تعجبت مِن قولِ مَن قال:
لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم!- يعلم أصحابه التجويد ومخارج الحروف، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم لم يُنقل عن أحد منهم ذلك، ولو كان خيرًا لسبقوا إليه. اهـ
أجيب على هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول- بناء على كلامه نقول له: لم يثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه الفعل والفاعل والمفعول، والمبتدأ والخبر، وغير ذلك من قواعد النحو، فهل نترك تَعَلُّمَ قواعد النحو لأجل ذلك ونقول: (لو كان خيرا لسبقونا إليه)؟! وهكذا نقول في علم الصرف وعلم أصول الفقه وعلم أصول التفسير وغيرها من العلوم التي دُوِّنت بعد عصر النبوة.
العرب كانوا ينطقون بالعربية الفصحى؛ فلم يكونوا بحاجة إلى تعلم قواعد النحو والصرف ومتن اللغة...، وكانوا يفهمون دلالات الألفاظ، فلم يكونوا بحاجة إلى قواعد لذلك.
كذلك نقول بالنسبة لأحكام التجويد، فالصحابة كانوا يقرؤون بهذه الأحكام، وكانت موجودة في لغتهم أصالةً، فلم يكونوا محتاجين إلى ما نحتاج إليه نحن مِن تَعَلُّمِهَا؛ لأن ألسنتنا دخلتها العجمة، واختلفت عن ألسنة العرب الأقحاح؛ مما جعل علماء القراءة والعربية يدونون قواعد التجويد حتى يعرف الناس النطق الصحيح من غيره، كما فعلوا في بقية العلوم الأخرى.
الوجه الثاني- أن أثر ابن مسعود المشهور في هذا الباب حجةٌ عليه، وذلك حينما أنكر على الرجل عدم مد لفظ: (الفقراء)، وعلَّمه كيف يقرؤها بالمد. فهذا دليل على أن تصويب الخطإ في أحكام التجويد أمرٌ موجود في الصدر الأول.
الوجه الثالث- قول النبي -صلى الله عليه وسلم!-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"، وقوله: "خُذوا القرآن من أربعة: من عبد الله، وسالم، ومعاذ، وأُبيِّ بن كعب" - أَليس في الحديثين إرشادٌ للصحابة إلى تعلُّم قراءة القرآن من القراء المهرة المتقنين لأدائه الضابطين لألفاظه؟
قال النووي في شرح الحديث الثاني: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: سَبَبُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ ضَبْطًا لِأَلْفَاظِهِ، وَأَتْقَنُ لِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَفْقَهَ فِي مَعَانِيهِ مِنْهُمْ. أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَفَرَّغُوا لِأَخْذِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَافَهَةً وَغَيْرُهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَفَرَّغُوا لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ. أَوْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْإِعْلَامَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقَدُّمِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَتَمَكُّنِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَقْعَدُ من غيرهم في ذلك فليؤخذ عنهم" اهـ.
والقرآن كان قبل تدوين العلوم يُتلقى بالمشافهة، وكانت هذه المرحلة -مرحلة التلقين الشفهي- تعتمد على الملكة اللغوية السليمة للصحابة الذين نزل القرآن بلسانه، وعلى التعليم والتلقين لتلافي آثار التنوع اللغوي الذي برزت آثاره في العهد المدني بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وجاءت رخصة الأحرف السبعة لاستيعاب ذلك -كما ذكر بعض علماء الفن-.
وقال الحافظ: "...بَلِ الَّذِينَ مَهَرُوا فِي [[تَجْوِيدِ الْقُرْآنِ]] بَعْدَ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ أَضْعَافُ الْمَذْكُورِينَ" اهـ
فأين ذلك القائل من قول الحافظ هذا؟!
وليُعلم أن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول -كما قال السلف-؛ وذلك لأن قراءة القرآن توقيفية وليس يُؤخذ فيها بكل ما نطقت به العرب، فليس معنى قولنا: (إن قواعد التجويد كانت تطبق على كلام العرب) أن كل أحكام اللغة التي كانت موجودة في ذلك الزمن يؤخذ بها في قراءة القرآن، لا، وإنما معناه أن ما يُقرأ به القرآن من قواعد التجويد هو من ضمن الأحكام التي كانت موجودة في لغة العرب، على أن بعض الباحثين ذكر أن قراءة القرآن تميزت عن لغة العرب ببعض الأحكام، وذكر منها السكت وتطويل الغنن والتغني.
ولعلك تلاحظ أن الحديثين السابقين يخاطب بهما النبي -صلى الله عليه وسلم!- العربَ الأقحاحَ الذين نزل القرآن بلغتهم، فكيف بأمثالنا ممن دخل على ألسنتهم من الدخيلِ ما دخلها؟!
الوجه الرابع- بترتب على كلامه أن الخليل بن أحمد وسيبويه والسعيدي والداني ومكي بن أبي طالب وغيرهم من علماء العربية والقراءة أتوا ببدع من القول حين دونوا هذه القواعد! وأتوا بِشَرٍّ على العباد؛ لأنه يقول: (لو كان خيرًا لسبقونا إليه)، فمعنى ذلك أن تعلم قواعد التجويد وتعليمها ليس خيرا؛ لأن (لو) حرف امتناع لامتناع، فهو نفى الخيرية عن هذا الأمر!
الوجه الخامس- لو أنه بحث في كتب اللغة القديمة لوجَدَ أن قواعد التجويد كانت تطبق على النصوص العربية قبل نزول القرآن الكريم، وقد نشر الدكتور غانم الحمد مقالا أثبت فيه ذلك، وعزز كلامه ببعض النقول عن أهل اللغة، وأحال القارئ إلى المصادر التي يستزيد منها، فليُرجع إليه.
وأخيرا أتمثل بقول أحمد شوقي:
* وهذه الضجة الكبرى علاما*
لماذا كل هذا العداء لتجويد القرآن ولعلم القراءة عموما؟!
هل هو من أجل أنكم جهلتموه أو لم تحسنوه وأعياكم أتقانُه؟ أم لأنكم تريدون أن تقرؤوا بما اعتدتموه من العربية المستعجمة ولا تريدون أن ينكر أحد عليكم اللحون؟ أم لأن هذا العلم أتى به من لم تحبوا؟
أيُرضيكم أن تشيع العجمة واللحن في القرآن الذي هو بلسان عربي مبين؟!
هذا، وما كان فيما قلت من صواب فمن الله وحده، وما كان من خطإٍ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين!
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
علي المالكي
لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم!- يعلم أصحابه التجويد ومخارج الحروف، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم لم يُنقل عن أحد منهم ذلك، ولو كان خيرًا لسبقوا إليه. اهـ
أجيب على هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول- بناء على كلامه نقول له: لم يثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه الفعل والفاعل والمفعول، والمبتدأ والخبر، وغير ذلك من قواعد النحو، فهل نترك تَعَلُّمَ قواعد النحو لأجل ذلك ونقول: (لو كان خيرا لسبقونا إليه)؟! وهكذا نقول في علم الصرف وعلم أصول الفقه وعلم أصول التفسير وغيرها من العلوم التي دُوِّنت بعد عصر النبوة.
العرب كانوا ينطقون بالعربية الفصحى؛ فلم يكونوا بحاجة إلى تعلم قواعد النحو والصرف ومتن اللغة...، وكانوا يفهمون دلالات الألفاظ، فلم يكونوا بحاجة إلى قواعد لذلك.
كذلك نقول بالنسبة لأحكام التجويد، فالصحابة كانوا يقرؤون بهذه الأحكام، وكانت موجودة في لغتهم أصالةً، فلم يكونوا محتاجين إلى ما نحتاج إليه نحن مِن تَعَلُّمِهَا؛ لأن ألسنتنا دخلتها العجمة، واختلفت عن ألسنة العرب الأقحاح؛ مما جعل علماء القراءة والعربية يدونون قواعد التجويد حتى يعرف الناس النطق الصحيح من غيره، كما فعلوا في بقية العلوم الأخرى.
الوجه الثاني- أن أثر ابن مسعود المشهور في هذا الباب حجةٌ عليه، وذلك حينما أنكر على الرجل عدم مد لفظ: (الفقراء)، وعلَّمه كيف يقرؤها بالمد. فهذا دليل على أن تصويب الخطإ في أحكام التجويد أمرٌ موجود في الصدر الأول.
الوجه الثالث- قول النبي -صلى الله عليه وسلم!-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"، وقوله: "خُذوا القرآن من أربعة: من عبد الله، وسالم، ومعاذ، وأُبيِّ بن كعب" - أَليس في الحديثين إرشادٌ للصحابة إلى تعلُّم قراءة القرآن من القراء المهرة المتقنين لأدائه الضابطين لألفاظه؟
قال النووي في شرح الحديث الثاني: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: سَبَبُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ ضَبْطًا لِأَلْفَاظِهِ، وَأَتْقَنُ لِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَفْقَهَ فِي مَعَانِيهِ مِنْهُمْ. أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَفَرَّغُوا لِأَخْذِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَافَهَةً وَغَيْرُهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَفَرَّغُوا لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ. أَوْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْإِعْلَامَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقَدُّمِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَتَمَكُّنِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَقْعَدُ من غيرهم في ذلك فليؤخذ عنهم" اهـ.
والقرآن كان قبل تدوين العلوم يُتلقى بالمشافهة، وكانت هذه المرحلة -مرحلة التلقين الشفهي- تعتمد على الملكة اللغوية السليمة للصحابة الذين نزل القرآن بلسانه، وعلى التعليم والتلقين لتلافي آثار التنوع اللغوي الذي برزت آثاره في العهد المدني بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وجاءت رخصة الأحرف السبعة لاستيعاب ذلك -كما ذكر بعض علماء الفن-.
وقال الحافظ: "...بَلِ الَّذِينَ مَهَرُوا فِي [[تَجْوِيدِ الْقُرْآنِ]] بَعْدَ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ أَضْعَافُ الْمَذْكُورِينَ" اهـ
فأين ذلك القائل من قول الحافظ هذا؟!
وليُعلم أن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول -كما قال السلف-؛ وذلك لأن قراءة القرآن توقيفية وليس يُؤخذ فيها بكل ما نطقت به العرب، فليس معنى قولنا: (إن قواعد التجويد كانت تطبق على كلام العرب) أن كل أحكام اللغة التي كانت موجودة في ذلك الزمن يؤخذ بها في قراءة القرآن، لا، وإنما معناه أن ما يُقرأ به القرآن من قواعد التجويد هو من ضمن الأحكام التي كانت موجودة في لغة العرب، على أن بعض الباحثين ذكر أن قراءة القرآن تميزت عن لغة العرب ببعض الأحكام، وذكر منها السكت وتطويل الغنن والتغني.
ولعلك تلاحظ أن الحديثين السابقين يخاطب بهما النبي -صلى الله عليه وسلم!- العربَ الأقحاحَ الذين نزل القرآن بلغتهم، فكيف بأمثالنا ممن دخل على ألسنتهم من الدخيلِ ما دخلها؟!
الوجه الرابع- بترتب على كلامه أن الخليل بن أحمد وسيبويه والسعيدي والداني ومكي بن أبي طالب وغيرهم من علماء العربية والقراءة أتوا ببدع من القول حين دونوا هذه القواعد! وأتوا بِشَرٍّ على العباد؛ لأنه يقول: (لو كان خيرًا لسبقونا إليه)، فمعنى ذلك أن تعلم قواعد التجويد وتعليمها ليس خيرا؛ لأن (لو) حرف امتناع لامتناع، فهو نفى الخيرية عن هذا الأمر!
الوجه الخامس- لو أنه بحث في كتب اللغة القديمة لوجَدَ أن قواعد التجويد كانت تطبق على النصوص العربية قبل نزول القرآن الكريم، وقد نشر الدكتور غانم الحمد مقالا أثبت فيه ذلك، وعزز كلامه ببعض النقول عن أهل اللغة، وأحال القارئ إلى المصادر التي يستزيد منها، فليُرجع إليه.
وأخيرا أتمثل بقول أحمد شوقي:
* وهذه الضجة الكبرى علاما*
لماذا كل هذا العداء لتجويد القرآن ولعلم القراءة عموما؟!
هل هو من أجل أنكم جهلتموه أو لم تحسنوه وأعياكم أتقانُه؟ أم لأنكم تريدون أن تقرؤوا بما اعتدتموه من العربية المستعجمة ولا تريدون أن ينكر أحد عليكم اللحون؟ أم لأن هذا العلم أتى به من لم تحبوا؟
أيُرضيكم أن تشيع العجمة واللحن في القرآن الذي هو بلسان عربي مبين؟!
هذا، وما كان فيما قلت من صواب فمن الله وحده، وما كان من خطإٍ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين!
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
علي المالكي