وقد تعمّم لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة.
وبما ذكرنا، تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصًّا بهن؛ لأن عموم علّته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلّة الذي دلّ على أن قوله تعالىٰ: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، هو علَّة قوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ}، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم لكان الكلام معيبًا عند العارفين، وعرف صاحب «مراقي السعود»، دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه، بقوله:
دلالة الإيماء والتنبيه في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن لغير علّة يعبه من فطن
وعرّف أيضًا الإيماء والتنبيه في مسالك العلَّة، بقوله: والثالث الإيما اقتران الوصف بالحكم ملفوظين دون خلف
وذلك الوصف أو النظير قرانه لغيرها يضير
فقوله تعالىٰ:{ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، لو لم يكن علّة لقوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ}، لكان الكلام معيبًا غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالىٰ: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، هو علّة قوله: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ}، وعلمت أن حكم العلّة عام.
فاعلم أن العلّة قد تعمّم معلولها، وقد تخصّصه كما ذكرنا في بيت «مراقي السعود»، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علّته، وإذا كان حكم هذه الآية عامًّا، بدلالة القرينة القرءانيّة.
فاعلم أن الحجاب واجب، بدلالة القرءان على جميع النساء.
واعلم أنَّا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلَّة القرءانيَّة على وجوب الحجاب على العموم، ثم الأدلّة من السنّة، ثم نناقش أدلَّة الطرفين، ونذكر الجواب عن أدلّة من قالوا بعدم وجوب الحجاب، على غير أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا آنفًا أن قوله: {ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ}، قرينة على عموم حكم آية الحجاب.
ومن الأدلّة القرءانيّة على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها، قوله تعالىٰ: {يأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاِزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}: أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شىء إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به: ابن مسعود، وابن عباس، وعبيدة السلماني وغيرهم.
فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالىٰ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول
بعض المفسّرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالىٰ فيها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، يدخل في معناه ستر وجوههنّ بإدناء جلابيبهنّ عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالىٰ: {قُل لاْزْوٰجِكَ}، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدلّ على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، كما ترى.
ومن الأدلّة على ذلك أيضًا: هو ما قدمنا في سورة «النور»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، من أن استقراء القرءان يدلّ على أن معنى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصحّ تفسير: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين، كما تقدّم إيضاحه.
واعلم أن قول من قال: إنه قد قامت قرينة قرءانيّة على أن قوله تعالىٰ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالىٰ: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ}، قال: وقد دلّ قوله: {أَن يُعْرَفْنَ} على أنهنّ سافرات كاشفات عن وجوههن؛ لأن التي تستر وجهها لا تعرف باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منعًا باتًّا؛ لأن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، صريح في منع ذلك.
وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ} راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه، كما لا يخفى.
وقوله في الآية الكريمة: {لاْزْوٰجِكَ} دليل أيضًا على أن المعرفة المذكورة في الآية، ليست بكشف الوجوه؛ لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين.
والحاصل: أن القول المذكور تدلّ على بطلانه أدلّة متعدّدة:
الأول: سياق الآية، كما أوضحناه آنفًا.
الثاني: قوله: {لاْزْوٰجِكَ}، كما أوضحناه أيضًا.
الثالث: أن عامّة المفسّرين من الصحابة فمن بعدهم فسّروا الآية مع بيانهم سبب نزولها، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفسّاق يتعرّضون للإماء، ولا يتعرّضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميّزًا عن زي الإماء، فيتعرّض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنًّا منهم أنهن إماء، فأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميّزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق، علموا أنهن حرائر، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ}، فهي معرفة بالصفة لا بالشخص. وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرءان، كما ترى. فقوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ}، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن، أي: يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرّضون للإماء، وهذا هو الذي فسّر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية، وهو واضح، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: {وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (33/06)، في قوله تعالىٰ: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ نَخْسِفْ بِهِمُ}، إلى قوله: {وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً}.
ومما يدلّ على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالىٰ: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ}، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى: حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليابهنّ الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أُخر ليس منها إدناء الجلابيب.
يتبع...
تعليق