قال الإمام محمد بن علي الشَّوكاني -رحمه الله- : " اعلم أنَّ كثيراً من المفسرين جاءوا بعلمٍ متكلفٍ ، وخاضوا في بحرٍ لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا أوقاتهم في فنٍّ لا يعود عليهم بفائدةٍ ، بل أوقعوا أنفسهم في التَّكلف بمحض الرَّأي المنهيِّ عنه في الأمور المتعلِّقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنَّهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية ، المسرودة على هذا التَّرتيب الموجود في المصاحف ، فجاءوا بتكلُّفات ، وتعسُّفات يتبرَّأ منها الإنصاف ، ويتنزَّه عنها كلام البلغاء ، فضلاً عن كلام الرَّبِّ سبحانه ، حتَّى أفردوا ذلك بالتَّصنيف ، وجعلوه المقصد الأهمَّ من التَّأليف ، كما فعله البقاعي في تفسيره ، ومن تقدَّمه ، حسبما ذكر في خطبته.
وإنَّ هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرَّقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله ، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله - عزَّ وجلَّ - إليه ، وكل عاقلٍ فضلاً ، عن عالم ، لا يشكُّ أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفةً باعتبار نفسها ، بل قد تكون متناقضةً ، كتحريم أمرٍ كان حلالاً ، وتحليل أمرٍ كان حراماً ، وإثبات أمرٍ لشخصٍ أو أشخاصٍ يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله ، وتارةً يكون الكلام مع المسلمين ، وتارةً مع الكافرين ، وتارةً مع من مضى ، وتارةً مع من حضر ، وحيناً في عبادةٍ ، وحيناً في معاملةٍ ، ووقتاً في ترغيبٍ ، ووقتاً في ترهيبٍ ، وآونة في بشارةٍ ، وآونة في نذارةٍ ، وطوراً في أمر دنيًا ، وطوراً في أمر آخرةٍ ، ومرةً في تكاليف آتيةٍ ، ومرةً في أقاصيص ماضيةٍ ، وإذا كانت أسباب النُّزول مختلفة هذا الاختلاف ، ومتباينة هذا التَّباين الَّذي لا يتيسَّر معه الائتلاف ، فالقرآن النَّازل فيها هو باعتباره نفسه مختلفٌ كاختلافها ، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضبِّ ، والنُّون ، والماء والنار ، والملاَّح ، والحادي؟
وهل هذا إلاَّ من فتح أبواب الشَّكِّ ، وتوسيع دائرة الرَّيب على من في قلبه مرضٌ ، أو كان مرضه مجرَّد الجهل ، والقصور ، فإنَّه إذا وجد أهل العلم يتكلَّمون في التَّناسب بين جميع آي القرآن ، ويفردون ذلك بالتَّصنيف ، تقرَّر عنده أنَّ هذا أمرٌ لا بدَّ منه ، وأنَّه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلَّا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة ، وتبيَّن الأمر الموجب للارتباط ، فإن وجد الاختلاف بين الآيات ، فرجع إلى ما قاله المتكلِّمون في ذلك ، فوجده تكلفاً محضاً ، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية ، وسلامة ، هذا على فرض أنَّ نزول القرآن كان مترتباً على هذا التَّرتيب الكائن في المصحف؛ فكيف وكلُّ من له أدنى علمٍ بالكتاب ، وأيسر حظٍ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنَّه لم يكن كذلك ، ومن شكَّ في هذا ، وإن لم يكن ممَّا يشك فيه أهل العلم ، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النُّزول ، المطلعين على حوادث النُّبوَّة ، فإنَّه ينثلج صدره ، ويزول عنه الرَّيب ، بالنَّظر في سورة من السور المتوسِّطة ، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنَّه لا محالة يجدها مشتملةً على آياتٍ نزلت في حوادث مختلفةٍ ، وأوقات متباينةٍ لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في التَّرتيب ، بل يكفي المُقْصِرُ أن يعلم أنَّ أوَّل ما نزل : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وبعده { يأَيُّهَا المدثر } [ المدثر : 1 ] { يأَيُّهَا المزمل } [ المزمل : 1 ] وينظر أين موضع هذه الآيات ، والسُّور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا ، فأيُّ معنًى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنَّه قد تقدَّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً ، وتأخر ما أنزله الله متقدماً ؟! ، فإنَّ هذا عملٌ لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن ، بل إلى ما وقع من التَّرتيب عند جمعه ، ممَّن تصدَّى لذلك من الصَّحابة ، وما أقلَّ نفع مثل هذا ، وأنزر ثمرته ، وأحقر فائدته ، بل هو عند من يفهم ما يقول ، وما يقال له من تضييع الأوقات ، وإنفاق السَّاعات في أمرٍ لا يعود بنفعٍ على فاعله ، ولا على من يقف عليه من النَّاس ، وأنت تعلم أنَّه لو تصدَّى رجلٌ من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجلٌ من البلغاء من خطبه ، ورسائله وإنشاءاته ، أو إلى ما قاله شاعرٌ من الشُّعراء من القصائد الَّتي تكون تارةً مدحاً ، وأخرى هجاءً ، وحيناً نسيباً ، وحيناً رثاءً ، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة ، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع ، فناسب بين فقره ومقاطعه ، ثمَّ تكلَّف تكلفاً آخر ، فناسب بين الخطبة الَّتي خطبها في الجهاد ، والخطبة الَّتي خطبها في الحجِّ ، والخطبة الَّتي خطبها في النِّكاح ، ونحو ذلك ، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء ، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك ، لعُدَّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله ، متلاعباً بأوقاته ، عابثاً بعمره الَّذي هو رأس ماله .
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر ، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الَّذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب ، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان ، وقحطان؟ وقد علم كلُّ مقصِّرٍ وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنَّه عربيٌ ، وأنزله بلغة العرب ، وسلك فيه مسالكهم في الكلام ، وجرى به مجاريهم في الخطاب .
وقد علمنا أنَّ خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفةٍ ، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين ، فضلاً عن المقامات ، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً ، وكذلك شاعرهم .
ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين " [تفسيره - الشَّاملة 1/81].
وإنَّ هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرَّقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله ، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله - عزَّ وجلَّ - إليه ، وكل عاقلٍ فضلاً ، عن عالم ، لا يشكُّ أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفةً باعتبار نفسها ، بل قد تكون متناقضةً ، كتحريم أمرٍ كان حلالاً ، وتحليل أمرٍ كان حراماً ، وإثبات أمرٍ لشخصٍ أو أشخاصٍ يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله ، وتارةً يكون الكلام مع المسلمين ، وتارةً مع الكافرين ، وتارةً مع من مضى ، وتارةً مع من حضر ، وحيناً في عبادةٍ ، وحيناً في معاملةٍ ، ووقتاً في ترغيبٍ ، ووقتاً في ترهيبٍ ، وآونة في بشارةٍ ، وآونة في نذارةٍ ، وطوراً في أمر دنيًا ، وطوراً في أمر آخرةٍ ، ومرةً في تكاليف آتيةٍ ، ومرةً في أقاصيص ماضيةٍ ، وإذا كانت أسباب النُّزول مختلفة هذا الاختلاف ، ومتباينة هذا التَّباين الَّذي لا يتيسَّر معه الائتلاف ، فالقرآن النَّازل فيها هو باعتباره نفسه مختلفٌ كاختلافها ، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضبِّ ، والنُّون ، والماء والنار ، والملاَّح ، والحادي؟
وهل هذا إلاَّ من فتح أبواب الشَّكِّ ، وتوسيع دائرة الرَّيب على من في قلبه مرضٌ ، أو كان مرضه مجرَّد الجهل ، والقصور ، فإنَّه إذا وجد أهل العلم يتكلَّمون في التَّناسب بين جميع آي القرآن ، ويفردون ذلك بالتَّصنيف ، تقرَّر عنده أنَّ هذا أمرٌ لا بدَّ منه ، وأنَّه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلَّا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة ، وتبيَّن الأمر الموجب للارتباط ، فإن وجد الاختلاف بين الآيات ، فرجع إلى ما قاله المتكلِّمون في ذلك ، فوجده تكلفاً محضاً ، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية ، وسلامة ، هذا على فرض أنَّ نزول القرآن كان مترتباً على هذا التَّرتيب الكائن في المصحف؛ فكيف وكلُّ من له أدنى علمٍ بالكتاب ، وأيسر حظٍ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنَّه لم يكن كذلك ، ومن شكَّ في هذا ، وإن لم يكن ممَّا يشك فيه أهل العلم ، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النُّزول ، المطلعين على حوادث النُّبوَّة ، فإنَّه ينثلج صدره ، ويزول عنه الرَّيب ، بالنَّظر في سورة من السور المتوسِّطة ، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنَّه لا محالة يجدها مشتملةً على آياتٍ نزلت في حوادث مختلفةٍ ، وأوقات متباينةٍ لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في التَّرتيب ، بل يكفي المُقْصِرُ أن يعلم أنَّ أوَّل ما نزل : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وبعده { يأَيُّهَا المدثر } [ المدثر : 1 ] { يأَيُّهَا المزمل } [ المزمل : 1 ] وينظر أين موضع هذه الآيات ، والسُّور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا ، فأيُّ معنًى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنَّه قد تقدَّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً ، وتأخر ما أنزله الله متقدماً ؟! ، فإنَّ هذا عملٌ لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن ، بل إلى ما وقع من التَّرتيب عند جمعه ، ممَّن تصدَّى لذلك من الصَّحابة ، وما أقلَّ نفع مثل هذا ، وأنزر ثمرته ، وأحقر فائدته ، بل هو عند من يفهم ما يقول ، وما يقال له من تضييع الأوقات ، وإنفاق السَّاعات في أمرٍ لا يعود بنفعٍ على فاعله ، ولا على من يقف عليه من النَّاس ، وأنت تعلم أنَّه لو تصدَّى رجلٌ من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجلٌ من البلغاء من خطبه ، ورسائله وإنشاءاته ، أو إلى ما قاله شاعرٌ من الشُّعراء من القصائد الَّتي تكون تارةً مدحاً ، وأخرى هجاءً ، وحيناً نسيباً ، وحيناً رثاءً ، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة ، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع ، فناسب بين فقره ومقاطعه ، ثمَّ تكلَّف تكلفاً آخر ، فناسب بين الخطبة الَّتي خطبها في الجهاد ، والخطبة الَّتي خطبها في الحجِّ ، والخطبة الَّتي خطبها في النِّكاح ، ونحو ذلك ، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء ، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك ، لعُدَّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله ، متلاعباً بأوقاته ، عابثاً بعمره الَّذي هو رأس ماله .
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر ، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الَّذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب ، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان ، وقحطان؟ وقد علم كلُّ مقصِّرٍ وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنَّه عربيٌ ، وأنزله بلغة العرب ، وسلك فيه مسالكهم في الكلام ، وجرى به مجاريهم في الخطاب .
وقد علمنا أنَّ خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفةٍ ، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين ، فضلاً عن المقامات ، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً ، وكذلك شاعرهم .
ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين " [تفسيره - الشَّاملة 1/81].
تعليق